جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

اليه‌ ما في أحدهما (١) « أنه يحشر منه سبعون ألفا ليس عليهم حساب ولا عذاب » المعلوم إرادة من جانبه كما وردت به النصوص (٢) وأما أن يساره مكر فقد فسر بمنازل السلطان في الخبر (٣) والشيطان في آخر (٤) لكن قيل : إن الظاهر أنه من كلام الصدوق ، ولعلهما بمعنى لما قيل : إنه كان في جانبه الأيسر الأسواق وقصر الامارة الذين هما معا منازل الشياطين ، لكن لا يلائمه ذكر ذلك في أثناء مدحه ، ولعل المراد بالسلطان سلطان الحق عند ظهوره ، وغيرها بعض النساخ بالشيطان ، وبالمكر ما كان أيضا بحق كقوله (٥) ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ) أو غير ذلك.

وكيف كان ففي‌ الفقيه بسنده إلى الأصبغ بن نباتة (٦) « أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : يا أهل الكوفة لقد حباكم الله بما لم يحب به أحدا ، من فضل مصلاكم بيت آدم وبيت نوح ، وبيت إدريس ، ومصلى إبراهيم الخليل ، ومصلى أخي الخضر ، ومصلاي وإن مسجدكم هذا لأحد المساجد الأربعة التي اختارها الله عز وجل لأهلها ، وكان قد أتي به يوم القيامة في ثوبين أبيضين شبيه المحرم ، ويشفع لأهله ولمن يصلي فيه ، فلا ترد شفاعته ، ولا تذهب الأيام والليالي حتى ينصب الحجر الأسود فيه ، وليأتين عليه زمان يكون مصلى المهدي من ولدي ، ومصلى كل مؤمن ، ولا يبقى على الأرض مؤمن إلا كان به أو حن قلبه اليه ، فلا تهجروه ، وتقربوا إلى الله عز وجل بالصلاة‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٣٥ و ٣٦ و ٣٧ من طبعة الكمباني ـ باب فضل النجف وماء الفرات.

(٣) فروع الكافي ـ ج ١ ص ٤٩٢ المطبوعة عام ١٣٧٧.

(٤) الفقيه ج ١ ص ١٥٠ ـ الرقم ٦٩٤ من طبعة النجف.

(٥) سورة آل عمران ـ الآية ٤٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١٨.

١٤١

فيه ، وارغبوا إليه في قضاء حوائجكم ، فلو يعلم الناس ما فيه من البركة أتوه من أقطار الأرض ولو حبوا على الثلج ».

وكمسجد سهيل المسمى عندهم بمسجد الثرى الذي ما من مكروب يأتيه فيصلي فيه ركعتين بين العشاءين ويدعو الله عز وجل إلا فرج الله كربه (١) وما صلى فيه أحد ركعتين ثم استجار به واستعاذ إلا إجارة الله وأعاذه حول الاستجارة (٢) بل في‌ خبر عبد الرحمن بن سعيد الخراز (٣) عن الصادق عليه‌السلام « لو أن عمي زيدا أتاه وصلى فيه واستجار الله لأجاره عشرين سنة » (٤) وفيه بيت إبراهيم الذي كان يخرج منه إلى العمالقة ، ومنه سار داود إلى جالوت ، وفيه بيت إدريس الذي كان يخيط فيه ، وفيه صخرة خضراء عظيمة من زبرجد فيه صورة جميع النبيين ، وتحت الصخرة الطينة التي خلق الله منها النبيين ، وفيها المعراج ، وهو الفارق موضع منه ، وهو ممر الناس ، وهو من كوفان ، وفيه ينفخ في الصور ، واليه المحشر ، ويحشر من جانبه سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، وهو مناخ الراكب أي الخضر عليه‌السلام ، ومنزل الصاحب إذا قام بأهله ، ولم يبعث الله نبيا إلا وقد صلى فيه (٥).

وكمسجد الخيف أي مسجد منى سمي بذلك لأنه مرتفع عن الوادي ، وما ارتفع عن الوادي سمي خيفا فإنه صلى فيه سبعمائة أو ألف نبي وأن ما بين الركن والمقام منه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ و ٣.

(٣) وسيما إذا كان ذلك ليلة الأربعاء لما في بالي من بعض الروايات التي لم تحضرني الآن ( منه رحمه‌الله ).

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ و ٣ و ٤ والباب ٤٤ منها ـ الحديث ١٠.

١٤٢

لمشحون من قبور الأنبياء (١) وصلاة مائة ركعة فيه تعدل عبادة سبعين عاما ، ومن سبح الله فيه مائة تسبيحة كتب الله له كأجر عتق رقبة ، ومن هلله فيه مائة تهليلة عدلت أجر إحياء نسمة ، ومن حمد الله فيه مائة تحميدة عدلت خراج العراقين يتصدق به في سبيل الله عز وجل (٢).

وكمسجد الحرام الذي فضله من ضروريات دين الإسلام ، وأن من صلى فيه صلاة مكتوبة قبل الله منه كل صلاة صلاها منذ يوم وجبت عليه الصلاة وكل صلاة يصليها إلى أن يموت (٣) بل الصلاة فيه تعدل ألف صلاة في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي الصلاة فيه كألف صلاة في غيره (٤) وفي‌ خبر موسى بن سلام (٥) عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام المروي عن العيون « أن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في غيره بستين سنة أو شهرا ».

وكمسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة الذي منبره فيه على ترعة من ترع الجنة ، وما بينه وبين بيته روضة من رياضها وهو أفضل المساجد عدا مسجد الحرام (٦).

وكمسجد قبا الذي ( أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) (٧) ومن صلى فيه ركعتين رجع بعمرة (٨).

وكمسجد الغدير (٩) الذي أظهر الله عز وجل فيه الحق وأكمل الدين بنصب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب أحكام المساجد.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٧) سورة التوبة ـ الآية ١٠٩.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٦٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب أحكام المساجد.

١٤٣

سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وكمسجد براثا الذي صلى فيه عيسى وأمه والخليل وعلي بن أبي طالب عليهم‌السلام (١) يوم أظهر الله له فيه المعجزة الواضحة ، والحمد لله الذي وفقنا للصلاة فيه.

وكمسجد بيت المقدس الذي هو أحد المساجد الأربعة (٢) التي هي قصور الجنة في الدنيا ، إلى غير ذلك من الأماكن المشرفة والمساجد المعظمة زادها الله شرفا وعظمة ، منها بيوت قبور الأئمة عليهم‌السلام التي أذن الله بأن ترفع ويذكر فيها اسمه ، إذ هي خير البقاع وأفضلها ، ولذلك اختيرت لهم عليهم‌السلام ثم ازدادت فضلا وشرفا بهم عليهم‌السلام ، بل قد يومي‌ مرسل ابن أبي عمير (٣) إلى أفضليتها على المساجد ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني لأكره الصلاة في مساجدهم فقال : لا تكره ، فما من مسجد بني إلا على قبر نبي أو وصي نبي قتل ، فأصاب تلك البقعة رشة من دمه ، فأحب الله أن يذكر فيها ، فأد فيها الفريضة والنوافل ، واقض فيها ما فاتك » ضرورة ظهوره في أن سر فضل المسجد ذلك ، فقبور المعصومين عليهم‌السلام خصوصا النبي والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) منهم أولى وأولى ، ومنه ومن غيره يستفاد جريان أحكام المساجد عليها أيضا ، ولا بأس به فيما كان مبناه التعظيم منها ضرورة أولويتها بذلك من المساجد ، ولتفصيل الكلام بالفرق بين قبورهم عليهم‌السلام وقبور غيرهم ونقل الأخبار الدالة على فضل الصلاة فيها خصوصا كربلاء والغري منها وكيفية الصلاة فيها أمام القبر أو خلفه أو إلى جانبيه مقام آخر ، وإن كان الظاهر الآن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

١٤٤

أن الفضل في الصلاة خلف القبر على جهة الرأس مراعيا للقرب منه ، والله أعلم.

هذا كله في فضل صلاة المكتوبة في المساجد وأما النافلة فالمشهور بين الأصحاب نقلا في الكفاية وعن غيرها وتحصيلا أنها بالعكس من الفريضة ، بمعنى أفضلية صلاتها في البيت مثلا من المسجد ، بل في المعتبر والمنتهى نسبته إلى فتوى علمائنا مشعرين بدعوى الإجماع عليه ، للنبوي (١) « أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة » ولأنها أبلغ في الإخلاص ، وأبعد من الرياء ووساوس الشيطان ، ول‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر الفضيل (٢) : « إن البيوت التي يصلى فيها بالليل بتلاوة القرآن تضي‌ء لأهل السماء كما تضي‌ء نجوم السماء لأهل الأرض » ول‌ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيته (٣) المروية عن المجالس بإسناده بعد ما ذكر فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وأفضل من هذا كله صلاة يصليها الرجل في بيته حيث لا يراه إلا الله عز وجل يطلب بها وجه الله ـ إلى أن قال ـ : يا أبا ذر إن الصلاة النافلة تفضل في السر على العلانية كفضل الفريضة على النافلة » إذ لا ريب في أنها في البيت أخفى منها في المسجد الذي هو محل المترددين.

ومنه حينئذ ينقدح الاستدلال بكل ما دل على استحباب التستر بها والتخفي الذي يشهد له في الجملة مضافا إلى الاعتبار آية السر في الصدقة (٤) ونصوصها (٥) وللأمر باتخاذ المسجد في البيت والحث عليه ، بل في‌ خبر ابن بكير (٦) عن الصادق‌

__________________

(١) كنز العمال ج ٤ ص ١٦٥ ـ الرقم ٣٦٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٧.

(٤) سورة البقرة ـ الآية ٢٧٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الصدقة من كتاب الزكاة.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٦٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

١٤٥

عليه‌السلام « كان علي عليه‌السلام قد اتخذ بيتا في داره ليس بالكبير ولا بالصغير فكان إذا أراد أن يصلي من آخر الليل أخذ معه صبيا لا يحتشم منه ، ثم يذهب إلى ذلك البيت فيصلي » ول‌ خبر زيد بن ثابت (١) « انه جاء رجال يصلون بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج مغضبا وأمرهم أن يصلوا النوافل في بيوتهم » ولأن الاجتماع للنوافل في المساجد من فعل العامة التي جعل الله الرشد في خلافها.

لكن قد يشكل ذلك كله بما دل (٢) على فضل المساجد وبركتها ، وأنها محل الإجابة والقبول ، وبيوت الله في الأرض ، وأحب البقاع اليه ، بل وبإطلاق ما دل على فضل الصلاة فيها الشامل للفرض والنفل ، بل في سياق بعضها ما يؤكد إرادة ذلك وبخصوص مرسل ابن أبي عمير (٣) السابق قريبا ، وصحيح معاوية بن وهب (٤) عن الصادق عليه‌السلام « إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي صلاة الليل في المسجد » الظاهر في أن ذلك عادته وديدنه ، ولا قائل بالفضل بين صلاة الليل وغيرها في المرجوحية ، بل المحكي عن ابن إدريس أن صلاة الليل خاصة في البيت أفضل من المسجد ولا دليل واضح عليه ، نعم الذي صرح به الفاضل والشهيدان والمحقق الثاني وحكي عن غيرهم أن جهة الرجحان فيها آكد ، ولعله لما سمعته من فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام وغيره ، لكن هذا الصحيح شاهد بخلافهم باعتبار ظهوره في اعتياده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلها في المسجد ، بل لعل الظاهر كون عادته صلاة نوافل الفرائض فيه أيضا ، بل قد يقال باندراجها في المكتوبة في النبوي (٥) السابق باعتبار كونها من مقدماتها ومسنوناتها‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٢ ص ٩٣ ـ الرقم ١٤٤٧.

(٢) المشار إليه في ص ١٣٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١.

(٥) كنز العمال ـ ج ٤ ص ١٦٥ ـ الرقم ٣٦٥٢.

١٤٦

وخبر هارون بن خارجة (١) عنه عليه‌السلام « ان النافلة في مسجد الكوفة لتعدل خمسمائة صلاة » بل في‌ خبر عبد الله بن يحيى الكاهلي (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « أنها فيه تعدل عمرة مبرورة » ونحوه غيره ، بل في‌ خبر أبي حمزة الثمالي (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام « أنها في المساجد الأربعة المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسجد بيت المقدس ومسجد الكوفة تعدل عمرة » ولا قائل بالفصل.

بل قد يشعر‌ صحيح ابن عمار (٤) بكون النافلة كالفريضة في التضاعف في المسجد الحرام ، قال : « سألت الصادق عليه‌السلام كم أصلي؟ فقال : صل ثمان ركعات عند زوال الشمس ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الصلاة في مسجدي كألف في غيره إلا المسجد الحرام ، فإن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة في مسجدي » ومن هنا مال في المدارك كما عن مجمع البرهان إلى مساواتها الفريضة في رجحان فعلها في المسجد بعد أن حكاه عن جده في بعض تحقيقاته ، وتبعه بعض من تأخر عنه ، وربما يؤيده زيادة على ما سمعت قصور أدلة المشهور عن إفادة المطلوب ، إذ هي بين غير معتبر السند ـ وكون الحكم استحبابيا يتسامح فيه لا يجدي فيما نحن فيه مما كان المقابل أيضا حكما استحبابيا ، فإنه يكون حينئذ معارضا بمثله ـ وبين غير دال على المطلوب كالنصوص (٥) الدالة على استحباب التستر بها ، إذ هي ـ مع أنها من المعلوم كون الحكمة فيها التخلص عن الرياء ونحوه من وساوس الشيطان ـ خارجة عن المطلب ضرورة كون البحث في رجحانها في المسجد وعدمه من حيث المسجدية وغيرها مع قطع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

١٤٧

النظر عن الجهات الخارجية التي هي ليست بمستحيلة الانفكاك عقلا وعرفا.

ويمكن معارضتها أيضا بما في الطرف المقابل من رجاء اقتداء الناس به ورغبتهم في الفعل كما يومي اليه استحباب الجهر (١) بها في الليل ، والأمر (٢) باخبار أخيك المؤمن وقول قد رزق الله ذلك إذا سألك هل قمت الليلة أو صمت ، على أنه ربما تكون في المسجد أستر من غيره.

وبالجملة الجهات والاعتبارات في البيوت والمساجد مختلفة أشد اختلاف بملاحظة اختلاف الأشخاص والمساجد والبيوت والنوافل والأزمنة ، ولعله لذا كان المستفاد من بعض الأخبار (٣) استحبابها في المنزل ، ومن آخر (٤) في المسجد ، إذ لكل خصوصية أو مزية داخلية أي لاحقة له بالذات غير مستقلة ، كرجحان كون البيت مما يصلى فيه في الليل ، وخارجية أي ممكنة الاستقلال وإن اجتمعت معه في الوجود الخارجي ككونها سرا مثلا وأبعد من الرياء ، وإن كان بمعونة فتوى الأصحاب وظاهر الإجماعين السابقين وظهور بعض النصوص السابقة في شدة محبة الله إرادة الذكر في المنزل سرا وغير ذلك يمكن ترجيح مراعاة مزية الأول على الثاني إن لم تعاضده مزية أخرى خارجة عن المسجدية أو داخلية كمسجدية خاصة ونحوها ، وإلا فمعها قد ترجح مراعاة جهة المسجدية على المنزل بمراتب ، بل ربما كان نفس الإحاطة بجميع المندوبات فاضلها ومفضولها جهة مرجحة ، ضرورة إرادة الله فعل الجميع ، ولذا أمر بالفاضل والمفضول ، وفعلوهما عليهم‌السلام معا ولم يصروا على فعل الأفضل منها خاصة ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦٩ ـ من أبواب أحكام المساجد.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣ و ١٤ و ١٥ وغيرها.

١٤٨

ولعل الله قد جعل مصالح كامنة في الأشياء تختلف باختلاف العباد كما جعل في المآكل والمشارب والعقاقير ونحوها خواص كذلك تختلف باختلاف الأمزجة ، ومن كشف الله بصيرته وعلم حسن سيرته وكان هو المؤيد والمسدد له والهادي يوفقه لما يحبه ويرضاه له ، قال الله تعالى (١) ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) إلا أنه على كل حال ليست النافلة في الاهتمام بالنسبة إلى المسجد كالفريضة في سائر الأحوال أو أكثرها قطعا ، خصوصا مثل نافلة الليل والصلوات الأخر التي تفعل فيه.

وهل المراد بالمسجد في الفتاوى ما يشمل مثل الحضرات المشرفة ونحوها مما هي أيضا كالمساجد في عدم السر والخفاء أو خصوص المساجد المتعارفة ، وبالمنزل خصوص المسكن أو ما يشمل كل موضع فيه ستر وخفاء؟ ظاهر اللفظ الثاني في الأول والأول في الثاني ، لكن يحتمل التعميم ، والأولى مراعاة الميزان التي أشرنا إليها سابقا.

وكيف كان فأفضلية المكتوبة في المساجد إنما هي للرجال دون النساء وإن أطلق بعض الأصحاب ، بل ربما كان هو مقتضى أصالة الاشتراك في الأحكام ، لكن لا نعرف خلافا بينهم ، بل ظاهرهم الاتفاق عليه في أفضلية صلاتها في المنزل من صلاتها فيها رعاية للستر المطلوب منهن ، وحذرا عن الافتتان بهن ، والفتنة بسببهن لو خرجن إليها مجتمعة مع الرجال ، وعن توصلهن إلى كثير من القبائح التي هن مظنتها باعتبار نقص عقولهن وغلبة شهواتهن ، مضافا إلى‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر يونس ابن ظبيان (٢) « خير مساجد نسائكم البيوت » بل‌ عنه عليه‌السلام (٣) أيضا « أن صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في الدار » ‌

__________________

(١) سورة العنكبوت ـ الآية ٦٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

١٤٩

وفي‌ خبر آخر كما عبر به في النفلية والمفاتيح « أن صلاتها في بيتها أفضل منها في صفتها ، وفي صفتها أفضل منها في صحن دارها ، وفي صحن دارها أفضل منها في سطح بيتها ».

بل قد يقال لا فضل ولا استحباب في إتيانها المساجد أصلا ، لعدم الدليل بعد تنزيل إطلاقات المساجد على الرجال ، ولعله الظاهر من عبارة لمعة الشهيد حيث قال : والأفضل المسجد ، ثم قال : ومسجد المرأة بيتها ، ضرورة ظهورها في كون المرأة عكس الرجل ، فالبيت بالنسبة إليها كالمسجد مطلقا أو خصوص ما أرادت الخروج اليه من المساجد ، والمسجد بالنسبة إليها بيت ، بل لعله الظاهر أيضا من المحكي عن مجمع البرهان حيث قال خبر يونس بن ظبيان يدل على اختصاص فضيلة المسجد بالرجال كما هو المذكور في الكتب والمشهور بينهم ، بل عن كشف الالتباس ونهاية الأحكام هذا الحكم أي إتيان المساجد مختص بالرجال دون النساء ، ونحوه المحكي عن حاشية الميسي إنما يستحب الفريضة في المسجد في حق الرجال ، أما النساء فبيوتهن مطلقا ، اللهم إلا أن تحمل هذه العبارات منهم على إرادة الأفضلية ، كما أن أخبار المساجد تبقى على إطلاقها في ثبوت الفضل والاستحباب للرجال والنساء إلا أن الأفضل منها في النساء البيوت ، ولا تنافي بينهما ، نعم لو كان مدلولها أنها أفضل الأماكن بالنسبة للصلاة أمكن أن يتحقق التنافي بينها وبين ما دل على أفضلية البيت للمرأة ، كما أنه يمكن أن يقال : لو فرض اختصاص مدلولها بالرجال لم يثبت الاستحباب هنا للنساء ، إذ لا مقتضي له إلا الأصل المعلوم انقطاعه هنا ، مع احتمال كون انقطاعه بالنظر إلى الأفضلية لا الفضل ، بل لعل خبر يونس المتقدم شاهد على ثبوته باعتبار اقتضاء اسم التفضيل ذلك ، ولعله من هنا قال في الدروس : « يستحب للنساء الاختلاف إليها كالرجال وإن كان البيت أفضل » ‌

١٥٠

ونحوه في الذكرى ، وربما يؤيده تتبع مباحث الجماعة والحيض والاستحاضة والأوقات ومعلومية صلاة النساء مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير إنكار منه عليهن ، إلا أن يقال : إن ذلك منه لبيان أصل الجواز أو لتحصيل فضيلة الجماعة معه التي هي أفضل الفضائل ، أو لغير ذلك ، وكيف كان فلا ريب في أن الأولى لهن خصوصا ذوات الهيئات منهن الصلاة في البيوت سيما بعد حكم العلامة في التذكرة بكراهة إتيانهن المساجد.

المسألة الثالثة الصلاة في الجامع الأعظم الذي يكثر اختلاف عامة أهل البلد إليه بمائة صلاة وفي مسجد القبيلة أي المعروف بقبيلة خاصة كما في جامع المقاصد أو أنه الذي لا يأتيه غالبا إلا طائفة من الناس كمساجد القرى والبدو عند قبيلة قبيلة والتي في بعض أطراف البلد بحيث لا يأتيه غالبا إلا من قرب منها كما عن كشف اللثام ، ولعله أولى وإن كان الأول أنسب بظاهر اللفظ بخمس وعشرين صلاة وفي مسجد السوق الذي لا يأتيه غالبا إلا أهل السوق باثنتي عشرة صلاة بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، لخبر السكوني (١) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام المروي مرسلا في الفقيه عنه ومسندا في ثواب الأعمال كما حكاه عنهما في الوسائل ، بل فيها أن الشيخ في النهاية رواه عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم‌السلام « صلاة في بيت المقدس ألف صلاة ، وصلاة في المسجد الأعظم مائة صلاة ، وصلاة في مسجد القبيلة خمس وعشرون صلاة ، وصلاة في مسجد السوق اثنتا عشرة صلاة ، وصلاة الرجل في بيته وحده صلاة واحدة » وفي الحدائق عن أكثر نسخ الفقيه وكتاب ثواب الأعمال « مائة ألف » فيكون المراد بالأعظم المسجد الحرام لا جامع البلد كما في الذخيرة ، وعن بعض نسخ الفقيه التصريح به ، وظني أنه وهم من بعض النساخ أو الرواة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

١٥١

وكيف كان فمنه يستفاد مساواة بيت المقدس لمسجد الكوفة الذي ورد في‌ بعض النصوص « ان الصلاة فيه تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد » كخبر المفضل بن عمر (١) عن الصادق عليه‌السلام بل وخبري القلانسي (٢) عنه عليه‌السلام أيضا بناء على إرادة مسجد الكوفة من الكوفة في أحدهما بقرينة الآخر ، لكن لم يذكر فيهما بيان الغير بالمساجد كالمرسل (٣) عن مصباح الزائر لابن طاوس ، إلا أنها تحمل عليه ، ولا ينافيها‌ خبرا أبي عبيدة (٤) وابن سنان (٥) عن الباقر والرضا عليهما‌السلام المقدر ذلك فيهما بسبعين ، قال في الأول : « لا تدع يا أبا عبيدة الصلاة في مسجد الكوفة ولو أتيته حبوا ، فإن الصلاة فيه تعدل سبعين صلاة في غيره من المساجد » وقال في الثاني : « الصلاة في مسجد الكوفة فردا أفضل من سبعين صلاة في غيره جماعة » إذ العدد الناقص لا يقتضي عدم الزيادة إلا بالمفهوم الذي بعد تسليمه في المقام لا يعارض المنطوق ، على أنه يمكن دعوى أن هذا الاختلاف باعتبار المكلفين من حسن التوجه والتأدية ونحوهما من العوارض التي تزد الصلاة بسببها فضلا ، مثل ما قيل في اختلاف الثواب الوارد في زيارات الحسين عليه‌السلام والحج وغيرهما ، أو باعتبار اقتضاء المقامات لاختلافها ، بل واختلاف عقول السائلين وتهيؤهم للطف وإيداع الأسرار بناء على أن من عمل عملا بقصد ثواب خاص سمعه يؤتاه لا أزيد منه وإن كان هو كذلك واقعا ، فتأمل ، هذا.

ويمكن فرض هذا الناقص على وجه يساوي ذلك الزائد أو يقرب منه بيسير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ١٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١٢ و ٢٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٢٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٢٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٢٤.

١٥٢

يتسامح فيه ، إذ المتيقن من الغير في نصوص الألف بعد إرادة المساجد منه أدناها كمسجد السوق الذي هو باثنتي عشرة صلاة ، لعدم الدليل على إرادة الأعلى منه ، فالألف من الصلاة فيه حينئذ باثني عشر ألف صلاة ، والسبعون لو فرض وقوعها جميعا في الجامع تبلغ سبعة آلاف ، وبملاحظة الجماعة كما أشير إليه في الخبر الثاني يحصل الخمسة الباقية ، بل بملاحظة زيادة عددها يستغني عن فرض الصلاة في الجامع ، وبهذا وإن كان بعيدا وبما تقدمه يجمع بين ما اختلف من النصوص الواردة في فضل المسجدين المدني والحرام ، إذ في‌ خبر مسعدة بن صدقة (١) عن الصادق عن آبائه عن رسول الله ( عليهم الصلاة والسلام ) « صلاة في مسجدي تعدل عند الله عشرة آلاف في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام ، فإن الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة » ونحوه بالنسبة إلى المسجد الحرام ، وخبر صامت (٢) عن الصادق عليه‌السلام بل وخبر الحسين بن خالد (٣) عن أبي الحسن الرضا عن آبائه عليهم‌السلام لكن زاد فيه غيره من المساجد ، وبالنسبة إلى المدني خبر القلانسي (٤) بناء على إرادة المسجد من المدينة فيه ، وفي‌ المروي عن مجالس الشيخ بإسناده عن أبي ذر (٥) « صلاة في مسجدي هذا تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في مسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره » وفي‌ المرسل النبوي (٦) « الصلاة في مسجدي كألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام ، فإن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة في مسجدي » ونحوه غيره في تقدير النبوي منه.

والحاصل منها أن فضيلة الأول منهما مائة ألف ألف إذا أريد من الغير بقرينة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ١٠.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٣.

١٥٣

استثناء المسجد الحرام ما يشمل مسجد الكوفة وبيت المقدس ، وفضيلة الثاني منهما مائة ألف مائة ألف ألف بناء على إرادة المدني من الغير في خبر أبي ذر ، وإلا لساوى المدني الحرام في الفضل ، وهو معلوم البطلان نصوصا بل وإجماعا ، وقول الرضا عليه‌السلام (١) : « نعم والصلاة فيما بينهما تعدل ألف صلاة » في سؤال الوشاء له عليه‌السلام « عن الصلاة في المسجد الحرام والصلاة في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء في الفضل » محمول على إرادة التسوية في أصل الفضل أو في مقداره وإن اختلف المحل ، يعني أن ذلك يساوي ألف صلاة في مسجد الكوفة مثلا ، وهو يساوي ألف صلاة فيه ، كما أن‌ قوله عليه‌السلام فيه : « والصلاة فيما بينهما » محتمل لإرادة الصلاة فيهما ، ووقع الاشتباه من النساخ ، فيكون حينئذ مؤيدا للسابق الذي به يندفع ما ورد من اقتضاء ظاهر بعض النصوص مساواة الكوفة للمدني في التقدير بالألف ، وهو خلاف النصوص الأخر ، والإجماع المحكي في الروض ، إذ قد عرفت أنه بعد الإغضاء عن باقي الأخبار يندفع بمراعاة المحل كما هو واضح ، لكن أقصى ما أثبته العلامة الطباطبائي في منظومته للحرام ألف ألف ، وللمدني عشرة آلاف ، فقال :

والمسجد الحرام منها الأفضل

فيه الصلاة ألف ألف تعدل

للمدني في الألوف عشر

وعشرها للآخرين أجر

ولا ريب في إرادته الصلاة المجردة عن المضاعفة كما يشهد له التأمل في كلامه أولا وآخرا ، على أنه لا دليل له لو أرادها ، وأقصى ما أثبته الخراساني في الذخيرة تبعا للروض للحرام ألف ألف ألف ، وللمدني ألف ألف ، قال : وإذا اعتبرنا ما دل على أن الصلاة في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعشرة آلاف في غيره زاد عدد المضاعفة أضعافا مضاعفة ، قلت : هي على كل حال لا تنتهي إلى ما سمعته منا ، اللهم إلا أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٣ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

١٥٤

يحمل ذلك منهما على عدم نفي الزيادة كالنصوص المشتملة على نحو هذا التقدير ، والأمر في ذلك كله سهل ، كسهولة رفع كثير مما ذكره في الروض وتبعه في الذخيرة من السؤالات السبعة على ظاهر هذه النصوص بعد الإحاطة بما سمعته منا ، منها أن ظاهر أخبار المسجد الحرام ثبوت الفضل في سائر أجزائه حتى الكعبة مع أن الصلاة فيها مكروهة ، كما أن قضية غيرها من أخبار المدني والكوفي تساوي جميع الأجزاء في الفضل المذكورة مع ثبوت اختلافها ، ويدفع الأول التخصيص بدليل الكراهة ، والثاني بأن المساواة في ذلك لا تقتضي عدم زيادة الأجزاء الأخر بثواب زائد على هذا القدر المشترك ، ولو سلم فيمكن التفاوت فيه بفرض الاختلاف في المحل الذي يحصل بسببه التضاعف ، كما أشرنا إليه فيما تقدم ، وكذا غيرهما من الأسئلة ، فلاحظ وتأمل.

( الفصل الرابع )

( في )كيفية ( صلاة الخوف والمطاردة )

وأحكامهما ، إذ هي بجميع كيفياتها غير مختصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن كان معه حال الخوف ، لظاهر الآية (١) وبعض النصوص (٢) والمنقول من فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام لها ليلة الهرير (٣) وحذيفة بن اليماني بطبرستان (٤) والإجماع محصلا ومنقولا عنا وعن أكثر الجمهور عدا أبي يوسف فخصها به ، والمزني‌

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ١٠٢ و ١٠٣.

(٢) فروع الكافي ج ١ ص ٤٥٦ الطبع الحديث « باب صلاة الخوف » ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٨.

(٤) سنن أبي داود ـ ج ٢ ص ٢٣ ـ الرقم ١٢٤٦ ـ المطبوعة عام ١٤٦٩.

١٥٥

فكذلك أيضا ، لكن قال : إن الآية منسوخة بتأخيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخندق أربع صلوات اشتغالا بالقتال ولم يصل صلاة الخوف ، وأصالة الاشتراك التي لا يقطعها كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موردا لها في بعض النصوص (١) كما في غير المقام من موردها ونظائره ، بل ولا يقطعها مفهوم قوله تعالى (٢) ( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ) إذ هو وإن كان قد يتخيل زيادته على مطلق الموردية لكنه بعد التأمل والتروي راجع إليها ، ضرورة عدم إرادة شرطية كونه بخصوصه فيهم كي يتجه حينئذ اختصاصها به ، بل المراد بيان كيفية الصلاة جماعة معه حال الخوف ، فيستفاد حكم الغير حينئذ من آية التأسي (٣) وغيرها مما دل على الاشتراك ، لا أن المراد اشتراط مشروعية الحكم المزبور بما إذا كان معهم كما لا يخفى.

بل قد يقال : إن المنساق من الآية وشبهها إرادة المثالية بذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخصوصه ، وإلا فالمراد بيان كيفيتها جماعة معه ومع غيره ، فلا حاجة حينئذ إلى آية التأسي ، ويكون ذكره بخصوصه لعدم انفكاكه عنه غالبا في تلك الأوقات ، أو لأنه حال حضوره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنهم لا يصلون فرادى غالبا ، على أنه لو أغضي عن ذلك كله فأقصاه اختصاص هذه الكيفية به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أن أصل صلاة الخوف ولو فرادى مختصة به ، وتأخير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاته يوم الخندق غير ثابت ولو سلم فلعله قبل نزول آية الخوف ، فتكون ناسخة له لا هو ناسخ لها ، بل ظاهر الفاضل والشهيد أنه كذلك جزما ، ولو سلم فلعله لعدم التمكن من التطهر ونحوه مما يسقط معه أداء الصلاة.

__________________

(١) فروع الكافي ـ ج ١ ص ٤٥٦ الطبع الحديث « باب صلاة الخوف » ـ الحديث ٢.

(٢) سورة النساء ـ الآية ١٠٣.

(٣) سورة الأحزاب ـ الآية ٢١.

١٥٦

وكيف كان فـ ( صلاة الخوف مقصورة ) في الكم سفرا جماعة أو فرادى قولا واحدا وكتابا وسنة وفي الحضر إذا صليت جماعة بلا خلاف معتد به أجده فيه ، بل ظاهر المتن أنه إجماعي كالسفر وإن كان قد ( هو خ ل ) حكى كالشهيد الثاني في المعتبر عن بعض أصحابنا أنها لا تقصر أيضا إلا في السفر ، وقضيته فعلها تماما في الحضر ولو جماعة ، لكنه لعله لضعفه في الغاية لم يعتد به هنا حيث اقتصر على نقل الخلاف في غير الجماعة ، وهو كذلك لما تسمعه من بعض تفاسير ذات الرقاع ، ولإطلاق الأدلة الواردة في فعلها جماعة الشامل لحالتي الحضر والسفر ، بل قد يشعر صحيح الحلبي (١) عن الصادق عليه‌السلام وخبر عبد الله بن جعفر (٢) عن أخيه موسى عليهما‌السلام المروي عن قرب الاسناد وغيرهما بأن المنساق من إطلاق صلاة الخوف فعلها جماعة حيث سئلا فيهما عنها فأجابا ببيان كيفيتها جماعة ، بل ليس في أكثر النصوص تعرض إلا لبيان كيفيتها جماعة‌ فان صليت فرادى قيل تقصر ، وقيل لا ، والأول أشبه وأشهر ، بل هو المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، لأولويته من السفر في التقصير ، ولإطلاق‌ الصحيح (٣) « قلت للباقر عليه‌السلام : صلاة الخوف والسفر تقصران جميعا ، قال : نعم ، وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر الذي لا خوف فيه » والمناقشة فيه باحتمال إرادة قصر الكيفية من القصر فيه واهية جدا ، ولا ريب في ظهوره بعدم اعتبار الجماعة بذلك ، بل هو كالصريح فيه باعتبار اشتماله على الأحقية المزبورة ، وحسن محمد بن عذافر (٤) عن الصادق عليه‌السلام « إذا جاءت الخيل تضطرب بالسيوف أجزأ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٥ لكنه خبر على بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٧.

١٥٧

تكبيرتان » ومن المعلوم بدلية التكبيرة عن الركعة مع بعد الجماعة في ذلك ، بل يمكن القطع بعدمها فيه ، ومنه يظهر دلالة‌ خبر عبد الله بن المغيرة (١) عنه عليه‌السلام أيضا الذي رواه المشايخ الثلاثة « أقل ما يجزي في حد المسايفة من التكبير تكبيرتان لكل صلاة إلا المغرب ، فان لها ثلاثا ».

بل يمكن استفادة المطلوب أيضا من نصوص الجماعة باعتبار ظهورها في كون الجماعة المذكورة فيها كغيرها من الجماعات التي هي هيئة لاحقة استحبابا للفرض بحسب تأديته ، لا أن لها دخلا في الكمية قطعا ، كما أنه لا دخل للانفراد في ذلك قطعا ، فمتى ثبت كمية الفرض في أحد الحالين على وجه لا ظهور في الدليل باشتراطه بذلك صح فعله بذلك الكم في الحال الآخر كما هو واضح ، بل قيل : تدل الآية عليه أيضا ، ولعله بناء على عدم إرادة السفر الشرعي من الضرب في الأرض فيها ، وإلا لم يكن لاشتراط الخوف وجه مع التتميم بعدم القائل باعتبار غير الشرعي من السفر ، أو على أنه أخرج مخرج الغالب باعتبار أن حصول الخوف غالبا إنما يكون مع السفر أو غير ذلك مما تخرج به الآية عن ظهور اعتبار السفر في القصر حال الخوف الذي يمكن دعوى منعه في نفسه أيضا باعتبار أن المنساق للاشتراط في الآية اشتراط جواز القصر في السفر بالخوف فيه المعلوم بالإجماع عدمه ، لا العكس الذي هو المطلوب هنا ، إذ التعليق على الضرب كالتعليق في الآية الثانية بكونه معهم في صلاتها جماعة غير مراد منه الشرطية قطعا ، كما هو واضح عند التأمل.

فالمناقشة حينئذ في الاستدلال بهذه الآية على المطلوب بما لا يخفى عليك مما قدمنا يمكن دفعها بما سمعت ، وإن أطال في الذخيرة في تقريرها وتقرير المناقشة أيضا في الاستدلال على عدم الفرق بين السفر والحضر وبين الفرادى والجماعة بإطلاق الاقتصار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٣.

١٥٨

على الركعتين المستفاد من التدبر في الآية الثانية بأنها من متممات الآية الأولى ، فيكون الضمير فيها راجعا إلى أولئك الضاربين في الأرض الخائفين ، وبظهورها في الجماعة لا الفرادى ، لكن الأمر في ذلك سهل بعد أن عرفت الاستغناء عن الآيتين في إثبات كل من المطلوبين بغيرهما مما سمعت ، فما عن المبسوط وظاهر جماعة من اشتراط قصرها في الحضر بوقوعها جماعة دون الفرادى اقتصارا على المتيقن ضعيف جدا ، وإن نسب إلى الحلي ، مع أن المحكي عن سرائره كالصريح في موافقة المشهور ، والله أعلم.

ثم إن إطلاق النص والفتوى يقتضي جواز التقصير في صلاة الخوف وإن تمكن من الإتمام مع قصر الكيفية وبدونه ، بل لعل ذلك كاد يكون صريحهما ، بل هو مقطوع به من التدبر في الأدلة ، خصوصا ما تسمعه منها في كيفية تأديتها جماعة ، ضرورة التمكن من الإتمام ، بعد أن حرس جمع من المسلمين العدو ، لكن في الرياض عن الدروس تقييد جواز القصر بعدم التمكن من الإتمام نافيا عنه البأس ، لانصراف إطلاق الأدلة إليه ، لا أقل من الشك ، فيبقى الأصل المقطوع به سليما ، وهو كما ترى ، بل لا صراحة في عبارة الدروس بذلك ، قال : « الخوف مقتض لنقص كيفية الصلاة مع عدم التمكن من إتمامها إجماعا ، وكذا نقص العدد على الأقوى سواء صليت جماعة أو فرادى » ومن الجائز إن لم يكن الظاهر إرادته التشبيه في أصل اقتضاء الخوف النقصان لا مع التقييد بالتمكن ، وإلا كان ضعيفا جدا.

كضعف القول بأن المراد من القصر هنا الموجود في الكتاب والسنة والفتاوى غير القصر المتعارف الذي هو رد الأربعة خاصة إلى الركعتين ، بل هو رد الاثنين إلى واحدة أيضا كما نقل عن ابن الجنيد ، قال فيما حكي عنه : فان كانت الحالة الثانية وهي مصافة الحرب والموافقة والتبعية والتهيؤ للمناوشة من غير أبدية صلى الإمام بالفرقة الأولى ركعة وسجد سجدتين ، ثم انصرفوا وسلم القوم بعضهم على بعض في مصافهم ،

١٥٩

وقد‌ روي (١) عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى كذلك بعسفان » وروى ذلك (٢) أيضا حذيفة بن اليمان وجابر وابن عباس وغيرهم ، وقال بعض الرواة : وكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين ، ولكل طائفة ركعة ركعة (٣) وعن ابن بابويه (٤) « سمعت شيخنا محمد ابن الحسن يقول : رويت أنه سئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عز وجل (٥) : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) إلى آخره ، فقال : هذا تقصير ثان ، وهو أن يرد الرجل الركعتين إلى الركعة » ولعله أشار بالرواية إلى‌ صحيح حريز (٦) عن الصادق عليه‌السلام في الآية المزبورة ، قال : « في الركعتين ينقص منهما واحدة ».

إذ ستسمع النصوص (٧) المستفيضة المشتملة على بيان الكيفية المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصريحة في أن قصر صلاة الخوف كقصر صلاة السفر ، مضافا إلى ما سمعته سابقا عند البحث عن قصرها في الحضر فرادى مما يستفاد منه ذلك أيضا خصوصا مع الاعتضاد بالشهرة بين الأصحاب شهرة لا ينكر على دعوى الإجماع معها ، ضرورة عدم قدح مثل الإسكافي فيه ، على أنه لا صراحة في كلامه في الخلاف ، بل‌

__________________

(١) لم نعثر عليه في كتب الأخبار.

(٢) سنن أبى داود ج ٢ ص ٢٣ ـ الرقم ١٢٤٦ المطبوعة عام ١٣٦٩.

(٣) سنن أبى داود ج ٢ ص ٢٣ ـ الرقم ١٢٤٦ المطبوعة عام ١٣٦٩.

(٤) الفقيه ج ١ ص ٢٩٥ ـ الرقم ١٣٤٣.

(٥) سورة النساء ـ الآية ١٠٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٣ عن حريز عن زرارة عن أبى عبد الله عليه‌السلام.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ١ والمستدرك ـ الباب ـ ١ ـ منها.

١٦٠