جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

لعل نسبة ما هو صريح في ذلك إلى بعض الرواة في ذيل كلامه مشعر بعدم اختياره له وقوله أولا : « ثم انصرفوا » إلى آخره يمكن تنزيله كالآية وبعض النصوص على إرادة الإتمام ركعة فرادى ثم الانصراف ، ولو أغضينا عن ذلك كله فلا ظهور في كلامه قطعا بمضمون الصحيح السابق من رد الركعتين مطلقا إلى ركعة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، بل ظاهره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركع ركعتين ، بل هو تكليف كل إمام جماعة على الظاهر ، فيكون ظاهر الصحيح المزبور غير معمول به عند الجميع ، مع ما فيه من الإجمال ، إذ لا يعلم أن المراد الرد إلى الركعة في خصوص الفرائض التي دخلها القصر في نحو السفر أو الأعم منها ومن غيرها كالصبح ونحوه ، وعلى الأول فالمراد بقصرها ثانيا بعد وجود سبب القصر الأول كالسفر مثلا فاتفق الخوف في أثنائه أو الأعم من ذلك بمعنى أنها تصلى ركعة واحدة وإن كانت في الحضر ، ثم على الثاني فهل تندرج صلاة المغرب في ذلك أو لا؟ وعلى الأول فلم يعلم كيفية قصرها ، إلى غير ذلك ، وإن كان يمكن بمعونة ما سمعته من ابن بابويه رفع هذا الاجمال باعتبار ظهوره في إرادة ما دخله القصر من الفرائض ، كما يومي اليه لفظ ثان فيه ، بل هو مع أنه تفسير للآية الشريفة يومي إلى إرادة تقصيرها بعد وجود ما يقصرها أي القصر الأول كالسفر ، لا أنه يقصرها من أول الأمر كذلك.

وعلى كل حال فلا بد من طرح الصحيح المزبور ، لما فيه من القصور عن المقاومة أي قصور ، أو حمله التقية كما ذكره غير واحد على أنه لما كان كل من الطائفتين يصلي مع الإمام ركعة فكان صلاته ردت إليها ، أو على ما في الحدائق من انتهاء الخوف إلى حال بحيث يمنع من إتمام الركعتين ، فيقتصر حينئذ على الركعة ، وفيه أن الخوف لا يقصر العدد من الركعتين ، بل فرضه حينئذ الرجوع إلى البدل من التسبيحة ونحوها كما ستعرف إن شاء الله.

١٦١

وكيف كان فكيفية صلاة الخوف فرادى ظاهرة من حيث الكم ، ضرورة كونها كالسفر حينئذ ، ولا فرق فيها بين النساء والرجال كما في الذكرى ، لإطلاق الأدلة ، خلافا للمحكي عن الإسكافي فخص القصر بمن يحمل السلاح من الرجال حرا كان أو عبدا دون النساء في الحرب ، ولعله لعدم مخاطبتهن بالقتال ، والخوف إنما يندفع غالبا بالرجال ولا أثر فيه للنساء قصرن أم أتممن ، وهو لا يخلو من وجه إن لم ينعقد الإجماع على خلافه ، لإمكان دعوى ظهور الأدلة في الرجال أو انصرافها إليهم.

وأما إذا صليت جماعة فلها كيفيات ثلاثة : صلاة بطن النخل ، وصلاة ذات الرقاع ، وصلاة عسفان ، أما الأولى فهي أول فردي التخيير الذي أشار إليه المصنف بقوله فالإمام بالخيار إن شاء صلى بطائفة ثم بأخرى وكانت الثانية له ندبا على القول بجواز اقتداء المفترض بالمتنفل وقد‌ روي (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاها بأصحابه بالموضع المسمى بذلك‌ إلا أني لم أجد هذه الرواية مسندة من طرقنا كما اعترف به في المدارك ، نعم عن المبسوط أنه روى الحسن (٢) عن أبي بكر عن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن يسهل الخطب أنه ليس فيها ما يختص بصلاة الخوف بل هي جائزة حال الاختيار بناء على جواز الإعادة لمن صلى جماعة كما تقدم البحث فيه سابقا ، ومن هنا جزم العلامة في القواعد بعدم اعتبار الخوف في هذه الصلاة ، نعم قد يقال برجحان فعلها كذلك حال الخوف دون الأمن كما نص عليه في الدروس ، لكن في الذكرى « أن شرطها كون العدو في قوة يخاف هجومه وإمكان افتراق المسلمين فرقتين لا أزيد ، أو كونه أي العدو في خلاف جهة القبلة » وفيه ما لا يخفى إن أراد اشتراط الصحة بذلك ، إذ قد عرفت جواز فعلها حال عدم حصول شي‌ء من هذه‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٣ ص ٢٥٩.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ١.

١٦٢

الشرائط ، ولعله لا يريد الاشتراط حقيقة ، بل المراد أنها إنما تختار عند حصول هذه الأمور ، إلا أنه على كل حال لا يتم وجه الشرط الثاني الظاهر في عدم اختيارها لو أمكن افتراقهم زائدا على الفرقتين ، اللهم إلا أن يريد أنه يكفي فيها إمكان افتراق المسلمين فرقتين ، ولا يعتبر فيها الأزيد من ذلك.

وكيف كان فتسمى هذه الصلاة بصلاة بطن النخل بالخاء المعجمة ، ويقال نخلة موضع بين الطائف ومكة كما في الصحاح ، وفي المصباح « هما نخلتان إحداهما نخلة اليمانية ( اليمامة خ ل ) بواد يؤخذ إلى قرن والطائف ، وبها كان ليلة الجن ، وبها صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الخوف لما سار إلى الطائف ، وبينها وبين مكة ليلة ، والثانية نخلة الشامية بواد يأخذ إلى ذات عرق ، ويقال بينها وبين المدينة ليلتان ».

وأما الثانية فهي الفرد الآخر من فردي التخيير الذي ذكره المصنف بقوله أيضا : وإن شاء أن يصلي كما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذات الرقاع بالراء المهملة والقاف ، سميت بذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاها بموضع على ثلاثة أميال من المدينة ، وهو صفح جبل عند بئر أروما ، فيه جدد حمر وصفر وسود كالرقاع ، وقيل : موضع بنجد وهو أرض غطفان ، ولعله مشترك ، أو لما قيل من أن بعض الصحابة كان حفاة فلفوا على أرجلهم الجلود والخرق لئلا تحترق ، أو لأن بعضهم تنقبت أرجلهم فلفوا عليها الخرق ، أو لما عن صاحب المعجم من أنها سميت بذلك لرقاع كانت في ألويتهم ، والأمر سهل ، وهذه الصلاة ثابتة كتابا بناء على أنها هي المرادة من الآية كما يرشد إليه ملاحظة النصوص والفتاوى ، لا صلاة عسفان وبطن النخل ، وسنة وإجماعا محصلا ومنقولا ، بل هي المعروفة في النصوص (١) من بين كيفيات صلاة الخوف كما يومي اليه الجواب بها عند السؤال عن صلاة الخوف ، بل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة.

١٦٣

لا تعرض في النصوص المعتبرة لغيرها ، ومنه ينقدح أولوية فعلها عند الخوف من غيرها لكن ظاهر المصنف هنا مساواتها لصلاة بطن النخل ، بل في الذكرى أنها أرجح منها إذا كان في المسلمين قوة مانعة بحيث لا تبالي الفرقة الحارسة بطول لبث المصلية ، قال : ويختار ذات الرقاع إذا كان الأمر بالعكس ، وفيه تأمل ، لما عرفت من ظهور الأدلة في اختيار ذات الرقاع عند تحقق ما أشار إليه المصنف من شرائطها بقوله :

( ثم تحتاج هذه الصلاة إلى النظر في شروطها وكيفيتها وأحكامها ، أما الشروط‌ فـ ) أحدها على المشهور بين الأصحاب نقلا إن لم يكن تحصيلا ، بل عن المدارك أنه المقطوع به في كلامهم ، بل عن ظاهر المنتهى الإجماع عليه ، كما أنه نسب الخلاف في الرياض إلى الشذوذ أن يكون الخصم في غير جهة القبلة إما في دبرها أو يمينها أو شمالها بحيث لا يمكنهم مقابلته وهم يصلون إلا بالانحراف عن القبلة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما صلاها والعدو كذلك ، ولأنه لو كان العدو في القبلة أمكنهم أن يصلوا بصلاة عسفان التي تسمعها ، وهي مقدمة عليها ، إذ هي ليس فيها تفريق ولا مخالفة شديدة لباقي الصلوات من انفراد المؤتم مع بقاء حكم ائتمامه ، ومن انتظار الامام ، وائتمام القائم بالقاعد فمن هنا وجب الاقتصار فيها على المتيقن الثابت من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظاهر الكتاب ، لكن ومع ذلك فللتأمل فيه مجال ، لإطلاق الأدلة الذي لا يصلح فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد احتمال اتفاقيته لا شرطيته ـ لتقييده ، ولعله من هنا حكي عن الفاضل في التذكرة القول بالجواز ، وجعله في الذكرى وجها ، واحتمله أو مال إليه في المسالك ، بل يمكن دعوى جواز الكيفية المزبورة حال الأمن بناء على ما عرفت سابقا في الجماعة من جواز نية الانفراد اختيارا ، وجواز انتظار الإمام المأموم كالعكس مع اختلاف الصلاتين في القصر والإتمام مثلا ، وأنه لا بأس بطول لبثه بعد اشتغاله بالذكر ونحوه مما هو جائز في أثناء الصلاة ، ولا ببقاء قدوة المأمومين به وإن‌

١٦٤

كان قاعدا ، لأن الممنوع منها ليس نحو الفرض.

على أن المحكي عن أول الشهيدين فيما عدا اللمعة من كتبه الحكم بانفراد المأمومين في المقام وإن انتظرهم الامام للسلام ، خلافا لصريح بعض الأصحاب وظاهر آخر من بقاء حكم الائتمام بهم ، كما يومي اليه تسليمه بهم المصرح به في النصوص (١) والفتاوى إلا أن الأحوط الاقتصار على فعلها حال تحقق الشرط المزبور ، ويلحق به كما صرح به بعضهم ما لو كان العدو في جهة القبلة إلا أنه وجد حائل مثلا بينه وبينهم يمنع من رؤيتهم لو هجموا ، ضرورة مساواته حينئذ لما كان العدو خلف جهتها.

وثانيها أن يكون فيه قوة لا يؤمن أن يهجم على المسلمين في أثناء صلاتهم ، وإلا انتفى الخوف المسوغ للكيفية المزبورة بناء على عدم جوازها اختيارا ، نعم يمكن إلحاق خوف الفتك من البعض بالبعض غيلة بخوف الهجوم جهرة.

وثالثها أن يكون في المسلمين كثرة يمكن أن يفترقوا طائفتين متساويتين في العدد أولا ، لعدم اعتباره فيها ، إذ الطائفة على ما قيل تصدق على الواحد ، فيجوز أن يكون واحدا مع حصول الغرض به الذي أشار إليه المصنف بقوله يكفل كل طائفة بمقاومة الخصم إذ من الواضح عدم تحققها مع قصور المسلمين عن ذلك ، فيتعين حينئذ الصلاة فرادى أو صلاة بطن النخل ، فلو صلوا بها والحال ذلك بطلت على الظاهر.

ورابعها أن لا يحتاج الإمام إلى تفريقهم أكثر من فرقتين لتعذر التوزيع المزبور حينئذ في الثنائية ، بل والثلاثية بناء على الاقتصار على خصوص المأثور منها من صلاة الإمام بالفرقة الأولى ركعتين ، وبالثانية ركعة ، أو بالعكس كما ستسمع فلا يجوز حينئذ التفريق ثلاثا لإدراك الركعات الثلاثة كما هو أحد القولين ، واختاره المقدس البغدادي ، وفيه ما لا يخفى بناء على ما سبق من أن التحقيق جواز نية الانفراد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٤ و ٥.

١٦٥

اختيارا ، ومن هنا اعترف في الرياض بجواز الثلاث على هذا التقدير ، اللهم إلا أن يقال : إن مخالفتها غير منحصرة بالانفراد كي يتم ذلك على التقدير المذكور ، بل هي مخالفة أيضا في انتظار الامام وغيره ، فيقتصر منه على المتيقن ، لكن قد يدعى القطع أو الظن المعتبر بعدم اعتبار تثنية التفريق في ذلك ، ولذا جزم في الذكرى والمسالك وظاهر الروضة بجواز التثليث ، لحصول الغرض وإلغاء الخصوصية ، فيتجه حينئذ ذلك حتى لو قلنا بعدم جواز الانفراد اختيارا ، ضرورة خروج ما نحن فيه حينئذ بالدليل كحال التثنية ، بل صرح في الأولين أيضا بجواز التربيع لو كانت الفريضة رباعية كما لو قيل باختصاص التقصير في صلاة الخوف بالسفر.

ثم إن الذي يقوى في النظر إرادة عدم التمكن من إتيان الجميع بصلاة الرقاع على كيفيتها المأثورة مع الحاجة إلى التفريق زائدا على الاثنين ، لا أنه شرط في صحتها بحيث لو أوقعها فرقتان من الثلاث لعدم مشاحة الثالثة لها مثلا وقعت باطلة ، لعدم الدليل على الفساد ، بل مقتضى إطلاق الأدلة فضلا عن القواعد الصحة ، بل هي متجهة أيضا بناء على جواز الانفراد اختيارا ، وإلغاء خصوصية الانتظار وائتمام القائم بالقاعد لو تعاقبت الثلاثة على فعلها بأن ينوي كل منهم الانفراد قبل إحراز الركعة له.

وأما كيفيتها فان كانت الصلاة ثنائية فلا خلاف معتد به فتوى ورواية في أنه صلى بالطائفة الأولى ركعة تامة وقام إلى الثانية فينوي من خلفه الانفراد واجبا في قول ، لعدم جواز المفارقة بدون النية ، ولأن الانفراد واجب ، وكل واجب محتاج إليها ، ولأنه كالمفارق لعذر الذي ذكرنا فيما سبق وجوب نية الانفراد عليه ، وقيل : لا يجب ، واختاره في الذكرى ، لأن قضية الائتمام إنما هو في الركعة وقد انقضت ، فيكون كالمسبوق الذي ينفرد في الأخيرة قهرا ، والفرق بينهما بإمكان استمرار القدوة هنا وإن كان منهيا عنها بخلاف المسبوق الذي انتهت صلاة إمامه يدفعه أنهما سواء‌

١٦٦

في التشريع المنهي عنه ، ضرورة أنه بعد أن لم يشرع له الائتمام بالركعة الثانية كان كنية الائتمام بعد فراغ الامام من صلاته ، ودعوى الإجماع على أنه ينوي في ابتداء صلاته الاقتداء على الإطلاق لا الاقتداء بالركعة الأولى خاصة وإن علم أنه يفارق بعدها مع إمكان منعها لا تجدي في عدم وجوب نية الانفراد عليه ، إذ لا تزيد نيته على نية من لم يدرك من الامام إلا ركعة واحدة الذي من المعلوم عدم وجوب نية الانفراد عليه بعد انتهاء صلاة الامام ، وكونه يعطى ثواب المقتدي بتمام الصلاة فضلا وكرما لو سلم لا يقضي ببقاء حكم الائتمام كي يحتاج إلى نية الانفراد ، وعدم جواز المفارقة بدون النية إنما هو مع كونه مأموما لا إذا انتهت مأموميته كالفرض ، وليس هو كالمفارق لعذر جوز له فسخ الجماعة وصيرورته منفردا كما هو واضح.

ودعوى وجوب نية كل واجب على وجه يشمل ما نحن فيه واضحة المنع ، ولعل النزاع في المقام لفظي ، لإمكان إرادة القائل بالعدم صحة الصلاة مع المفارقة ، والالتزام بما على المنفرد وإن لم يكن قاصدا له بالخصوص لغفلة ونحوها ، كما أنه يمكن إرادة القائل بوجوب نيته هنا عدم البقاء على قصد الاقتداء ، ومعاملة نفسه معاملة المأموم بترك القراءة مثلا ونحوها ، إذ لا ريب في الفساد حينئذ حتى مع النسيان ، لظهور النصوص والفتاوى في الشرطية المستلزمة للانتفاء عند الانتفاء ، وليس الفساد مبنيا على اقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن الضد كي تتجه الصحة مع الغفلة والنسيان.

نعم يمكن ابتناء الفساد وعدمه في غير ما نحن فيه مما كان فيه ترك الاحتراس كما لو صلى الجميع فرادى من غير توزيع على مسألة الضد ، أما لو صلوا جميعهم جماعة فالمتجه الفساد ، لظاهر الأدلة وإن لم نقل بمسألة الضد ، ومثله لو قصرت الفرقة الحارسة في الاحتراس مثلا وعلمت الفرقة المصلية بذلك في أثناء الصلاة ، ولو علم الامام ضعف الطائفة الحارسة عن الحراسة في أثناء صلاته ففي الذكرى أمدهم ببعض من معه أو بجميعهم‌

١٦٧

ثم يبنون على صلاتهم وإن استدبر القبلة للضرورة ، فتأمل.

ثم إن ظاهر المتن أن محل المفارقة بعد القيام ، ولا ريب في أنه أولى كما صرح به في الذكرى ، لاشتراكهم فيه معه ، وعدم الفائدة في الانفراد قبله ، بل ظاهر الدروس تعيينه ، ولعله لظاهر قول الصادق عليه‌السلام في الصحيح (١) الآتي الذي هو العمدة في بيان الكيفية ، لكن الأقوى الجواز بعد تمام السجود ، لعدم تبادر الوجوب من مثل هذا الأمر في مثل هذا المقام ، لظهور الأدلة في أن لهم الائتمام بركعة عن صلاة الإمام ، بل لا يبعد أن لهم جواز الانفراد مطلقا قبل السجود فضلا عما بعده وإن خرجت الهيئة حينئذ عن هيئة ذات الرقاع.

وكيف كان فإذا نوى الذين خلفه الانفراد يتمون صلاتهم فيأتون بالركعة الثانية ثم يسلم بعضهم على بعض ثم ينصرفون ويقومون مقام أصحابهم أي يستقبلون العدو ويأتي الفرقة الأخرى فيحرمون ويدخلون معه في الثانية له ، وهي أولاهم ، فإذا جلس الامام للتشهد أطال وجوبا ونهض من خلفه فأتموا الركعة الثانية لهم وجلسوا فتشهد بهم وسلم بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك فتوى ورواية سوى أن ظاهر ذيل المتن يقضي بانتظار الامام لهم في التشهد أيضا ، وظاهر‌ الصحيح (٢) الانتظار بالتسليم خاصة ، قال فيه : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صلاة الخوف ، قال : يقوم الامام ويجي‌ء طائفة من أصحابه فيقومون خلفه وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم الإمام ركعة ، ثم يقوم ويقومون معه فيمثل قائما ويصلون هم الركعة الثانية ، ثم يسلم بعضهم على بعض ، ثم ينصرفون ويقومون في مقام أصحابهم ، ويجي‌ء الآخرون فيقومون خلف الإمام فيصلي الركعة الثانية ، ثم يجلس فيقومون هم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٤.

١٦٨

فيصلون ركعة أخرى ، ثم يسلم عليهم فينصرفون بتسليمه ».

لكن قد يقوى في النظر جواز انتظارهم به ، كما صرح به بعضهم مع السكوت فضلا عن الاشتغال بذكر ونحوه ، للأصل وعدم صراحة الصحيح في التعجيل ، لاحتمال إرادة التشهد مع التسليم من التسليم فيه ، كما يومي الأمر فيه بذلك بعد إتمامهم الركعة الحاصل بالسجود خاصة ، بل ينبغي الجزم به إذا اشتغل بذكر ونحوه ، لعدم حصول السكوت الطويل المنافي للعبادة حينئذ.

وسوى ما في‌ الصحيح الآخر (١) المروي في الكافي عن الصادق عليه‌السلام أيضا الوارد في كيفية صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصحابه في غزوة ذات الرقاع إلى أن قال فيه : « فأقاموا بإزاء العدو وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلى بهم ركعة ، ثم تشهد وسلم عليهم فقاموا وصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلم بعضهم على بعض » إلى آخره من حيث ظهوره في عدم الانتظار بتشهد أو تسليم ، كالمحكي عن ابن الجنيد ، وظاهر ابن بابويه وإن قال الأول : « إنه إذا سبقهم بالتسليم لم يبرح من مكانه حتى يسلموا ».

وعلى كل حال فالجمع بينه وبين الصحيح السابق وغيره مما دل على الانتظار كبعض الأخبار (٢) الدالة على أن للأولين الافتتاح ، وللآخرين التسليم يقضي بالتخيير للإمام في ذلك ، كما صرح به في الذكرى ، وبأن الانتظار أشهر ، ولعله مقتضى القواعد أيضا كما أشرنا إليه سابقا في ائتمام المتم بالمسافر ، خلافا لظاهر الحلي حيث عين الانتظار.

كما أن المتجه التخيير أيضا للإمام في الانتظار حال القيام في ثانيته بين القراءة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٢ و ٨.

١٦٩

وعدمها جمعا أيضا بين النصوص ، وإن كان الذي يستفاد منها الانتظار في غير الثنائية لكن عدم الانتظار أنسب بتخفيف الصلاة المطلوب حال الخوف فاما ما عدا ذلك فلا خلاف فيه نصا وفتوى ، بل الإجماع محكي عليه إن لم يكن محصلا.

وتحصل المخالفة حينئذ بين هذه الصلاة وصلاة الأمن جماعة في ثلاثة أشياء : الأول انفراد المؤتم بناء على عدم جوازه اختيارا ، أو على أن المراد وجوب الانفراد ، فتأمل. والثاني والثالث توقع الإمام للمأموم حتى يتم ، وإمامة القاعد بالقائم بناء على عدم جوازهما في مثل ائتمام المتم بالمسافر الذي قد ذكرنا الكلام فيه في باب الجماعة ، بل الأخير منهما مبني أيضا على كون الفرقة الثانية باقية على حكم الائتمام حال قيامها لإتمام الصلاة ، كما هو صريح بعضهم وظاهر الباقين المعبرين بما في النصوص من التسليم بهم ، وأن للأولين التكبير والآخرين التسليم ، بل عد ذلك من مخالفات هذه الصلاة من مثل المصنف وغيره كالصريح في ذلك ، فلا تنوي هذه الفرقة الانفراد حينئذ خلافا لابن حمزة فحكم بأنها تنوي الانفراد ، واختاره الشهيد في دروسه وعن باقي كتبه عدا اللمعة ، ولعله لعدم صراحة النصوص ببقاء الائتمام كي يخرج بسببها عما يقتضي عدمه ، إذ التسليم بهم أعم من الائتمام به ، على أنك قد عرفت التصريح بتسليمه قبلهم في بعض النصوص (١) وليس هو إلا لانفرادهم ، وجعل التسليم بهم كالتكبير للأولين لعله لحضورهم إياه لا لأنهم مأمومون ، كما يومي اليه ورود مثل ذلك في الخبر (٢) المتضمن لعدم انتظار الامام بالتسليم ، ولا ريب في ضعفه ، ضرورة الاكتفاء بظهور الأدلة في ثبوت المطلوب وإن لم تكن صريحة ، وبه يقيد حينئذ أو يخص ما يقتضي خلافه مما دل (٣) على ائتمام القائم بالقاعد وغيره لو سلم شموله لنحو المقام ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ١ و ٢ و ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ١ و ٢ و ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة.

١٧٠

كما هو واضح.

وإن كانت الفريضة ثلاثية كالمغرب فقد اختلفت في كيفيتها الروايات ففي‌ صحيح الحلبي (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « يقوم الامام وتجي‌ء طائفة فيقومون خلفه ثم يصلي بهم ركعة ، ثم يقوم ويقومون فيمثل الإمام قائما فيصلون ركعتين ويتشهدون ويسلم بعضهم على بعض ، ثم ينصرفون فيقومون في موقف أصحابهم ، ويجي‌ء الآخرون ويقومون في موقف أصحابهم خلف الإمام فيصلي بهم ركعة يقرأ فيها ثم يجلس ، فيتشهد ثم يقوم ويقومون معه ويصلي بهم ركعة أخرى ، ثم يجلس ويقومون هم فيتمون ركعة أخرى ، ثم يسلم عليهم » ونحوه في ذلك‌ صحيح زرارة (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « صلاة الخوف المغرب يصلي بالأولين ركعة ويقضون ركعتين ، ويصلي بالآخرين ركعتين ويقضون ركعة » ومثله غيره ، بل في الذكرى عن ابن أبي عقيل أنه بذلك تواترت الأخبار ، بل فيها وفي غيرها أنه الذي فعله أمير المؤمنين عليه‌السلام ليلة الهرير ، وفي‌ صحيح زرارة والفضيل ومحمد بن مسلم (٣) عن الباقر عليه‌السلام قال : « إذا كان صلاة المغرب في الخوف فرقهم فرقتين ، فيصلي بفرقة ركعتين ، ثم جلس بهم ، ثم أشار إليهم بيده فقام كل إنسان منهم فيصلي ركعة ، ثم سلموا وقاموا مقام أصحابهم ، وجاءت الطائفة الأخرى فكبروا ودخلوا في الصلاة وقام الامام فصلى بهم ركعة ، ثم سلم ، ثم قام كل رجل منهم فصلى ركعة فشفعها بالتي صلى مع الامام ، ثم قام فصلى ركعة ليس فيها قراءة ، فتمت للإمام ثلاث ركعات ، وللأولين ركعتان في جماعة وللآخرين وحدانا ، فصار للأولين التكبير وافتتاح الصلاة ، وللآخرين التسليم ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة الحديث ٢.

١٧١

والجمع بينهما يقضي أن يكون هو بالخيار إن شاء صلى بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين ، وإن شاء بالعكس وفاقا لتهذيب الشيخ والغنية والقواعد والذكرى والدروس والروضة والكفاية وعن المبسوط والخلاف والجمل ، بل هو المحكي عن أكثر المتأخرين وجماعة من القدماء ، بل في المحكي عن المنتهى نسبته إلى علمائنا ، بل لعله بعض معقد إجماع الغنية ، بل في المسالك « لا إشكال في التخيير ، وإنما اختلفوا في الأفضل ».

وخلافا لظاهر المقنعة والوسيلة وغيرهما ممن اقتصر على الأول ، وهم أكثر الأصحاب على ما في الذكرى والمسالك ، وكأنه مال إليه في الرياض في أول كلامه ، لكثرة رواياته حتى ادعى تواترها ، وصحة بعضها واعتضادها بفتوى أكثر القدماء ، ولا ريب في أنه أحوط ، إذ لم يذهب أحد إلى تعيين الثانية ، وإن كان الأول أقوى لعدم التعارض بين النصوص كي يفزع إلى هذه المرجحات بعد تسليم فقد المقابل لها ، ضرورة أنه لا دلالة في كل منهما على عدم جواز غيره ، بل لعل مثل ذلك جاء في الفتاوى ، فيرتفع الخلاف حينئذ من البين ، كما يومي اليه حصر الخلاف في الأفضلية في المسالك ، ونسبة التخيير إلى علمائنا في المنتهى كما سمعت ، وتصريح الشيخ في أكثر كتبه بالتخيير مع اقتصاره في النهاية على الأول.

والذي يقوى في النظر كما في الذكرى والدروس والروضة وغيرها بل هو المحكي عن الأكثر أن الأفضل الأول ، خصوصا بعد مراعاة موافقته للاحتياط ، وللمحكي من فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام ليلة الهرير ، ومقتضى العدل بين الطائفتين في إدراك الأركان والقراءة المتعينة إذا لوحظ تكبيرة الإحرام والتقدم ، وتكليف الثانية بالجلوس للتشهد الأول مع بنائها على التخفيف يندفع باستدعائه زمانا على التقديرين ، فلا يحصل بإيثار الأولى تخفيف ، ولتكليف الثانية بالجلوس للتشهد الأول على التقدير الآخر ،

١٧٢

فما في القواعد من ترجيح الفرد الثاني تبعا للمنقول عن بعض العامة ضعيف.

ثم لا يخفى عليك جريان كثير مما سبق آنفا من التخيير للإمام بين التسليم وعدمه وغيره هنا.

نعم ينبغي أن يعلم أن المستفاد من سكوت المصنف وأكثر الأصحاب من التعرض لعدم سقوط القراءة عن المأموم عند قيام الإمام للثالثة كون الحكم هنا كالحكم في المأموم حال الأمن ، وقد عرفت أنه لا يسقط عنه ما تيسر من القراءة ، للأدلة المذكورة السابقة من الإطلاقات وغيرها ، وعن المرتضى التصريح به في المقام كبعض المتأخرين من الشهيد وغيره ، خلافا للحلي فأسقط القراءة مدعيا الإجماع على ذلك ، والتتبع إن لم يشهد عليه لم يشهد له ، فالأقوى حينئذ الأول.

والظاهر تخيير الفرقة الثانية مع صلاة الأولى ركعتين بين الدخول مع الامام وهو جالس وبينه وهو قائم كما ذكرناه في الأمن ، لكن يظهر من بعض علمائنا المعاصرين تعيين الثاني تخلصا من ائتمام القائم بالقاعد ، وأنت خبير بما فيه بعد الإحاطة بما سبق في باب الجماعة ، على أن في صحيح زرارة (١) هنا ما يومي إلى الأول فلاحظ.

ومن المعلوم أنه لا يعتبر التساوي بين الفرقة الحارسة والمصلية ولا التعدد بل يجوز أن يكونا مختلفين ، وأن يكون كل فرقة شخصا واحدا إذا حصل به الاحتراس ، لحصول الغرض ، وكون الواقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التعدد لا يقضي بالاشتراط ، كما أن لفظ الطائفة والفرقة ونحوهما الواقعة في النصوص لا تقضي بذلك بعد معلومية عدم اعتبار ما يفهم منها من التعدد ، مع الإغضاء عن دعوى صدق الطائفة والفرقة على الواحد فصاعدا كما عن ابن عباس التصريح به في الأولى منهما ، ولعل الثانية كذلك ، لأنها فسرت بها في الصحاح والمصباح.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٢.

١٧٣

وأما أحكامها فمسائل : الأولى كل سهو يلحق المصلين في حال متابعتهم لا حكم له بناء على أنه كذلك في الأمن وإلا فلا دليل يخص الخوف دونه وأما في حال الانفراد يكون الحكم ما قدمناه في باب السهو إذ الفرض أنهم منفردون ، فهم حينئذ كالمسبوق الذي انفرد عن إمامه لإتمام صلاته ، نعم ينبغي جريان حكم الائتمام هنا على الفرقة الثانية حال قيامها لإتمام صلاتها وبقاء الامام منتظرا لها بناء على المختار من بقائها على الائتمام حينئذ ، لكن عن الشيخ في المبسوط أنه أوجب عليهم أنفسهم سجدتي السهو مع حصول سببهما في هذه الركعة بخلاف الركعة التي صلوها مع الامام ، فلا حكم لسهوهم فيها ، ولعل ذلك بناء منه على ما ذهب اليه الشهيد كما عرفت من انفراد الفرقة الثانية وعدم بقائهم على الائتمام وإن انتظرهم الامام للتسليم ، وكأنه لذا نسب إلى المبسوط موافقة الشهيد في ذلك ، وقد عرفت أن الأقوى خلافه ، كما أنك عرفت في باب الجماعة عدم تحمل الامام عن المأموم السهو الموجب لسجدتين ونحوهما ، وعدم وجوب متابعة المأموم للإمام إذا اختص السهو به ، فليست هذه حينئذ ثمرة تترتب على مأمومية هذه الفرقة أو انفرادها ، بل ولا لشك في الركعات ، لأن الظاهر المنساق من تلك الأدلة اشتراط اشتراكهما في الركعات بالنسبة إلى رجوع أحدهما إلى حفظ الآخر فيها دون ما ينفرد أحدهما في تأديته ، نعم بترتب على ذلك الثواب ، وعدم جواز الائتمام به مثلا ، ونحو ذلك مما لا يخفى.

المسألة الثانية أخذ السلاح كالسيف والخنجر والسكين ونحوها من آلات الدفع واجب على الفرقة الحارسة قطعا ، لتوقف الحراسة الواجبة عليه ، ولفحوى وجوبه على المصلية حال التشاغل في الصلاة المعلوم بين من عدا ابن الجنيد من الأصحاب كما اعترف به في الرياض ، لتوقف الحراسة عليه أيضا ، ولظاهر الأمر به في الآية ، إذ احتمال صرفه للفرقة الحارسة خاصة مناف للظاهر وإن قيل : إنه روي‌

١٧٤

في التفسير عن ابن عباس أن المأمورين بأخذ السلاح هم الذين بإزاء العدو ، كاحتمال تنزيله على الاستحباب بقرينة سوقه مساق الإرشاد إلى حفظ النفس ، إذ يدفعه ـ مع أنه لا يرفع ظهور الوجوب ، ضرورة عدم منافاة الاحتمال لذلك ـ إمكان منعه في مثل الأمر الصادر من المالك الحقيقي للنفس ، والذي هو أولى بها من صاحبها الصوري ، ولذا حرم عليه قتلها مثلا ، وخصوصا في المقام باعتبار انضمام حفظ الشريعة وبيضة الإسلام أو حفظ الغير وحراسته إلى ذلك ، بل ينبغي القطع بإرادة الوجوب منه هنا بملاحظة الآية الثانية (١) المتضمنة للإذن في عدم حمل السلاح للضرورة كالمرض ونحوه فما عن ابن الجنيد من القول بالندب تمسكا بما سمعت ضعيف حينئذ.

نعم يتجه سقوط وجوبه لو كان يمنع من إتيان بعض الواجبات على ما هي عليه بل المتجه حينئذ وجوب طرحه ، وما عن الشيخ وابن البراج من التصريح بالكراهة في الفرض محمول على مانع الكمال لا أصل الفعل ، وإلا كان ضعفه واضحا ، ضرورة استلزام حمله الإخلال بالواجب ، اللهم إلا أن يقال إنهما واجبان ، فالمتجه الترجيح بينهما ، فربما كان الخوف شديدا والعدو قريبا والدافع قليلا ونحو ذلك من الأمور المقتضية لحمل السلاح فيحمل حينئذ وإن استلزم فوات تلك الواجبات للضرورة ، وربما لم يكن كذلك فيقدم حينئذ واجب الصلاة عليه ، وهل الواجب حمل جميع ما عنده من السلاح أو يكفي البعض؟ صرح بعضهم بالثاني ، لصدق الامتثال معه ، ويقوى الأول لاقتضاء الإضافة هنا العموم والعهد ، كما أنه يقوى وجوب حمل آلات الدفع من الدرع والجوشن ونحوهما ، لفحوى الأمر بأخذ السلاح والكون على الحذر ، وفي المانع منها لبعض واجبات الصلاة كالركوع والسجود على الجبهة ونحوهما ما تقدم أيضا ، وتصريح الشيخ وابن البراج هنا بالكراهة على ما قيل حمله بعضهم على إرادة المنع من‌

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ١٠٣.

١٧٥

كمالهما لا أصل الفعل ، ومثله قيل في السلاح أيضا ، وفيه أن المنع من الكمال لا يسقط الواجب له ، إذ الفرض الوجوب ، فلا يعارضه إلا الواجب الآخر كما اعترف به في الذكرى ، لكن ينبغي أن يعلم أنه صرح غير واحد بتعبدية هذا الوجوب لا شرطيته في الصلاة ، لكون النهي فيه عن أمر خارج ، فلو صلى حينئذ غير حامل للسلاح صحت صلاته وإن فعل محرما بترك الحمل ، وهو جيد لو لا ما ينساق من مثل هذا الأمر في مثل المقام من الشرطية وإن كان أمرا خارجا عن الصلاة ، كما لا يخفى على المتأمل في نظائره مما ورد الأمر به في الصلاة ، اللهم إلا أن يفرق بين ما وجب في الصلاة لا قبلها أو بعدها وبين ما وجب فيها وقبلها وبعدها ، فيخص ظهور الشرطية أو تبادرها في الأول دون الثاني ، وفيه بحث أيضا ، لإمكان دعوى ظهورها أيضا من نحو « لا تنظر إلى الأجنبية في الصلاة » إلا أن يفرق بينهما بعدم ذكر الصلاة في الآية الشريفة ، فلا احتمال حينئذ لمدخلية هذا الواجب في الصلاة ، بل هو واجب لنفسه خصوصا مع التأييد بفتوى من تعرض لذلك.

ولو كان على السلاح نجاسة لم يجز أخذه على قول ضعيف لا دليل معتد به له والجواز بمعنى بقاء الوجوب المزبور أشبه لإطلاق الأدلة السالمة عن المعارض إذ هو محمول أولا ، ولا تتم الصلاة به منفردا ، نعم لو كانت نجاسة متعدية للثياب ونحوها أو كان مما تتم الصلاة به منفردا كالدرع ونحوه مما ألحق بالسلاح اتجه حينئذ عدم الجواز إلا للضرورة ، ومما سمعت ظهر لك الحال في قوله ولو كان ثقيلا يمنع شيئا من واجبات الصلاة لم يجز حمله إلا للضرورة التي يرجح مراعاتها على مراعاة واجب الصلاة ، فيصلي حينئذ بحسب الإمكان ولو بالإيماء ، ولو كان السلاح مما يتأذى به غيره كالرمح ففي المسالك لم يجز حمله إن لم يمكنه الانتقال إلى حاشية الصفوف إلا مع الضرورة ، فتأمل.

١٧٦

المسألة الثالثة إذا سها الامام سهوا يوجب السجدتين ثم دخلت الثانية معه فإذا سلم وسجد لم يجب عليها اتباعه حتى على قول الشيخ ، لسبق وقوع سببه على ائتمامهم به فلا يجب عليهم اتباعه ، نعم يتجه وجوبه على الطائفة الأولى كما اعترف به في المسالك ، قال : « ويشير إليهم ليسجدوا بعد فراغهم » وفيه أن وجوبه عليهم للمتابعة له لا لأنفسهم ومنه ينقدح وجه وجوبه على الفرقة الثانية ، اللهم إلا أن يقال : إن وجهه اشتراك الصلاة بين الامام والمأموم ، فيؤثر حينئذ سهو الامام وجوب السجدتين وإن اختص به لا المتابعة ، فيتجه حينئذ وجوبهما على الأولى دون الثانية ، وحيث تعذر فصلهما منها معه بسبب انصرافها إلى موقف أصحابها وجب عليها السجود عند الفراغ ، والأمر سهل بعد أن كان المختار عندنا اختصاص كل من الامام والمأموم بسهوه ، كما ذكرناه مفصلا فيما سبق ، فلاحظ.

وأما الثالثة ـ وهي صلاة عسفان على وزن عثمان موضع بينه وبين مكة ثلاث مراحل كما في المصباح ، أو مرحلتين كما عن القاموس ، وفي الأول أنه سمي في زماننا مدرج عثمان ـ فقد أثبتها الشيخ في مبسوطة ، وأرسلها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إرسال دراية لا رواية ، وتبعه الشهيدان ، نعم اشتراطها بشروط ، فقال : « ومتى كان العدو في جهة القبلة ويكونون في مستوي الأرض لا يسترهم شي‌ء ولا يمكنهم أمر يخاف منه ويكون في المسلمين كثرة لا يلزمهم صلاة الخوف ، ولا صلاة شدة الخوف ، وإن صلوا كما صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعسفان جاز ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصف خلفه صفا وصف بعد ذلك الصف صفا آخر فركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وركعوا جميعا وسجد وسجد الصف الذين يلونه وقام الآخرون يحرسونه ، فلما سجد الأولون السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم ، ثم تأخر الصف الذين يلونه إلى مقام الآخرين ، وتقدم الصف الآخر‌

١٧٧

إلى مقام الصف الأول ، ثم ركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وركعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخرون يحرسونه ، فلما جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعا وسلم بهم جميعا وصلى بهم أيضا هذه الصلاة يوم بني سليم » وعن المنتهى رواية ذلك (١) عن أبي عباس الزرقي ، قال : « كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم في الصلاة فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر فلما حضر العصر قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه » وساق الحديث كما روى الشيخ ، لكنه مع ذلك قال بعد أن حكى عن الشيخ الفتوى به : « ونحن نتوقف في هذا ، لعدم ثبوت النقل عندنا عن أهل البيت عليهم‌السلام بذلك » ومثله المصنف في المعتبر في التوقف المزبور بل لعله في المتن والنافع أيضا كذلك حيث لم يذكرها في كيفية صلاة الخوف فيهما ، ككثير من الأصحاب على ما اعترف به في الدروس ، وإن كان هو فيها وفي الذكرى وافق الشيخ عليها معللا ذلك بأنها صلاة مشهورة في النقل ، فهي كسائر المشهورات الثابتة وإن لم تنقل بأسانيد صحيحة ، وقد ذكرها الشيخ مرسلا لها غير مسند ولا محيل على سند ، فلو لم تصح عنده لم يتعرض لها حتى ينبه على ضعفها ، فلا تقصر فتواه عن روايته ، ثم ليس فيها مخالفة لأفعال الصلاة غير التقدم والتأخر والتخلف بركن ، وكل ذلك غير قادح في صحة الصلاة اختيارا ، فكيف عند الضرورة ، وأنكر عليه المحدث البحراني في حدائقه من وجوه إنكارا أساء الأدب فيه ، بل هو في غير محله بالنسبة إلى البعض.

نعم لا بأس بالتوقف في الحكم المزبور بعد فرض المخالفة لصلاة المختار ، إذ‌

__________________

(١) تيسير الوصول ج ٢ ص ٢٨٩ عن أبى عياش الزرقي.

١٧٨

إرسال الشيخ وفتواه بها لو سلم دلالته على وصولها اليه بطريق صحيح للعلم بورعه وطريقته لم يستلزم الصحة عندنا ، ولا يسوغ لنا التعويل عليه من هذه الجهة ، وليس هو كحكاية الإجماع قطعا ، وإلا لصح الاعتماد على ما كان مثل ذلك من المراسيل ، وشهرتها في النقل بيننا بعد علمنا بأن مبدأه نقل الشيخ لا يجدي.

والظاهر أنها مخالفة لصلاة المختار لا من جهة التقدم والتأخر ـ إذ هو إن لم يستلزم فعلا كثيرا غير مفسد ، اللهم إلا أن يقال قضية الإطلاق فعلهما وإن استلزما ذلك ، لكن ومع ذلك يهون الخطب إمكان دعوى عدم وجوبهما كما صرح به في الدروس ، لكن قال : « إن التنفل أفضل » وهو المذكور في المبسوط ، بل قال أيضا : « والأقرب جواز حراسة الصف الأول في الركعة الأولى والثاني في الثانية ، بل يجوز تولي الصف الواحد الحراسة في الركعتين » وفيه أنه مخالف للكيفية الثابتة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل مخالفتها من جهة التخلف عن الامام بركن ، إذ هو وإن كان لا يفسد الاقتداء ولا الصلاة في المختار على الأصح إلا أنه لا ريب في الإثم معه المعلوم عدمه في المقام ، ودعوى أن ارتفاعه للضرورة فهو كالمختار المتخلف لعذر من الزحام وغيره يدفعها الفرق بينهما بحدوث الضرورة في الأثناء في الثاني والعلم بها ابتداء في الأول ، فلا يلزم من جواز التخلف لتلك جوازه هنا ، مع إمكان فعل الصلاة خالية عن ذلك ، كما لو صلاها بصلاة بطن النخل أو بغيرها.

وكيف كان فشروطها كما ذكره غير واحد كون العدو على جهة القبلة ليتمكن من الاحتراس في أثناء الصلاة ، وإمكان الافتراق ، وإلا لم يحصل الموضوع ، وفي جواز تعدد الصفوف فيترتبون في السجود والحراسة وجهان ، قرب أولهما في الدروس ، وهو مخالف للكيفية الثابتة ، ومقتض لخلو الزائد عن الصفتين عن متابعة الإمام في السجود في الركعتين ، وأن يكونوا في مكان يتمكنون من الحراسة من المشركين في‌

١٧٩

الصلاة ، كما لو كانوا في قنة جبل أو في مستو من الأرض لا يمكن أن يكون فيها كمين ونحوه ، ووجهه واضح ، هذا.

وفي الدروس أن لصلاة عسفان كيفية أخرى ، وهي أن يصلي كل فريق ركعة ويسلموا عليها ، فيكون له ركعتان ، ولكل فريق ركعة واحدة ، قال : رواها الصدوق (١) وابن الجنيد ، ورواها حريز أيضا في الصحيح (٢) وقد عرفت البحث في ذلك فيما تقدم عند البحث عن القصر في صلاة الخوف ، وأنه على حسب القصر في السفر لا أنه رد الركعتين إلى ركعة وإن ورد بذلك بعض النصوص ، لكنك خبير أنه ليس في كيفية صلاة عسفان ، بل هو في كيفية التقصير في صلاة الخوف فلاحظ وتأمل.

وأما صلاة المطاردة وتسمى صلاة شدة الخوف مثل أن ينتهي الحال إلى الموافقة والمنازلة والمعانقة والمسايفة والمراماة ونحو ذلك ، فهي وإن كانت قسما أيضا من صلاة الخوف كالصلاة السابقة ، ومشاركة لها في قصر الكم ، وسببها قسما أيضا من ذلك السبب ، ضرورة كون شدة الخوف من بعض أفراد الخوف لكنها لما خالفتها في قصر الكيفية أيضا مع الكم ـ ولذا لم تشرع إلا بعد تعذر الكيفيات السابقة ـ أفردها في الذكر عنها ، وجعلها كالقسيم لها.

وكيف كان( فـ ) المكلف في هذه الأحوال التي لا يسعه فيها الإتيان بالصلاة على حسب ما تقدم لا انفرادا ولا اجتماعا يصلي على حسب إمكانه واقفا أو ماشيا أو راكبا أو مضطجعا أو غير ذلك ، ضرورة عدم السقوط عنه ، لأنها لا تسقط في حال‌ ولا يسقط الميسور بالمعسور (٣) وما لا يدرك كله لا يترك كله (٤) وقال الله تعالى (٥) :

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٢٩٥ ـ الرقم ١٣٤٣ من طبعة النجف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٢.

(٣) المروي في غوالي اللئالي.

(٤) المروي في غوالي اللئالي.

(٥) سورة البقرة ـ الآية ٢٤٠.

١٨٠