جواهر الكلام - ج ١٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

التوعد بالنار كالبراءة منه ولعنه وكونه كالزاني بأمه مثلا ونحو ذلك مما يعد لعظمته أزيد من التوعد بالنار بعد فرض أنه معصية ، أو ما بقي عظمته في أنفس أهل الشرع وإن لم نعثر على غير النهي عنه.

بل عن الأستاذ المعتبر الشيخ جعفر قدس‌سره أن الكبيرة ما عده أهل الشرع كبيرا عظيما وإن لم يكن كبيرا في نفسه كسرقة ثوب ممن لا يجد غيره مع الحاجة ، والصغيرة ما لم يعدوه كسرقته ممن يجد ، ويلزمه مخالفة كثير مما جاءت به الأخبار المعتبرة أنه كبيرة ، بل بعض ما توعد الله عليه بالنار ، على أنه إن أراد بأهل الشرع عامتهم فهم قد يستعظمون المعلوم أنه صغيرة في الشرع وبالعكس ، وإن أراد العلماء فكلامهم مضطرب في الكبيرة ، اللهم إلا أن يريد أن العلماء والأعوام يستعظمونه مع الغفلة عن بحث الكبائر والصغائر ، لكنه على كل حال هو ضابط غير مضبوط ، فان الذنب قد يستعظم من جهة قلة وقوعه أو ترتب مفاسد أخر عليه ونحوه ، وقد لا يستعظم من جهة تعارفه ونحوه.

فان قلت : إنه وارد عليك أيضا ، قلت : إنا نأخذه بعد فقد ما يدل على عظمه من الكتاب والسنة وغيرهما ، والفرق بيننا وبينه أنه يجعله ضابطا حتى فيما ورد من الأخبار المعتبرة أنه كبيرة عظيمة ، ونحن نأخذه بعد فقد ذلك ، لأن الظاهر من العظمة عندهم وعدم المسامحة فيهم وعدم نسبة التقوى لفاعله وغير ذلك مع عدم ما ينافيها من الأدلة أن يكون ذلك مأخوذا عن صاحب دينهم ، فتأمل.

ويقرب مما ذكره شيخنا ما نقل عن بعضهم أنك إن أردت أن تعرف الفرق بين الصغيرة والكبيرة فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها ، فان نقصت عن أقل مفاسدها فهي من الصغائر ، وإلا فمن الكبائر ، مثلا حبس المحصنة للزنا فيها أعظم مفسدة من القذف مع أنهم لم يعدوه من الكبائر ، وكذا دلالة الكفار‌

٣٢١

على عورات المسلمين ونحو ذلك مما يفضي إلى القتل والسبي والنهب ، فان مفسدته أعظم من مفسدة الفرار من الزحف ، ومنه يخرج الوجه في كلامه « هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع » وكأنه إلى ما ذكرناه أقرب ، لأنه لا يخرجه عن معرفة عظم الذنب ، فتأمل.

وكيف كان فالإصرار من جملة الكبائر ، لوروده في بعض الأخبار (١) وفي مفتاح الكرامة نقل الإجماع عليه ، وعن التحرير « الإجماع على أنه إن داوم على الصغائر أو وقعت منه في أكثر الأحوال ردت شهادته » وعن الذخيرة « لا خلاف في ذلك » والمنقول عن الصحاح والقاموس والنهاية الأثيرية « أن الإصرار الإقامة على الشي‌ء والملازمة والمداومة » وما سمعته عن التحرير من الإكثار إن دخل في الإقامة والملازمة كان إصرارا ، وإلا كان قادحا في الشهادة وإن لم يكن إصرارا لمكان الإجماع لكن لا يمكن أخذه في العدالة بناء على ذلك إلا أن يكون ذلك مما ينافي التقوى أو يكون كبيرة يمكن استفادتها على الوجه الذي ذكرنا ، ولهم أقوال مختلفة في تفسير الإصرار ، والأولى فيه الرجوع إلى العرف العام ، فان لم يكن فالى ما ذكرنا عن أهل اللغة ، والظاهر أنه ليس منه فاعل الصغيرة مع العزم على عدم العود ، بل ولا ما إذا لم يخطر بباله عود وعدمه ، نعم إذا كان عازما على العود لا يبعد أن يكون منه عرفا بل ولغة ، والظاهر أن الإكثار من صغائر شتى لا من نوع واحد لا يعد إصرارا على كل واحد قطعا ، إنما الكلام بالنسبة إلى الجميع ، ولعل إجماع التحرير المتقدم شامل له ، ويأتي إن شاء الله في باب الشهادات تمام البحث في هذه المسائل كلها.

بل صرح غير واحد بعدم الفرق بين المداومة على النوع الواحد من الصغيرة والإكثار منه وبين غيره في صدق الإصرار على الصغيرة المراد بها الجنس ، كما أنه صرح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب جهاد النفس ـ الحديث ٣٣ و ٣٦ من كتاب الجهاد.

٣٢٢

الخراساني في الذخيرة بالاتفاق على وجوب التوبة من الذنب وإن كان صغيرة ، وربما يؤيده ما ذكروه في غسل التوبة من عدم الفرق في ذلك بين كونه عن كفر أو عن فسق أو عن ذنب ولو صغيرة ، ولكن قد بالغ بعض الناس في بطلانه وجزم بأن دعواه الإجماع على ذلك اشتباه واضح ، ولعله لمعلومية تكفيرها باجتناب الكبائر ، ومعلومية عدم قدحها في العدالة ، مع أنه بناء على عدم التوبة عنها يتجه الانقداح ، ضرورة كونه حينئذ مصرا على عدم التوبة ، فلا فرق حينئذ بين الصغيرة والكبيرة بالنسبة إلى ذلك قلت : قد يدفع ذلك كله بالتزام وجوب التوبة عنه ، لعموم الأمر بها عن كل ذنب من حيث كونه خروجا عن الطاعة وفعل قبيح في ذاته ، وتكفيره بمعنى عدم العقاب عليه لا ينافي حسن التوبة عنه من حيث كونه معصية وقبيحا وذنبا وإن لم يترتب عليه عقاب إذ التوبة ليست ( إلا خ ل ) لرفع العقاب خاصة ، وعدم قدح الصغيرة في العدالة من حيث نفس فعلها لا من حيث التقصير في عدم التوبة ، بخلاف الكبيرة ، وكفى بذلك فرقا ، وتظهر الثمرة في حال الغفلة عن التوبة ، فإنه لا معصية فضلا عن الإصرار ، فلا يقدح حينئذ فعل الصغيرة في العدالة بخلافه في الكبيرة ، فإنه قادح وإن غفل عن التوبة عنها ، والله العالم.

وكذا يعتبر في الإمام العقل حال الإمامة ، ضرورة عدم عبادة للمجنون نعم لا بأس بالجنون قبلها كما لو كان أدواريا ، لإطلاق الأدلة السالم عن إطلاق المنع من الائتمام بالمجنون نصا وفتوى بعد ظهوره في إرادة حال الائتمام منه ، خصوصا بعد ملاحظة اعتضاد الإطلاق الأول بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا ، بل لعلها كذلك ، وإن جزم الفاضل في باب الجمعة من تذكرته بالمنع معللا له بالمكان عروضه حالة الصلاة ، وبأنه لا يؤمن من احتلامه حالة الجنون من غير شعور ، فقد‌ روي « أن المجنون‌

٣٢٣

يمني حالة جنونه » ولنقصانه عن هذه المرتبة ، والجميع كما ترى ، خصوصا الثاني لإمكان اندفاعه بعد تسليم اعتباره بالغسل دفعا لمثل هذا الاحتمال كما حكى عنه في النهاية الحكم باستحبابه له لذلك ، بل والثالث أيضا : ضرورة كون المانع النقص في الصلاة لا مثل المرض في نفسه.

وكذا يعتبر في الإمام من غير خلاف أجده فيه بيننا ، بل عليه الإجماع منقولا إن لم يكن محصلا طهارة المولد فلا يجوز الائتمام حينئذ بولد الزنا ، لقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر ابن نباتة (١) : « ستة لا ينبغي أن يؤموا الناس ـ وعد منهم ـ ولد الزنا » والباقر عليه‌السلام في صحيح زرارة (٢) : « لا يصلين أحدكم خلف المجنون وولد الزنا » والصادق عليه‌السلام في صحيح أبي بصير أي ليث المرادي (٣) « خمسة لا يؤموا الناس ـ وعد منهم ـ المجنون وولد الزنا » لكنها كما ترى لا دلالة في شي‌ء منها على ما عبر به الأصحاب من طهارة المولد ، بل أقصاها المنع عن ابن الزنا ، ولعله لأن كل من لم يعلم أنه ابن زنا محكوم عندهم عليه بطهارة مولده شرعا حتى من كان ولد على غير الإسلام ثم استبصر ، أو التقط في دار الحرب أو الإسلام ممن لا يعرف له أب وإن كان هو لا يخلو من إشكال ، فالأولى التعبير بأن لا يكون ابن زنا بدله كما هو مضمون الأخبار ، فيكفي حينئذ في صحة الائتمام عدم العلم بكونه ابن زنا لإطلاق الأدلة أو عمومها ، بناء على أن خروج ابن الزنا منها لا يصيرها مجملة بالنسبة إلى مجهول الحال ، بل هو مندرج فيها لصدق العنوان ككونه ممن يوثق بدينه ونحوه عليه مع عدم الجزم بصدق عنوان المخصص عليه ، واحتماله غير كاف في الخروج عن الدليل الظاهر في التناول ، وإلا لكان احتمال التخصيص والتقييد كافيا.

ودعوى أنه بإخراج ولد الزنا من ذلك العام صار المراد به نقيض الخاص ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

٣٢٤

وهو غير ابن الزنا ـ فحيث لا يعلم كونه ابن زنا أو غيره لم يحكم بأحدهما لإرادة الواقع من كل منهما ، إذ العلم غير داخل في مفاهيم الألفاظ ـ ممكنة المنع ، كما هو أحد الوجهين في المسألة أو أظهرهما ، خصوصا في المقام الذي ظاهر الأصحاب الاتفاق فيه على جواز الائتمام بمن لم يثبت أنه ابن زنا ، بل قد عرفت أن ظاهرهم الحكم عليه بطهارة مولده وإن كان هو لا يخلو من إشكال كما سمعت.

نعم لا يبعد أن يكون من ابن الزنا من ثبت أنه تكون على غير نكاح والديه ، فولد اليهوديين على غير نكاحهما ابن زنا وإن استبصر ، إلا أن يدعى شمول‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « إن الإسلام يجب ما قبله » لمثله ، وإن كان فيه تأمل أو منع.

وأما ولد الشبهة فلا ريب في طهارة مولده شرعا كالمولود على الفراش وإن تناولته الألسن ، إلا أنه لم يثبت شرعا كما هو واضح.

وكذا يعتبر البلوغ في الإمام للبالغين في الفرائض على الأظهر الأشهر ، بل عليه عامة من تأخر ، بل في الرياض عن كتاب الصوم من المنتهى نفي الخلاف عنه ، للأصل وظهور انصراف الإطلاقات للمكلفين ، والخبر (٢) المنجبر ضعفه بالعمل عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « إن عليا عليه‌السلام كان يقول : لا بأس أن يؤذن الغلام قبل أن يحتلم ، ولا يؤم حتى يحتلم ، فإن أم جازت صلاته وفسدت صلاة من يصلي خلفه » ولفحوى اعتبار العدالة المتوقف تحققها على التكليف ، مؤيدا ذلك كله بعدم جواز الائتمام به في النافلة ، خصوصا للمفترض ، وبعدم ائتمانه بسبب عدم تكليفه على إحراز ما يعتبر في صحة الصلاة ، بل ينبغي القطع به بناء على التمرينية ، خلافا للشيخ في الخلاف وعن المبسوط فجوز إمامة المراهق المميز العاقل مدعيا عليه الإجماع‌

__________________

(١) الخصائص الكبرى ج ١ ص ٢٤٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٧.

٣٢٥

في أولهما ، للموثق (١) عن الصادق عليه‌السلام « تجوز صدقة الغلام وعتقه ويؤم الناس إذا كان له عشر سنين » وخبر طلحة بن زيد (٢) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : « لا بأس أن يؤذن الغلام الذي لم يحتلم وأن يؤم » وخبر غياث بن إبراهيم (٣) عن الصادق عليه‌السلام « لا بأس بالغلام الذي لم يبلغ الحلم أن يؤم القوم وأن يؤذن ».

وفيه أن إجماعه موهون بمصير غيره من الأصحاب إلى خلافه عدا ما يحكى عن المرتضى رحمه‌الله في بعض كتبه ، بل سمعت نفي الخلاف فيه عن المنتهى المشعر بدعوى الإجماع عليه ، بل وبمصيره نفسه إلى خلافه في تهذيبه وعن نهايته واقتصاده ، وأما أخباره فمع ضعف سند بعضها ، ولا جابر ـ بل ودلالته ، لأعمية نفي الاحتلام من البلوغ ، وبلوغ العشر من عدمه ، وخلوها عن قيود الخصم ، وإعراض أكثر الأصحاب عنها في هذا الباب وفي سائر الأبواب ـ قاصرة عن معارضة ما عرفت من وجوه ، هذا.

ولا فرق في إطلاق الأدلة منعا وجوازا بين كونه سلطانا متخلفا أو غيره ، خلافا للإسكافي ففرق ، فقال في الثاني بالأول ، وفي الأول بالثاني ، وهو لا يخلو من وجه ، ضرورة إرادته سلطان حق ، وهو ليس إلا الإمام عليه‌السلام ، ومع فرض كونه دون البلوغ يتجه ما ذكره ، وإلا سقط وجوب الجمعة على الناس ، والأمر سهل لقلة الثمرة في الفرض المزبور ، إذ هو حينئذ المرجع في الحكم ، ولعل تكليفه حينئذ أمر آخر ، وهو أعرف منا به ، هذا.

ولكن المحكي عن ابن الجنيد في الذكرى غير ذلك ، حيث قال : وقال ابن الجنيد : غير البالغ إذا كان سلطانا مستخلفا للإمام الأكبر كالولي لعهد المسلمين يكون إماما ، وليس لأحد أن يتقدمه ، لأنه أعلى ذوي السلطان بعد الإمام الأكبر ، وهو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

٣٢٦

صريح في إرادة غير ما ذكرنا ، وعلى كل حال فلا ثمرة يعتد بها ، وكذا لا فرق في إطلاقها بين إمامته بالبالغين في الفرائض والنوافل أو بغيرهم معه ، خلافا للدروس والذكرى ففرقا بين الأول فالأول ، وغيره فالثاني ، ولعله لتساوي الصلاتين حينئذ نفلا بخلاف الثاني (١) وهو لا يخلو من وجه بالنسبة إلى ائتمام غير البالغين به ، لحصول الظن الفوي من استقراء الأدلة بمشروعية سائر عبادات البالغين لغير البالغين ، ومنها ائتمام بعضهم ببعض كالبالغين ، فتأمل جيدا.

وكذا يعتبر في الامام أن لا يكون قاعدا بقائم على المشهور بين أصحابنا ، بل لم ينقل فيه خلافا من كانت عادته ذلك ، بل في الخلاف والتذكرة وكشف الالتباس والمفاتيح وظاهر المنتهى وعن الغنية والسرائر وظاهر إرشاد الجعفرية الإجماع عليه ، للأصل ، وتبادر غيره من الإطلاقات والأخبار المرسلة في الخلاف ، وإمكان دعوى استفادة اعتبار عدم نقصان صلاة الإمام نفسها عن صلاة المأموم من استقراء الأدلة ، والنبوي (٢) المروي بين العامة والخاصة أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن صلى بهم جالسا في مرضه : « لا يؤمن أحد بعدي جالسا » بل قيل : وخبر السكوني (٣) عن الصادق عن أبيه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام ، ومحمد بن مسلم عن الشعبي (٤) عن علي عليه‌السلام أيضا « لا يؤمن المقيد المطلقين » وزاد في أولهما « ولا يؤم صاحب الفالج الأصحاء ، ولا صاحب التيمم المتوضين ».

لكن قد يوهم ترك بعض القدماء التعرض لاعتباره في صفات الامام مع التعرض‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصواب « الأول ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣ لكن روى عن صاعد بن مسلم عن الشعبي وهو الصحيح كما في التهذيب ج ٣ ص ٢٦٩ الرقم ٧٧٣.

٣٢٧

لغيره الخلاف فيه ، بل في صريح الوسيلة وعن الواسطة التصريح بالكراهة ، كما عن نجيب الدين في الجامع إطلاق كراهة إمامة المقيد ، وفي الوسائل « باب كراهة إمامة الجالس القيام ، وجواز العكس » وعن المبسوط إطلاق جواز ائتمام المكتسي بالعاري ولعله لإطلاق الأدلة مع ضعف الخبرين عن إفادة التحريم ، بل الثاني منهما مع عدم صراحته في المطلوب مشعر بالكراهية ، وهو جيد لو لم يكن الخبران معتضدين ومنجبرين بما عرفت من الإجماع المحكي إن لم يكن محصلا ، بل في الحدائق « من غفلات صاحب الوسائل تفرده بالقول بالكراهة مع إجماع الأصحاب على التحريم ، وصراحة الخبر فيه بلا معارض ».

قلت : مضافا إلى ما عرفت من إمكان دعوى تبادر غيره من الإطلاقات ، وإمكان استفادة اعتبار عدم النقصان من الاستقراء المزبور ، ولذا قال في المدارك بل في الذخيرة نسبته إلى الشهرة بين الأصحاب ، بل ظاهر الحدائق والرياض نسبته إليهم.

وكذا الكلام في جميع المراتب لا يؤم الناقص الكامل ، فلا يجوز اقتداء الجالس بالمضطجع حينئذ وهكذا ، وإن كان قد يناقش في استفادة الكلية المزبورة من مثل الخبرين السابقين وما تسمعه في إمامة الأمي والملحن وغيرهما على وجه معتبر يعارض إطلاق الأدلة ، خصوصا بعد ما تسمعه من جواز إمامة (١) المتوضين بالمتيممين وغيرهم من ذوي التكاليف الاضطرارية كما اعترف به في الحدائق ، بل جزم بعدم اعتبار الكلية المزبورة ، وجعل المدار على خصوص ما ورد من الأدلة في الجزئيات الخاصة من غير ترق منها إلى غيرها ، وعليه بنى جواز ائتمام المكتسي العاجز عن الركوع والسجود والقيام بالعاري ، لاندراجه تحت ما دل على إمامة الجالس بالجالس ، قال : ولا يضر‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصواب « ائتمام ».

٣٢٨

هنا نقص صلاة الإمام من حيث كونه عاريا والمأموم مكتسي ، لما عرفته من عدم الدليل عليه ، معرضا بذلك لسيد المدارك حيث حكى فيها عن التذكرة جواز اقتداء المكتسي العاجز بالعاري ، لمساواته له في الأفعال ، ثم قال : وهو يتم إذا قلنا إن المانع من الاقتداء بالعاري عجزه عن الأركان ، وأما إذا علل بنقصه من حيث الستر فلا ، وهو أي تعريضه به في محله ، إذ لو سلمنا الكلية المزبورة فإنما هي في أفعال الصلاة كما يومي اليه تعليل التذكرة لا في مقدماتها الخارجة ، ضرورة جواز الائتمام بالمتيمم ومن تعذر عليه إزالة النجاسة عن ثوبه أو بدنه وذي الجبائر وغير ذلك ، بل والمسلوس والمبطون كما في الموجز وكشف الالتباس ، لإطلاق الأدلة من غير معارض ، ولذا نص في الخلاف على جواز ائتمام الطاهر بالمستحاضة ، بل أطلق جواز ائتمام المكتسي بالعريان ، وما في الذكرى وكذا المنتهى ـ من اعتبار القدرة على الاستقبال ، فلو عجز عنه لم يؤم القادر عليه ، ويجوز أن يؤم مثله ـ لا يخلو من نظر ، إنما البحث إن كان ففي استفادة الكلية المزبورة بالنسبة للأفعال أو الأركان منها ، فان ثبت إجماع عليها كما هو قضية إرسالهم لها إرسال المسلمات أو شهرة معتد بها يمكن دلالة تلك الأخبار بسببها بحيث تحكم على إطلاق الأدلة فذاك ، وإلا كان للبحث فيها مجال ، بل قد يومي نص كثير من الأصحاب خصوصا المتقدمين على خصوص بعض أفرادها الوارد في الأدلة بل القليل منها من غير تعرض لها إلى عدم ثبوتها عندهم ، إذ من الواضح أولويتها بالذكر من بعض جزئياتها المتفرعة عليها.

كما أنه يومي إلى ذلك أيضا بعض الأخبار (١) السابقة في جماعة العراة المتضمنة إيماء الامام وركوع المأمومين وسجودهم ، وقد عمل بها بعض الأصحاب كما سمعت ، وفي الذخيرة في جواز إمامة المفتقر إلى الاعتماد بمن لا يفتقر اليه قولان ، ثم إنه بناء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب لباس المصلى ـ الحديث ٢.

٣٢٩

عليها فهل يجوز الائتمام إلى زمان حصول النقصان فينوي الانفراد حاله حينئذ ، أو أنه لا يجوز ذلك ابتداء ، لصدق وصف النقصان في الامام وإن كان هو في أثناء الصلاة ولظهور إرادتهم نقصان مرتبته بذلك عن منصب الإمامة لا أنه من جهة الاختلاف في الأفعال التي لا مدخلية للإمام فيها بالنسبة للمأموم عدا القراءة منها لتحمله إياها عنه ، فلا يجوز حينئذ ائتمام الكامل ابتداء بمن فرضه الصلاة قائما مؤميا للركوع والسجود ، ولا المكتسي العاجز عن القيام خاصة دون الركوع والسجود بالعاري؟ وجهان ، قد يشعر بأولهما بعض كلماتهم وتعليلاتهم الآتية في الأمي وغيره ، والتحقيق اتباع ظاهر الدليل في كل مقام ، ولعله يقتضي غالبا الثاني.

نعم ظاهر المتن وغيره كصريح جماعة ـ بل لا أجد فيه خلافا صريحا ، بل في التذكرة والروض وعن نهاية الأحكام الإجماع عليه ـ جواز إمامة القاعد بمثله ، لإطلاق الأدلة السالم عن المعارض عدا النبوي المتقدم المحمول على إرادة لا يؤمن أحد بعدي القائمين جالسا بقرينة ما عرفت ، وما ورد في كيفية جماعة العراة مما تقدم سابقا وغير ذلك.

بل وكذا يجوز ائتمام كل مساو بمساويه نقصا أو كما لا ، والناقص بالكامل كالقاعد بالقائم بلا خلاف أجده فيه أيضا ، لإطلاق الأدلة ، وخبر أبي البختري (١) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام « المريض القاعد عن يمين المصلي جماعة » أما إذا كانا ناقصين واختلفت جهة النقص فيحتمل مراعاة الأعظم من أفعال الصلاة ، فيأتم حينئذ فاقده بفاقد الأهون ، ويحتمل جواز الائتمام مطلقا ، لاشتراكهما في النقصان ، ولذا أطلق في الخلاف جواز ائتمام القاعد بالمومي.

لكن على كل حال لا يبعد استثناء القراءة من ذلك ، فلا يأتم متقنها وإن فرض تعذر باقي الأركان عليه بفاقدها وإن كان متمكنا من غيرها ، لعدم التحمل ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

٣٣٠

بل وكذا القائم بالقاعد وإن فرض تمكن الثاني من الركوع والسجود ونحوهما وتعذرهما على القائم ، لإطلاق الدليل السابق ، وإن كان يمكن دعوى انصرافه إلى القائم المتمكن إلا أنه لما كانت الجماعة توقيفية والأصل عدم سقوط القراءة وغير ذلك اتجه التجنب عن مثل هذه الكيفيات من الجماعات التي ليس في النصوص والفتوى ما ينقحها ، فتأمل جيدا.

ولو حدث للإمام ما يوجب القعود أو مطلق النقص في الأثناء وجب على المأموم الانفراد ما لم يستنب الامام غيره ، كما صرح به في التذكرة والذخيرة ، لظهور النص والفتوى في اعتبار ذلك ابتداء واستدامة وإن كان الأول أظهر الفردين منهما ، بل قد يقال باعتبار ذلك في تمام الصلاة وإن لم يكن ائتم به المأموم حال النقص ، فلو فرض فعل الامام بعض الصلاة قاعدا فتمكن من القيام في البعض الآخر فأريد الائتمام به حال كماله لم يجز ، لنقص صلاته التي يراد الائتمام بها ، وإن كان لا يخلو من إشكال ، لظهور النبوي المزبور ومعاقد الإجماعات السابقة في غيره ، وعدم ثبوت العلة المذكورة.

وكذا لا يجوز أن يكون الإمام أميا بمن ليس كذلك بلا خلاف صريح أجده فيه ، بل في التذكرة والذكرى وعن الغرية وإرشاد الجعفرية وظاهر المعتبر الإجماع عليه مع التصريح في جملة منها بعدم الفرق بين الجهرية والإخفاتية في ذلك ، وهو العمدة فيه بعد أصالة عدم سقوط القراءة عن المأموم ، لانصراف إطلاق الأدلة إلى غيره ، وبعد الكلية المزبورة خصوصا بالنسبة إلى القراءة ، وإن كانا هما معا لولاه محلا للنظر ، كالاستدلال عليه بالأخبار (١) الآمرة بتقديم الأفضل ، ضرورة أفضلية القاري عليه ، وب‌ خبر أبي عبيدة (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القوم من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

٣٣١

أصحابنا يجتمعون فتحضر الصلاة فيقول بعضهم لبعض : تقدم يا فلان ، فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يتقدم القوم أقرأهم للقرآن ، فان كانوا في القراءة سواء فالأقدم هجرة » المساق لبيان الفضل والاستحباب الذين تعرفهما إن شاء الله عند ذكر المصنف لهما كغيره من الأصحاب ، وإن كان يمكن أن يقال بإرادة القدر المشترك بين الندب والوجوب من خصوص هذا الأمر فيه.

وعلى كل حال فلو ائتم حينئذ به القاري وحده أو مع أمي آخر بطلت صلاته قطعا ، بل قيل : وصلاة الامام والمأموم الأمي أيضا إذا كان القاري ممن جمع شرائط الإمامة ، لوجوب ائتمامه به حينئذ على المشهور بين الأصحاب كما في المدارك ، بل فيها أنه قطع به الفاضل في تذكرته من غير نقل خلاف من أحد ، لتمكنه حينئذ من الصلاة بقراءة صحيحة ، فيجب عليه ، ولا ريب في كونه أحوط وإن كان في تعينه نظر مع فرض عجزه عن الإصلاح ، لأصالة البراءة ، وإطلاق الأمر بالصلاة ، ومعلومية اشتراط التكليف بالقدرة ، وإطلاق أدلة استحباب الجماعة ، وغير ذلك ، بل ليس هو أعظم من الأخرس المعلوم عدم وجوب الائتمام عليه نصا وفتوى ، ولقد أجاد في المدارك بقوله بعد ذكره الحكم المزبور : إن للتوقف فيه مجالا ، بل لعل الأقوى في النظر عدم الوجوب ، بل قد يدعى القطع به وبظهور الفتاوى في ذلك أيضا ، بل الذي وقفت عليه من عبارة التذكرة مقيد بالممكن له التعلم ، وهو قد يتجه فيه الوجوب مع فرض تقصيره لتكليفه حينئذ بالإتيان بالصلاة بقراءة صحيحة ، فيجب عليه التعلم أو الائتمام ، فلو صلى بدونهما بطلت صلاته حتى لو كان جاهلا بوجوب ذلك ، لعدم معذورية الجاهل عندنا في الصحة والفساد وإن كان ساذجا ، ونحوه القاصر أيضا بناء على وجوب الائتمام عليه وما في المدارك ـ من أنه لا يبعد صحة صلاة الأمي مع جهله بوجوب الاقتداء ، لعدم توجه النهي إليه المقتضي للفساد ـ في غير محله كما هو مفروغ منه في غير المقام.

٣٣٢

والمراد بالأمي هنا من لا يحسن القراءة الواجبة أو أبعاضها كما صرح به بعضهم ، بل في الرياض « لا خلاف يعرف بينهم في أنه من لا يحسن قراءة الحمد أو السورة أو أبعاضهما ولو حرفا أو تشديدا أو صفة » ولا بأس به وإن كان مخالفا للمعنى اللغوي ، إذ ليس في روايات المقام له أثر ، لكن الظاهر عدم دخول اللحن في الاعراب عندهم فيه ، ولا التمتام ونحوه فيه ، لذكرهم ذلك بعده بالخصوص ، فيكون المراد منه عدم حسن القراءة بالنظر إلى مخارج حروفها أو بنيتها أو تشديدها ونحو ذلك.

وكيف كان فظاهر المتن وصريح غيره بل لا أجد فيه خلافا جواز إمامته بمثله أو أنقص منه ، وهو جيد مع اتحاد محل الأمية أو نقصانها في المأموم ، لإطلاق الأدلة أما مع اختلافها بأن كان يحسن أحدهما الفاتحة والآخر السورة ففي المدارك تبعا للتذكرة والذكرى « جاز ائتمام العاجز عن الفاتحة بالقادر عليها دون العكس ، للإجماع على وجوبها في الصلاة بخلاف السورة » ولا بأس به إن أرادوا الائتمام به إلى الوصول إلى السورة فينفرد ، وإلا فيشكل بأنه لا دليل على سقوطها عنه مع فرض تمكنه من قراءتها صحيحة بناء على أن السبب في عدم ائتمام القاري بالأمي ذلك ، كما هو مقتضي تعليلهم الحكم به كما أنه يشكل أيضا بنحو ذلك أو ما يقرب منه باقي ما ذكره في الذكرى من الفروع في المقام التي تبع في بعضها العلامة في التذكرة ، وتبعه غيره في بعضها أيضا ، قال : « ولو أحسن أحدهما بعض الفاتحة والآخر بعض السورة فصاحب بعض الفاتحة أولى بالإمامة ولو أحسن الآخر كمال السورة ففي ترجيح من يحسن بعض الفاتحة نظر من حيث الإجماع على وجوب ما يحسنه ، ومن زيادة الآخر عليه ، والأول أقرب مع احتمال جواز إمامة كل منهما ـ إلى أن قال ـ : ولو أحسن كل منهما بعض الفاتحة فإن تساويا في ذلك البعض صح اقتداء كل منهما بصاحبه ، وإن اختلفا فان زاد أحدهما على الآخر جاز إمامة الناقص دون العكس ، وإن اختلف محفوظاهما لم يؤم أحدهما الآخر ، لنقص كل منهما‌

٣٣٣

بالنسبة إلى الآخر » انتهى.

والذي يدور بعد ذلك كله في النظر أن مانعية الأمية للإمامة من جهة تحمل القراءة خاصة وضمانها ، كما يومي اليه ملاحظة كلماتهم وإن أطلقوا هم الحكم ، لانصراف إطلاق أدلة التحمل إلى ذي القراءة الصحيحة ، لا أقل من الشك ، فلو ائتم به حينئذ القاري فضلا عن غيره في غير محل تحمل القراءة كالركعتين الأخيرتين أو في محلها حيث يجوز للمأموم القراءة وقرأ وقلنا بالاجتزاء بذلك كما هو الظاهر اتجهت الصحة ، وكذا لو فرض أن أميته كانت بالأذكار التي لا يتحملها الامام عن المأموم كأذكار الركوع والسجود والتشهد والتسليم وتسبيح الأخيرتين ، كل ذلك لإطلاق الأدلة السالم عن المعارض عدا ما عساه يقال مما لا منشأ له يعتد به من أن أميته أورثت نقصا في صلاته ، فلا يجوز الائتمام به مطلقا ، وهو كما ترى.

وعلى كل حال فاقتداء الأمي بالأمي مع فقد القاري الذي يأتمان به بناء على وجوبه حينئذ لا ينبغي التوقف فيه ، للتساوي ، أما مع الاختلاف فيجوز ائتمام ذي الأمية السابقة بذي الأمية اللاحقة إلى أن يصل إلى المحل الذي يحسنه ، فينفرد عنه من غير فرق في ذلك بين الفاتحة والسورة ، ولا بين الأكثر من الفاتحة أو الأقل ، ضرورة أن ما سمعته من الذكرى وجوه اعتبارية لا تصلح أن تكون مدركا للأحكام الشرعية ، خصوصا بناء على المختار من حجية الظن المخصوص للمجتهد لا مطلقا ، مع احتمال تنزيل جميع كلماتهم على ما ذكرنا ، بل لعله الظاهر للمتصفح المتأمل ، وهل يجوز التعاكس بمعنى صيرورة الامام مأموما بمن ائتم به فيما لا يحسنه هو وكان يحسنه المأموم؟ وجهان ، قد يظهر من التذكرة أولهما ، ومن الذكرى ثانيهما ، ولعله الأقرب إن أريد الانتقال من الإمامة إلى المأمومية وبالعكس ، أما لو نوى كل منهما الانفراد ثم أراد الائتمام جديدا فيقوى الصحة بناء على ما ستعرفه من جواز نقل النية في الأثناء.

٣٣٤

والأخرس كالأمي في كثير من الأحكام المتقدمة ، لا يجوز ائتمام القاري به ويجوز ائتمام مثله به ، بل لا يبعد جريان ما ذكرناه في الأمي فيه ، فيجوز الائتمام للقارئ به في غير محل تحمل القراءة فضلا عن الأمي ، بل في التذكرة والذكرى وغيرهما جواز ائتمام الأمي به في محل القراءة أيضا على أحد الوجهين ، بل في المنتهى أن الأقرب الجواز ، والآخر المنع لا لعدم تحمل القراءة بل لنقصان صلاته بعدم التكبير الذي هو أحد الأركان ، وهو مبني على الكلية المزبورة التي عرفت أنها محل البحث أو المنع ، نعم يتجه المنع هنا لأصالة عدم سقوط القراءة عن الأمي بتحريك الأخرس لسانه بعد انصراف إطلاق الأدلة إلى غيره ، وكونه أميالا يصيره بمنزلة الأخرس الذي لا يستطيع الكلام ، ويؤيده مع ذلك‌ المروي (١) عن دعائم الإسلام عن علي عليه‌السلام « لا يؤم الأخرس المتكلمين » إذ لا ريب في اندراج الأمي في المتكلمين ، واحتمال استفادة عدم جواز مطلق ائتمامه به منه ولو في محل غير القراءة فيشكل حينئذ ما سمعته منا بعيد على أنه غير صالح للحجية في نفسه فضلا عن أن يعارض إطلاق أدلة الجماعة ، نعم لا ريب في أن الأحوط عدم الائتمام في ذلك وفي جميع ما تقدم ، لقوة احتمال إرادة النقص بذلك وبالأمية عن أصل الصلاحية لمنصب الإمامة للكامل ، بل الشك كاف في مثل العبادة التوقيفية ، والله أعلم.

ولا يشترط في الإمام الحرية على الأظهر الأشهر ، بل هو المشهور شهرة كادت تكون إجماعا ، لإطلاق الأدلة ، وصحيحتي ( صحيحي خ ل ) محمد بن مسلم عن أحدهما (٢) وأبي عبد الله عليهما‌السلام (٣) « عن العبد يؤم القوم إذا رضوا به وكان أكثرهم قرآنا ، قال : لا بأس به » وحسن زرارة أو صحيحه (٤) عن الباقر عليه‌السلام

__________________

(١) البحار ـ ج ١٨ ص ٦٣٤ من طبعة الكمباني.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

٣٣٥

« قلت له : الصلاة خلف العبد ، فقال : لا بأس به إذا كان فقيها ولم يكن هناك أفقه منه » بل‌ وموثق سماعة (١) « عن المملوك يؤم الناس ، فقال : لا إلا أن يكون هو أفقههم وأعلمهم » بضميمة عدم القول بالفصل بالنسبة إلى ذلك ، وخبر أبي البختري (٢) المروي عن قرب الاسناد عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام في حديث ، قال : « لا بأس أن يؤم المملوك إذا كان قارئا » فما في الوسيلة ـ من أن العبد لا يؤم الحر غير مولاه ، وعن نهاية الفاضل اختياره ، بل عن نهاية الشيخ ومبسوطة ذلك أيضا ، وعن المقنع أنه لا يؤم إلا أهله ـ ضعيف جدا لا دليل يعتد به في الجملة على شي‌ء منه فضلا عن أن يعارض ما عرفت سوى‌ خبر السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام أنه قال : « لا يؤم العبد إلا أهله » وهو ـ مع احتماله الكراهة مطلقا أو مع وجود الأفضل أو الأقرأ منه بقرينة ما سمعته من الأخبار ـ قاصر عن إثبات ذلك من وجوه لا تخفى على من له أدنى بصيرة.

وكذا يشترط في الإمام الذكورة إذا كان المأموم ذكرانا أو ذكرانا وأناثا فلا يجوز إمامة المرأة لهم بلا خلاف أجده فيه نقلا وتحصيلا ، بل في الخلاف والمنتهى والتذكرة والذكرى والروض وعن غيرها الإجماع عليه ، لأصالة عدم سقوط القراءة ، والنبوي (٤) « لا تؤم امرأة رجلا » وآخر (٥) « أخروهن من حيث أخرهن الله » والمروي في موضع عن‌ دعائم الإسلام (٦) عن علي عليه‌السلام « لا تؤم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٤.

(٤) سنن البيهقي ج ٣ ص ٩٠.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مكان المصلى ـ الحديث ١.

(٦) البحار ـ ج ١٨ ص ٦٣٤ من طبعة الكمباني.

٣٣٦

المرأة الرجال ، ولا الأخرس المتكلمين ، ولا المسافر المقيمين » وآخر (١) عنه عليه‌السلام أيضا « لا تؤم المرأة الرجال ، وتصلي بالنساء ، ولا تتقدمهن تقوم وسطا فيهن ويصلين بصلاتها » وللسيرة والطريقة المستمرة في الأعصار والأمصار ، إذ لو اتفق ذلك ولو يوما لاشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار ، ومطلوبية الحياء منهن والاستتار المنافيين للإمامة المقتضية للظهور والاشتهار ، وللأخبار (٢) الكثيرة المتقدمة في بحث المكان من الصلاة المشتملة على النهي عن محاذاة الرجل للمرأة وتقدمها عليه ، بناء على إرادة الحرمة منه ، بل والكراهة المنافية للجماعة المعلوم استحبابها ، وإرادة الأعم من المصطلح فيها والأقل ثوابا لا شاهد لها ، واحتمال إرادة الأقل ثوابا منها في الجماعة والفرادى لكون مرجعها فيهما للصلاة يدفعه خروج التقدم عن حقيقتها ، فلا بأس بإرادة المصطلح منها فيه حال الصلاة على معنى يكره التقدم والمحاذاة في الفرادى حال الصلاة ، وليس ذا كالقول بعدم منافاة كراهة التقدم والمحاذاة لاستحباب الجماعة بعد كونهما من مقوماتها ولوازمها ، كما هو واضح ، لكن ومع ذلك فللتأمل بعد في الاستدلال بها على المطلوب مجال ، إلا أنا في غنية عنه بما عرفت.

وكيف كان فـ ( يجوز أن تؤم المرأة النساء ) في الفريضة والنافلة التي يجوز فيها الاجتماع على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، بل في الرياض أن عليه عامة من تأخر ، بل في الخلاف والتذكرة وعن الغنية وإرشاد الجعفرية وظاهر المعتبر والمنتهى الإجماع عليه ، لقاعدة الاشتراك الثابتة بالإجماع وغيره ، فلا يقدح حينئذ ظهور خطاب الإطلاقات بالذكور لو سلم كون جميعها كذلك ، وللنبوي (٣) المروي في كتب الفروع‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مكان المصلى.

(٣) كنز العمال ج ٤ ص ٢٥٧ ـ الرقم ٥٣٦.

٣٣٧

لأصحابنا مستدلا به على المطلوب ، وهو « أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أم ورقة أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذنا » والصادقي (١) المروي في الفقيه مسندا « سئل كيف تصلي النساء على الجنائز؟ فقال : يقمن جميعا في صف واحد ولا تتقدمهن امرأة ، قيل : ففي صلاة المكتوبة أيؤم بعضهن بعضا؟ قال : نعم » ومرسل ابن بكير (٢) عن الصادق عليه‌السلام أيضا « في المرأة تؤم النساء ، قال : نعم تقوم وسطا بينهن ولا تتقدمهن » كالموثق (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « عن المرأة تؤم النساء ، فقال : لا بأس به » بل لعلهما كالصريحين في إرادة التعميم أو الفريضة ، ضرورة ندرة النافلة التي يجوز الاجتماع فيها كالاستسقاء ونحوه ، خصوصا بالنسبة للنساء ، فترك الاستفصال فيهما حينئذ كالصريح فيما ذكرنا.

وبه يظهر دلالة‌ الصحيح (٤) عن الكاظم عليه‌السلام سأله أخوه « عن المرأة تؤم النساء ما حد رفع صوتها بالقراءة والتكبير ، فقال : قدر ما تسمع » وإن كان السؤال فيه عن حكم آخر غير أصل الائتمام ، إلى غير ذلك من مرسل الدعائم المتقدم ونحوه.

خلافا للمحكي عن أبي علي وعلم الهدى والجعفي من المنع في الفريضة والجواز في النافلة ، ونفى عنه البأس في المختلف ، ومال إليه في المدارك واختاره المولى الأعظم في شرح المفاتيح على الظاهر مستظهرا له أيضا من الكليني والصدوق ، لاقتصارهما على ذكر صحاح سليمان بن خالد (٥) وهشام (٦) وزرارة (٧) المشتملة على التفصيل المزبور ، لأصالة عدم تحقق الجماعة التوقيفية ، وعدم سقوط القراءة ، وعدم البراءة من الشغل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجنازة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

٣٣٨

اليقيني ، والنصوص الكثيرة التي فيها الصحيح وغيره السالمة عن معارضة أكثر ما تقدم باعتبار إطلاقه وتقييدها مع الغض عن ضعف سند بعضه ، وكونه من طرق العامة ، ودلالة آخر ، والمؤيدة بعدم معهوديته في عصر ومصر من الأعصار والأمصار أصلا ، بل معهودية خلافه ، لتعارف خروج النساء ـ مع مطلوبية الحياء والستر منهن ، والقرار في البيوت ـ إلى جماعة الرجال والائتمام بهم ، ولو كان ذلك مشروعا لكان أولى لهن من الخروج قطعا ، ولوقع يوما في عصر النبي أو الأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) خصوصا مع فاطمة سيدة نساء العالمين (ع) وباقي نسائهم وبناتهم ، ولشاع وذاع حتى خرق الأسماع ، ضرورة توفر الدواعي إلى الجماعة وكثرة تكرر الصلاة وعموم الباوى بها.

وفي الجميع نظر واضح ، إذ الأصول لا تقبل المعارضة لشي‌ء مما ذكرنا حتى قاعدة الاشتراك ، والنصوص يكفي في ردها إعراض الأصحاب عنها مع كثرتها وصحتها ووضوح دلالتها وكونها بمرأى منهم ومسمع ، بل في المنتهى أنه لم يعمل بها أحد من علمائنا ، بل فيه أيضا كما عن المعتبر أنها نادرة ، فكيف يحكم مثلها على ما عرفت ، خصوصا بعد موافقتها للمحكي عن جماعة من العامة ، واحتمال المكتوبة فيها الجماعة الواجبة كالجمعة وظهورها في جواز الجماعة بمطلق النافلة الذي هو أيضا مذهب العامة ، وتنزيلها على النافلة التي يجوز فيها ذلك تنزيل للمطلق على أندر أفراده ، كتنزيل أخبار المختار عليه على أن بعضه لا يصلح لذلك ، لصراحته في الفريضة ، كالإجماعات المحكية وبعض الأخبار ، وعدم المعهودية أو معهودية الخلاف بعد حفظ الحكم فيه باللفظ وغلبة عدم الوثوق بالنساء في أحكام الفريضة والجماعة غير قادح ، خصوصا بعد الحكم بعدم تأكد الجماعة لهن كما صرح به بعضهم عملا بهذه الصحاح.

فظهر بحمد الله وبركة محمد وأهل بيته ( عليهم الصلاة والسلام ) أن أصول المذهب‌

٣٣٩

تقتضي الاعراض عن ظاهرها ، كما أنها تقتضي الاعراض عن ظاهر‌ صحيح زرارة (١) عن الباقر عليه‌السلام « قلت له : المرأة تؤم النساء ، قال : لا إلا على الميت إذا لم يكن أحد أولى منها تقوم وسطا معهن في الصف ، فتكبر ويكبرن » من عدم جواز مطلق الائتمام في النافلة والفريضة كما هو إحدى الحكايتين عن الجعفي والمرتضى ، إذ هو مخالف لجميع ما عرفت مما قلناه وقاله الخصم من النصوص وغيرها ، فهو واضح البطلان ، كسابقه وضوحا لا يحتاج معه إلى إتعاب يراع أو تسويد قرطاس.

وكذا الحكم في الخنثى المشكل أي هي هنا كالامرأة حكما ، فتأتم به النساء ، لأنه إما رجل أو امرأة ، وكل منهما يجوز إمامته لهن ، ولا يأتم به رجل ، لاحتمال أنه امرأة ، فلا يعلم حينئذ براءة الذمة من الشغل اليقيني ، ودعوى شمول الإطلاقات أو العمومات له ـ إذ أقصى ما خرج إمامة المرأة ، فيبقى المشتبه داخلا فيها ، لصدق عنوانها عليه ، ككونه ممن تثق بدينه ونحوه ، ولا دلالة في النصوص على اشتراط الذكورة في إمامة الرجال كي يحتاج إلى العلم باحرازها ، بل غايتها ما سمعت من عدم إمامة المرأة ، وفرق واضح بينهما ، ومنه ينقدح حينئذ قوة خيرة ابن حمزة من جواز إمامة الخنثى بالخنثى ، خلافا للمشهور فالمنع ، لاحتمال كون الامام منهما امرأة والمأموم رجلا ، بل وينقدح فساد أدلتهم من أصالة عدم سقوط القراءة ، وأصالة عدم براءة الذمة من الشغل اليقيني ونحو ذلك ، ضرورة اندفاعها جميعها بالعمومات بعد فرض شمولها له ـ يدفعها ـ بعد تسليم دخول الفرد المشتبه موضوعا في العام المفروض تخصيصه ، وتسليم وجود عمومات وإطلاقات صالحة لشمولها ـ ظهور اتفاق الأصحاب على كون الذكورة شرطا في إمامة الذكور ، لا أن الأنوثة مانع ، فلا بد حينئذ من العلم به ابتداء ، وعلى حصر جواز إمامة الأنثى بالنساء خاصة ، بل الثاني ظاهر النصوص أيضا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

٣٤٠