جواهر الكلام - ج ١٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

من حرمة الدفن فيها ، بل هو ظاهر النهي عنه في التحرير والمحكي عن المبسوط ، بل هو المنقول عن نهايتي الشيخ والفاضل والسرائر والجامع والإصباح ، إذ لعله من جهة عدم انفكاك الميت بعد دفنه عن تنجيس القبر ، وقد عرفت مساواة الباطن للظاهر ، لكن فيه أنه يمكن وضعه على شي‌ء يمنع عن تلويثه المسجد ، بل يكفي الشك ، ويدفع بأنه إنما يتم بناء على أن مدار الحرمة التلويث ، وإلا فيكفي في المنع خروج النجاسة منه ولو على بدنه ، إلا أن قضية ذلك دوران حرمة الدفن حينئذ على المذهبين ، ولم أعرف من ناطها بشي‌ء منهما ، بل ظاهر الجميع الاتفاق على المنع ، ولعله لدليل خاص عندهم وإن لم نجده في كلمات من تعرض منهم للاستدلال ، بل الموجود في الذكرى وجامع المقاصد والتذكرة تعليله بأن فيه شغلا للمسجد بما لم بوضع له ، قال في الأول : ودفن فاطمة عليها‌السلام في الروضة إن صح فهو من خصوصياتها بما تقدم من نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد‌ روى البزنطي (١) قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قبر فاطمة عليها‌السلام فقال : دفنت في بيتها ، فلما زادت بنوا أمية في المسجد صارت في المسجد » انتهى ، وفي المحكي عن نهاية الأحكام بأن فيه تضييقا على المصلين ، وفي المنتهى بأنها جعلت للعبادة.

وكأن هذه التعليلات منهم تومئ إلى كون الحكم من المسلمات عندهم ، ولولاه لأمكن مناقشتهم بأنه إنما تتم المنافاة والتضييق لو حرمت الصلاة على القبر أو عنده ، بل وكان مع ذلك مزاحما للمصلين ، وإلا كان كوضع المنارة فيه وحفر حفيرة لحاجة بعض الصنائع أو للوضوء ونحوه فيه وغير ذلك مما لا يمتنع إلا إذا نافى المصلين وزاحمهم وبأن دفن فاطمة عليها‌السلام لم يثبت كونه لخصوصية ، والأصل الاشتراك ، وبما يظهر من سبر الأخبار المتفرقة من دفن كثير من الأنبياء السابقين في المساجد ، منها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب المزار ـ الحديث ٣ من كتاب الحج.

١٠١

قول الباقر عليه‌السلام (١) بعد أن ذكر أنه صلى في مسجد الخيف سبعمائة نبي : « وإن ما بين الركن والمقام لمشحون من قبور الأنبياء ، وأن آدم لفي حرم الله » بل يمكن المناقشة في الإجماع أيضا لعدم بلوغ المتعرضين إلى ذلك قطعا ، خصوصا مع ملاحظة المصنفين لا التصانيف ، بل ظاهر العلامة في المنتهى الميل إلى الكراهة.

بل قد يظهر منه ومن غيره ذلك أيضا في مسألة اتخاذ المسجد على القبر ، ولا فرق على الظاهر بين سبق المسجدية على الدفن وبين سبقه عليها ، بل لعله أولى بالمنع ، لخبر سماعة بن مهران (٢) سأله « عن زيارة القبور وبناء المساجد فيها ، فقال : أما زيارة القبور فلا بأس ، ولا يبنى عندها مساجد » وإن كان يحتمل إرادة المقابر منه التي هي كالشوارع والمشارع والطرق ونحوها من الأراضي التي تعلق بها الحقوق العامة المانعة عن اتخاذها مساجد ، وذلك غير ما نحن فيه ، كبعض النصوص الأخر حتى‌ الخبر المشهور « إن الأرض كلها مسجد إلا بئر غائط ومقبرة » المحتمل أيضا غير ما نحن فيه من المساجد

لكن ومع ذلك كله فالأحوط في البراءة عن التكليف بالدفن إن لم يكن الأقوى المنع ، وفاقا لمن عرفت ، وفيهم من لا يعمل إلا بالقطعيات ، على أنك قد عرفت حكايته عن النهاية التي هي متون أخبار ، بل قد يظهر من حاشية على هامش ما حضرني من نسخة الوسائل كتب تحتها أنها منه الإجماع عليه حيث نسبه فيها إلى الفقهاء ، بل لعله كذلك لو لوحظ عدم التردد فيه من كثير من المتعرضين له ، بل قد عرفت أن المستند فيه عدم الانفكاك عن النجاسة خصوصا بناء على عدم الفرق بين الملوثة وغيرها لا تلك التعليلات.

مع أنه يمكن تسديدها بالفرق بين الدفن وبين الأمور السابقة التي قيس عليها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٥ ـ من أبواب الدفن ـ الحديث ١ من كتاب الطهارة.

١٠٢

باعتبار كون الدفن مقتضيا للتعطيل عن الاستعداد للانتفاع بالمسجد لو فرض حدوث حاجة في تغييره مثلا ، لحرمة النبش ، بخلاف الأمور السابقة مع ما فيه من تنفير المترددين وامتناع صلاتهم أو كراهتها التي هي نوع ضرر أيضا في مثل الأماكن المتخذة لمضاعفة ثواب العبادة ، ودفن فاطمة عليها‌السلام لم يثبت أنه في المسجد ، بل ظاهر خبر البزنطي عدمه كما سمعت ، بل ربما يشم منه بسبب ذكر اعتذاره فيه عن كونها في المسجد بفعل بني أمية لعنهم الله معلومية امتناع الدفن في المسجد ، ودفن الأنبياء السابقين لم يثبت تعبدنا به في شرعنا ، بل ولم يثبت كونه سابقا على المسجدية المعتبرة بل لم يثبت صيرورة نفس قبورهم مسجدا ، بل قد يظهر من جملة من النصوص الواردة في أن إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام دفنا حذاء المسجد امتناع الدفن فيه حتى في ذلك الزمان ، وإلا لم يدفنا حذاءه ، على أنه يمكن اختصاص ذلك بالمعصومين المنزهين عن سائر الأدناس ، ولا كراهة في الصلاة عندهم ، بل لعل‌ قوله عليه‌السلام (١) : « إنه ما من مسجد إلا وبني على قبر نبي أو وصي نبي » إلى آخره ، شاهد على ذلك وإن كان المراد منه على الظاهر بيان حكمة سماوية وعلة ربانية لا أنه قبر معروف جعل مسجدا ، ولعل نصوص دفن الأنبياء من هذا القبيل ، كما أن الظاهر إرادة بعض الأصحاب من كراهة بناء المسجد على القبر اتخاذ المسجد وهو فيه ، لا صيرورة نفس القبر مسجدا إن لم نقل بالفرق بين السبق واللحوق ، مع احتماله قويا جدا وإن ترك الاستفصال في خبر سماعة (٢) ، لكن لعله لظهوره فيما سمعت من المعتبرة ، على أنه لا يكفي سندا للمنع لوجوه ، منها قوة مقتضي الجواز من أدلة ندب اتخاذ المسجد مع حرمة النبش ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٥ ـ من أبواب الدفن ـ الحديث ١ من كتاب الطهارة.

١٠٣

وكذا لا يجوز إخراج الحصى منها ، وإن فعل أعاده إليها كما في النافع والإرشاد واللمعة والنفلية وحاشية الإرشاد وعن التلخيص والتبصرة ، لخبر وهب ابن وهب (١) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « إذا أخرج أحدكم الحصاة من المسجد فليردها مكانها أو في مسجد آخر ، فإنها تسبح » إذ لو لم يحرم الإخراج لم يجب الرد كما هو مقتضى الأمر به ، بل لا قائل به دونه كما اعترف به في الرياض ، وبه تظهر دلالة‌ خبر الشحام (٢) أيضا على ما رواه عنه الشيخ ، قال للصادق عليه‌السلام : « أخرج من المسجد حصاة ، قال : فردها أو اطرحها في مسجد » بل وعلى رواية الكليني له أيضا ، إذ ليس فيها سوى « وفي ثوبي حصاة » وقد عرفت أن محل الاستدلال فيه الأمر بالرد ، مضافا إلى‌ خبر محمد بن مسلم (٣) ومعاوية بن عمار (٤) أو صحيحهما عن الصادق عليه‌السلام سمعه في أولهما يقول : « لا ينبغي لأحد أن يأخذ من تربة ما حول الكعبة ، وإن أخذ من ذلك شيئا رده » وقال له في ثانيهما : « أخذت سكا من سكك المقام وترابا من تراب البيت وسبع حصيات ، فقال : بئس ما صنعت ، أما التراب والحصى فرده ».

لكن قد يشكل التحريم بضعف سند الأول واشتماله على التعليل بالتسبيح المناسب لكراهة الإخراج المقتضي عدم تسبيحها مطلقا أو في المكان الشريف ، بل قد يومي‌ قوله عليه‌السلام فيه : « إذا أخرج » إلى آخره ، إلى جوازه وإن كان مرجوحا ، كما أنه يومي الأمر فيه وفي غيره من النصوص والفتوى ، بل قد يظهر من مفتاح الكرامة الاتفاق عليه بالرد إلى مسجد آخر إلى عدم دخولها في الوقف ، وإلا لوجب الرد إليه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٢.

١٠٤

ونحوه في الإيماء إلى عدم الحرمة التعبير بلا ينبغي في خبر ابن مسلم ، والتعليل بجعل الحصى في المسجد للنخامة في‌ مرفوع ابن العسل (١) المروي عن محاسن البرقي ، قال : « إنما جعل الحصى في المسجد للنخامة ».

ومن ذلك كله وغيره مع الأصل قال في المعتبر والمنتهى والتذكرة والتحرير والقواعد والذكرى والدروس والبيان والموجز وعن غيرها : بالكراهة أو استحباب ترك الإخراج ، لكن في كشف اللثام « لعل المحرم إخراج ما هي من أجزاء أرض المسجد التي جرت عليها المسجدية ، والمكروه إخراج ما خص به المسجد بعد المسجدية ، فلا خلاف ، وأما الحصى الخارجة عن القسمين فينبغي قمها وإخراجها مع القمامة » وكأنه أخذ ذلك من تقييد جماعة منهم الثانيان الحرمة بما إذا كانت جزء من المسجد ، وفيه ـ مع أنه تقييد لإطلاق النصوص والفتاوى المنصرف إلى غير المقيد من دون شاهد ـ أنه لا معنى للحكم بالكراهة في الثانية أيضا بعد فرض تخصيصها بالمسجد ، إذ هي حينئذ كسائر فرشه وآلاته المعلوم حرمة إخراجها من المسجد.

ومن هنا ألحق في الروضة بالحصى الذي هو جزء في الحرمة الحصى المتخذ فرشا بل في حاشية الإرشاد أنه ربما يخص التحريم به ، نعم لا يندرج في التحريم والكراهة ما كان منه قمامة بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له ، بل في حاشية الإرشاد للمحقق الثاني القطع به الذي هو منه بمنزلة الإجماع ، لانصراف إطلاق النص والفتوى إلى غيره ، ولما عرفت من استحباب كنس المساجد ، ولأن الحصى كالتراب كما يومي اليه صحيح معاوية السابق (٢) ولا ريب في رجحان إخراج ما كان قمامة منه ، فما في الرياض ـ بعد اختياره القول بالكراهة معللا له بضعف خبر وهب عن إثبات الحرمة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

١٠٥

« أن إطلاق النص والفتوى يقتضي عدم الفرق بين ما كان جزء من المسجد أو آلاته أو قمامة ، خلافا لجماعة فقيدوه بالأول ، ولعله للجمع بين النص هنا وما مر في استحباب الكنس ، وفيه نظر ، لاحتمال العكس بتقيد الثاني بغير الحصى ، فتأمل جيدا » ـ محل منع ، ولعله لذلك أمر بالتأمل ، إذ لو أغضينا النظر عن بعض ما سمعت لكان الترجيح للأول قطعا من وجوه ، كما أن في ترجيحه الكراهة على الحرمة ذلك أيضا ، لما عرفت من عدم انحصار الدليل في خبر وهب بن وهب ، بل لعلها هي مقتضى الأصل فيما كان جزء من المسجد ، إذ لا مدخلية لانفصالها وقلتها واستغناء المسجد عنها في ذلك ، وإلا لجاز إفساد المسجد جميعه بأخذ القليل من أجزائه فالقليل ، وهو معلوم البطلان ، بل وكذا ما جعل فراشا فيها بعد المسجدية ، لصيرورته حينئذ كسائر آلات المسجد ، ولا إشعار في التعليل بالتسبيح بعدم الحرمة ، بل فيه إيماء إلى صيرورتها مسجدا ، كما أنه لا إيماء بالرد إلى مسجد آخر إلى ذلك أيضا ، إذ لا يزيد هو على ما سمعته سابقا من التخيير بين إرجاع بعض المسجد المتخذ في طريق أو ملك إلى ذلك المسجد أو غيره بلا خلاف أجده فيه بينهم هناك ، وإن تأملنا فيه فيما تقدم ، ولا على آلات المسجد التي قد سمعت جواز استعمالها في مسجد آخر.

نعم ينبغي تقييده إن كان الحصى من الثاني بما سمعته سابقا من الاستغناء عنه كما صرح به في الروضة مع إمكان منعه هنا تمسكا بإطلاق النصوص ، اللهم إلا أن ينزل على الاستغناء ونحوه ، أو يدعى انصرافه إلى ذلك ، ضرورة كون المورد فيه حصاة ونحوها ، أو إلى التعذر والتعسر كالحصيات التي أخذت من الكعبة ، على أنه لا استبعاد في التخيير المزبور مع قطع النظر عن ذلك كله بعد النصوص والتعليل في المرفوع السابق ، مع أنه يمكن منع إشعاره بذلك ، لظهور إرادة أن حكمته التغطية لا يصلح كونه مستندا للحكم المزبور بعد ما سمعت ، فلا ريب في أن الأقوى الحرمة‌

١٠٦

إلا فيما كان قمامة منه ، ونحوه التراب وشبهه.

نعم قد يستثنى بعض الأجزاء الجزئية التي تتعلق بثوب المصلي أو هي من لوازم الكنس أو نحو ذلك مما جرت السيرة به وعلم من طريقة الشرع عدم حرمته ، كما أنه ينبغي الاقتصار في الحرمة على ما ثبت كونه جزء أو فرشا ولو بالظهور المعتد به شرعا أما المحتمل كونه كذلك وقمامة فلا حرمة بإخراجه ، ولا يجب إرجاعه للأصل ، نعم لا ينبغي ترك الاحتياط سيما مع قيام بعض الأمارات التي ليست بحجة شرعية ، والله أعلم.

ويكره تعليتها كما نص عليه غير واحد من الأصحاب ، لأنه مخالف للسنة الفعلية ، إذ حائط مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قامة : والمحكي من حال السلف في جامع المقاصد ، ولما فيه من الاطلاع على عورات الناس لو رقي عليها أو على المنارة المساوية لها ، ولما ورد (١) من النهي عن رفع البناء لأزيد من سبعة أذرع أو ثمانية ، وأن الزائد مسكن الجن والشياطين ، بل تبنى وسطا مرجعه إلى العرف ، كما في الروضة بل لا يبعد القول بأنها تبنى دونه كي لا تساوي المساكن التي تعليتها وسطا ، فتأمل ، وعلو جدار مسجد الكوفة لم يعلم أنه من فعل من فعله حجة على العباد.

وكذا يكره أن يعمل لها شرف كما نص عليه جماعة ، لخبر طلحة ابن زيد (٢) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم‌السلام « أنه رأى مسجدا بالكوفة وقد شرف ، فقال : كأنه بيعة ، وقال : إن المساجد لا تشرف بل تبنى جما » وخبر أبي بصير (٣) المروي عن إرشاد المفيد عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل ، قال : « إذا قام القائم عليه‌السلام لم يبق مسجدا على وجه الأرض له شرف إلا هدمها ويجعلها جما » والمرسل عن المجازات النبوية للسيد الرضي (٤) قال : قال عليه‌السلام : « ابنوا المساجد واجعلوها جما » وعن النهاية التعبير بلا يجوز ، ولا ريب في ضعفه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام المساكن.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٥.

١٠٧

إن أراد الحرمة ، لقصور ما سمعت عن إثباتها ، خصوصا بعد عمل غيره من الأصحاب بها على الكراهة.

والشرف بضم الشين وفتح الراء جمع شرفة بسكونها ما يبنى في أعلى الجدران.

ولا ترتفع الكراهة بالحاجة إليها في عدم الاطلاع على دور الناس إذا كان بناؤها عاليا ، لما عرفت من النهي عن التعلية المقتضية لذلك ، فلا ترتفع الكراهة له ، نعم لو احتيج إليها مع عدم المخالفة في العلو أمكن القول بارتفاعها ، مع احتمال العدم ، وتكليف الغير يدفع ضرره بأن يستر عن نفسه ، والله أعلم.

ثم إن المصنف ذكر أيضا كراهة اتخاذ المحاريب في المساجد عاطفا لها على ما قبلها بأو مريدا منها معنى الواو قطعا ، فقال أو محاريب داخلة كما في النافع والإرشاد والبيان والدروس والنفلية ، بل في الذكرى قاله الأصحاب ، ولعل مرادهم في الحائط كما في المعتبر وعن المبسوط والنهاية والسرائر ، بل في المدارك نسبته إلى الشيخ وجمع من الأصحاب ، وكان المراد كثيرا كما في جامع المقاصد وفوائد الشرائع وحاشية الإرشاد والروض والمسالك وعن غيرها ، لخبر طلحة بن زيد (١) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام « أنه كان يكسر المحاريب إذا رآها في المساجد ، ويقول كأنها مذابح اليهود » لكن قد يشكل بظهوره كما اعترف به الثانيان في المحاريب المتخذة مستقلة في المساجد لا الداخلة في حائطه مثلا ، ضرورة أنها هي القابلة للكسر لا تلك ، بل لعل المراد بها المقاصير التي أحدثها الجبارون كما في المروي (٢) آنفا عن كتاب الغيبة ، وصحيح زرارة (٣) عن الباقر عليه‌السلام المتقدم في أحكام الجماعة ، قال : « إذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٩ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

١٠٨

صلى قوم وبينهم وبين الإمام سترة أو جدار فليس تلك لهم بصلاة إلا من كان حيال الباب ، قال : وقال : هذه المقاصير إنما أحدثها الجبارون ، وليس لمن يصلي خلفها مقتديا بصلاة من فيها صلاة » ولعله لذا اقتصر عليها هنا العلامة الطباطبائي في منظومته ، فقال :

لا تصطنع فيه المقاصير ودع

تصويره فإنه شر البدع

بل لعل مراد من عبر من الأصحاب بكراهة اتخاذ المحاريب في المساجد كالمنتهى وعن غيره ذلك أيضا لا الداخلة في الحائط ، نعم قد يقال مراد من عبر بالداخلة في الحائط الداخلة فيه كثيرا كما سمعته من الثانيين بحيث يحصل معها الحيلولة بين المأمومين في الجانبين وبين الامام ، فتكون حينئذ كالمقاصير لا ما كان مجرد أثر في الحائط أو دخول قليل كما يؤيده في الجملة ملاحظة تعبيرهم بالمحراب الداخل في باب الجماعة ، وحكمهم هناك ببطلان صلاة من كان على الجانبين ، فيكون المكروه حينئذ المقاصير وما أشبهها من المحاريب الداخلة في الحائط كثيرا التي يحصل معها الحيلولة ، وكونها غير قابلة للكسر فلا يشملها الخبر المزبور يدفعه أولا عدم انحصار دليل الكراهة فيه ، لإمكان استنباطها من صحيح المقاصير ، وثانيا منع عدم قبولها للانكسار ، إذ المتعارف في ذلك الزمان عدم كون الحائط عريضا بحيث يتخذ في وسطه محراب يستر جانباه المأمومين ، بل قيل إنهم كانوا في بدء الإسلام ولا سيما أهل البوادي يبنون جدران المساجد من القصب والخشب والجذوع ، فمتى فرض دخول المحراب في مثل ذلك لا بد أن يكون له هيئة بارزة عن جدار المسجد ولو من خلفه ، فيتحقق الكسر حينئذ ، وثالثا احتمال أو ظهور إرادة مطلق التخريب من الكسر ، فما في المدارك من التوقف في كراهة مثل هذه المحاريب في غير محله.

نعم قد يقال : إن حمل خبر طلحة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام على المقاصير يمنعه ما سمعته في صحيح المقاصير من أنها إنما أحدثها الجبارون ، ولم تكن في الزمان‌

١٠٩

السابق ، والظاهر أن سبب إحداثهم إياها هو قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام وغيره في المسجد في أثناء الصلاة ، أو إظهار الكبرياء والجبروت بالتستر عن الناس ، فأحدثوا هذه المقاصير كي يدخلوا إليها وقت الصلاة ويحتجبوا بها ، فمن هنا يقوى الظن بعدم إرادة المقاصير من المحاريب في خبر طلحة ، ولكن لا بأس بالحكم بكراهتها أيضا.

فيكون المكروه أحد أمور ثلاثة : المقاصير والمحاريب الداخلة في الحائط كثيرا المشابهة للمقاصير والمحاريب المتخذة مستقلة في المسجد التي هي كمذابح اليهود ، وإن كان المستفاد من خبر طلحة الأخير خاصة ، أما المحاريب التي هي مجرد أثر في الجدار ضبطا للقبلة أو داخلة فيه قليلا فلا كراهة في شي‌ء منها كما يؤيده السيرة الآن على اتخاذها من غير نكير ، بل لا مسجد غالبا إلا وفيه ذلك ، هذا ، وفي كشف اللثام مازجا لعبارة القواعد « أنه يكره بناء المحاريب الداخلة في داخل حائط المسجد لا في نفس الحائط وهي كما أحدثتها العامة في المسجد الحرام ، واحد للحنفية ، وآخر للمالكية ، وثالث للحنابلة ، للأخبار ، والأمر بكسرها ، أو إحداثها بعد المسجدية محرم ، لشغلها مواضع الصلاة » والظاهر بقرينة تعليله الحرمة بما سمعت إرادته تفسير الدخول في المتن بالدخول في المسجد لا الدخول في نفس الحائط ، لأنه القابل للكسر ، فيكون المكروه عنده الأول والثالث مما ذكرنا ، لكن قد سمعت أن الذي فهمه غير واحد من الأصحاب إرادة الدخول في نفس الحائط كما هو المتبادر خصوصا من المتن ونحوه ، نعم قيدوه بالدخول الكثير لا الدخول في الجملة ، ووجهه ما تقدم ، فإذن الأصح ما عرفت ، وأما ما ذكره من حرمه الأحداث بالمعنى الذي ذكره فواضحة مع الإضرار بالمصلين كما سمعت نظيره في المنارة المحدثة بعد المسجدية ، والله أعلم.

وكذا يكره أن يجعل المسجد طريقا كما نص عليه الفاضلان والشهيدان والمحقق الثاني وغيرهم ، بل حكي عن الشيخ والحلي ، لمنافاته احترامها المستفاد‌

١١٠

من النصوص فحوى وصريحا ، إذ في‌ خبر يونس (١) « ملعون ملعون من لم يوقر المسجد » وخبر أبي بصير (٢) سأل الصادق عليه‌السلام « عن العلة في تعظيم المساجد فقال : إنما أمر بتعظيم المساجد لأنها بيوت الله في الأرض » ول‌ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خبر المناهي (٣) : « لا تجعلوا المساجد طرقا حتى تصلوا فيها ركعتين » لكن ظاهره ارتفاع الكراهة بالصلاة ركعتين ، ولم أجد من نص عليه ، ولا ثبت اعتبار الخبر ، فالحكم به حينئذ مشكل ، والتسامح في الكراهة لا يقتضي التسامح في رافعها وما في التحرير من تقييد الحكم بالكراهة بالاختيار لا مدخلية له في ذلك قطعا ، بل لا وجه له في نفسه عند التأمل ، نعم في كشف اللثام وعن السرائر أن المراد بجعلها طريقا المضي فيها إلى غيرها لقرب ممر ونحوه لا للتعبد فيها ، فلعل مبنى الخبر المزبور ذلك ، إذ دخولها مع الصلاة ركعتين فيها كأنه يرفع تمحض إرادة الاستطراق ، ومن ذلك كله ظهر لك أن المراد بجعلها طريقا استطراقها مع بقاء هيئة المسجدية لا تغييرها طريقا ، لما عرفت من حرمة ذلك ، كما هو واضح.

ويستحب أن يجتنب البيع والشراء فيها وتجنيبها المجانين وإنفاذ الأحكام وتعرف الضوال وإقامة الحدود وإنشاد الشعر ورفع الصوت وعمل الصنائع‌ للمرسل (٤) عن الصادق عليه‌السلام « جنبوا مساجدكم البيع والشراء والمجانين والصبيان والأحكام والضالة والحدود ورفع الصوت » وخبر عبد الحميد (٥) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جنبوا‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

١١١

مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم » وعن المجالس بإسناده إلى أبي ذر (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيته له « يا أبا ذر الكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة ، يا أبا ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة ، فقلت : كيف يعمر مساجد الله؟ قال : لا ترفع فيها الأصوات ، ولا يخاض فيها بالباطل ، ولا يشترى فيها ولا يباع ، واترك اللغو ما دمت فيها ، فان لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك » والمرسل (٢) في الفقيه « جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشرائكم وبيعكم والضالة والحدود والأحكام » والمضمر المرفوع (٣) عن العلل قال : « رفع الصوت في المساجد يكره » والمرسل (٤) في الفقيه وعن العلل أيضا « أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا ينشد ضالة في المسجد ، فقال : قولوا : لا رد الله عليك ، فإنها لغير هذا بنيت » وخبر الحسين بن يزيد (٥) عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام في حديث المناهي « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينشد الشعر أو ينشد الضالة في المسجد » والصحيح عن جعفر بن إبراهيم (٦) عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سمعتموه ينشد الشعر في المساجد فقولوا : فض الله فاك ، إنما نصبت المساجد للقرآن ».

ومن التعليل هنا والضالة والأمر بتوقير المساجد يستفاد الحكم في غيرهما أيضا من الصنائع مثلا غير المضرة بالمصلين والمسجد التي نص عليها غير واحد من الأصحاب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣ لكن روى عن الحسين بن زيد.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

١١٢

بل في الذكرى نسبته إليهم ، ولعله كذلك فيه وفي سائر ما سمعته في المتن عدا ما ستعرف وإن كان لم يتفقوا على التعبير بما في المتن من استحباب الاجتناب ، بل عير بعضهم أو أكثرهم بالكراهة ، لكن لعلها مرادة للمصنف أيضا باعتبار لزومها لاستحباب التجنب وإن لم نقل بكراهة ترك المستحب في نفسه ، فيكون تغيير النظم في المتن باعتبار تعلق كراهة الأمور السابقة في المسجد نفسه بخلاف هذه ، فإنها فيما يتعلق في فعل المكلف فيه.

واحتمال منع لزومها لاستحباب التجنب ـ إذ هو كغيره من المستحبات التي لا نقول بكراهة تركها في الأصح ، وتغيير النظم من المصنف لأن الوارد في النصوص الأمر بالتجنيب المحمول على الاستحباب لا النهي عن الفعل كي يحكم بالكراهة ـ يدفعه أولا أنه يمكن دعوى تبادر النهي عن الفعل من الأمر بالاجتناب ، إذ هو حقيقة كالأمر بالترك الذي هو بمعنى النهي عن الفعل ، وثانيا أنك قد عرفت وجود النهي عن بعضها في بعض النصوص (١) وظهور إرادة الكراهة في آخر.

فالأولى الحكم بكراهة الجميع للنصوص السابقة المشتملة على الأمر بتجنيب الصبيان زيادة على ما ذكره المصنف هنا ، إلا أنه ذكره هو في المعتبر وغيره من الأصحاب مطلقين للحكم فيهم كالنصوص ، وقيده بعضهم بمن يخاف منهم التلويث دون غيرهم ممن يوثق بهم ، فإنه يستحب تمرينهم على إتيانها ، ولا بأس به ، إلا أنه ينبغي إضافة مخافة ما ينافي توقير المسجد من اللعب ونحوه ، أو أذية المصلين ونحو ذلك إلى التلويث ، ووجهه واضح ، والمشتملة أيضا زيادة على ما ذكره المصنف على السؤال عن الضالة بناء على عدم اندراجه في تعريفها المذكور في المتن ، والنهي عن الخوض في الباطل فيها ، والأمر بترك اللغو فيها أيضا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ و ٢٧ و ٢٨ ـ من أبواب أحكام المساجد.

١١٣

ولعل منه ذكر الدنيا كما أشير إليه في‌ المرسل (١) عن علي عليه‌السلام المروي عن كتاب ورام بن أبي فارس « يأتي في آخر الزمان قوم يأتون المساجد فيقعدون حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا ، لا تجالسوهم ، فليس لله فيهم حاجة » وإلا كان مكروها آخر أيضا يومي اليه مضافا إلى ذلك التعليل بأنها لغير ذلك بنيت ، والأمر بتوقير المسجد.

كما أن سل السيف ورطانة الأعاجم فيها مكروهان آخران نص عليهما الشهيد في البيان دون المصنف ، بل نسب أولهما في مفتاح الكرامة إلى نص كثير من الأصحاب لخبر مسمع أبي ستار (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن رطانة الأعاجم في المساجد » وخبر السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن رطانة الأعاجم في المساجد » وصحيح ابن مسلم (٤) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سل السيف وعن بري النبل في المسجد ، وقال : إنما بني لغير ذلك » بل هو كما ترى مشتمل على بري النبل الذي ذكره غير الشهيد من الأصحاب أيضا ، ودل عليه غير هذا الصحيح أيضا كمرفوع محمد بن أحمد (٥) المروي عن العلل ، قال : « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر برجل يبري مشاقص له في المسجد فنهاه ، وقال : إنها لغير هذا بنيت » وخبر الحلبي (٦) عن الصادق عليه‌السلام « إن جدي نهى رجلا يبري مشقصا في المسجد » ومع ذلك تركه المصنف إلا أنه يحتمل الاكتفاء عنه بنصه على الصنائع الشاملة له ، والأمر سهل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

١١٤

وقد يلحق بالبيع والشراء سائر عقود المعاوضة ، بل لعلها المرادة من البيع والشراء في النصوص على إرادة مطلق النقل والانتقال بعوض منهما ، أما ما أشبه المعاوضة كالنكاح فوجهان كمطلق العقود والإيقاعات إلا ما يندرج منها في القربات نحو النذر والوقف والعتق ، ولعل النكاح منها ، وفي شمول المجانين للادواريين منهم هنا وجه ، فيجنبون عن المساجد ولو حال إفاقتهم مخافة أن يحدث فيه الجنون الذي قد تحصل معه النجاسة وغيره ، لكنه بعيد جدا أو ممتنع للقطع باندراجهم في الأوامر الكثيرة بالسعي إلى المساجد والصلاة فيها وحضور الجماعة ونحو ذلك.

والمراد بإنفاذ الأحكام الذي عبر به المصنف والفاضل والشهيد وغيرهم كما يومي اليه تعليل المعتبر نفس الحكم بمعنى التسجيل ونحوه الواقع من الحاكم لقطع الخصومات ونحوها ، لا مطلق بيان الأحكام الشرعية للتعليم ونحوه ، إذ لم يحتمله أحد من الأصحاب هنا ، فيكون هو حينئذ عين التعبير بالأحكام المعبر به في المنتهى والدروس والمنظومة وعن المبسوط تبعا للنص السابق الذي هو مستند المطلوب مؤيدا ـ مضافا إلى التعليل بأنه إنما نصبت المساجد للقرآن ـ بما في الحكم من التحاكم المفضي غالبا إلى التشاجر ورفع الأصوات والتكاذب وارتكاب الباطل ونحو ذلك مما لا ينبغي وقوعه في المساجد.

لكن قد يشكل ذلك بأن الحكم من الطاعات والعبادات التي محلها المساجد ، وبمعروفية الفضاء من أمير المؤمنين عليه‌السلام في جامع الكوفة حتى أن دكة القضاء معروفة إلى يومنا هذا ، كما عن الشيخ والحلي الاعتراف به ، بل ظاهر الأول وصريح الثاني نفي الخلاف فيه ، قال الشيخ في المحكي عنه : لا خلاف في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقضي في المسجد الجامع ، ولو كان مكروها ما فعله ، وكذلك كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقضي بالكوفة في الجامع ، ودكة القضاء معروفة إلى يومنا هذا ، وهو‌

١١٥

إجماع الصحابة ، وبأن تشاجر المتحاكمين وتكاذبهم ورفع أصواتهم ونحو ذلك مع نهيهم عنه وتكليفهم بتركه لا يقتضي مرجوحية إنفاذ الحاكم في نفسه الذي هو مستحب أو واجب ، وفعله النبي وأمير المؤمنين ( عليهما الصلاة والسلام ) ، بل كأنه في بالي أن الحكومة المعروفة من داود كانت في المسجد ، وبما في كشف اللثام من أن‌ في بعض الكتب (١) « أنه بلغ أمير المؤمنين عليه‌السلام أن شريحا يقضي في بيته ، فقال : يا شريح اجلس في المسجد فإنه أعدل بين الناس وأنه وهن بالقاضي أن يجلس في بيته ».

ولا مخلص عن ذلك بالقول بكراهة المداومة دون النادر كما اختاره المصنف على الظاهر في كتاب القضاء ، وتبعه بعض من تأخر عنه ، لظهور ما سمعت في التكرار والمداومة إذ لو سلم احتمال ندرة قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام وأن الإضافة في دكة القضاء لعلها لوقوع قضية غريبة من قضاياه نحو دكة المعراج فإنها لم تتشرف إلا مرة واحدة كما في كشف اللثام فلا يسلم ذلك بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعروفية مواظبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إنفاذ الأحكام في المسجد.

ومن هنا مال بعض متأخري المتأخرين إلى عدم الكراهة في ذلك تبعا للمحكي عن الشيخين وسلار والحلي وغيرهم من المتقدمين ، بل ربما كان ظاهرهم الاستحباب ، بل لعل عدم الكراهة خيرة الأكثر حتى من عبر بالإنفاذ ، لاحتمال إرادة الاجراء ، والعمل على مقتضاها من الحبس والحد والتعزير ونحوها ، ولا ينافيه ذكر الحدود حينئذ‌

__________________

(١) البحار ج ٤٠ ص ٢٧٧ و ٢٧٨ و ٢٧٩ المطبوعة عام ١٣٨١ وج ٩ من طبعة الكمباني ـ الباب ٩٧ والباب ٥ من أبواب كرائم خصال أمير المؤمنين عليه‌السلام ومحاسن أخلاقه ـ الحديث ٤٢.

١١٦

مستقلة تبعا للنص ، ولأنها أفحش ، وعلى ذلك يحمل النص المتقدم الذي لا يصلح لمعارضة ما عرفت مما يقضي بعدم الكراهة أو الاستحباب ، أو يحمل كالفتوى بمضمونه على إرادة الحكومات الجدلية خاصة لا مطلق الحكم ، لكن فيهما أنه لا دليل حينئذ على كراهة الأول أيضا ، ومجرد احتمال النص له لا يجدي ، اللهم إلا أن يكون من جهة التسامح ، سيما مع تأيده بمساواته لإقامة الحدود ، واقتضاء الثاني الكراهة في بعض الأفراد ، وما سمعته قاض بعدمها مطلقا ، وعدم تكليف المتحاكمين الجدل ، فلعل الأقوى في النظر عدم الكراهة مطلقا ، والنص إما مطرح أو محمول على إرادة الأحكام الصادرة من قضاة العامة ، لأنها باطل محض ، فيكون إطلاقهم عليهم‌السلام الأحكام وسيلة إلى التعريض بذلك ، أو على ما لا نعلمه ، والتسامح في المكروه لعله حيث لا معارض لكن ومع ذلك فالاحتياط باجتناب الحكم في المساجد فضلا عن إجرائها والعمل على مقتضاها تخلصا من الوقوع في المكروه لا ينبغي تركه ، حتى على احتمال استحباب الحكم لا إباحته خاصة ، خصوصا مع وضوح الفرق بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام ونحوهما ممن هم مأمومون عن الخطأ في الواقع وعن احتمال كون الحكم منهم بغير ما أنزل الله لتقصير في مقدمات أو اتباع للشهوات وبيننا الذين لا نأمن من شي‌ء من ذلك ، بل نحن إليه أقرب من غيره ، ونسأل الله العصمة ، فإنه المفزع والملجإ في الأمور كلها.

والمتبادر من تعريف الضالة الذي عبر به الفاضل أيضا إنشادها لا نشدانها كما فهمه الشهيد الثاني وسبطه تبعا للمحقق الثاني في الجامع والفوائد ، فينحصر دليله حينئذ في التعليل في مرسل (١) الفقيه الثاني وفي مرسله (٢) الأول نفسه وخبر الحسين بن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٤.

١١٧

يزيد (١) بناء على إرادة ذلك من الضالة في الأول ، و « تنشد » في الثاني لظهور اشتقاقه من الإنشاد الذي هو بمعنى التعريف لا النشدان الذي هو معنى طلبها كما عن الصحاح التصريح بهما معا ، ويكون تركهما النشدان كالمحكي عن الحلي ، لعدم كراهته عندهما ، أو لاستفادة حكمه بالمساواة أو الأولوية من التعريف ، أو أنهما لم يذكرا حكمه ، لكن الثلاثة كما ترى ، إذ لا مجال لإنكار كراهته بعد صراحة المرسل الثاني به ، ودلالة التعليل في خبر جعفر بن إبراهيم (٢) وصحيح ابن مسلم (٣) عليه ، والمساواة أو الأولوية المزبورتين ، واحتمال المرسل الأول وخبر الحسين له مستقلا أو مع الإنشاد ، خصوصا المرسل باعتبار امتناع ترجيح إضمار الأول عليه ، بل المرسل الثاني شاهد على إضماره ، كشهادته على الاشتقاق من النشدان لا الإنشاد في خبر الحسين ، ولعله لذا ربما ظهر من بعضهم اختصاصه بالكراهة دونه ، خصوصا على ما ستسمعه من المناقشة في شمول التعليل له ، وكذا لا وجه لاتكالهما على المساواة أو الأولوية بعد ما عرفت من نص الخبر ، كما أنه لا وجه لسكوتهما عن بيانه ، فمن هنا فهم المحقق الثاني والشهيد الثاني في بعض كتبهما إرادة الإنشاد والنشدان من التعريف ، والأمر سهل بعد ما عرفت من وضوح الدليل على كراهتهما معا.

والمناقشة في كراهة الأول منهما بأن الإنشاد من أعظم العبادات ، والأولى به الجامع ، وأعظمها المساجد ، فلا يشمله التعليل ، وفي كراهته أيضا أو الثاني أو فيهما بخبر علي بن جعفر (٤) سأل أخاه عليه‌السلام « عن الضالة أيصلح له أن تنشد في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٣ لكن روى عن الحسين بن زيد.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١.

١١٨

المسجد؟ فقال : لا بأس » يدفعها أن المساجد ليست لمطلق ما يحصل به الثواب ، وإلا فكثير من الأمور السابقة المكروه فعلها فيها حتى البيع والشراء إذا كانا لتحصيل المؤنة الواجبة أو المندوبة قد تقترن بما يقتضي استحبابها ، وأنه يمكن الجمع بين الحقين بالإنشاد على أبوابها كما ذكره الأصحاب في باب اللقطة على ما حكاه في الروض عنهم ، وأنه لا تنافي بين نفي البأس والكراهة لا أقل من أن يكون كالعام والخاص.

وإقامة الحدود لا إشكال في كراهتها ، بل عن قضاء الخلاف دعوى الإجماع عليها منا ومن جميع الفقهاء إلا أبا حنيفة ، للمرسلين ، ومخافة خروج الحدث والخبث ونحوهما في المسجد ، واشتمالها غالبا على رفع الصوت والكلام الهذر ونحوهما ، وليست بمحرمة للأصل وإطلاق الأدلة وضعف الخبرين مع قطع النظر عن وهنهما بإعراض الأصحاب ، نعم ينبغي القول بها في مثل الحد المستلزم إخراج النجاسة كالقتل والقطع ونحوهما وإن لم تلوث بناء على عدم دوران الحرمة مداره ، وإلا ففي الملوثة خاصة ، لكن في الذكرى الاستدلال على عدم حرمة غير الملوثة بذكر الأصحاب جواز القصاص في المساجد للمصلحة مع فرش ما يمنع من التلويث ، وقضيته أنهم صرحوا بذلك هناك كما حكاه عنهم أيضا في مفتاح الكرامة ، وفيه أنه بعد ثبوت أنه إجماع منهم لعله استثناء من الحكم المزبور ، فلا جهة للاستدلال به على ذلك ، على أن المحكي في كشف اللثام عن الشيخ التصريح باستثناء القتل ونحوه في المسجد من الحكم بالجواز ، وأنه قال : ولا يفيد فرش النطع ، لحرمة تحصيل النجاسة في المسجد ، ولا ينافيه إطلاقهم هنا إقامة الحدود التي منها القتل ، ضرورة إرادتهم الحدود من حيث أنها حدود لا مع مانع خارجي ، وإلا فأهل التلويث أيضا لم ينصوا على استثناء ما لوث منها ، كالقائلين بالحرمة مطلقا وإن لم تلوث ، فتأمل جيدا.

وإنشاد الشعر وإن أطلق في المتن كالنص وكثير من الكتب ، بل نسبه الكركي‌

١١٩

إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، بل في الروض التصريح بالعموم ، لكن لا يبعد في النظر عدم الكراهية فيما قل منه ويكثر نفعه ، كبيت حكمة ، أو شاهد على لغة مثلا في كتاب الله أو سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومراثي الحسين عليه‌السلام ومدح الأئمة عليهم‌السلام وهجاء أعدائهم ، بل سائر ما كان حقا منه ورشادا وبعد عبادة ، كما مال إلى ذلك الشهيدان في بعض كتبهما والكركي وسيد المدارك والفاضل الأصبهاني والمحدث الكاشاني ، وإن لم يصرح بعضهم بجميع ما ذكرنا ، بل جزم به العلامة الطباطبائي ، فقال :

والحد والاحكام والإنشاد

للشعر إلا الحق والرشاد

لا لاستبعاد الكراهة في ذلك ، إذ قد ورد عنهم عليهم‌السلام النهي (١) عن قراءة الشعر في شهر رمضان وإن كان فيهم عليهم‌السلام بل لصحيح ابن يقطين (٢) سأل أبا الحسن عليه‌السلام « عن إنشاد الشعر في الطواف. فقال : ما كان من الشعر لا بأس به فلا بأس به » إذ الظاهر إرادة نفي الكراهة فيما لا بأس به من الشعر لا الحرمة ولعله عليه يحمل نفي البأس أيضا في‌ خبر علي بن جعفر (٣) سأل أخاه عليه‌السلام « أيصلح أن ينشد الشعر في المسجد؟ فقال : لا بأس » لا على نفي الحرمة سيما مع ملاحظة ظهور سؤال السائل في إرادة الصلاحية بمعنى عدم الكراهة ، بل علو رتبته في العلم قد يأبى سؤاله عن الحرمة ، بل قد يرجح ما ذكرنا بأن حمله على نفي الحرمة يقتضي التقييد في أفراد البأس بناء على أن الكراهة منه ، وهي نكرة في سياق النفي كالنص في العموم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب آداب الصائم ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١ من كتاب الحج.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢.

١٢٠