جواهر الكلام - ج ١٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ومن ذلك ظهر وجه قول المصنف ولا تؤم المرأة رجلا لما عرفته سابقا ولا خنثى لاحتمال كونه رجلا ، وقد عرفت انحصار إمامتها بالنساء ، وأما الخنثى بالخنثى فهما وإن كان الشرطية والحصر المزبوران لا يصلحان سندا لعدم الجواز فيهما قطعا ، إذ أقصاهما أن الذكور لا يؤمهم إلا ذكر ، والمرأة لا تؤم إلا النساء ، وليس في ائتمام الخنثى بالخنثى منافاة لشي‌ء منهما ، لعدم معلومية ذكورية المأموم منهما كي ينافيه احتمال أنوثية الامام ، وعدم معلومية أنوثية الامام كي ينافيها احتمال ذكورية المأموم ، لكن ليس في الأدلة إطلاقات أو عمومات واضحة التناول لهما بحيث يكفيان في براءة الذمة عن الشغل اليقيني بعد الإغضاء عن أصل صلاحية العموم أو الإطلاق المفروض تخصيصهما لشمول الفرد المشتبه موضوعه أنه من أفراد العام الباقية أو من أفراد المخصص فلا ريب في حصول الشك في انعقاد مثل هذه الجماعة وجريان أحكامها عليها ، فلا يجتزى بها ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

ولو كان الامام يلحن في قراءته لم يجز إمامته بمتقن على الأظهر بل المشهور نقلا وتحصيلا ، بل لا أجد فيه خلافا بين المتأخرين ، لأصالة عدم سقوط القراءة ، ونقصان صلاة الإمام عن صلاة المأموم ، وفحوى الإجماعات السابقة في الأمي إن لم يدع شموله له بناء على أن اللاحن غير محسن للقراءة أيضا ، لكن قد يناقش في الأول بانقطاعه بإطلاق الأدلة الممنوع إرادة القراءة الصحيحة خاصة منه ، لصدق اسم القراءة على الملحونة ، خصوصا إذا لم يغير اللحن المعنى ، وفي الثاني بما عرفته سابقا من عدم ثبوت الكلية السابقة من الأدلة ، وفي الثالث بأنه قياس محض ، ولعله لذا تردد في الحكم بعض متأخري المتأخرين ، بل جوز في الوسيلة وعن المبسوط الائتمام في الفرض على كراهية لإطلاق الأدلة ، بل وعن ظاهر السرائر أيضا ذلك ، لكن إذا لم يغير اللحن المعنى ، ولعله لخروجه عن اسم القراءة معه بخلافه إذا لم يغير ، إلا أن الانصاف تحقق‌

٣٤١

الشك إن لم يكن الظن في سقوط القراءة عن المأموم بالقراءة الملحونة للإمام وإن كانت هي صحيحة في حقه ، ولو بملاحظة ما تقدم في الأمي ، إلا أنه يتجه ـ بناء على أن المانع ذلك ـ جواز الائتمام في غير محل تحمل القراءة ، إذ الكلية المزبورة غير ثابتة ، نعم ظاهر العبارة وغيرها ـ بل لا أجد فيه خلافا بين الأصحاب ، بل الظاهر الإجماع عليه ـ جواز إمامته بمثله إذا اتحد محل اللحن أو زاد في المأموم ، لإطلاق الأدلة الذي لا ينافيه ما ذكرناه سابقا من دعوى تبادر القراءة الصحيحة من أخبار التحمل ، إذ ذاك بالنسبة إلى المأموم الكامل لا من يلحن كالإمام ، ولا يخفى عليك جريان كثير ما سمعته من الفروع السابقة في الأمي هنا حتى وجوب الائتمام على الملحن بالقاري وعدمه ، وإن تردد فيه هنا بعض من جزم بالوجوب هناك ، لكنه في غير محله ، إذ المسألة من واد واحد ، فالكلام الكلام ، ولا حاجة إلى الإعادة ، فتأمل.

وكذا لا يجوز ائتمام المتقن بـ ( من يبدل الحروف كالتمتام وشبهه ) من الفأفاء وغيره بلا خلاف معتد به أجده فيه كما اعترف به في الرياض وغيره ، لأولويته من الأمي واللاحن ، فيجري فيه جميع ما سمعت ، وما في التذكرة والمنتهى والتحرير والذكرى والمسالك وعن المبسوط والمعتبر من جواز الائتمام بالتمتام والفأفاء للمتقن مبني على تفسير التمتام بغير ما في المتن كما هو صريح بعضهم وظاهر آخر ، لتعليله الجواز بأنه يكرر الحرف ولا يسقطه ، لا على تفسيره بالمبدل ، فيكون حينئذ نزاعا في موضوع ، وهو سهل ، مع أنه قد يناقش في الجواز على التفسير المزبور أيضا بأنه لم يأت بالقراءة على وجهها مع التكرير ، ضرورة صيرورتها به هيئة أخرى ، ولعله لذا اختار المنع في البيان على هذا التفسير أيضا ، وهو لا يخلو من قوة.

نعم قد يظهر الخلاف من الوسيلة على التفسير الأول فضلا عن الثاني حيث قال : « تكره إمامة من لا يقدر على إصلاح لسانه أو من عجز عن أداء حرف أو يبدل حرفا‌

٣٤٢

من حرف أو ارتج عليه في أول كلامه أو لم يأت بالحرف على الصحة والبيان » بل ومن المحكي عن المبسوط أيضا « تكره الصلاة خلف التمتام ومن لا يحسن أن يؤدي الحروف ، وكذلك الفأفاء ، فالتمتام هو الذي لا يؤدي التاء ، والفأفاء هو الذي لا يؤدي الفاء » إلا أنه لا يخفى عليك ضعفهما بعد الإحاطة بما سمعت سابقا في الأمي وغيره ، ضرورة اتحاد الطريق في الجميع ، ومن هنا كان لا حاجة إلى إعادة كثير مما تقدم هناك ، فلا حظ وتأمل ، مع أنه قال في المبسوط بعد ذلك بلا فصل فيما حكي عنه : « وكذا لا يؤتم بإرث ولا ألثغ ولا أليغ ، فالأرث هو الذي يلحقه في أول كلامه ريح فيتعذر عليه ، فإذا تكلم انطلق لسانه ، والألثغ هو الذي يبدل حرفا مكان حرف ، والأليغ هو الذي لا يأتي بالحروف على البيان والصحة ، وإذا أم أعجمي لا يفصح بالقراءة أو عربي بهذه الصفة كرهت إمامته ».

إذ من الواضح مساواة الألثغ بالتفسير الذي ذكره للتمتام والفأفاء ، وإن كان هما مختصان في الفاء والتاء بخلافه بناء على تفسيره بما عرفت ، وإلا فهو خاص أيضا بناء على ما في المنتهى عن الصحاح من تفسيره بأنه الذي يجعل الراء غينا أو لاما والسين تاء ، وحواشي الشهيد من أنه الذي يجعل الراء لاما ، بل وعلى ما عن الفراء أيضا من أن اللثغة بطرف اللسان هو الذي يجعل الراء على طرف اللسان ، ويجعل الصاد ثاء.

وعلى كل حال فينافي حينئذ حكمه بالمنع فيه ، لحكمه بالكراهة فيهما ، إلا أن الظاهر بل لعله من المقطوع به بملاحظة قرائن كثيرة في كلامه إرادته الكراهة أيضا من قوله : « لا يؤتم » فلا منافاة حينئذ ، نعم هو كالسابق في غاية الضعف بالنسبة للألثغ ، بل لا أجد فيه خلافا من غيره عدا الوسيلة التي سمعت عبارتها لما تقدم ، ومتجه بالنسبة للإرث المفسر بما عرفت ، بل في المنتهى أنه حكاه الأزهري عن المبرد أيضا لإطلاق الأدلة السالمة عن المعارض ، بل لولا التسامح في دليل الكراهة لأمكن‌

٣٤٣

التوقف فيما ذكره من الكراهة ، واتجه الحكم بالجواز من غير كراهية ، نعم يتجه المنع فيه بناء على ما في التذكرة من تفسيره بأنه الذي يبدل حرفا بحرف ، وما عن الفراء من أنه الذي يجعل اللام تاء ، بل وعلى ما عن الصحاح أيضا من أن الرثة بالضم العجم في الكلام إن أراد به عدم خروج الحرف كما هو ، لعدم حصول القراءة الصحيحة المسقطة عن المأموم.

ومنه ينقدح حينئذ عدم جواز الائتمام بالأليغ بالياء المثناة من تحت كما صرح به غير واحد من الأصحاب ، بل في الرياض الاعتراف بعدم الخلاف فيه ، لفحوى ما سمعت أيضا بناء على إرادة نحو ذلك من تفسيره المزبور الذي يقرب من بعض ما ذكر في تفسير الإرث بأنه الذي يدغم حرفا في حرف ولا يبين الحروف ، خلافا له وللوسيلة فالكراهة ، ولا ريب في ضعفه ، اللهم إلا أن يريدا ـ وإن بعد أو منع ـ بعدم بيانها عدم إتيانها على الوجه الكامل ، فيتجه حينئذ الجواز فيه ، إذ هو حينئذ كاللثغة الخفيفة التي تمنع من تخليص الحرف ، ولكن لا يبدله بغيره المصرح بجواز ائتمام القاري معها في التذكرة والذكرى وعن نهاية الأحكام والروضة ، وإن استشكله في المدارك بأن من لا يخلص الحرف لا يكون آتيا بالقراءة على وجهها ، لكن فيه احتمال أو ظهور إرادتهم اللثغة التي لا تبلغ به إلى إخراج الحرف عن حقيقته وإن نقص عن كماله ، كاحتمال إرادة الشهيد في البيان ذلك أيضا مما ذكره من أن الأقرب جواز إمامة من في لسانه لكنة في بعض الحروف بحيث يأتي به غير فصيح بالمفصح ، فلا ينافيه حينئذ ما في ظاهر الذكرى من أنه لو كان في لسانه لكنة من آثار العجمة لم يجز الائتمام بعد تنزيله على إرادة اللكنة المغيرة لحقيقة الحرف ، كتنزيل إطلاق بعض العبارات عدم جواز الائتمام بمؤوف اللسان على ذلك ونحوه ، لا ما يشمل من لا يتمكن من إتيان‌

٣٤٤

الحرف على الوجه الكامل ، إذ المدار ما عرفت من تحقق القراءة الصحيحة وعدمها ، فلا حاجة حينئذ إلى التعرض إلى خصوص الخنخنة ، وهي كما في حواشي الشهيد التكلم بالخاء من لدن الأنف ، واللجلجة وهي كما فيها أن يكون فيه عي وإدخال بعض كلامه في بعض ، كما لا حاجة إلى إعادة بعض الفروع المتقدمة سابقا في الأمي الواضح جريانها في المقام من ائتمام المماثل به ونحوه ، ضرورة اشتراك الجميع في ذلك ، فلا حظ وتأمل.

ولا يشترط في صحة الجماعة المندوبة وترتب أحكامها بالنسبة للإمام والمأموم أن ينوي الإمام الإمامة وإن أم النساء وفاقا لصريح جماعة وظاهر آخرين ، بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في الرياض ، بل قد يشعر قصر نسبة الخلاف في المنتهى كما عن المعتبر إلى أبي حنيفة والأوزاعي بالإجماع عليه ، بل عن مجمع البرهان كأنه إجماعي بل في التذكرة لو صلى بنية الانفراد مع علمه بأن من خلفه يأتم به صح عند علمائنا ، للأصل في وجه ، وإطلاق الأدلة والسيرة في الائتمام بمن لا يعلم الائتمام به ، ومساواة صلاته لصلاة المنفرد إلا بما لا يعتد به من رفع الصوت ونحوه ، فليست هي نوعا آخر مستقلا ، بل هي كالمسجدية ونحوها ، بل لا يبعد في النظر عدم اعتبار نية العدم أيضا ما لم يرجع إلى التشريع المحرم كما هو ظاهر معقد إجماع الذكرى ، بل قطع به المولى البهبهاني في مصابيحه ، فلو قصد عدم الإمامة واقتدى المأمومون به من غير رضاه أصلا صحت صلاته وصلاة المأمومين ، نعم قد يقال باعتبارها في ترتب الثواب واستحقاقه كما في الدروس والذكرى وحاشية الإرشاد والمسالك ومصابيح المولى وعن غيرها ، لمعلومية اشتراطها في جميع الأسباب التي رتب الشارع عليها ثوابا ، مع أن المحكي عن مجمع البرهان أنه لم يستوضح شرطيتها في ذلك أيضا قال : لأنه تكفي نية الصلاة عن بعض التوابع مثل سائر نوافل الصلاة مع أنها أفعال لا بد منها ، وليس في الإمامة شي‌ء زائد على حال الانفراد حتى ينوي ذلك الشي‌ء إلا بعض الخصائص مثل رفع الصوت‌

٣٤٥

ببعض الأذكار.

فالظاهر أنه إذا نوى ولم يقصد الانفراد ولا الجماعة يحصل له الثواب لو حصلت له الجماعة ، بل ولو لم يشعر به ، بل في الذكرى والمسالك وغيرهما احتماله أيضا من غير تعقيب بجزم بالعدم ، لكن فيما إذا لم يعلم حتى انتهت صلاته نظرا إلى كرمه وإحسانه لأنه لم يقع منه إهمال ، وإلى استبعاد حصول الثواب للمأمومين بسببه وحرمانه ، وإلى ما ورد من تزايد ثواب الجماعة بتزايد المأمومين ولو مع عدم اطلاع الامام ولا أحدهم ، وإلى احتمال استحقاقه الثواب باستيهاله للإمامة.

لكن الجميع كما ترى غير صالح لمعارضة ما دل على انحصار الأعمال في النيات ، وأنها هي روح الأعمال وقوامها ، واحتمال الفرق بين حالة العلم وعدمه ـ فلا يحصل الثواب في الأول إلا بالنية بخلاف الثاني كما هو قضية ما سمعته من الشهيدين وغيرهما ـ لا شاهد له سوى حسن الظن بالله ، فإنه عند ظن عبده به الحسن ، كاحتمال جعل الشارع ذلك من الأسباب المترتب عليها الثواب وإن لم يقصدها المكلف كما سمعته من مجمع البرهان ، واحتمله أولا في الذكرى ثم جزم بعدمه ، فإنه لا شاهد عليه أيضا عدا دعوى إطلاق ما دل على ترتب الثواب على حصول وصف الإمامة المتحقق بمجرد نية المأموم الائتمام ، ولذا يجري عليه جميع الأحكام من الشك والمتابعة وغيرهما ، لكن من المعلوم تنزيل هذه الإطلاقات على ما ورد في بيان توقف الأعمال على النيات كما يومي اليه خلو كثير من أخبار العبادات عن التعرض لخصوص النية فيها ، وما ذاك إلا للاتكال عليها وصيرورتها من جملة أصول المذهب المستغنية عن التكرير والإعادة في كل شي‌ء ، فدعوى ترتب الثواب على حصول وصف الإمامة وإن لم يكن قصده الامام ممنوعة كل المنع ، ولا تلازم بين صيرورته إماما بالنسبة إلى انعقاد الجماعة وجريان أحكامها وبين حصول الثواب الذي هو أمر آخر متوقف على القصد والنية ، لا أقل من الشك في خروجه عن تلك‌

٣٤٦

العمومات ، إلا أن الفضل والإحسان غير مستنكر على ذي الطول والامتنان.

أما الجماعة الواجبة كالجمعة ففي الدروس والذكرى والبيان وحاشية الإرشاد ومصابيح الأنوار والرياض وجوب اعتبارها فيها ، لتوقف صحة الصلاة على الجماعة ، وتوقف صدق امتثال الأمر بها جماعة على النية ، خلافا للمدارك فلم يوجبها أيضا تبعا لما عن مجمع البرهان ، لأن المعتبر تحقق القدوة في نفس الأمر ، فهو في الحقيقة شرط من شرائط الصحة التي لا يجب على المكلف ملاحظتها حال النية ، واستحسنه في الذخيرة وهو في محله إن كان المراد الاكتفاء بنية الجمعة مثلا عن التعرض لنية الجماعة باعتبار عدم صحتها شرعا بدونها ، لا أنها كالجماعة المندوبة التي لا يقدح في صحتها نية الإمام الفرادى في صلاته ، ضرورة الفساد هنا لو نوى ذلك ، إذ هو تشريع محض ، اللهم إلا أن يفرض وقوعها منه على وجه يكون لاغيا في نيته وعمله صحيحا ، كنية عدم رفع الحدث في الوضوء ، فتأمل.

ومما سمعت يتضح لك البحث في وجوب نية الإمامة أيضا في الصلاة المعادة نفلا باعتبار توقف صحتها أيضا على كونه إماما ، فلا يتصور افتتاحها منه بغير نية الإمامة ، إذ لا وجه لإعادتها فرادى ، بل لا يبعد هنا وجوب ملاحظة ذلك أو ما يقوم مقامه في النية ، ولا يكتفى بقصده الظهر مثلا كما كان يكتفى بذلك في الجمعة ، لعدم توقفه في نفسه على الجماعة كي يستغنى بنيته عن نيتها بخلاف الجمعة ، وهل يلحق بالجماعة الواجبة أصالة الواجبة عارضا ، كمن نذر الإمامة مثلا؟ وجهان ينشئان من احتمال صيرورة الجماعة بسبب النذر شرطا من شرائط الصحة ، فتكون كالجماعة في الجمعة ، ومن أنه واجب خارجي لا مدخلية له في الصحة ، بل أقصاه عدم الوفاء بالنذر إذا لم ينو لإفساد الصلاة ، لعدم صلاحية النذر لتأسيس حكم شرعي ، بل غايته الإلزام بالمشروع ، وتقدم البحث في نظيره في باب الوضوء ، إذ ما نحن فيه كنذر الموالاة في الوضوء ، فلاحظ وتأمل.

٣٤٧

وصاحب المسجد الراتب فيه والامارة من قبل الامام العادل عليه‌السلام والمنزل الساكن فيه أولى من غيرهم بالتقدم عدا إمام الأصل عليه‌السلام في إمامة الجماعة بلا خلاف صريح معتد به أجده فيه نقلا في المنتهى ظاهرا أو صريحا والحدائق وعن غيرهما ، وتحصيلا ، بل في الذكرى أنه ظاهر الأصحاب ، بل عن المعتبر أن عليه اتفاق العلماء ، ويدل على الأول ـ مضافا إلى ذلك ، وإلى ما في ظاهر الرياض والمفاتيح من نفي الخلاف عنه بالخصوص وإن كان غيره أفضل منه ، وإلى ما في الحدائق من دعوى اتفاق الأصحاب عليه ، كما عن ظاهر الغنية أو صريحها الإجماع عليه أيضا ، وإلى ما حكي من نص جماعة من القدماء عليه ممن عادتهم الفتوى بمضامين النصوص خصوصا الصدوق منهم في مثل المقنع والأمالي ، وإلى ما عساه يشعر به ما سمعته (١) مما ورد في المنزل ، وإلى ما ذكر له من التعليل بأن تقدم الغير يورث وحشة وتنافرا في القلوب ، وإلى ما ورد من أحقية من سبق بالوقف ـ النبوي المروي (٢) عن فقه الرضا عليه‌السلام ودعائم الإسلام (٣) قال في الأول : « صاحب الفراش أحق بفراشه ، وصاحب المسجد أحق بمسجده » وقال في الثاني : « يؤمكم أكثركم نورا ، والنور القرآن ، وكل أهل مسجد أحق بالصلاة في مسجدهم إلا أن يكون أمير حضر فإنه أحق بالإمامة من أهل المسجد » وما‌ في الأخير أيضا (٤) عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام « يؤم القوم أقدمهم هجرة ـ إلى أن قال ـ : وصاحب المسجد أحق بمسجده » وما في‌ فقه الرضا عليه‌السلام (٥) أيضا « واعلم أن أولى الناس بالتقدم في الجماعة أقرأهم ـ إلى أن قال ـ : وصاحب المسجد أولى بمسجده ».

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصواب « تسمعه ».

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٥.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ١.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٢.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٤.

٣٤٨

وعلى الثاني والثالث ـ مضافا إلى ما سمعت ، وإلى خصوص ما في التذكرة من نفي معرفة الخلاف في أولوية تقديم صاحب المنزل وإن كان غيره أقرأ وأفقه ، بل عن نهاية الأحكام الإجماع على ذلك ، وفي المفاتيح « لا يتقدم أحد على صاحب المنزل بلا خلاف » وإلى ما في الثاني من الولاية عن إمام الأصل عليه‌السلام الذي هو أولى من كل أحد بلا خلاف كما اعترف به في الرياض ، بل لعله من الضروريات ـ خبر أبي عبيدة (١) عن الصادق عليه‌السلام « إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يتقدم القوم أقرأهم للقرآن ، فان كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة ، فان كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا ، فان كانوا في السن سواء فليؤمهم أعلمهم بالسنة وأفقههم في الدين ، ولا يتقدمن أحدكم الرجل في منزله ، ولا صاحب سلطان في سلطانه » وما سمعته من خبر الدعائم (٢) في خصوص الثاني منهما.

بل هو ظاهر في تقديم الأمير على صاحب المسجد ، وقد يلحق به المنزل ولو بضميمة عدم القول بالفصل كما صرح بهما في التذكرة وعن نهاية الأحكام والروضة ، ولا ينافيه تقدم الولي عليه في الجنازة لأن الصلاة على الميت تستحق بالقراءة ، والسلطان لا يشارك في ذلك ، وهنا تستحق بضرب من الولاية على الدار والمسجد ، والسلطان أقوى ولاية وأعم ، ولأن الصلاة على الميت يقصد بها الدعاء والشفقة والحنو ، وهو مختص بالقرابة ، ويؤيد أيضا أنه بإمامته عن إمام الأصل عليه‌السلام يشبه نائبه الخاص في الإمامة بمسجد له راتب أو منزل الذي صرح جماعة من الأصحاب بأنه أولى منهما ، لأنه لا يأذن إلا للراجح أو المساوي ، فالأول له مرجحان ، والثاني له مرجح واحد ، بل وأولى من ذي الإمارة أيضا لو فرض أن إمام الأصل عليه‌السلام استنابه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

٣٤٩

عن نفسه في خصوص الصلاة ، خلافا للروض والرياض فلم يقدما الأمير على صاحبي المسجد والمنزل ، بل قدماهما عليه ، لإطلاق النص والفتوى بأوليتهما في محلهما مع عدم معلومية شمول أولوية ذي الإمارة لنحو المفروض ، وخبر الدعائم محتمل أو ظاهر في إرادة إمام الأصل عليه‌السلام ، وفيه أن الإطلاق مساق لبيان أولوية الثلاثة من غيرهم لا بعضهم مع بعض ، على أن بين الإطلاقات عموما من وجه ، فيرجح عموم ذي الإمارة ببعض ما سمعت وخبر الدعائم الظاهر في إرادة غير إمام الأصل ، خصوصا مع ملاحظة تنكير الأمير فيه ، بل لعل ظاهر لفظ الأمير أو صريحه ذلك ، ضرورة إرادة من أمره إمام الأصل عليه‌السلام لا هو بمعنى أن الله أمره على عباده ، لا أقل من إرادة الأعم منهما منه.

ثم إن الظاهر كون أولوية هذه الثلاثة سياسة أدبية لا فضيلة ذاتية ، فلو أذنوا حينئذ لغيرهم جاز وانتفت الكراهة المستفادة من خبر أبي عبيدة وغيره كما صرح به الشهيدان وعن غيرهما ، بل عن المبسوط والسرائر التصريح بالجواز أيضا ، بل في المنتهى التصريح مع ذلك بأن الغير حينئذ أولى من غيره نافيا معرفة الخلاف فيه ، لكن في الذخيرة تبعا للمدارك أنه اجتهاد في مقابلة النص ، وفيه أنه لا تعرض في النص للاذن وجودا ولا عدما ، ودعوى شمول إطلاقه لصورة الإذن أيضا يدفعها عدم تبادرها منه أو تبادر غيرها ، خصوصا مع ملاحظة نظائرها من الأولويات المعلوم جواز الاذن فيها في أحكام الأموات وغيرهم ، بل لو قيل باستحباب إذنهم للأكمل منهم مع حضوره معهم كان وجها كما اعترف به في الروض ، ولأن الأدلة إنما دلت على أنه الأفضل لمن عداهم أن لا يتقدمهم ، مراعاة لحقهم وتوقيرا لهم ، وذلك لا ينافي ـ اقتصارا في مخالفة عموم أدلة الأفضل على المتيقن ، وهو عدم الإذن ـ أفضلية لمن كان أفقه وأفضل‌

٣٥٠

وأتقى ، عملا بالأخبار (١) الدالة على الأمر بتقديم صاحب هذه الصفات ، فيكون ذلك حينئذ جمعا بين مراعاة حقهم بإرجاع أمر الإمامة إليهم وبين ما دل على استحباب تقديم الأفضل والأكمل كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : « من أم قوما وفيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى السفال إلى يوم القيامة » وغيره.

لكن الإنصاف أن تحصيل ذلك من الأدلة على وجه معتبر لا يخلو من سماحة ومن هنا تردد في ظاهر المسالك والكفاية في أن الأفضل لهم الاذن أو المباشرة تبعا لما في الذكرى حيث قال : « لم أقف على نص يظهر منه أن الأفضل لهم الإذن للأكمل أو المباشرة للإمامة » بل قال : « إن ظاهر الأدلة يدل على أن الأفضل لهم المباشرة » ثم قال : « وعلى هذا فلو أذنوا فالأفضل للمأذون رد الاذن ليستقر الحق على أصله » ونحوه في المدارك والذخيرة وإن كان الذي يقوى في النظر في الجملة الأول.

ولا تسقط هذه الأولوية بعدم حضور صاحبها في أول الوقت ما لم يخف فوات الفضيلة ، لإطلاق الأدلة ، ودعوى أن الوارد في الأخيرين النهي عن التقدم الذي لا يصدق مع عدم الحضور بل والأحقية الواردة في الأول يدفعها ـ بعد وضوح منع آخرها ـ إرادة الصلاة في محله وجماعته من التقدم عليه لا صيرورته مأموما ، وإلا فهو قد لا يأتم به ، ومن هنا صرح في التذكرة والذكرى بانتظار الراتب في المسجد ومراجعته ليحضر أو يستنيب إلى أن يتضيق وقت الفضيلة ، فيسقط اعتباره حينئذ كما في البيان والروض أيضا وعن غيرهما ، لكن في الأخير نحو ما في الذكرى من أنه لو بعد منزله وخافوا فوت وقت الفضيلة قدموا من يختارونه ، ولو حضر بعد صلاتهم استحب إعادتها معه ، لما فيه من اتفاق القلوب مع تحصيل الاجتماع مرتين ، ولا بأس به بناء على استحباب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ و ٢٨ ـ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

٣٥١

إعادة الفريضة جماعة وإن كان قد صليت كذلك.

كما أنه لا بأس بتنزيل ما عساه يظهر من خبري الحناط (١) ومعاوية بن شريح (٢) من عدم انتظار الراتب على الضيق المزبور ، وإن كان المحكي عن ظاهر المنتهى العمل بهما حيث حكم بعدم الانتظار ، بل نسبه إلى الشافعي ، قال في أولهما : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام إذا قال المؤذن : قد قامت الصلاة يقوم القوم على أرجلهم أو يجلسون حتى يجي‌ء إمامهم ، قال : لا بأس يقومون على أرجلهم ، فإن جاء إمامهم وإلا فليؤخذ بيد رجل من القوم فيقدم » وقال في الثاني : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام قال : إذا قال المؤذن : قد قامت الصلاة ينبغي لمن في المسجد أن يقوموا على أرجلهم ويقدموا بعضهم ، قلت : فان كان الامام هو المؤذن ، قال : وإن كان فلا ينتظرونه ويقدموا بعضهم » مع ما في الحدائق من إشكال هذين الخبرين بأن الأذان والإقامة في الجماعة من وظائف صلاة الامام ومتعلقاتها ، ولا تعلق لصلاة المأمومين بشي‌ء منهما فما لم يكن الامام حاضرا فلمن يؤذن هذا المؤذن ويقيم المقيم ، بل ذيل الخبر الثاني غير مستقيم أصلا ، إذ الفرض فيه أن الامام أذن وأقام فأين ذهب حتى ينتظرونه ولا ينتظرونه ، وإن كان قد يدفع ذلك عنهما بمنع عدم مدخلية الأذان والإقامة في صلاة المأمومين أصلا ، فإذا فرض عدم مجي‌ء الإمام في وقته أذنوا وأقاموا وقدموا بعضهم وصلوا ، على أنه يمكن تقديمهم الامام منهم قبل الأذان والإقامة ، فيكونان له ، ولا ينافيه ذيل الخبر الأول عند التأمل ولو بنوع من التكلف ، وبأن المراد من‌ قوله : « فان كان الامام هو المؤذن » إلى آخره اعتياد فعل ذلك الإمام للأذان لا أنه كان قد أذن في خصوص تلك الصلاة كي يرد ما سمعت ، فتأمل جيدا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

٣٥٢

والمراد بصاحب المنزل الساكن فيه وإن لم يكن مالكا لعينه ، بل يكفي فيه ملك المنفعة كما صرح به غير واحد ، بل يكفي فيه استعارتها ، بل لا يبعد تقديمهما على مالك العين خصوصا الأول ، نعم قد يرجح عليهما لو كان مع ذلك جالسا معهما فيه ، لترجيحه عليهما بزيادة ملك العين ، والله أعلم.

والهاشمي أولى من غيره بالتقدم إذا كان بشرائط الإمامة كما في النافع والإرشاد والتحرير والقواعد وظاهر المنتهى وعن المبسوط والنهاية ، بل هو المشهور بين المتأخرين كما في الروض والمسالك ، بل في المختلف أن المشهور تقديم الهاشمي بعد أن حكى عن ابن زهرة جعله مرتبة بين الأفقه المتأخر عن الأقرأ وبين الأسن ، وإن كان قد يناقش بأنه لم يذكره كثير كما اعترف به في الذخيرة ، بل في الروض « لم يذكره أكثر المتقدمين » بل في البيان « لم يذكره الأكثر » كما أنه قد يناقشون جميعا في أصل الحكم المزبور ـ وإن كان المراد منه تقديمه على غير الثلاثة المتقدمة كما عساه ظاهر المتن وغيره وصريح بعضهم ، بل في المسالك القطع به ـ بأنه لا دليل عليه ، بل ظاهر ما دل على تقديم الأقرأ والأسن والأقدم هجرة والأعلم خلافه ، وقد اعترف في الذكرى وغيرها بأنه لم نعثر على تقديم الهاشمي في الأخبار إلا ما روي مرسلا أو مسندا بطريق غير معلوم من‌ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « قدموا قريشا ولا تقدموها » وهو على تقدير تسليمه غير صريح في المدعى ، نعم هو مشهور في صلاة الجنازة ، بل لعله لا خلاف فيه بينهم حتى أن المحكي عن المفيد منهم إيجابه هناك ، بل في الحدائق فيه نص الفقه الرضوي (٢) وفيه إكرام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومراعاة لتقدم آبائه.

__________________

(١) كنز العمال ج ٦ ص ٩٨.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب صلاة الجنازة ـ الحديث ١ من كتاب الطهارة.

٣٥٣

لكن من المعلوم أن ذلك كله لا يثبت الحكم المزبور وإن كان هو استحبابيا يتسامح فيه إلا أنه معارض باحتمال استحباب تقديم الأفقه والأسن والأقدم هجرة ونحوهم عليه ، إذ هو أيضا حكم استحبابي يتسامح فيه ، مع أن إطلاق دليل تقديمه قاض به ، نعم يمكن القول باستحبابه للتسامح إذا لم يوجد من يحتمل رجحان تقديمه عليه من أهل الصفات الآتية لا مع وجودهم ، لعدم الدليل ، بل ظاهر الدليل خلافه ، وخلاف ما في الدروس والموجز وعن الغنية وغيرها أيضا من جعل الهاشمي بعد الأفقه مرتبة ، نحو ما في الوسيلة وعن موضع من المبسوط لكن مع تبديله بالأشرف فيهما ، بل وعن التقي ذلك أيضا لكن عبر بالقرشي بدل الهاشمي ، لعدم الدليل أيضا.

فالأولى الاقتصار في رجحان تقديمه على غير الهاشمي الغاري عن الصفات المستفاد رجحانها من النصوص ، أو الجامع مع فرض زيادة الهاشمي عليه بالهاشمية ، بل يمكن تنزيل إطلاق المتن وغيره على إرادة رجحان الهاشمي على غيره من حيث الهاشمية وعدمها لا أن المراد رجحانه على غيره وإن كان جامعا للصفات المنصوصة ، فتأمل جيدا.

ثم بناء على ترجيح الهاشمي لنسبه ففي ترجيح المطلبي على غيره نظر ، من اقتصار أكثر الفتاوى على الأول ، ومما‌ روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « نحن وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام » نعم الهاشمي أولى منه قطعا ، وحينئذ في ترجيح أفخاذ بني هاشم بسبب شرف الآباء كالطالبي والعباسي والحارثي واللهبي والعلوي والحسني والحسيني والصادقي والموسوي والرضوي والهادي بالنسبة إلى غيرهم وبعضهم مع بعض احتمال بين ، إذ الترجيح دائر مع شرف النسب ، فيوجد حيث يوجد بل قد ينسحب احتمال الترجيح بسبب الآباء الراجحين بعلم أو بتقوى أو صلاح ، ولعل من عبر من الأصحاب بالأشرف نظر إلى ذلك ، كما يومي اليه أيضا ما قيل من تقديم أولاد المهاجرين على غيرهم لشرف آبائهم ، بل قد يقال أيضا بترجيح العربي‌

٣٥٤

على العجمي ، والقرشي من العربي على غيره للشرفية أيضا ، والأمر سهل.

وإذا تشاح الأئمة في الإمامة بأن أراد كل منهم التقدم على وجه لا ينافي العدالة ولا الإخلاص في العبادة بل كان رغبة في رجحانها على المأمومية ، أو لأن للإمام وقفا أو وصية تكفيه عن طلب الدنيا بالتجارة ونحوها فان ذلك أمر مطلوب مؤكد للعبادة غير مناف لها كما عن القطيفي النص عليه ، فلا منافاة حينئذ بين التشاح وبين بقاء الإخلاص ، بل ربما قيل : إنه يحقق الإخلاص ، إذ تركه مع كونه أرجح لا يكون إلا لعلة فمن قدمه المأمومون فهو أولى كما في النافع والقواعد والتحرير والدروس والبيان والموجز والروض وإن كان مفضولا كما صرح به في الأخير ، وهو قضية إطلاق الباقين ، لما في ذلك من اجتماع القلوب وحصول الإقبال المطلوب ، وال. يرجع التفصيل في الذكرى والمدارك وغيرهما ، بل في ظاهر الذخيرة نسبته إلى الأصحاب بأن المأمومين إما أن يكرهوا إمامة واحد بأسرهم ، وإما أن يختاروا إمامة واحد بأسرهم أو يختلفون في الاجتهاد ، فان كرهه جميعهم لم يؤم بهم ، وإن اختار الجميع واحدا فهو أولى ، وإن اختلفوا طلب الترجيح بالقراءة والفقه وغيرهما ، لكن قد يناقشون بقصور التعليل المزبور عن تقييد النص الآمر بتقديم ذي الصفات الآتية ، ومن هنا مال بعض متأخري المتأخرين إلى عدم مراعاة الأمر المزبور تبعا لإطلاق كثير من الأصحاب اعتبار الصفات الآتية من دون ذكر اتفاق المأمومين ، ومنه يظهر أولوية المناقشة فيما ذكره في التذكرة وكشف الالتباس وعن نهاية الأحكام من الترجيح باتفاق أكثر المأمومين مع الاختلاف ، إذ قد عرفت أنه لا دليل على الترجيح باتفاق الجميع فضلا عن الأكثر الذي قضية إطلاق الأصحاب عدا من عرفت والنصوص عدم الالتفات اليه ، مع أن مختار الأقل ربما كان أرضى عند الله ، بل لعله الغالب ، فالمناسب طرح الجميع والرجوع إلى المرجحات الشرعية.

٣٥٥

وقد تدفع إما بتنزيل كلمات الأصحاب وإن بعد على إرادة تقديم من اتفق عليه المأمومون من فاقدي الصفات أو الجامعين لها ، وإما بإمكان استفادتهم له مما دل (١) على كراهة إمامة من يكرهه المأمومون كما ستسمعها فيما يأتي ، ومما عساه يشعر به‌ خبر الحسين بن زيد (٢) عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام في حديث المناهي قال : « ونهى أن يؤم الرجل قوما إلا بإذنهم ، وقال : من أم قوما بإذنهم وهم به رضوان فاقتصدهم في حضوره وأحسن صلاته بقيامه وقراءته وركوعه وسجوده وقعوده فله مثل أجر القوم ، ولا ينقص من أجورهم شي‌ء » والمروي (٣) عن مستطرفات السرائر نقلا من كتاب أبي عبد الله السياري ، قال : « قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام : إن القوم من مواليك يجتمعون فتحضر الصلاة فيؤذن بعضهم ويتقدم أحدهم فيصلي بهم فقال : إن كانت قلوبهم كلها واحدة فلا بأس ، قال : ومن لهم بمعرفة ذلك؟ قال : فدعوا الإمامة لأهلها » إذ الظاهر إرادة اتحاد القلوب في الرضاء بالإمام كما اعترف به في الوسائل ، وخبر زكريا صاحب السابري (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ثلاثة في الجنة على المسك الأذفر : مؤذن أذن احتسابا ، وإمام أم قوما وهم به راضون ، ومملوك يطيع الله ويطيع مواليه ».

نعم قد يقال : إن المعتبر من اتفاق المأمومين إذا كان عن نظر ومعرفة واطمئنان في الشخص ونحو ذلك ، لا إذا كان لأغراض دنيوية وشهرة سوادية ونحوهما مما لا يحتاج إلى بيان لمن له أدنى مراقبة وانتقاد في أفعال العباد ، خصوصا السواد منهم ، ومن غلبت عليهم شهواتهم حتى ألبست لهم الباطل زي الحق احتيالا منها بعقولهم ، ومخافة هيجان أحزانهم ولم يعلموا أنها ينتقدها عليهم الخبير البصير الحكيم اللطيف الذي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٥.

٣٥٦

يعلم السر وأخفى.

وكيف كان فان اختلفوا أي المأمومون تساووا أو زاد بعضهم على الآخر ـ لما عرفت من عدم مدخلية الكثرة في النصوص وإن رجح بها في التذكرة لبعض الوجوه ـ فزع إلى ملاحظة المرجحات المنصوصة ، لا أنهم يقتسمون الأئمة فيصلي كل خلف من يختاره ، لما فيه من الاختلاف المثير للإحن ، ولأنه خلاف مقتضى النصوص فيقدم الأقرأ حينئذ على غيره على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، بل في الرياض نسبته إلى اتفاق الأصحاب ، كما عن الغنية وظاهر المنتهى الإجماع عليه ، بل لا أجد فيه خلافا معتدا به بيننا من زمن الصدوقين إلى زمن الكاشاني وما قاربه وتأخر عنه فقدموا الأفقه عليه ناسبا بعضهم ذلك إلى المختلف ، لكن التدبر في عباراته يشرف المتدبر على القطع بفساد هذه النسبة وإن كان فيها ما يوهمها ، نعم في الذكرى نقل عن بعض الأصحاب تقديم الأفقه ، ولعله أراد ما في التذكرة حيث نسب فيها ذلك إلى بعض علمائنا ، إلا أنا كالشهيد لم نتحققه ، بل ولم نتحقق ما في الذخيرة من نسبته أيضا إلى غير واحد من المتأخرين ، ولعله أراد بعض من لم يصنف منهم أو الأردبيلي وتلميذه سيد المدارك ، فإنهما وإن كانا غير مصرحين به لكنهما مالا اليه ، وكذا لم نتحقق ما فيهما من نسبة التخيير في تقديم أحدهما إلى بعض من الأصحاب عدا ما عساه يظهر من المحكي من عبارة المبسوط ، بل كاد يكون صريحها ، وحكاه في الذكرى عن الواسطة أيضا ، وإن قالا فيهما أيضا بتقديم القراءة على الفقه ، إلا أن الظاهر إرادتهما مع التساوي في الفقه كما هو صريح المبسوط أو كصريحه ، وعلى كل حال فلم نجد قائلا صريحا قبل جماعة من متأخري المتأخرين برجحان تقديم الأفقه عليه وإن كان ربما استشعر ذلك من عبارة الصدوق ، إلا أن ملاحظة المحكي من كلامه في المقنع وما كتبه اليه والده في رسالته وعبارة الفقه الرضوي التي في الغالب تعبيرهما بها يرشد إلى حصول سقط في‌

٣٥٧

كلامه ، فلاحظ وتأمل.

كما أني لا أجد فيه خلافا أيضا في النصوص المتعرضة لذكر هذه الصفات وإن اختلفت في غيره ، إلا أنها اتفقت على تقديمه ، ففي‌ خبر أبي عبيدة (١) المتقدم سابقا عن الصادق عن النبي ( عليهما الصلاة والسلام ) « يتقدم القوم أقرأهم للقرآن ، فان كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة ، فان كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا ، فان كانوا في السن سواء فليؤمهم أعلمهم بالسنة وأفقههم في الدين » ، وفي المحكي عن‌ فقه الرضا عليه‌السلام (٢) « إن أولى الناس بالتقدم في الجماعة أقرأهم للقرآن ، فان كانوا في القراءة سواء فأفقههم ، وإن كانوا في الفقه سواء فأقدمهم هجرة ، وإن كانوا في الهجرة سواء فأسنهم ، فإن كانوا في السن سواء فأصبحهم وجها » وعن دعائم الإسلام (٣) عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام قال : « يؤم القوم أقدمهم هجرة ، فان استوى فأقرأهم ، فان استووا فأفقههم ، فإن استووا فأكبرهم سنا » مؤيدا ذلك كله بمدخلية القراءة في الصلاة دون الفقه ، إذ الظاهر إرادة معرفة غير أحكام الصلاة أو ما لا يشتد الحاجة إليه من أحكامها منه ، لا ما يشمل معرفة غالب أفعالها ، وإلا لم يكن القاري صالحا للإمامة فضلا عن ترجيحه عليه.

لكن قد يشكل إطلاقهم ذلك ـ بعد الإغضاء عن أسانيد هذه الأخبار ، وموافقتها لفتوى ابن سيرين والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر ، وعدم حجية الثاني منها عندنا ، وتقديم الثالث منها الأقدم هجرة على الأقرأ مما هو مخالف للنصوص والفتاوى ، كاشتمال الأول على ما يخالفهما أيضا من تأخير الفقه عن سائر الصفات ، واحتمال تنزيلها على زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما كان أمر الفقه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٤.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

٣٥٨

فيه قليلا سهلا وغير ذلك ـ بأن الأفقه أعرف وأعلم بأركان الصلاة وأحكامها ، ولذا استحب أن يكون الفضلاء في الصف الأول كي يقوموا الامام وينبهوه ، وبأن المحتاج اليه من القراءة محصور ، والفرض معرفة الفقيه به ، بخلاف الفقه فإنه غير محصور ، إذ قد يعرض في الصلاة ما لا يكون قد استعد له الأقرأ قبل ذلك ، وبما دل عليه العقل والنقل كتابا وسنة من عظم مراتب العلماء (١) وعدم استواء من يعلم مع من لا يعلم (٢) وأنهم كأنبياء بني إسرائيل (٣) وأنه ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (٤) وإن ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى ) (٥) وإن « من أم قوما وفيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى السفال إلى يوم القيامة » (٦) وإن « إمام القوم وافدهم فقدموا أفضلكم » (٧) وإن « من يصلي خلف عالم فكأنما صلى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٨) وإن « أئمتكم وفدكم وقادتكم إلى الله ، فانظروا من توفدون ومن تقتدون به في دينكم وصلاتكم » (٩) إلى غير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه حتى ورد (١٠) في العبد والأعمى فضلا عن غيرهما أنهما يؤمان الناس إذا كانا أفقه خصوصا بالنسبة للمجتهدين الذين جعلوهم عليهم‌السلام حكاما على العباد وأنهم بمنزلتهم بل يمكن دعوى دخولهم تحت الأمراء والنواب ، وفي الخبر « نحن حجج الله على العلماء وهم حجج الله على الناس » وفي آخر عن الرضا عليه‌السلام أنه قدم‌

__________________

(١) سورة المجادلة ـ الآية ١٢.

(٢) سورة الزمر ـ الآية ١٢.

(٣) البحار ج ٢ ص ٢٢ المطبوعة عام ١٣٧٦ الباب ٨ من كتاب العلم ـ الحديث ٦٧.

(٤) سورة الفاطر ـ الآية ٢٥.

(٥) سورة يونس (ع) ـ الآية ٣٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٥.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٤ والمستدرك الباب ٢٣ منها ـ الحديث ٤.

(١٠) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ و ٢١ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

٣٥٩

العالم على الهاشمي قائلا له : « إنكم سادات الناس والعلماء ساداتكم » وخصوصا إذا جمعوا مع ذلك باقي الصفات الأخر والورع والتقوى والرياضات النفسانية حتى تشرحت أذهانهم وصاروا يعرفون من الله ما لا يعرفه غيرهم.

مضافا إلى ما في إمامة المفضول بالفاضل من الاستنكار عقلا وعادة حتى حكى في الذكرى عن ابن أبي عقيل منع ذلك ومنع إمامة الجاهل بالعالم ، وقال : « إن أراد الكراهية فحسن ، وإن أراد به التحريم أمكن استناده إلى أن ذلك يقبح عقلا ، وهو الذي اعتمد عليه محققوا الأصوليين في الإمامة الكبرى ، ولقوله جل اسمه ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى ، فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) وللخبرين المتقدمين في كلام ابن بابويه » إلى آخره ، وهو ظاهر في أنه هو أيضا محتمل له ، فتأمل.

ومن ذلك كله مال بعض متأخري المتأخرين وجزم به آخر من تقديم الأفقه عليه حاملين لتلك الأخبار على التقية ، أو على أن المراد بالأقرإ فيها العالم بالأحكام مع القراءة أيضا ، لأنها في زمن الصحابة كانت مستلزمة للفقه ، إذ حكي عن ابن مسعود أنا كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها والمراد منها ، أو على إرادة ذلك الزمان مما كان أمر العلم فيه بسبب وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرهم قليلا وسهلا ، بخلاف أمر القراءة ، بل لعل تفاضلهم في ذلك الزمان إنما كان بها كما وكيفا واستعمالا ، بل كان من مقتضى الحكمة والمصلحة شدة الحث والتأكيد في حفظ القرآن وضبطه وتعلمه وتعليمه ، لأنه مفجر النبوة ، ومن أعظم منن الله على هذه الأمة ، ولعل ذا أقرب من الأولين ، إذ احتمال التقية في مثل المقام ضعيف جدا ، خصوصا مع قول جماعة منهم كالشافعي وغيره بتقديم الأفقه ، كضعف الاحتمال للثاني ، لذكر الأفقه والعالم بأحكام السنة في الأخبار المزبورة بعد ذلك ، ودعوى إرادة العالم‌

٣٦٠