جواهر الكلام - ج ١٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بل فيه ما هو صريح في عدم الفرق.

وقد توسط بينهما المفصلون على اختلافهم في وجوه التفصيل ، فمنها ما سمعته من المصنف ومن تبعه من الترتيب في المتحدة وعدمه في المتعددة الذي استجوده الشهيد في غاية المراد إن لم يكن إحداث قول ثالث ، ومنها ما للعلامة في المختلف من وجوب تقديم الفائتة إن ذكرها في يوم الفوات ، واستحباب تقديمها إن لم يذكرها فيه متحدة كانت أو متعددة ، والظاهر إرادته ما يشمل الليلة المستقبلة باليوم الذي ابتداؤه من الصبح ، ولم نعرف من سبقه اليه بل ولا من لحقه عليه عدا ما يحكى عن ابن الصائغ في شرح الإرشاد ، بل ولا قال هو به أيضا في باقي كتبه ، إذ الموجود فيما حضرنا منها والمحكي عن غيره منها التوسعة حتى تبصرته التي هي آخر ما صنف ، فيكون قد رجع عنه ، بل هو أشبه من تفصيل المصنف بالاحداث ، وكذا لم نعرف الحكم عنده فيمن ذكر فوات صلاة يومية وغيره من الأيام الماضية ، إذ وجوب المبادرة في فعلها خاصة مناف للترتيب وعدمه مناف لما ذكره من التعجيل ، لكن قد يحتمل تخصيصه الحكم عنده بفائتة اليوم التي لا يجامعها فوات غيرها ، كما أنه يحتمل إيجابه في الفرض التعجيل في غير فائتة اليوم مقدمة لها ، لاشتراط صحتها به ، أو التزامه بسقوط الترتيب هنا ، فيضيق حينئذ في فائتة اليوم ويوسع في غيرها ، إلا أن الأخير بعيد جدا ، والأول أقرب الأولين ، فتأمل جيدا.

ومنها ما عن ابن جمهور في المسالك الجامعية من تخريج تفصيل ثالث من هذين التفصيلين هو وجوب الترتيب في الفائتة الواحدة في يوم الذكر دون غيرها ، ومنها ما عساه يظهر من ابن حمزة من الفرق بين الفائتة نسيانا وعمدا فتضيق الأولى دون الثانية قال في وسيلته : تقضى الفائتة وقت الذكر لها إن فاتت نسيانا إلا عند تضيق وقت الفريضة ، فإن ذكرها وهو في الحاضرة عدل بنيته إليها ما لم يتضيق الوقت ، وإن تركها قصدا جاز له الاشتغال بالقضاء إلى آخر الوقت ، والأفضل تقديم الأداء عليه وإن لم‌

٤١

يشتغل بالقضاء وأخر الأداء إلى آخر الوقت كان مخطئا ، والاشكال فيه فيما لو كان الفائت له عدة صلاة نسيانا وعمدا وكانت فوائت النسيان المتأخرة نحو ما سمعته في كلام العلامة ، فتأمل ، ومنها ما يظهر من الديلمي من التفصيل بين المعين عدده من الفائت ومجهوله ، فيتضيق الأول دون الثاني ، قال في مراسمه : « كل صلاة فاتت فلا تخلو أن تكون فاتت بعمد أو بتفريط أو بسهو ، فالأول والثاني يجب فيهما القضاء على الفور ، والثالث على ضربين : أحدهما أن يسهو عنها جملة فهذا يجب قضاؤه وقت الذكر ما لم يكن آخر وقت فريضة حاضرة ، والثاني أن يسهو سهوا يوجب الإعادة كما بيناه ، فهذا أيضا يجب أن يقضيه على الفور ، والصلاة المتروكة على ثلاثة أضرب : فرض معين وفرض غير معين ونفل ، فالأول يجب قضاؤه على ما فات ، والثاني على ضربين : أحدهما أن يتعين له أن كل الخمس فاتت في أيام لا يدري عددها ، والثاني أن يتعين له أنها صلاة واحدة ولا يعلم أي صلاة هي ، فالأول يجب عليه فيه أن يصلي مع كل صلاة صلاة حتى يغلب على ظنه أنه قد وفى ، والثاني يجب عليه فيه أن يصلي اثنتين وثلاثا وأربعا » انتهى وربما استظهر منه رجوعه إلى تفصيل المصنف إما مطلقا كما في رسالة شيخنا الفاضل المعاصر ملا أسد الله ، أو في الجملة كما في مصابيح العلامة الطباطبائي ، وعن الحلي في خلاصة الاستدلال أنه حكى كلامه بتمامه في جملة ما ذكره من عبارات القائلين بالمضايقة ثم حكى عن بعض أصحاب المواسعة الانتصار لمذهبهم بموافقته لهم ، ورده بالإجماع على عدم تعيين القضاء بهذا الوجه ، وهو أن يصلي مع كل صلاة صلاة ، وأول ذلك بحمله على أن المراد منه أنه يصلي خمسا كالفريضة اليومية لا اثنتين وثلاثا وأربعا كما ذكره في القسم الثاني من هذا التقسيم ، وأطال الكلام في هذا المعنى وشدد النكير على القائل المذكور ، لكنه كما ترى بعيد بل غير سديد ، ولعل الأولى ما ذكرنا ، والأمر سهل.

ومنها ما عن الغرية من حكاية التفصيل عن قوم بين الوقت الاختياري للحاضرة‌

٤٢

والاضطراري ، قيل : وظاهره إرادتهم غير من عرفت من أهل المضايقة وإن كان فيهم من جعل للفريضة وقتين اضطراريا واختياريا أيضا ، لكن كأنه فهم منهم المضايقة فيهما جميعا عدا مقدار أداء الحاضرة من آخر الاضطراري ، فتختص به صاحبة الوقت حينئذ ، ومنها ما عساه يتخيل من الجمود على ما نص عليه من الأمور التي سمعتها في عنواني التضييق والتوسعة من عبارات القدماء وغيرهم ، وهذا ينحل إلى تفاصيل متعددة لاختلاف العبارات في ذلك اختلافا شديدا كما أشرنا إليه سابقا ، خصوصا من نسب إليهم التوسعة ، فإني لم أعرف عبارة من عبارات القدماء الذين نسب إليهم ذلك وهم فحول هذا الفن مشتملة على جميع ما سمعته في العنوان السابق ، نعم يستفاد من بعضها عدم الترتيب ، ومن آخر عدم وجوب العدول ، ومن ثالث الفوات النسياني ، وغير ذلك ، فان لم تتمم بعدم معروفية القول بالفصل وبأنهم لم يريدوا بذلك الحصر والاختصاص تشعبت المسألة حينئذ إلى أقوال متعددة ، كما لا يخفى على من لا حظ وتدبر ، وإن كان الأمر فيه سهلا ، إذ المتبع الدليل.

وكيف كان فلا ريب أن الأشبه الأول للأصل بمعنى استصحاب عدم وجوب العدول عليه لو كان الذكر في الأثناء الذي هو من لوازم التضييق كما عرفت ، وجواز فعلها قبل التذكر ، ويتم بعدم القول بالفصل ، وبمعنى البراءة أيضا عن حرمة فعلها أو فعل شي‌ء من أضداد الفائتة ، بل وعن التعجيل ، إذ هو تكليف زائد على أصل الوجوب والصحة المتيقن ثبوتهما على القولين ، لأن القائل بالتضييق لا ينكرهما في ثاني الأوقات مع الترك في أولهما وإن حكم بالإثم ، وليس المراد إثبات خصوص التوسعة المقومة للوجوب مقابل الفورية والتضييق كي يرد أنه غير صالح لذلك ، بل المراد محض نفي التكليف بها قبل العلم ، كنفي التكليف بالوجوب للفعل المتيقن طلب الشارع له طلبا راجحا في الجملة ، بل ربما قيل بثبوت الندب في الأخير ، لاستلزام نفي‌

٤٣

الأصل المنع من الترك الذي هو فصل الوجوب ثبوت الجواز الذي هو نقيضه ، فيتقوم به الرجحان المفروض تيقن ثبوته ، ويكون مندوبا ، ضرورة صيرورته راجح الفعل جائز الترك ، ونحوه جار في المقام ، إلا أنه كما ترى فيه نظر واضح ، لظهور الفرق بين الجواز الذي هو مقتضى الأصل الحاصل من جهة عدم العلم بالتكليف وبين الجواز المقوم للندب كما حرر ذلك في محله.

وبالجملة فالتأخير فعل من أفعال المكلف التي لا تخلو من حكم ، ولم يعلم حرمته إذ الوجوب أعم من الذي لا يجوز تأخيره إلى وقت آخر ، فلا يكلف بها ، ودعوى اقتضاء طبيعة الوجوب حرمة الترك ولو في الجملة حتى يثبت إذن من الشارع بالتأخير إلى وقت آخر إلى بدل أو لا إلى بدل كالموسع ونحوه ، فيلتزم حينئذ إرادته من الوجوب لمكان ثبوته شرعا استحقاق العقاب على الترك في الجملة ولو في بعض الأحوال ، وإلا فقد يساوي الندب في البعض ، كما لو مات المكلف في أثناء وقت الموسع فجأة ، ضرورة ثبوت خاصته له ، وإن كان ربما تكون له بعض الثمرات كالقضاء ونية الوجوب واستحقاق ثواب الواجب وحرمة إزالة التمكن وإيجاب العزم ونحو ذلك ، فحيث لم تثبت الاذن كما في المقام إذ الفرض قطع النظر عن أدلة الطرفين الخاصة والرجوع إلى ما تقتضيه الأصول لم يجز التأخير ، لعدم الاذن ولو مع العزم على الفعل ، لعدم ثبوت بدليته عنه هنا ، كعدم ثبوت بدلية الفعل في ثاني الأوقات عن تمام ما يترتب على الفعل في أولها ، بل أقصاه الصحة ورفع العقاب عن الخطاب المتوجه فيه لا رفعه مطلقا ولو بالنظر إلى الخطاب الأول ، على أن المبادرة تجزي عنه في رفع العقاب وإن لم يتفق له التمكن من الإتمام بخلاف غيرها ، إذ لم يعلم التمكن في ثاني الأوقات ، فإنه ربما يموت تاركا كما هو مقتضى الإمكان والأصل في كل حادث ، فتبقى ذمته مشغولة ويستحق العقاب على تركه باختياره ، إذ لا يعتبر في الترك الموجب لذلك أن يكون بحسب جميع الأحوال‌

٤٤

الممكنة في حقه ، بل بما هو الثابت واقعا في شأنه ، ولما كان الواقع غير معلوم قبل وقوعه لم يمكن الإحالة عليه ، حتى يختلف باختلافه بالنسبة للأشخاص فيكون مضيقا على واحد وموسعا لآخر ، فوجب إناطته بالتضييق المتحد بالنسبة للجميع ، فمن ترك الفعل استحق العقاب بهذا الاقدام ، وإن كان إذا أدرك الفعل في الوقت الثاني امتثل أصل التكليف بالفعل ، بل ربما يكون ذلك سببا للعفو عنه إن ساعد الدليل كما في الفريضة عند بعضهم وهذا وإن كان ليس إثباتا لتضييق الخصم الذي هو بمعنى حرمة التأخير ولو علم المكلف الإدراك في ثاني الأوقات لكنه متحد معه في الثمرة ، يدفعها (١) مع أنها سفسطة عند التأمل منع اقتضاء طبيعة الوجوب الذي هو القدر المتيقن من القولين ذلك ، وكفاية الأصل المعلوم حجيته في ثبوت الإذن الشرعية بالتأخير وإن لم يكن إلى بدل حتى العزم لأنه بعد تسليم بدليته ووجوبه على المكلف عوضا عن الترك يمكن دعوى اختصاصها بالموسع الذي استفيد من خطاب شرعي توسعته لا التوسعة الناشئة من الأصل التي مرجعها عدم العلم بكيفية الوجوب المراد هنا ، وأنه من المضيق الذي لا يكون العزم بدلا عنه أو من الموسع الذي تثبت بدليته عنه ، واستلزام ذلك الجواز ترك الواجب لا إلى بدل يدفعه ـ مع أنه لا بأس بالتزامه في الواجب الموسع فضلا عما نحن فيه ، للاكتفاء في تحقق الوجوب بوجود جهة تمنع من تركه عند الضيق ونحوه ، ولعدم ثبوت دليل معتبر على إيجاب العزم على المكلف بعنوان البدلية وإن أمكن استفادته من بعض الأمور التي ليس ذا محل ذكرها ، لكنها تصلح مؤيدة للدليل لا أن تكون هي الدليل ـ وضوح الفرق بين الجواز الذي ينشأ من الأصل لعدم علم المكلف بالتكليف وبين الجواز الذي يحصل بنص الشارع ، إذ ليس الأول جوازا ابتدائيا من الشارع كي يحتاج في الاذن فيه إلى إقامة بدل عن المتروك ، بل سببه جهل المكلف وعدم وصول كيفية التكليف‌

__________________

(١) خبر لقوله قدس‌سره : « ودعوى » المتقدم في ص ٤٤.

٤٥

اليه تفصيلا وإجمال الأمر عليه ولو لتعارض الأدلة ، بخلاف الثاني ، على أنه لا بأس بالقول بوجوب العزم هنا بدلا كالموسع ، لاشتراكهما فيما يتخيل صلاحيته لا ثبات ذلك وإلا فليس لبدليته في الموسع دليل خاص ، كما لا يخفى على الخبير المتأمل.

فظهر حينئذ سقوط جميع ما سمعته من تلك الدعوى حتى ما ذكر أخيرا منها من الاحتياط الذي لا دليل على وجوب مراعاته هنا ، خصوصا بعد ملاحظة استصحاب السلامة والبقاء الذي به صح الحكم بوجوب أصل الفعل على المكلف ، وإلا فالتمكن مقدمة وجوب للفعل ، فبدون إحرازها لا يعلم أصل الوجوب ، فعلم أن المدار على إمكان التمكن من الفعل في ثاني الأوقات لا على العلم بذلك فضلا عن العلم بوقوعه ، فان الغرض من التكليف إيقاع ممكن الوقوع لا معلومه ، فتأمل.

وقد تدفع أيضا تلك الدعوى مضافا إلى ما عرفت بمساواة هذا القدر المتيقن من الوجوب للأوامر المطلقة المفيدة لطلب الطبيعة التي حررنا في الأصول أنها لا دلالة فيها على الأزمنة والأمكنة ، بل كل فرد من أفرادها المتماثلة بالذوات المتخالفة في الزمان كلف في حصول الامتثال كاختلافها في المكان ونحوه من المشخصات الأخر ، وكون الأوقات مترتبة لا يتمكن المكلف في كل زمان إلا من واحد منها لا يصلح للفرق ، إذ أقصاه أن اختيار الفرد الثاني أو الثالث يقتضي الانتقال من المعلوم إلى المحتمل وانقضاء جزء من الزمان بلا عمل ، وهو لا يجدي في إثبات المطلوب ، خصوصا بعد وقوع نظيره من اختيار المفطر في أول شهر رمضان صوم شهرين متتابعين بعده مع تمكنه من العتق والإطعام ، وبعد معلومية اعتبار استصحاب السلامة والبقاء في نحو ذلك ، ففي المقام بعد أن كان الفرض عدم ثبوت ما يزيد على طبيعة الوجوب الذي هو القدر المتفق عليه من القولين كان كالأوامر المطلقة فيما سمعت ، ضرورة استناد نفي خصوص الزمان والمكان ونحوهما من المشخصات فيها للأصل أيضا ، وإلا فهي لا دلالة فيها عليها ،

٤٦

لا أنها دالة على العدم.

لكن قد يخدش هذا الدفع بإمكان الفرق بين الفرض في المقام وبين الأوامر المطلقة بنحو ما يفرق به بين المجمل والمطلق ، إذ هو أشبه شي‌ء بالأول ، بل هو منه ، وهي من الثاني ، فإنها وإن كانت لا دلالة فيها على عدم القيود لكن الامتثال مستند إلى ظهورها بعد نفي المقيدات بالأصل في إرادة المكلف مصداق الطبيعة أي فرد كان بخلاف ما نحن فيه ، إذ لم يفرض هناك شي‌ء يستند إلى إطلاقه ، بل فرض قطع النظر عن أدلة المضايقة والمواسعة حتى الإطلاقات والرجوع إلى مقتضى الأصول بعد إحراز القدر المتيقن من القولين ، وهو مطلق الوجوب لا الوجوب المطلق ، فتأمل جيدا فإنه قد يدق ، بل ربما خفي على بعض المدققين من المعاصرين.

وكيف كان فلا ريب في شهادة الأصل للمواسعة ، مضافا إلى إطلاق ما دل على صحة الحاضرة بفعلها في وقتها جامعة للشرائط ، إذ ما شك في شرطيته ليس بشرط عندنا ، وإلى إطلاق ما دل (١) على وجوب الحواضر بدخول أوقاتها ، بناء على ما عساه يظهر من بعض عبارات أهل المضايقة من خروج سببية الوقت عن الوجوب لمن عليه فوائت ، وانحصاره في وقت الضيق ، لا أنها كالظهر والعصر في الوقت المشترك ، وإلى إطلاق ما دل (٢) على وجوب قضاء الحاضرة إذا مضى من الوقت مقدار ما يسع الفعل جامعا لما يعتبر فيه من الشرائط ، إذ على المضايقة لا يتحقق ذلك لمن كان عليه فوائت ، بل لا بد من مضي زمان يسع الجميع ، أو إدراك وقت الضيق ولم يفعل ، لأن صحة الحاضرة مشروطة بفعل الفائتة ، فلا بد من مضي زمان يسع الشرط والمشروط‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ١٧ والباب ٤٨ و ٤٩ من أبواب الحيض من كتاب الطهارة.

٤٧

في تحقق القضاء بناء على مساواة غير الطهارة من الشرائط لها في اعتبار سعة الوقت بالنسبة إلى التكليف في أول الوقت ، فمن كانت عليه فوائت حينئذ وذكرها في الوقت ثم عرض له جنون أو حيض أو غيرهما بعد مضي زمان يسع الحواضر خاصة لم يجب عليه القضاء بناء على التضييق ، وإلى ما دل (١) بعمومه وإطلاقه على صلاحية جميع أوقات الحواضر لأدائها بالنسبة إلى سائر المكلفين ، وإلى ما دل (٢) على تأكد استحباب المبادرة مطلقا إلى أداء الصلوات في أوائل أوقاتها وفي أوقات فضيلتها ، حتى أنه كثيرا ما يطلق فيها الوقت ويراد وقت الفضيلة ، ويجعل غيره كخارج الوقت ، بل ربما سمي المصلي فيه مضيعا ومتهاونا ومتكاسلا وقاضيا.

لكن هذا يتم بناء على القول باستحباب تقديم الحاضرة على الفائتة ، بل وعلى العكس إن كان منشأه الاحتياط والخروج عن شبهة الخلاف ، ضرورة عدم منافاته الاستحباب الذاتي المفهوم من ذلك ، بل وإن كان غيره من حمل أخبار المضايقة على إرادة تأكد استحباب التعجيل في الفائتة حتى لو اتفق مزاحمتها للحاضرة في وقت فضيلتها ، إذ مرجعه إلى أهميته في نظر الشارع منه وأفضليته ، لا أنه يضمحل معه استحباب الأول ، بل هو من قبيل المستحبين اللذين اتفق تزاحمهما وكان أحدهما أشد فضيلة من الآخر في نظر الشارع ، ففي المقام حينئذ إن أمكنه الجمع بين الفضيلتين كما لو كان قد ذكر الفائتة قبل وقت فضيلة الحاضرة وفعلها ثم جاء بالحاضرة في وقت فضيلتها فاز بالسعادتين ، وإن أخرهما معا فلم يفعل الفائتة وقت الذكر ولا الحاضرة في وقتها فاته الأجران ، وإن كان له بعد ذلك أجر في تقديم الفائتة لو أراد الفعل ، لبقاء استحباب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة.

٤٨

المبادرة فيها أيضا ، وأما إن لم يمكنه الجمع كما لو كان الذكر مثلا في وقت فضيلة الحاضرة بحيث لا يمكن جمعهما فيه فالأفضل له مراعاة استحباب المبادرة في الفائتة ، لأهميته في نظر الشارع من مراعاة مصلحة وقت الحاضرة ، فإن فعل الحاضرة ترك الأفضل قطعا لكنه أدرك فضيلة الوقت ومصلحته ، فحينئذ لا بأس بالاستدلال بالأخبار الدالة على استحباب المبادرة للحاضرة وإن قلنا بأفضلية تعجيل الفائتة وتقديمها عند التزاحم وعدم إمكان الجمع ، إذ ذلك ليس بمسقط لأصل استحبابها ، بل هي من قبيل تزاحم زيارة مؤمن وعيادة مريض وفرض أهمية أحدهما في نظر الشارع وأكثرية ثوابه ، فتأمل جيدا.

وإلى ما دل (١) على أن الحاضرة متى دخل وقتها لا يمنع منها إلا النافلة المعبر عنها في الأخبار بالسبحة أو أداء الفريضة المشاركة لها في الوقت كالظهر بالنسبة إلى العصر وإلى إطلاق أوامر القضاء المحرر في الأصول إنها للطبيعة ، وإلى إطلاق ما ورد (٢) من التأكيد البليغ في الرواتب وقضائها ، خصوصا صلاة الليل منها وغيرها من الصلوات الكثيرة والأعمال المخصوصة في الأزمنة والأمكنة سيما شهر رمضان ورجب وشعبان ، وخصوصا زيارات الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام ، وإلى ما يستفاد من الإجماع في الجملة أو كالإجماع من الجعفي والواسطي والفاضلين ، لأن الأول قال في كتابه الفاخر الذي ذكر في خطبته أنه لا يروي فيه إلا ما أجمع عليه وصح عنده من قول الأئمة عليهم‌السلام على ما حكاه عنه ابن طاوس في رسالته في المسألة الموجودة تماما في الفوائد المدنية وبحذف بعضها في غيرها : ما هذا لفظه « والصلوات الفائتات تقضى ما لم يدخل عليه وقت صلاة ، فإذا دخل عليه وقت صلوات بدأ بالتي دخل وقتها وقضى الفائتة متى أحب » وهو كما ترى ظاهر أو صريح في المواسعة ، والظاهر إرادته مطلق ما ذكره فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ و ٨ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها.

٤٩

من الرواية وإن لم يكن بصورتها ، كما يومي إليه ـ مضافا إلى ما سمعته من ابن طاوس في الرسالة ـ المحكي عنه أيضا في كتاب غياث سلطان الورى في تعداد الأخبار الواردة في القضاء عن الميت ، قال : « السادس ما ذكره صاحب الفاخر مما أجمع عليه وصح من قول الأئمة عليهم‌السلام ويقضى عن الميت أعماله الحسنة كلها » انتهى. وقال الواسطي في كتاب النقض على من أظهر الخلاف لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما حكاه عنه ابن طاوس أيضا ما هذا لفظه : « مسألة من ذكر صلاة وهو في أخرى قال أهل البيت عليهم‌السلام : يتم التي هو فيها ويقضي ما فاته ، وبه قال الشافعي » قال السيد : ثم ذكر خلاف الفقهاء المخالفين لأهل البيت عليهم‌السلام ، ثم قال في أواخر مجلده ما لفظه : « مسألة أخرى من ذكر صلاة وهو في أخرى إن سأل سائل فقال : أخبرونا عمن ذكر صلاة وهو في أخرى ما الذي يجب عليه قيل له : يتمم التي هو فيها ويقضي ما فاته ، وبه قال الشافعي ، دليلنا على ذلك ما‌ روي (١) عن الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنه قال : « من كان في صلاة ثم ذكر صلاة أخرى فاتته أتم التي هو فيها ثم قضى ما فاته » انتهى. وهو كما ترى صريح في عدم وجوب العدول الذي صرح به أهل المضايقة كما سمعت ، ونسبته إلى أهل البيت عليهم‌السلام تارة وإلى الرواية عن الصادق عليه‌السلام أخرى.

وقال المصنف في المعتبر : « إن القول بالمضايقة يلزم منه منع من عليه صلوات كثيرة أن يأكل شبعا وأن ينام زائدا على الضرورة ، ولا يتعيش إلا لاكتساب قوت يومه له ولعياله ، وأنه لو كان معه درهم ليومه حرم عليه الاكتساب حتى تخلو يده ، والتزام ذلك مكابرة صرفة والتزام سوفسطائي ، ولو قيل : قد أشار أبو الصلاح الحلبي إلى ذلك قلنا : نحن نعلم من المسلمين كافة خلاف ما ذكره ، فإن أكثر الناس يكون عليهم‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٥ من كتاب الصلاة.

٥٠

صلوات كثيرة ، فإذا صلى الإنسان شهرين في يومه استكثره الناس » انتهى. وقال العلامة في المنتهى : « لو قلنا إن الأمر هنا للتضيق لزم الحرج العظيم ، وهو عدم التشاغل بشي‌ء من الأشياء إلا بالفوائت إلا الأمور الضرورية ، وأن لا يأكل الإنسان إلا قدر الضرورة ، ولا يسعى إلا في تحصيل الرزق الضروري لذلك اليوم ، وكل ذلك منفي بالإجماع » وقال في المختلف ما محصله : « الذي ينبغي ذكره هنا أن القول بتحريم الحاضرة في أول وقتها مع القول بجواز غيرها من الأفعال مما لا يجتمعان ، والثاني ثابت بالإجماع على عدم إفتاء أحد من فقهاء الأمصار من جميع الأعصار بتحريم زيادة لقمة أو شرب جرعة أو طلب الاستراحة من غير تعب شديد أو المنع من فعل الطاعات الواجبة والمندوبة لمن عليه قضاء ، فيلزم انتفاء الأول » انتهى.

قلت : بل يمكن تحصيل الإجماع بمعنى القطع برأي المعصوم على المواسعة في الجملة ونفي المضايقة كذلك إن لم يكن مطلقا إذا لو حظ السيرة والطريقة من كافة المسلمين في الأعصار والأمصار في عدم الالتزام بالمبادرة إلى الفائتة وتقديمها على الحاضرة في السعة حتى أن مقلدة أرباب المضايقة لا يتابعونهم في العمل على ذلك فضلا عن غيرهم ، وكلام من عرفت من العلماء الذين فيهم من هو في زمن المعصوم ومن أدرك الغيبتين وحاز الرئاستين ، وقلة القائلين بالمضايقة ، إذ هم عشرة أو ثمانية أو سبعة أو ستة أو غير ذلك بل كان الإجماع قد استقر بعد زمان الحلي على نفي المضايقة ، إذ المفصلون موسعون إلا في القليل الذي لم يعلم إرادتهم مضايقة المخالف فيه أيضا ، كما أنه استقر قبل زمن القديمين أو المفيد على ذلك ، فتأمل جيدا.

وإلى سهولة الملة وسماحتها ونفي العسر والحرج فيها ، وخصوصا مثل هذه المضايقة الموجبة لمعرفة الأوقات وضبط الدقائق والساعات ، وتحريم سائر المضادات وإن كانت أذكارا ودعوات إلا ما تقوم به الحياة وتمس اليه الضرورات ، المحتاج أيضا إلى معرفة‌

٥١

أقل المجزي منه المورثة وساوس في صدور ذوي الديانات ، بل لعل أقل من ذلك مناف للطف المراد منه بعد العبد عن المعصية وقربه إلى الطاعات الذي أوجبه على نفسه رب السماوات الرؤف الرحيم والعليم الحكيم ، بل هو مؤد في الحقيقة إلى تضيع أعظم مصلحة حاله لأهون مصلحة فائتة ، وصيرورة الأداء قضاء والحاضر فائتا ، خصوصا في مثل وقت العشاءين بالنسبة إلى أغلب الناس سيما مثل النساء والضعفاء من الرجال ، وأنى وسعة عقولهم لمثل هذه التكاليف ، خصوصا فيما إذا لم يكن الفوات بعمد وتقصير إلى غير ذلك مما يقصر القلم عن إحصائه الذي ببعضه مع ملاحظة شدة كرم الخالق ورأفته وإتقانه وحكمته يحصل القطع لمن له أدنى نظر بعدم إلزامه بالأقل ، سيما مع عدم ندرة هذا الفوات ، بل هو الغالب في أكثر الناس سيما في أوائل البلوغ ، فان قصورهم أو تقصيرهم عن معرفة سائر ما يعتبر في العبادة سيما النساء منهم والأعوام من أكمل الواضحات.

فمن العجيب إنكار بعض المحدثين التأييد بهذا الاعتبار الواضح لذوي الأبصار حتى أنه شنع على مدعيه بما هو أولى به منه ، وتخلص عن جملة مما سمعت بعدم قوله بحرمة الأضداد ، لكن من المعلوم لديك أن البحث مع أئمة هذا القول وأساطينه كالسيد والحلي وغيرهما ، وإلا فهو من الأتباع الذين لم نتعب منهم في رد اليراع ، على أنه يكفي في حصول تلك المشقة والعسر اشتراط صحة الحاضرة بفعل الفائت أو التأخير إلى آخر الوقت ، فلا حظ وتأمل.

وإلى الأخبار الخاصة الدالة على نفي تلك المضايقة ولوازمها السابقة من الترتيب وغيره من وجوه وإن تفاوتت في الظهور شدة وضعفا ، فمنها ـ مضافا إلى ما سمعته من‌ الواسطي بل والجعفي بل والمحكي عن أصل الحلبي المعروض (١) على الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٥.

٥٢

« من نام أو نسي أن يصلي المغرب والعشاء الآخرة فإن استيقظ قبل الفجر مقدار ما يصليهما جميعا فليصلهما ، وإن استيقظ بعد الفجر فليصل الفجر ثم يصلي المغرب ثم العشاء » وقال أيضا فيه (١) : « خمس صلوات يصلين على كل حال متى أحب : صلاة فريضة نسيها يقضيها مع غروب الشمس وطلوعها ، وركعتي الإحرام ، وركعتي الطواف والفريضة ، وكسوف الشمس عند طلوعها وعند غروبها » فان الظاهر ذكره لذلك من باب الرواية لا الفتوى كما يشهد له ما تسمعه من رواية نحو ذلك‌ عن الصادق عليه‌السلام ـ صحيح ابن سنان (٢) عن الصادق عليه‌السلام « إن نام رجل أو نسي أن يصلي المغرب والعشاء الآخرة فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصليهما كلتيهما فليصلهما ، وإن خاف أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة ، وإن استيقظ بعد الفجر فليصل الصبح ثم المغرب ثم العشاء قبل طلوع الشمس » ورواه في الاستبصار بهذا السند وهذا المتن ، لكن جعل ابن مسكان بدل ابن سنان ، فلعله خبر آخر كما عن بعضهم أو أنه سهو كما عن آخر ، وإلا فاحتمال أنه الصواب وكون ابن سنان سهوا فيكون الخبر مرسلا ـ بناء على ما عن العياشي من أن ابن مسكان لا يدخل على الصادق عليه‌السلام لشفقة أن لا يوفيه وكان يسمع من أصحابه ويأبى أن يدخل عليه إجلالا وإعظاما له ـ غلط قطعا كما تشهد له القرائن المعينة أنه ابن سنان الحاصلة بملاحظة كتب الرجال ، بل رواه ابن طاوس في رسالة المواسعة عن كتاب الحسين بن سعيد كذلك ، على أنه قد يريد العياش عدم كثرة الدخول لا تركه بالكلية ، أو أنه لا ينافي الرواية عنه عليه‌السلام وإن لم يكن بالدخول إليه فإنه قد يسمعه يقول في طريق أو في دار أخرى ونحو ذلك ، وإلا كان محلا للنظر ، لاستبعاد الإرسال فيما رواه عنه من الأخبار الكثيرة.

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٢ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

٥٣

ومنها‌ صحيح أبي بصير (١) عن الصادق عليه‌السلام المروي في رسالة ابن طاوس من كتاب الحسين بن سعيد « إن نام رجل ولم يصل صلاة المغرب والعشاء الآخرة أو نسي فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصليهما كلتيهما فليصلهما ، وإن خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة ، وإن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصل الفجر ثم المغرب ثم العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس ، فان خاف أن تطلع الشمس فتفوته إحدى الصلاتين فليصل المغرب ويدع العشاء الآخرة حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها ثم ليصلها ».

ومنها‌ المرسل في الفقه الرضوي (٢) أنه سئل العالم عليه‌السلام « عن رجل نام أو نسي فلم يصل المغرب والعشاء ، قال : إن استيقظ قبل الفجر بقدر ما يصليهما جميعا يصليهما ، وإن خاف أن تفوته إحداهما بدأ بالعشاء الآخرة ، فإن استيقظ بعد الصبح فليصل الصبح ثم المغرب ثم العشاء قبل طلوع الشمس ، فان خاف أن تطلع الشمس فتفوته إحدى الصلاتين فليصل المغرب ويدع العشاء الآخرة حتى تنبسط الشمس ويذهب شعاعها ، وإن خاف أن يعجله طلوع الشمس ويذهب عنهما جميعا فليؤخرهما حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها ».

والمناقشة فيه بالإرسال بعد اعتضاده بما سمعت وانجباره بما عرفت لا يصغى إليها كالمناقشة فيه وفي سابقيه بظهورها بل صراحتها بامتداد وقت العشاء بل والمغرب إلى الفجر الذي هو مذهب جمهور العامة ، ومنه يذهب الوهم إلى ورودها مورد التقية في ذلك ، ويتطرق الوهن لما اشتملت عليه من الأحكام ، إذ هي ـ مع عدم اقتضائها الخروج عن الحجية فيما نحن فيه ، ضرورة عدم بطلان حجية الخبر ببطلانها في بعضه كما‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٨.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام ص ١٠ و ١١.

٥٤

هو محرر في محله ، وإلا لاقتضى سقوط أكثر الأخبار ، وربما يشير اليه‌ خبر جابر الجعفي (١) « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إن لنا أوعية نملأها علما وحكما وليست لها أهلا ، فما نملأها إلا لتنقل إلى شيعتنا ، فانظروا إلى ما في الأوعية فخذوها ثم صفوها من الكدورة ، وتأخذوها منها بيضاء نقية صافية » فلا بأس حينئذ بحمل ذلك خاصة على التقية دون غيره إما لحدوث سببها في وقت التكلم أو لمصلحة أخرى ، بل قد يومي اليه ترك ما يعين إرادة الامتداد الأدائي فيما سمعته من المحكي عن أصل الحلبي الذي هو عين المروي عن الصادق عليه‌السلام ، فتأمل ، ومعارضتها باشتمالها على ما لا يقول به أكثر العامة من تقديم الحاضرة على الفائتة إذ كما أن موافقة العامة قرينة على التقية مخالفتهم قرينة على الرشد كما نطقت به الأخبار (٢) وقضى به الاعتبار حتى‌ ورد (٣) « أنه إذا حدث ما لا يجد له بدا من معرفته وليس في البلد من تستفتيه من موالينا فأت فقيه البلد فاستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشي‌ء فخذ بخلافه ، فان الحق فيه » ومنه يظهر حينئذ أنه لا يقدح اشتماله على منع الصلاة عند الطلوع الذي هو موافق لأكثر العامة أيضا ، على أنه قد اشتمل بعض المعتمد من أخبار المضايقة على نحو ذلك ـ يدفعها أنه ليس مختصا بالعامة ، بل عن المصنف في الغرية حكايته عن جماعة من متقدمي الفقهاء ومتأخريهم ، وقد قيل : إن مصطلحه في إطلاق المتأخرين كما يظهر من أول المعتبر إرادة الكليني والصدوق ومن عاصر هما أو تأخر عنهما ، فيكون هذا حينئذ قولا لجماعة ممن تقدم على هؤلاء ، بل هو مال إليه في غريته وحكم به في معتبرة ، بل أفتى به‌

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٩٣ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٦ ـ باب ١٤ من كتاب العلم الحديث ٢٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٢٦ من كتاب القضاء.

٥٥

الشيخ في الخلاف ، بل قد يفهم منه فيه نفي الخلاف عنه والإجماع عليه ، بل حكي أيضا عن المرتضى والقاضي والحلي والعماني ، بل اختاره جماعة من متأخري المتأخرين ، بل حكاه بعض مشايخنا عن العلامة الطباطبائي ، بل لعله لا يخلو من قوة ، لاستفادته من الأخبار الكثيرة التي عمل بها من لا يقول بحجية أخبار الآحاد كالثلاثة السابقة ، وموثق ابن سنان (١) وخبر أبي الصباح (٢) وصحيحه وموثق منصور بن حازم (٣) وصحيح أبي بصير (٤) وخبر عبيد بن زرارة (٥) بل وموثقة أبيه (٦) ومرسل الفقيه (٧) والمحكي من فقه الرضا عليه‌السلام (٨) وما أرسله في المعتبر (٩) من رواية الأصحاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغير ذلك مما ليس ذا محل تفصيله ، بل لم نعثر على معارض صريح لها في ذلك ، بل هو إن كان ففي الظهرين ، ولم يعمل به الأصحاب نعم حاصل الجمع بينها وبين غيرها بعد التأمل والنظر تحديد وقت الاختيار بنصف الليل بحيث يحرم التأخير عنه ، ويختص العشاء بآخره ، وتحديد وقت الاضطرار كالنسيان والنوم والحيض والنفاس ونحوها بالفجر ، فلا حظ وتأمل.

ومنها‌ صحيح الوشاء (١٠) عن رجل عن جميل بن دراج عن الصادق عليه‌السلام الذي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب الحيض ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب الحيض ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب الحيض ـ الحديث ١٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦٢ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٩ من كتاب الصلاة.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٩ من كتاب الصلاة.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٣ من كتاب الصلاة.

(٨) المستدرك ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١.

(٩) المستدرك ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(١٠) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٥.

٥٦

ذكرناه سابقا في مسألة الترتيب ، وقدمنا هناك ما يقتضي عدم قدح إرساله ، على أنه منجبر هنا بما عرفت ، قال فيه : « قلت له : يفوت الرجل الأولى والعصر والمغرب وذكرها عند العشاء الآخرة ، قال : يبدأ بالوقت الذي هو فيه ، فإنه لا يأمن الموت فيكون قد ترك صلاة فريضة في وقت وقد دخلت ، ثم يقضي ما فاته الأولى فالأولى » وهو ظاهر في عدم الترتيب الذي هو لازم المضايقة ، بل هو صريح فيه ، إذ احتمال إرادة آخر وقت العشاء الآخرة المضيق في غاية البعد ، بل لا يناسبه التعليل المزبور ، وذكر المغرب في سؤاله ـ مع احتماله الغلط والسهو ومغرب الليلة السابقة ، وعدم الأمر بقضائه في الجواب لاحتمال إرادة الظهرين خاصة منه ، وظهوره في إرادة السؤال عمن عليه فائتة ودخل عليه وقت حاضرة ، والجواب عن ذلك من غير التفات إلى المثال بل اكتفى ببيان الحكم في ذلك ـ لا يقدح في الحجية قطعا ، كالأمر فيه بتقديم الحاضرة المحمول على الاستحباب نحو الأوامر السابقة في الأخبار المتقدمة ، كما هو واضح ، على أنه يمكن كون ذكر المغرب فيه بناء على تضيق وقتها وذهابه بذهاب الحمرة كما عن جماعة من أهل المضايقة ، فيكون حجة عليهم وإن لم نقل به نحن ، فتأمل جيدا.

ومنها‌ موثق عمار (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل تفوته المغرب حتى تحضر العتمة ، فقال : إذا حضرت العتمة وذكر أن عليه صلاة المغرب فان أحب أن يبدأ بالمغرب بدأ ، وإن أحب بدأ بالعتمة ثم صلى المغرب بعد » بناء على إرادة مغرب الليلة السابقة منه وحضور وقت فضيلة العتمة ، بل لو أريد منه مغرب الليلة الحاضرة بناء على انتهاء وقتها بدخول وقت فضيلة العتمة كما عن جماعة من أرباب المضايقة كان حجة إلزامية عليهم.

ومنها ما رواه‌ ابن طاوس (٢) في الرسالة من كتاب الصلاة للحسين بن سعيد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٢ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٥.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٦.

٥٧

ما لفظه صفوان عن عيص بن القاسم ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي أو نام عن الصلاة حتى دخل وقت صلاة أخرى فقال : إن كانت صلاة الأولى فليبدأ بها وإن كانت صلاة العصر فليصل العشاء ثم يصلي العصر » الذي هو في أعلى درجات الصحة الواجب حمله بقرينة كون الامام (ع) المجيب وجلالة الراوبين وإثبات ابن سعيد له في كتابه على إرادة أولى الصلاتين من الأولى فيه كالظهر بالنسبة إلى العصر والمغرب بالنسبة إلى العشاء أي الفريضتان المشتركتان في وقت الاجزاء المختلفتان في وقت الفضيلة والاختصاص ، ولما كان دخول الوقت الذي هو في السؤال شاملا لدخول وقت فضيلة الأخرى ـ بل لعل السائل كان يتوهم انتهاء وقت الأولى بدخول وقت فضيلة الثانية ، ولدخول وقت صلاة لا تشاركها السابقة في الصحة فيه ـ أراد الإمام عليه‌السلام بيان ذلك كله ، فقال : إن كانت المنسية صلاة الأولى أي الظهر أو المغرب ولم يذكرها حتى دخل وقت الصلاة التي بعدها فليبدأ بها أداء ، لأنها تشاركها في الصحة فيه ، وإن كانت غير ذلك كصلاة العصر أو الظهر بالنسبة إلى المغرب أو العشاء أو الصبح فليصل العشاء مثلا التي هي الحاضرة ثم يصلي العصر الفائتة ، فيكون لفظ العشاء والعصر في الخبر المزبور من باب المثال ، وإن أبيت إلا حمله على الفرق بين الظهر والعصر فتقدم الأولى على الحاضرة التي هي العشاء مثلا بخلاف الثانية ويكون بعضه شاهدا للمواسعة وبعضه المضايقة أمكن الاحتجاج به بأن يقال إن الواجب ـ بعد ملاحظة عدم القول بالفصل من الطرفين ـ حمله على التخيير ، إذ مآله ابدأ بالحاضرة ابدأ بالفائتة ، وربما ذكر فيه وجوه أخر أيضا إلا أن الجميع مشتركة في تقديم الحاضرة على الفائتة ، فعلى كل حال هو دال على ذلك في الجملة ، والعكس إما غير معلوم أو يجب الجمع بالتخيير كما عرفت ، فتأمل.

ومنها ما في المحكي من‌ فقه الرضا عليه‌السلام (١) « وإن فاتك فريضة فصلها‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٦.

٥٨

إذا ذكرت ، فان ذكرتها وأنت في وقت فريضة أخرى فصل التي أنت في وقتها ثم تصلي التي فاتتك » نحو ما سمعته من الجعفي مما أجمع عليه وصح عنده من قول الأئمة عليهم‌السلام ، بل هو شاهد على صحته ، فلا بأس بالاعتماد عليه هنا وإن لم نقل بحجيته في غير المقام ، كما أنه يراد من الأمر فيه الاستحباب قطعا ، للإجماع بقسميه على عدم الوجوب وإن توهم من عبارة الصدوقين المشتملة على الأمر ، إلا أنه غلط قطعا ، بل تجب إرادتهما منه الاستحباب أيضا كالنصوص ، لغلبة تعبيرهما بمتونها ، والأمر سهل ، وقال فيه أيضا : « فإذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاة ، وله مهلة في التنفل والقضاء والنوم والشغل إلى أن يبلغ ظل قامته قدمين بعد الزوال فقد وجب عليه أن يصلي الظهر » إلى آخره ولا ريب في شمول القضاء فيه الواجب والندب.

ومنها ما رواه ابن طاوس في الرسالة وغيره عن النسخ المعتمدة من‌ قرب الاسناد للحميري عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر (١) عن أخيه موسى بن جعفر عليهم‌السلام « سألته عن رجل نسي المغرب حتى دخل وقت العشاء » قال : يصلي العشاء ثم المغرب ، وسألته عن رجل نسي العشاء فذكر بعد طلوع الفجر كيف يصنع؟ قال : يصلي العشاء ثم الفجر ، وسألته عن رجل نسي الفجر حتى حضرت الظهر ، قال : يبدأ بالظهر ثم يصلي الفجر ، كذلك كل صلاة بعدها صلاة » فإن ذيله صريح في عدم الترتيب ، ولا ينافيه الأمر فيه بتقديم العشاء على الفجر بعد أن كان ظاهره للتجنب عن وقوعها بعد الصلاة التي لا صلاة بعدها ، لا للترتيب والمضايقة ، بل هو حينئذ مشعر بخلافهما ، وبأن المراد من ذلك الاستحباب ، لمعلومية جواز الصلاة بعد الفجر في غير الفائتة فضلا عنها ، كمعلومية إرادة الندب من الأمر فيه بتقديم الظهر الحاضرة على الفجر الفائتة ، للإجماع على عدم وجوب تقديم الحاضرة ، بل التعليل نفسه مشعر بذلك ، نعم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٧ و ٨ و ٩.

٥٩

هو ظاهر في الفرق بالنسبة إلى رجحان تقديم الفائتة وتأخيرها بين ما بعدها صلاة كالظهر والمغرب بل والعشاء وما ليس بعدها صلاة كالعصر والصبح ، فتقدم الحاضرة في الأول استحبابا والفائتة في الثاني ، ولا بأس به ، خصوصا بعد التسامح في السنن إن لم يقم إجماع على خلافه ، وأما الأمر في أوله بتأخير المغرب فهو إن لم يطرح أو يحمل على مغرب الليلة السابقة كان حجة إلزامية على القائل بخروج وقت المغرب بدخول وقت العشاء من أهل المضايقة ، كغيره (١) من الأخبار الآمرة بتأخير الظهر عن العصر بمجرد خروج وقت الظهر المذكورة في باب المواقيت وغيرها ، من أرادها فليلحظها ، وعلى كل حال فهو لا ينافي الاستدلال بذيله على المطلوب كما عرفت.

ومنها‌ ما وجده ابن طاوس في أمالي السيد أبي طالب علي بن الحسين الحسني بسند متصل إلى جابر بن عبد الله (٢) ذكره في الرسالة ، قال : « قال رجل : يا رسول الله (ص) وكيف أقضي؟ قال : صل مع كل صلاة مثلها ، قال : يا رسول الله قبل أم بعد؟ » ثم قال : وهذا حديث صريح ، بل عن بعض نسخ الفوائد المدنية المحكي فيها رسالة السيد المزبور وصفة بالصحة أيضا ، على أنه يمكن أن يجبر بما سمعته في تحرير محل النزاع ، بل قد سمعت من الديلمي الفتوى بمضمونه في الجملة ، بل قد يعضده في الجملة مع الشهادة للمطلوب أيضا ما رواه‌ الشهيد في الذكرى عن إسماعيل بن جابر (٣) قال : « سقطت من بعيري فانقلبت على أم رأسي فمكثت سبع عشرة ليلة مغمى علي ، فسألته عن ذلك ، فقال : اقض مع كل صلاة صلاة » فإنه صريح في المواسعة لو أوجبنا القضاء على المغمى عليه ، بل يتجه الاستدلال به للصدوق في المقنع القائل بوجوب ذلك ، وخبر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٨ من كتاب الصلاة.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ١٥.

٦٠