جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بخلاف ما قلناه فإنه تقييد للفظ الشعر الذي إرادة العموم منه معركة للآراء ، والحق أنه ليس له وإن أفاده هنا بتعليق النهي على الطبيعة.

ومن هنا ينقدح لك المناقشة في دليل الكراهة من النص السابق المشتمل على لفظ الشعر الذي سمعت الكلام فيه ، وعموم « من » في المرسل الأخير لا يقتضي العموم في لفظ الشعر الواقع في سياقه ، بل هو على إطلاقه ، نعم استفادة العموم فيه من التعليق على الطبيعة ، وهذا يكفي في تقييده إمكان دعوى انصرافه إلى إرادة غير ما سمعته من الشعر كالغزل ونحوه ، والصحيح السابق والسيرة التي اعترف بها الكركي في غير واحد من كتبه ، وما في الذكرى من أنه من المعلوم أنه كان ينشد بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيت والأبيات من الشعر في المسجد ولم ينكر ذلك ، بل كأنه في بالي أنه ربما أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك بل ربما طرق مسمعي جملة من الأخبار المشتملة على إنشاد الشعر بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ، بل ربما كان المنشد في بعضها‌ أمير المؤمنين عليه‌السلام والظاهر أنه أنشده‌ « وأبيض يستسقى الغمام بوجهه » إلى آخره (١) ، لما استسقاه الأعرابي ، فلاحظ ، كل ذلك مع شهادة الاعتبار ببعض ما ذكرنا إن لم يكن جميعه.

والمراد بالإنشاد القراءة لا رفع الصوت وإن فسره به في تهذيب اللغة والغريبين والمقابيس وظاهر الأساس على ما حكي عنها ، للتبادر ، ولأن رفع الصوت في نفسه مكروه وإن لم يكن بالشعر ، كما هو قضية إطلاق المتن وغيره من كتب الأصحاب التي عبرت بما في النص الذي هو مستند الحكم مؤيدا بما في الرفع من الشغل عن العبادات ومنافاة السكينة والوقار والخشوع المطلوب في المساجد ، وأذية المصلين ونحو ذلك ، بل مقتضى الإطلاق المزبور عدم الفرق بين القرآن وغيره ، بل نص على التعميم المذكور الثانيان ،

__________________

(١) البحار ـ ج ١٨ ص ٩٥٥ من طبعة الكمباني.

١٢١

لكن مع التقييد بما إذا تجاوز المعتاد ، كما أنه قيد أصل رفع الصوت به في المدارك والمفاتيح والكفاية ، ولا بأس به ، لانصراف الإطلاق إليه.

كما أنه لا بأس بالتعميم المزبور للإطلاق أيضا ، إلا أنه ينبغي استثناء ما ثبت وجوب الجهر فيه أو استحبابه على وجه يشمل ما فيه رفع الصوت من الجهر ، كبعض القراءة والأذكار للإمام مثلا المستحب له أن يسمع من خلفه كل ما يقول والأذان والإقامة ونحو ذلك ، ولعل ذا هو مراد ابني الجنيد وإدريس في المحكي عنهما من استثناء ذكر الله من كراهة رفع الصوت ، وإلا فالنص والفتوى مطلقان ، أقصى ما يمكن تنزيلهما على إرادة ما تجاوز المعتاد ، والمراد الاعتياد في نفس الرفع للصوت من غير فرق بين القرآن وغيره ، لكن في كشف اللثام احتمال إرادة الاعتياد لكل شي‌ء بحسبه ، فيختلف باختلاف الأنواع في العادة ، إذ هي في الأذان غيرها في القراء ، وفيه أنه لا عادة مضبوطة في ذلك كي يرجع إليها ، على أن أذان الإعلام كلما كان أرفع كان أولى ، وارتفاع صوت الامام يتبع كثرة المأمومين وقلتهم ، والأمر سهل ، ورفع الصوت في التدريس في المساجد لم أعرف استثناءه من أحد ، فيشمله النص والفتوى.

وأما النوم في المساجد فقد نص على كراهته وشدتها في المسجدين الشيخ والحلي على ما حكي عنهما ، والفاضل والشهيد والمحقق الثاني والعلامة الطباطبائي ، بل في المدارك نسبة الكراهة إلى قطع أكثر الأصحاب ، وعن حاشيتها إلى المشهور ، وفي الذكرى إلى الجماعة ، لمنافاته التوقير ، ومخافة خروج الخبث منه فضلا عن الريح من الحدث كالصبيان والمجانين ، إذ هو حال النوم مثلهم أو أسوأ ، والتعليل بأنها إنما بنيت للقرآن أو لغير هذا ، وخبر زيد الشحام (١) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١.

١٢٢

« قول الله عز وجل ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) (١) قال : سكر النوم » بناء على أن المراد مواضع الصلاة التي هي المساجد.

والشدة في المسجدين لشدة احترامهما ، ولاختصاصهما بالنهي ، ففي‌ صحيح زرارة (٢) « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في النوم في المساجد؟ فقال : لا بأس إلا في المسجدين : مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسجد الحرام ، قال : وكان يأخذ بيدي في بعض الليل فيتنحى ناحية ثم يجلس فيحدث في المسجد الحرام ، فربما نام ، فقلت له في ذلك ، فقال : إنما يكره أن ينام في المسجد الحرام الذي كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأما في هذا الموضع فليس به بأس » وفي‌ خبر محمد ابن حمران (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : « وروى أصحابنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا ينام في مسجدي أحد ».

وربما يتم منه أشدية الكراهة فيه من المسجد الحرام ، كما هو ظاهر‌ خبر علي ابن جعفر (٤) المروي عن قرب الاسناد « سألته عن النوم في المسجد الحرام ، فقال : لا بأس ، وسألته عن النوم في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا يصلح » كما أن ظاهر صحيح زرارة (٥) السابق عدم الكراهة فيما عدا المسجدين ، بل كاد يكون صريح الاستثناء فيه فضلا عما في ذيله من الصراحة ، ومن هنا استجود في المدارك وتبعه الكاشاني قصرها عليهما مؤيدا له مع ذلك بضعف سند دليل إطلاقها ودلالته ، وهو جيد لو لا أن الكراهة مما يتسامح فيها ، وقد عرفت فتوى الجماعة بها وما يشعر بها ، فاتجه حمله حينئذ على إرادة الشدة.

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ٤٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٢.

١٢٣

وأما احتمال حمله على إرادة بيان عدم جريان أحكام المساجد على مثل هذه الزيادة التي حدثت بعد زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما توهم المحدث البحراني في حدائقه ، مع اعترافه بظهور غير واحد من النصوص (١) في أنها من المسجد القديم الذي خطه إبراهيم عليه‌السلام لكنه ارتكب تخصيص جريان الأحكام على ما كان مسجدا في الشريعة المحمدية لا الزمن السابق ، قال : « ولهذا جاز نقض البيع والكنائس لأهل الملل المتقدمة وتغييرها التي كان يراعى فيها ما يراعى للمساجد من التوقير والاحترام ، فتجعل مساجد إسلامية تحترم كما تحترم » بل بذلك تخلص عن الاشكال الناشئ من ورود بعض النصوص (٢) في كون مسجد الكوفة أوسع من هذا الموجود وأن بعضه في طاق الرواسين ، مع أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يأمر بإرجاعه ، ولا نهى عن استعماله في غير المسجد ، كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأمر برد زيادة المسجد الحرام التي كانت في زمن إبراهيم عليه‌السلام على ما نطقت به تلك النصوص ـ فهو وهم في وهم ، ضرورة عدم الفرق عند الأصحاب بين المساجد القديمة والحادثة ، وكلامهم في البيع والكنائس شاهد بخلاف ما ادعاه كما لا يخفى على من لاحظه ، ولذا لم يجوزوا نقضها ولا تغييرها لغير بنائها مساجد ، بل اقتصروا على ما لا بد منه ، كتغيير المحراب ونحوه مما هو تعمير لها لا تخريب ، وإلا فقد أجروا عليها أحكام المساجد ، وأما نصوص الزيادة فبعد تسليمها وتسليم تمكن أمير المؤمنين عليه‌السلام من ذلك فمعرض عنها عندهم.

نعم لا يبعد عدم جريان بعض الأحكام المختصة بمسجد الحرام على الزيادة الحادثة لظهور كون موردها الموجود منه في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن العجب استظهاره من صحيح زرارة السابق ما عرفت ، مع أن هذه الزيادة صارت مسجدا إسلاميا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٥ ـ من أبواب أحكام المساجد.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

١٢٤

مندرجا في الموضوع الذي أثبته واعترف به وإن كان الفاعلون لذلك الجبارين ، كما هو واضح.

وكيف كان فلا إشكال في عدم الحرمة في النوم في شي‌ء من المساجد ، للأصل المعتضد بفتوى الأصحاب ، بل في كشف اللثام أنه مجمع عليه قولا وفعلا ، وبالنصوص (١) الأخر الدالة على الجواز.

بل قد يستفاد من بعضها عدم الكراهة في مثل نوم المساكين ونحوهم ممن لا مأوى له في المسجدين فضلا عن غيرهما ، ففي‌ خبر معاوية (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن النوم في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نعم فأين ينام الناس » وفي‌ خبر أبي البختري (٣) عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام المروي عن قرب الاسناد « أن المساكين كانوا يبيتون في المسجد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » وفي‌ خبر إسماعيل بن عبد الخالق (٤) المروي عنه أيضا « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن النوم في المسجد الحرام ، فقال : هل للناس بد أن يناموا في المسجد الحرام؟ لا بأس به ، قلت : الريح تخرج من الإنسان ، قال : لا بأس به » ولعله لذا استثنى الشهيد النوم لضرورة من الكراهة.

وكذا يكره دخول من في فمه رائحة بصل أو ثوم أو غيرهما من الروائح المؤذية للمجاور كالكراث ونحوه في المساجد على ما صرح به جماعة من الأصحاب ، للنصوص (٥) المشتمل بعضها على شدة المبالغة في الأول (٦) خبر الزيات (٧) قال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المساجد.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام المساجد.

(٦) الصواب « في الثاني » بدل « في الأول ».

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

١٢٥

« قصدت أبا جعفر عليه‌السلام إلى ينبع فقال : يا حسن أتيتني إلى هنا ، قلت : نعم ، قال : إني أكلت من هذه البقلة يعني الثوم ، فأردت أن أتنحى عن مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » واقتصار المصنف كالفاضل في بعض كتبه على الأولين محمول على المثال قطعا ، لظهور النصوص في كل ذي رائحة مؤذية ، ففي‌ صحيح ابن مسلم (١) عن الباقر عليه‌السلام « سألته عن أكل الثوم فقال : إنما نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لريحه ، فقال : من أكل هذه البقلة الخبيثة ـ وعن العلل « المنتنة » ـ فلا يقرب مسجدنا ، فأما من أكله ولم يأت المسجد فلا بأس » وفي‌ خبر أبي بصير (٢) عن الصادق عن آبائه عن علي عليهم‌السلام « من أكل شيئا من المؤذيات ريحها فلا يقربن المسجد » بل في جملة منها النص على الكراث أيضا ، كخبر ابن سنان (٣) المروي عن المحاسن « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكراث ، فقال : لا بأس بأكله مطبوخا وغير مطبوخ ، ولكن إن أكل منه شيئا له أذى فلا يخرج إلى المسجد كراهية أذاه أن يجالس » وغيره ، نعم وصفه الشي‌ء بما له أذى كالتعليل في ذيله وصحيح ابن مسلم (٤) السابق ظاهر في ارتفاع الكراهة بمعالجة ذهاب رائحته بطبخ ونحوه ، كما يومي اليه مضافا إلى ما سمعت‌ المرسل (٥) المروي عن المجازات النبوية للرضي قدس‌سره ، قال : « قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أكل هاتين البقلتين فلا يقربن مسجدنا يعني الثوم والكراث ، فمن أراد أكلهما فليمثهما طبخا » وفي رواية (٦) « فليمثهما طبخا ».

فما عساه يقال ـ من احتمال الكراهة بأكل ذوات هذه البقول وإن ذهبت الرائحة لإطلاق بعض الأدلة الذي عرفت تنزيله بشهادة صحيح ابن مسلم المتقدم والتبادر على ذي الرائحة ، ولاحتمال أو ظهور‌ خبر أبي بصير (٧) عن الصادق عليه‌السلام في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٨.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

١٢٦

التعميم المزبور ، قال : « سئل عن أكل الثوم والبصل والكراث ، فقال : لا بأس بأكله نيا وفي القدور ، ولا بأس بأن يتداوى بالثوم ، ولكن إذا أكل أحد كم ذلك فلا يخرج إلى المسجد » الواجب بعد ما سمعت تنزيل الإشارة فيه على غير المطبوخ أو عليه أيضا إذا لم يذهب الطبخ رائحته ـ لا يلتفت اليه.

نعم ظاهر بعض النصوص استحباب إعادة الصلاة مع أكل الثوم ذي الرائحة فضلا عن كراهة دخول المسجد ، كخبر زرارة (١) قال : « حدثني من أصدق أصحابنا سألت أحدهما عليهما‌السلام عن الثوم ، فقال : أعد كل صلاة صليتها ما دمت تأكله » إذ من المعلوم عدم إرادة الوجوب للنصوص الأخر والإجماع محصلا ومحكيا عن الاستبصار على أن أكل هذه الأشياء لا يوجب إعادة الصلاة ، كما هو واضح.

ويكره التنخم والبصاق فيها أيضا كما ذكره غير واحد من الأصحاب بل نسب إلى الشيخ ومن تأخر عنه ممن تعرض لأحكام المساجد عبد العجلي ، للأمر بتوقير المسجد الذي قد لعن تاركه ، وبالتعظيم المعلل بأنها بيوت الله في أرضه ، ولا ريب في حصولهما بتركهما ، بل لا ريب في هتكهما حرمته ، وللتعليل في وجه بأنها إنما نصبت للقرآن أو لغير هذا ، ولما فيه من تنفير المترددين بل أذيتهم ، ول‌ خبر الحسين بن يزيد (٢) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام في حديث المناهي ، قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التنخع في المساجد » وهو التنخم ، إذ النخاعة النخامة كما في المجمع ، والمرسل (٣) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروي عن المجازات‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢٨ ـ من أبواب الأطعمة المباحة ـ الحديث ٨ من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣ لكن روى عن الحسين بن زيد.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٥.

١٢٧

النبوية للرضي « أن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة من النار إذا انقبضت واجتمعت » والمرسل (١) أيضا في مجمع البحرين « النخاعة في المسجد خطيئة » وإشعار‌ خبر إسماعيل بن مسلم الشعيري (٢) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام « من وقر بنخامته المسجد لقي الله تعالى يوم القيامة ضاحكا قد أعطى كتابه بيمينه » بل وخبر عبد الله بن سنان (٣) عن الصادق عليه‌السلام « من تنخع في المسجد ثم ردها في جوفه لم تمر بداء في جوفه إلا أبرأته ».

ومنه يستفاد أن المراد بالتنخع في حديث المناهي إخراج النخاعة إلى أرض المسجد لا مجرد خروجها إلى فمه وهو في المسجد ، إذ لا كراهة في ذلك ، بل لعله مستحب إذا كان بقصد التقدمة للابتلاع ، وخبر غياث بن إبراهيم (٤) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « إن عليا عليه‌السلام قال : البزاق في المسجد خطيئة وكفارته دفنه » ولاشعار‌ خبر طلحة بن زيد (٥) المروي عن ثواب الأعمال عن جعفر عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من رد ريقه تعظيما لحق المسجد جعل الله ريقه صحة في بدنه وعوفي من بلوى في جسده » وخبر السكوني (٦) المروي عن محاسن البرقي عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « من رد ريقه تعظيما لحق المسجد جعل الله ذلك قوة في بدنه ، وكتب له بها حسنة وحط عنه بها سيئة ، وقال : لا تمر بداء في جوفه إلا أبرأته ».

وليسا بحرام قطعا ، للأصل وظاهر باقي النصوص الدالة على الجواز ، وأرجحية‌

__________________

(١) كنز العمال ج ٤ ص ١٤١ ـ الرقم ٣١١٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٧.

١٢٨

البزاق على جهة اليسار على غيره إن كان في الصلاة ، منها‌ خبر عبد الله بن سنان (١) « قلت للصادق عليه‌السلام : الرجل يكون في المسجد في الصلاة فيريد أن يبزق ، فقال : عن يساره ، وإن كان في غير صلاة فلا يبزق حذاء القبلة ويبزق عن يمينه ويساره » ومنه يستفاد كراهة مطلق البزاق على جهة القبلة تعظيما لها ، إذ النهي محمول عليها قطعا لا على الحرمة ، كما أن الأمر بالبزاق على اليسار حال الصلاة على الندب لا الوجوب ، لخبر عبيد بن زرارة (٢) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كان أبو جعفر عليه‌السلام يصلي في المسجد فيبصق أمامه وعن يمينه وعن شماله وخلفه على الحصى ولا يغطيه » ومنه يستفاد الجواز في المسجد أيضا كخبر ابن مهزيار (٣) « رأيت أبا جعفر الثاني عليه‌السلام يتفل في المسجد الحرام فيما بين الركن والحجر الأسود ولم يدفنه » واحتمال استفادة عدم الكراهة أصلا منهما لتنزهه عليه‌السلام عن فعل المرجوح يدفعه أنه لعله لبيان الجواز ، فيكون بالنسبة إليه مندوبا وإن كان مكروها في حد ذاته وبالنسبة إلى غيره ، كما هو واضح.

وأما كراهة قتل القمل فيه فهي وإن نص عليها غير واحد من الأصحاب مع إبدال القتل بالقصع ، بل في الذكرى أنه قاله الجماعة ، لكن قد اعترف بعضهم بعدم الوقوف على نص دال عليه ، ولعله لذا تركها العلامة الطباطبائي في منظومته إلا أنه حيث كان الحكم مما يتسامح فيه أمكن القول بها لمكان فتوى الجماعة ، والتعليل السابق أو التحرز عن أذية شي‌ء في المسجد ، وما فيه من التنفير وعدم التوقير ، وما يشعر به‌ صحيح ابن مسلم (٤) « كان أبو جعفر عليه‌السلام إذا وجد قملة في المسجد دفنها في الحصى ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٤.

١٢٩

ومنه يستفاد ما أشار إليه المصنف بقوله فان فعل ستره بالتراب بناء على كون الضمير في كلامه راجعا إلى كل واحد من هذه الثلاثة ، إذ من المعلوم أن التغطية المزبورة فيه لدفع الاستقذار النفسي المشترك بين الثلاثة ، مضافا إلى ما سمعته من خبر غياث (١) الدال على دفن البزاق ، وإلى المضمر‌ المرفوع (٢) المروي عن محاسن البرقي « إنما جعل الحصى في المسجد للنخامة » بل قد يشم من خبري ابني مسلم ومهزيار المتقدمين معروفية الدفن في ذلك ، وأن غرضهما من نقل فعله استفادة عدم كون ذلك على الوجوب ، فتأمل ، ويحتمل عود الضمير في المتن إلى الأولين ، لأنهما المتعارف دفنهما دون القمل بعد قتله ، بل قلما يبقى منه شي‌ء بعد قتله كي يرى فيستقذر ، نعم دفنه قبل قتله كما دل عليه الصحيح المتقدم في محله ، والأمر سهل.

وكذا يكره كشف العورة في المسجد مع الأمن من المطلع بلا خلاف أجده بين من تعرض له ، للتعليل السابق ، ولمنافاته التوقير ، وإشعار‌ خبر السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « كشف السرة والفخذ والركبة في المسجد من العورة » المستفاد منه زيادة على المطلوب استحباب ستر الثلاثة أو كراهة كشفها المصرح به جماعة من الأصحاب ، بل في الروض يمكن أن يراد من العورة ما يتأكد استحباب ستره في الصلاة ، لأنه أحد معانيها ، فتدخل حينئذ الثلاثة في العورة في المتن ونحوه ممن اقتصر عليها.

وكيف كان فلا حرمة في كشف شي‌ء منها قطعا للأصل السالم عن معارض صالح لإثباتها ، فما عن النهاية من التعبير بلا يجوز فيها جميعها ضعيف جدا إن أراد منه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

١٣٠

الحرمة ، كما هو واضح.

والرمي بالحصى فيه كما صرح به الفاضل والشهيد وغيرهما ، لكن عبروا بالحذف تبعا لخبر السكوني (١) عن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام « إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبصر رجلا يحذف بحصاة في المسجد ، فقال : ما زالت تلعنه حتى وقعت ، ثم قال : الحذف في النادي من أخلاق قوم لوط ، ثم تلا عليه‌السلام ( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) (٢) قال : هو الحذف وخبر زياد بن المنذر (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث « الحذف بالحصى ومضغ الكندر في المجالس وعلى ظهر الطريق من عمل قوم لوط » ولا ريب أنه أخص منه ، إذ هو بالحاء المهملة الرمي بأطراف الأصابع كما في المجمع ، وبالمعجمة وضع الحصاة على بطن إبهام يد اليمنى ودفعها بظفر السبابة كما هو المشهور على ما في المجمع ، أو الرمي بأطراف الأصابع كما عن الخلاف ، فيكون رديفا حينئذ للأول ، أو الرمي بين إصبعين كما أرسله في مفتاح الكرامة عن المجمل والمفصل قال : « أو من بين السبابتين » كما عن العين والمقاييس والغريبين والنهاية الأثيرية ، وفي الأخيرين « أو تتخذ محذفة من خشب ترمي بها بين إبهامك والسبابة » وفي المقنعة والمبسوط والنهاية والمراسم والكافي والغنية والسرائر والتحرير والتذكرة والمنتهى « أن يضعها على باطن الإبهام ويرميها بظفر السبابة » وفي الانتصار « أن يضعها على بطن الإبهام ويدفعها بظفر الوسطى » وعن القاضي « على ظفر إبهامه ويدفعها بالمسبحة » انتهى ، ويأتي تحقيقه إن شاء الله في باب الحج.

وعلى كل حال فليس هو مطلق الرمي ، فيشكل حينئذ إثبات كراهته على الإطلاق وإن كان هو ظاهر المحكي عن المبسوط أيضا ، حيث قال : « لا يرمى الحصى ولا حذفا » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٣) سورة العنكبوت ـ الآية ٢٨.

١٣١

اللهم إلا أن يقال : إنه أطلقه لاشتراك أنواعه في العبث والأذى ، ولأن الحذف يطلق على رميها بالأصابع كيف اتفق وإن لم يكن على الوجه المذكور في الجمار ، قال في الصحاح على ما حكي عنه : « الحذف الرمي بالأصابع » نعم يستفاد من الخبرين المزبورين كراهة الحذف مطلقا وإن لم يكن في المسجد ، بل ظاهر هما أنه كان من الملاهي ، ولعله الذي هو الآن بيد أهل الرساتيق مما يسمى بلعب القلة ، فكان على المصنف حينئذ تركه ، لذكره ما يختص بالمساجد ، وإلا كان عليه أن يذكر كراهة التنعل قائما في المسجد وغيره التي ذكرها هنا الفاضل والشهيد والأصبهاني محتجا عليه الأخير بالأخبار ، نعم لعل محل الكراهة ما يحتاج إلى معونة اليد ونحوها كما استظهره في فوائد القواعد على ما حكي عنها ، والأمر سهل.

مسائل ثلاث : الأولى إذا انهدمت الكنائس والبيع فان كان لأهلها ذمة ولم يبيدوا لم يجز التعرض لها بحال أرضها وآلاتها وفاقا للإرشاد والروض والمدارك والذخيرة وإن لم يكن قد شرعوا في إعادتها ، بل وإن لم يريدوه فعلا ، بل وإن يئس من تجديدهم إياها في الحال والمآل في وجه ، لإطلاق ما دل على احترام ما في أيديهم حال الذمة المتناول لذلك وغيره الذي لا دليل على تقييده بأموالهم وأنفسهم ونحوهما ، لا ما خرج عن أيديهم بوقفهم له وصارت ولايته بيد الحاكم كغيره من مساجد المسلمين التي قد سمعت فيما تقدم جواز استعمال آلاتها بعد الانهدام في غيرها من المساجد بالشرائط السابقة ، على أن خروجه من أيديهم كان على جهة المعبدية لهم ، فيجب إقرارهم عليها قضاء لحق الذمة ، ولذا لم يجز ردعهم عن تجديدها ، ولا إخراجهم من العامر منها ، ولا التعرض له بحال كما صرح به الفاضل والشهيدان وغيرهم ، بل عن مجمع البرهان لعل صحيح العيص (١) محمول على الشرط المذكور إجماعا مريدا بالشرط‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

١٣٢

اعتبار اندراس أهلها أو كونها في دار الحرب في جواز التعرض لها ، ولا ينافي ذلك جواز صلاتنا معهم فيها للنصوص (١) أو لاشتراكنا معهم في الحق بمجرد وقفها معبدا قهرا عليهم.

وإن كانت في أرض الحرب أو في بلاد الإسلام وباد أهلها جاز استعمالها كما صرح به الفاضل والشهيدان والمحقق الثاني وغيرهم ، للأصل وإطلاق ما دل على جواز التصرف في هذين النوعين ، والصحيح (٢) العيص سأل الصادق عليه‌السلام « عن البيع والكنائس هل يصلح نقضها لبناء المساجد؟ فقال : نعم » وغير ذلك ، لكن في المساجد خاصة لا غيرها كما في المسالك وفوائد الشرائع بناء على صحة وقفهم ، لعدم اشتراط القربة فيه ، أو مع الشرط وصحتها منهم ، أو استثناء خصوص البيع والكنائس من ذلك ، لظهور النصوص حتى صحيح العيص بذلك ، أو كانت لليهود قبل ظهور عيسى عليه‌السلام وللنصارى قبل ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالجملة حيث يصح الوقف منهم.

فمن هنا كان المتجه حينئذ اعتبار الشرائط السابقة في استعمال آلات المسجد في مسجد آخر في المقام أيضا كما أومأ إليه المحقق الثاني في حاشية الإرشاد ، حيث قال : « لا ريب في جواز استعمال فرشها في المساجد ، وكذا آلات البناء إذا انهدمت ويئس من إعادتها مسجدا » وفي نسخة « مجددا » ولعل الأولى أصح ، إذ الفرض أنها في أرض الحرب التي افتتحت أو بائدة الأهل ، ومن المعلوم ظهوره في عدم جواز الاستعمال لو أريد إعادتها بنفسها مسجدا ، لحاجتها حينئذ إليها ، كما أنه من المعلوم ظهوره في أن جواز ذلك لو اتفق الانهدام لا أنه يجوز النقض لذلك نحو غيرها من المساجد المحترمة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلي.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

١٣٣

نعم يجوز نقض ما لا بد منه في إرادة تغييرها مسجدا كالمحراب ونحوه كما صرح بجميع ذلك بعضهم وظاهر آخر ، بل في جامع المقاصد ما يظهر منه أنه لا خلاف في ذلك بل لعله المراد من المتن ونحوه على معنى جاز استعمالها لنا مساجد لا أن المراد استعمال آلاتها في مساجد أخر ، إذ هي بعد ما عرفت من صحة الوقف محترمة على حسب الجهة الموضوعة عليها أي العبادة ، فيشملها ما دل على حرمة التخريب.

لكن قد يشكل بإطلاق صحيح العيص المؤيد بإطلاق بعض الفتاوى كالفاضل في المنتهى ، اللهم إلا أن يحمل على إرادة نقض المستهدم منها أو على إرادة نقض ما لا بد منه في بنائها نفسها مساجد أو غير ذلك ترجيحا لتلك العمومات المعتضدة بتصريح كثير ممن تعرض لذلك هنا به كظاهر آخر عليه ، بل وبتصريح الفاضل والشهيدين وأبي العباس والمحقق الثاني وغيرهم بعدم جواز اتخاذها في طريق أو ملك ، وما ذاك إلا لاحترامها وكونها كالمساجد ، ولا ينافيه جواز نقض ما لا بد منه في بنائها مساجد من المحراب ونحوه ، لأنه في الحقيقة تعمير لها لا تخريب ، وللصحيح المزبور.

كما أنه لا ينافي اتخاذها مسجدا لنا احتمال استعمالهم إياها برطوبة ، لأصالة عدمه كما يومي اليه‌ صحيح العيص الآخر (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البيع والكنائس يصلى فيها؟ قال : نعم ، وسألته هل يصلح بعضها مسجدا؟ فقال : نعم » بناء على إرادة ما يسجد عليه من المسجد فيه لا محل العبادة ، وإن كان يشهد له في الجملة صحيحة السابق ، بل لا ينافيه اليقين فضلا عن الاحتمال ، لوجوب تطهيرها حينئذ مع الإمكان ، لإطلاق أدلة الإزالة أو عمومها ، بل الظاهر وجوبه وإن لم نتخذها مساجد لنا ، لما عرفت من صحة وقفهم إياها وصيرورتها به محلا للعبادة كباقي محالها.

نعم لا يجب تطهيرها علينا حال استعمالهم إياها وتعبدهم فيها ، لظهور الأدلة في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

١٣٤

إقرارنا لهم حال الذمة على معتقدهم ، أما بعد الاندراس مثلا كما هو الفرض أو كانت في أرض الحرب وقد فتحها المسلمون وبالجملة آل أمرها إلينا فالظاهر جريان حكم المساجد عليها حينئذ ، بل قد يقال بحرمة تنجيسنا لها حال استعمالهم إياها أيضا ، وبوجوب إزالة النجاسة التي ليست من توابع استعمالاتهم علينا ، لكن قد يقال : إن خلو الأدلة عن الأمر بتطهيرها بعد اتخاذها مسجدا ـ مؤيدا بالعسر والحرج ، وبابتنائها على عدم الاحترام مع حصول العلم العادي باستعمالهم إياها برطوبة بحيث يستبعد بعد جريان الأصل أو يمتنع ، كاستبعاد احتمال طهارتها بالشمس أو إرادة اتخاذها مسجدا ثم تطهيرها أو بعده ـ ينافي بعض ما ذكرنا ، ومن هنا حكي عن الأردبيلي التأمل في الحكم المزبور أي اتخاذها مسجدا ، وإن كان هو في غير محله ، إذ قضية ما سمعته جواز اتخاذها مسجدا وعدم وجوب التطهير للعسر والحرج وغيرهما ، فيكون مستثنى من أدلة وجوب الإزالة نحو ما عرفته في اتخاذه على الكنيف ، بل لعل فحوى تلك الأدلة شاهدة على ما نحن فيه لا أن قضيته التوقف في المسجدية ، كما هو واضح ، على أنه قد يقال خلو الأدلة عن الأمر بالتطهير إنما هو للتسامح في أمر الطهارة شرعا ، وأنه يكفي في ثبوتها الاحتمال ولو وهميا ، كما يرشد إليه إعارة الثوب للمجوسي وغيره ، أو لأنه إن كان هناك علم باستعمالهم برطوبة مثلا فهو في موضع ما منها لا جميعها قطعا ، ولعله من الشبهة الغير المحصورة باعتبار عسر الاجتناب ، أو لأنه كما يعلم بالتنجيس في الجملة منهم يعلم بورود ما هو صالح للتطهير قطعا كالمطر والجفاف بالشمس ونحوهما ، والأصل مع هذا الحال الطهارة ، إذ ليس هو على اليقين بنجاسة موضع منها كي يجب علينا اجتنابها جميعا أو تطهيرها ، أو لأن الأمر بالرش لها حال الصلاة فيها معهم الوارد في جملة من النصوص (١) لتطهيرها عن النجاسة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلى.

١٣٥

لكن فيه أنه لم يعد أحد ذا من المطهرات العامة أو الخاصة بموضع خاص كالكنائس والبيع ، ولا هو من أفراد خبر الذنوب (١) الذي قد عرفت حاله في كتاب الطهارة ، وأنه قد ورد في مقامات عديدة غير هذا مما هو مظنة النجاسة كبيت المجوسي ونحوه إلا بالرش المعلوم أو الظاهر إرادة دفع الوسوسة والشك الحاصل بسبب اتهام المكان أو الثوب بالنجاسة باستعماله رطبا منه كي ييأس الشيطان بعد من إدخاله الشك والتشكيك في نفسه ، لما رآه من بنائه على الطهارة وعمله بمقتضاها بمباشرة الرطب وكأنه وجداني ، ومنه يعلم أن الرش في المقام لذلك أيضا ، فهو مؤيد حينئذ للحكم بطهارتها شرعا ، وربما احتمل أن ذلك رفع للنجاسة المتوهمة ، فيكون المحققة حينئذ طهارتها مثلا الغسل ، والمتوهمة الرش ، وعليه وإن كان ضعيفا يتم المطلوب أيضا ، والله أعلم والمراد ببواد الأهل واندراسهم هلاكهم بحيث لم يبق منهم أحد في بلاد الإسلام أو انقطاع ذمتهم من بلاده ، فلا يكفي في إباحة تغييرنا لها هلاكهم في البلاد الخاصة من بلاد الإسلام ، ولا هلاك خصوص أولئك المتخذين مع احتماله إذا بقيت معطلة كما يومي اليه عبارة الموجز ، بل لا بأس به إذا فرض تعطيلها حتى من المترددين ، لكنه لا يخلو من نظر.

نعم لا يكفي قطعا في بقاء احترامها وجود الصنف ولو في بلاد الحرب ، بل لعله كذلك وإن تجددت لهم الذمة ، ضرورة اقتضائها احترام المستقبل لا ما مضى.

والبيع بكسر الموحدة وفتح المثناة جمع بيعة كسدرة وسدر : معابد اليهود كما عن التبيان والمجمع ، بل قيل : إنه حكي عن مجاهد وأبي العالية ، وعليه خبر زرارة (٢)

__________________

(١) المتقدم في ج ٦ من الجواهر ص ٣٢٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب لباس المصلى ـ الحديث ٣.

١٣٦

في سدل الرداء لكن لا يعلم المفسر ، وفي مجمع البحرين والروض وجامع المقاصد وعن العين ومفردات الراغب وفقه اللغة والصحاح معبد النصارى ، بل عن الأخير أن الكنيسة لهم أيضا كما عن الديوان ، لكن في جامع المقاصد والروض وعن تهذيب الأزهري وفقه اللغة أنها لليهود ، وقال المطرزي ، فيما حكي عنه : وأما كنيسة اليهود والنصارى لتعبدهم فتعريب « كنشت » عن الأزهري ، وهي تقع على بيعة النصارى ، وفي مجمع البحرين « الكنيسة متعبد اليهود والنصارى والكفار » وعن تهذيب النووي « الكنيسة المتعبد للكفار » وعن الفيومي في مصباحه « الكنيسة متعبد اليهود ، ويطلق على متعبد النصارى » والأمر سهل بعد ما عرفت من جريان الحكم السابق على معبد الفريقين وإن كان تحقيق ذلك لا يخلو من ثمرة ما تترتب عليه.

الثانية فعل صلاة المكتوبة للرجال في المسجد أفضل من فعلها في المنزل ونحوه بلا خلاف بين المسلمين ، بل هو مجمع عليه بينهم ، بل لعله من ضروريات الدين ، إذ هي بيوت الله في الأرض ، فطوبى لعبد تطهر ثم زاره في بيته لينال حق إكرام المزور للزائر (١) وهي أحب البقاع إلى الله ، وأحب أهلها أولهم دخولا فيها وآخرهم خروجا منها (٢) وأن الجلسة في الجامع منها خير من الجلسة في الجنة ، لأن في الأولى رضا الرب ، وفي الثانية رضا النفس (٣) وأن المؤمن مجلسه مسجده وبيته صومعته (٤) وأن من كان القرآن حديثه والمسجد بيته بنى الله له بيتا في الجنة (٥) وأن الساعي إليها لم يضع رجله على رطب ولا يابس إلا سبحت له الأرض إلى الأرضين السابعة (٦) وله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٨ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

١٣٧

بكل خطوة خطاها حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات ، ومحي عشر سيئات عنه ، ورفع له عشر درجات (١) ولا يرجع بأقل من إحدى ثلاث خصال : إما دعاء يدعو به يدخله الله به الجنة ، وإما دعاء يدعو به فيصرف الله به عنه بلاء الدنيا ، وإما أخ يستفيده في الله (٢) وأنه ما عبد الله بشي‌ء مثل الصمت والمشي إلى بيته (٣) وأنه لا يخلو المختلف إليها من أن يصيب إحدى الثمان : أخا مستفادا في الله ، أو علما مستطرفا ، أو آية محكمة ، أو كلمة تدل على هدى ، أو رحمة منتظرة ، أو كلمة ترده عن ردى ، أو ترك ذنب خشية أو حياء (٤).

بل ظاهر ذكر غير واحد من الأصحاب هنا النصوص (٥) المشتملة على توعد النبي وأمير المؤمنين ( عليهما الصلاة والسلام ) المتخلفين عن حضور الصلاة في المسجد بحرق بيوتهم عليهم أن ذلك للتخلف عن المسجد لا عن الجماعة ، فيتجه حينئذ استفادة الكراهة من ذلك ، وإن لم أعرف من أفتى بها هنا ، نعم صرح بها الحر في وسائله في خصوص جيران المسجد لأنه‌ لا صلاة لجار مسجد إلا في مسجده (٦) « وأن المساجد شكت إلى الله الذين لا يشهدونها من جيرانها فأوحى الله عز وجل إليها وعزتي وجلالي لا قبلت لهم صلاة واحدة ، ولا أظهرت لهم في الناس عدالة ، ولا نالتهم رحمتي ، ولا جاوروني في جنتي » (٧) لا غيرهم ممن لم يكن جار المسجد ، ولعل الأولى حمل تلك النصوص كما لا يخفى على من لاحظها سيما المشتمل منها على النهي عن مؤاكلتهم ومشاربتهم ومناكحتهم ومجاورتهم (٨) ونحو ذلك على إرادة المتخلفين عن حضور جماعة المسلمين في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام المساجد.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٨.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٩.

١٣٨

جوامعهم رغبة عن ذلك ، ونفاقا أضمروه في صدورهم ، ومحبة للاعتزال عن أمر المسلمين في جوامعهم كي لا يشاركوهم فيما يقع لهم وعليهم ، إلى غير ذلك من المقاصد الدنيوية الشيطانية.

ثم إنه لا فرق في فضل الصلاة في المسجد بين المساجد جميعها جامعها وغيره وحديثها وقديمها ، لإطلاق الأدلة وعمومها وإن كانت مختلفة في مراتب الفضل كما تسمعه إن شاء الله.

نعم قد يستثنى من ذلك بعض المساجد التي وردت النصوص (١) بالنهي عن الصلاة فيها ولعنها وبأن بعضها جدد لقتل الحسين عليه‌السلام كمسجد ثقيف ومسجد الأشعث ومسجد سماك بن مخرمة أو خرشة ومسجد شيث بن ربعي ومسجد حريز بن عبد الله البجلي ومسجد التيم أو الهيثم ومسجد بالحمراء بني على قبر فرعون من الفراعنة ، وعن الكليني أن في رواية أبي بصير (٢) ومسجد بني السيد ومسجد بني عبد الله بن دارم ، بل قد يقال بعدم جريان أحكام المساجد عليها أيضا ، واندراسها الآن ، والحمد لله الذي كفانا عن التعرض لأحكامها.

أما غيرها فلا ريب في فضل الصلاة فيها سيما ما وردت النصوص بمدحها والثناء عليها وأنها مباركة كمسجد الكوفة الذي هو نعم المسجد ، وأنه خصوصا وسطه لروضة من رياض الجنة (٣) وصرة بابل ، ومجمع الأنبياء (٤) وأنه لو علم الناس ما فيه لأتوه حبوا (٥) وصلى فيه ألف وسبعون نبيا (٦) وألف وصي (٧) بل ما من عبد صالح ولا نبي إلا وقد صلى فيه ، حتى‌ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أسري به‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب أحكام المساجد.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد الحديث ٢.

١٣٩

قال له جبرائيل عليه‌السلام : أتدري أين أنت يا رسول الله الساعة؟ أنت مقابل مسجد كوفان ، قال : فاستأذن لي ربي حتى آتيه فأصلي فيه ركعتين ، فاستأذن الله عز وجل فأذن له (١) وميمنته رحمة الله ورضوانه ويمنه ، وفيه عصا موسى عليه‌السلام وخاتم سليمان عليه‌السلام وشجرة يقطين ، ومنه فار التنور وجرت السفينة وفيه نجرت (٢) وفي وسطه عين من دهن ، وعين من لبن ، وعين من ماء شراب للمؤمنين وعين من ماء طاهر ، وما دعا فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج إلا أجابه الله وفرج عنه كربته (٣) خصوصا إذا فعل المروي عن مصباح الزائر لابن طاوس عن الصادق عليه‌السلام (٤) من الصلاة ركعتين قارئا في كل ركعة منها الحمد والمعوذتين والإخلاص والكافرون والنصر والقدر وسبح اسم ربك الأعلى ، ومسبحا بعد التسليم تسبيح الزهراء ، فإنه ما يسأل الله حينئذ حاجة إلا فضاها الرب ، قيل : قال الراوي : « سألت الله بعد هذه سعة الرزق فاتسع رزقي وحسن حالي ، وعلمته رجلا مقترا فوسع الله عليه » وأنه هو والمسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي تشهد اليه الرحال (٥) وقد قصده علي بن الحسين عليهما‌السلام وصلى فيه ركعتين أو أزيد ورجع (٦) وورد في غير واحد من‌ النصوص (٧) « أن يمينه يمن وذكر ، وميسرته مكر ».

ولعل المراد من يمينه الغربي الذي فيه قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام كما يومي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٦ و ٧.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ و ٢ والباب ٤٥ منها ـ الحديث ١ والمستدرك ـ الباب ٣٦ منها ـ الحديث ١.

١٤٠