جواهر الكلام - ج ١٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الإسلام من دون معرفة كونه مؤمنا غير كاف ، مع احتماله لكونه نوع فسق ، والمسلم لا يحمل عليه قبل ظهوره منه ، وستسمع كلام صاحب المسالك ، والظاهر أن ذلك طريق لثبوت العدالة عندهم بمعنى أنه إذا لم يعرف بشي‌ء من أسباب الفسق يحكم بثبوت العدالة عنده حتى يثبت العدم ، ولذا جعله في الذخيرة نزاعا آخر غير النزاع في أصل العدالة.

وكيف كان فالحجة على ذلك أصالة الصحة في أفعال المسلمين وأقوالهم المستلزمة للحكم بأنه لم يقع منه ما يوجب الفسق ، فيكون عدلا لعدم الواسطة بينهما ، وقد فرض نفي الشارع أحدهما ، فتعين الثاني ، وإجماع الفرقة وأخبارهم المنقولان عن الخلاف ، بل عنه أن البحث عن عدالة الشاهد شي‌ء لم يعرفه الصحابة ولا التابعون ، وإنما هو أمر أحدثه « شريك » وصحيحة حريز (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدل منهم اثنان ولم يعدل الآخران ، فقال : إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا ، وأقيم الحد على الذي شهدوا عليه ، إنما عليهم أن يشهدوا ما أبصروا وعلموا ، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم إلا أن يكونوا معروفين بالفسق » وما عن‌ الصدوق في المجالس عن صالح بن علقمة (٢) عن أبيه « قال الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام وقد قلت له : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرني عمن تقبل شهادته ومن لم تقبل شهادته ، فقال : يا علقمة كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته ، قال : فقلت له : تقبل شهادة مقترف الذنوب فقال : يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترف بالذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء ( عليهم الصلاة والسلام ) ، لأنهم هم المعصومون دون سائر الخلق ، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه الشاهدان فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١٣ لكن روى في الوسائل عن صالح بن عقبة عن علقمة وهو الصحيح كما يشهد على ذلك قوله (ع) : « يا علقمة ».

٢٨١

وإن كان في نفسه مذنبا » ومرسلة يونس (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ بها بظاهر الحكم : الولايات والمناكح والمواريث والذبائح والشهادات ، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه ».

وخبر عبد الرحيم القصير (٢) قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إذا كان الرجل لا تعرفه يؤم الناس يقرأ القرآن فلا تقرأ خلفه واعتد بصلاته » ومرسلة ابن أبي عمير (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في قوم خرجوا من خراسان وكان يؤمهم رجل فلما صاروا إلى الكوفة علموا أنه يهودي قال : لا يعيدون » وخبر عمر ابن يزيد (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن إمام لا بأس به في جميع أموره عارف غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما أقرأ خلفه ، قال : لا تقرأ خلفه ، ما لم يكن عاقا قاطعا » وما رواه‌ الصدوق بإسناد ظاهره الصحة كما قيل عن عبد الله بن المغيرة (٥) « قلت للرضا عليه‌السلام : رجل طلق امرأته وأشهد شاهدين ناصبين ، قال : كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته » وحسنة البزنطي (٦) عن أبي الحسن عليه‌السلام « جعلت فداك كيف طلاق السنة؟ قال : يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل أن يغشاها بشاهدين عدلين كما قال الله تعالى في كتابه ، فإن خالف ذلك رد إلى كتاب الله عز وجل ، فقلت له : فإن أشهد رجلين ناصبيين على الطلاق أيكون طلاقا؟ فقال : من ولد على الفطرة أجيزت شهادته على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ـ الحديث ٤.

٢٨٢

الطلاق بعد أن يعرف منه خير » وما ورد (١) في شهادة اللاعب بالحمام أنه لا بأس بها إذا لم يعرف بفسق ، وعن علي عليه‌السلام (٢) أنه كان يقول لشريح : « واعلم أن المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا محدودا بحد لم يتب منه ، أو معروف بشهادة زور أو ظنين » وفي صحيحة أبي بصير (٣) سأل الصادق عليه‌السلام « عما يرد من الشهود فقال : الظنين والمتهم والخصم ، قال : فالفاسق والخائن. قال : كل هذا يدخل في الظنين » ومثلها جميع الأخبار الدالة على رد شهادة الفاسق ، بل ربما أيد أيضا زيادة على ذلك بأن حال السلف يشهد به وبأنه بدونه لا يكاد تنتظم الأحكام للحكام ، خصوصا في المدن الكبيرة والقاضي القادم إليها من بعد مع عدم خلطته واختباره لهم ، ضرورة اقتضاء اعتبار غيره تعطيل كثير من الأحكام حتى يختبرهم أو يكون عنده من هو مختبرهم ومخالطهم ، ولا ريب في كونه حرجا وعسرا وتعطيلا ، وكيف والناس في كثير من الأمكنة لا يتمكنون من ذلك في طلاقهم وديونهم وغير ذلك مما يحتاجون اليه.

بل قد يرشد إليه أيضا الحث على الجماعة المشعر بأنها متيسرة في كل وقت سفرا وحضرا وظاهر قوله تعالى (٤) ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) حيث لم يقيده بشي‌ء ولا ينافيه قوله تعالى (٥) في الأخرى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) إذ لا كلام في كون الشاهد لا بد أن يكون ذا عدل ، لكن الكلام في أن ذلك يحكم به حتى يظهر خلافه أولا ، ولا تعرض في الآية له ، فيبقى إطلاق الأولى سالما ، إذ لعل المقصود عدم إشهاد المعروف بالفسق ، كما أنه لا يعارض ما ذكرنا بالاحتياط ، إذ هو تارة بالفعل ، وتارة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٢٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٣.

(٤) سورة البقرة ـ الآية ٢٨٢.

(٥) سورة الطلاق ـ الآية ٢.

٢٨٣

بالترك ، ومع ذلك كله فمن المستبعد جدا أو الممتنع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام وغيرهما من القضاة والحكام الذين لا انقطاع لأمور الخصومات والحدود في زمانهم ، بل لعلها في اليوم الواحد تتكرر عند الشخص الواحد منهم مرات كانوا يبحثون وينقرون ويفتشون كما يصنعه المتأخرون من أصحابنا وخفي على من ذكرنا من قدماء أصحابنا كابن الجنيد والمفيد والشيخ ، حتى أن الشيخ حكى إجماع الفرقة وأخبارهم على ذلك ، هذا.

لكن لا يخفى عليك أن هذا الأصل غاية ما يمكن تسليم مقتضاه حمل ما يقع من المسلم من ذي الوجوه قولا أو فعلا على الوجه الصحيح منها ، وأنه لا يجوز التفتيش عن ما يقتضي فساد فعله ، بل يغض السمع والبصر ويحمل على الحسن ما لم يكن الفعل والقول نصا في الفساد أو ظاهرا فيه على الأقوى ، وإلا لم يمكن الجرح إلا نادرا ، لا أن مقتضاه أن لا يقع منه ما يقتضي الفسق وما لا وجه له إلا هو ، وملاحظة الأخبار بالنسبة للطهارة والنجاسة والذبائح والمناكح ونحوها من المعاملات والعبادات لا تفيد أزيد من ذلك ، ولا ينافيه رد شهادته حيث يشهد وإن كان الأصل يقتضي أن لا تكون زورا ، لكن ذلك في نفسه لو علم لا يكفي في قبول الشهادة ، لاحتمال الوهم والنسيان والدخول إليها بمدخل شرعي فاسد وإن كان معذورا فيه ، على أن اشتراط العدالة فيها تعبدي يرتفع أثر هذه الاحتمالات عندها ، فمورد أصل الصحة حينئذ الفعل المعلوم أنه محتمل في نفسه لوجوه متعددة ، لا المحتمل أنه من المحتمل ، وإلا فقد يكون هو في نفسه مما لا يحتمل إلا الفساد ، فتأمل.

ودعوى أنه كما أن الأصل حمل فعل المسلم على الوجه الصحيح كذلك الأصل في المسلم أن لا يخل بواجب ولا بترك محرم ولذا لا يلتفت إلى الشك في شي‌ء من الواجبات الموقتة بعد فوات وقتها ممنوعة ، وعدم الالتفات المزبور للدليل ، ولو سلم كل‌

٢٨٤

من الأصلين فقد يمنع وجوب العمل بمقتضاه بالنسبة للغير كالائتمام والطلاق ونحوهما ، بل يمكن القطع به بملاحظة أحوال السلف في الروايات فضلا عن غيرها ، فان عدم اعتمادهم على من لا يعرفون أحواله وتحرزه من الكذب ونحوه من الضروريات التي لا تنكر ، أو يقال إن كلا من هذين الأصلين أمر شرعي تعبدي بحت لا يثبت به ملكة أو حسن ظاهر حتى يلحقه وصف العدالة ، لكن فيه أنه لا معنى لثبوت هذا الأصل إلا جعل الشارع المجهول محكوما عليه بان لم يرتكب محرما ولا أخل بواجب ، وكل من كان كذلك يلزمه وصف العدالة ، وليس في الأخبار حسن ظاهر أو ملكة ، بل الذي يظهر من النصوص والفتاوى أن العدل الذي لا يخل بواجب ولا يرتكب محرما لكن ذلك منهم من جعله طريقا لحصول الملكة ، ومنهم من جعله نفسه عدالة من غير ملاحظة ملكة ، وبعد تسليم الأصل فالمجهول من الذي لم يخل بواجب ولم يرتكب محرما.

فان قلت : ليس كل من لم يخل بواجب إلى آخره عدلا ، بل الذي يعلم منه ذلك أو يظن ظنا معتبرا ، والأصل لا يفيد شيئا منهما. قلت : هو ما علم أو ظن أو ثبت شرعا أنه كذلك كالبينة والأصل.

ثم إنه لا معنى لثبوت هذا الأصل إلا جعله المجهول عند الشارع مثل الذي علم منه أنه لا يخل بواجب في جريان جميع الأحكام ، ومنها العدالة ، نعم قد يعارض الأصل بظواهر الأخبار الآتية إن شاء الله التي كادت تكون متواترة ، بل عن بعضهم أنها كذلك في أنه يعتبر في طريق العدالة زائدا على الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، فينقطع العمل بالأصل بحيث يثبت العدالة.

وأما الأخبار فهي ـ مع كون كثير منها ضعيف السند ، غير صريحة في المقصود بل بعضها دال على ضده ، كمرسلة يونس (١) ورواية عمر بن يزيد (٢) ورواية عبد الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

٢٨٥

ابن المغيرة (١) وحسنة البزنطي (٢) وصحيحة حريز (٣) ـ محمولة على إرادة كونه معروفا بأنه لم يعرف بشهادة زور ، كحمل رواية المجالس (٤) على إرادة من لم تره بعينك بعد الفحص عن حاله ، لا ولو لأنه مجهول الحال غريب لم تره مدة عمرك ، ضرورة احتمال كون مثله معروفا مشهورا بالفسق وشهادة الزور في بلاده أو عند من خالطه.

وأما رواية عبد الرحيم فقد يكون الاعتماد عليه من جهة صلاة الناس خلفه وإن لم تعرفه ، ولا دلالة في مرسلة ابن أبي عمير ، فان المداسين كثيرون ، ولعلهم اختبروه ولم يعرفوه بهذه المثابة حتى جاءوا إلى الكوفة ، فإن التدليس يصل أمره إلى أعظم من ذلك ، وأما رواية اللاعب بالحمام فلعل المراد منها ما ذكرنا من المعرفة بكونه غير معروف الفسق ، وكذلك قول علي عليه‌السلام لشريح بل لعل الفاسق داخل تحت الظنين في كلامه عليه‌السلام بقرينة صحيحة أبي بصير ، وأما ما ورد من رد شهادة الفاسق فهو مع معارضته بما دل على قبول شهادة العدل يراد منه الفاسق في الواقع لا من علمت فسقه ، ولو أخذ العلم في ذلك لأخذ في العدل ، وما ذكروه من التأييد معارض بالمؤيدات الكثيرة لعدمه ، بل قد يدعى اختلال النظام بذلك ، فان كثيرا من حقوق الناس من أموال وفروج ودماء تضيع بذلك ، فكم من دم يهدر ، وكم من فرج يغصب ، وكم من ولد يؤخذ ، إن ذلك من المستبعد بل من الممنوع ، خصوصا مع ملاحظة النصوص وطريقة الأصحاب ، واستبعاد خفاء مثل ذلك على الشيخ معارض باستبعاد خفائه على غيره ، على أن الشيخ طريق توثيقه للرجال وعدم قبوله لرواية المجهول معلوم ، ولذلك وغيره احتمل تنزيل كلامه على إرادة أنه لا بد من اختباره حتى يظهر عند المختبر أنه غير ظاهر الفسق ، ولا يجب عليه أن يبحث عن باطنه واعتقاداته ، وهذا الذي ادعى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١٣.

٢٨٦

حدوثه من « شريك » فمراده بعدم ظهور الفسق ظهور عدم الفسق ، ولا يقال في المجهول الذي لم يعرف ولا اتفق أنه رأي بل كان في بلاد بعيدة أنه غير ظاهر الفسق ، كما يرشد إلى ذلك ما حكي عنه في النهاية من التصريح بأن العدالة على ما في صحيحة ابن أبي يعفور (١) الآتية ، وعنه في الخلاف أنه قال بعد ذلك : « مسألة إذا حضر الغرباء في بلد عند الحاكم فشهد عنده اثنان فان عرفا بعدالة حكم ، وإن عرفا بفسق وقف ، وإن لم يعرف عدالة ولا فسقا بحث » وعن بعض النسخ « لم يجب عندنا سواء كان لهما السيماء الحسنة والمنظر الجميل أو ظاهرهما الصدق ، بشهادة قوله عز وجل (٢) ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) ـ قال ـ : وهذا ما رضي به » وكذلك ما عن الكاتب « إذا كان الشاهد حرا بالغا مؤمنا بصيرا معروف النسب مرضيا غير مشهور بكذب في شهادته ، ولا بارتكاب كبيرة ولا مقام على صغيرة ، حسن التيقظ عالما بمعاني الأقوال ، عارفا بأحكام الشهادة ، غير معروف بحيف على معامل ، ولا تهاون بواجب من علم أو عمل ، ولا معروف بمباشرة أهل الباطل والدخول في جملتهم ، ولا بالحرص على الدنيا ، ولا بساقط المروة ، بريا من أهواء أهل البدع التي توجب على المؤمن البراءة من أهلها ، فهو من أهل العدالة المقبولة شهادتهم » فان التأمل في كلامه هذا يقضي بحسن الظاهر ، وكيف يصدق على مجهول الحال أنه مرضي غير مشهور بكذب وغير معروف بحيف على معاملة.

وأما المفيد فقد صرح في المقنعة على ما نقل عنه « أن العدل من كان معروفا بالدين والورع عن محارم الله » وهو ظاهر في حسن الظاهر.

والحاصل أن ذلك محتمل في كلامهم حتى في كلام الكاتب وإن حكي عنه التصريح بأن المسلمين كلهم على العدالة إلى أن يظهر ما يزيلها.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٢٨٢.

٢٨٧

ومن هنا نقل عن الأستاذ الأكبر في حاشية المعالم الإجماع على أن المراد بالعدالة حسن الظاهر في كل مقام اشترطت فيه ، وفي شرح المفاتيح « لم يستحضر الخلاف إلا عن ابن الجنيد » ولعله كذلك ، لأن عبارات الشيخ وغيره قابلة للحمل على ما ذكرنا بل قد يدعى ظهورها في هذا المعنى ، فتأمل جيدا.

وأما الإجماع الذي ذكره الشيخ وحال السلف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة والتابعين فهو ـ مع إمكان تنزيله على ما سمعت ـ يمكن دعوى تبين فساده بالإجماع المحصل الحاصل بملاحظة كلام المتقدمين من أصحابنا من عدم اكتفائهم في التعديل بذلك ، بل الشيخ نفسه عرف العدالة في نهايته بمضمون رواية ابن أبي يعفور الآتية كما سمعت ، ومن ذلك كله يقوى الظن بأن مراده كبعض الأخبار أنه لا يحتاج إلى الفحص والتفتيش حتى يقف أن الرجل لا ذنب له باطنا ، بل يكفي عدم ظهور الفسق بعد الخلطة والاختبار ، هذا.

وفي شرح المفاتيح للمولى الأعظم أنه لا بد من معروفية كونه مسلما مؤمنا حتى يقال يكفي مجرد الإسلام المرادف للايمان ، فإن معرفة ذلك لا تتحقق غالبا أو على سبيل التعارف إلا بالمعاشرة والمعروفية ، ولو لم يعرف أصلا من أن يعلم (١) كونه مسلما مؤمنا سيما في ذلك الزمان الذي كان المؤمن فيه في غاية القلة ، فهو عين حسن الظاهر ، لكن قد يناقش أولا بأن الإسلام أي الإيمان يكفي في ثبوته مجرد إظهاره ، ويحكم عليه بذلك بسائر أحكام المسلمين ؛ وثانيا بأنه لا تلازم بين المعرفتين ، فإن أكثر الناس نعرف أنهم مسلمون مؤمنون بل نشهد على ذلك ولا نعرف من حسن ظاهرهم شيئا ، فتأمل.

كما أنه قد يناقش فيما وقع من بعض المتأخرين ـ من الاستدلال على فساد هذا‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصواب « من أين يعلم ».

٢٨٨

القول ببعض الأخبار (١) المشترطة في قبول شهادة الشاهد كونه عدلا ، وفي بعضها (٢) خيرا كالآية (٣) ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) ونحوها ـ بأن أصحاب هذا القول لا ينكرون اشتراط العدالة ، بل يكتفون بالحكم بثبوتها بمجرد الايمان مع عدم ظهور الفسق ، لا أن العدالة ليست شرطا عندهم بل الفسق مانع كما يتخبل ، أو أن العدالة عندهم عبارة عن ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق وإن كان هو محتملا في كلامهم ، بل تومئ اليه بعض أدلتهم.

وكذا ما يقال إن العرف واللغة المحكمين في ألفاظ الكتاب والسنة ينفيان تحقق العدالة بمجرد ذلك فضلا عن أن يحققا وجودها به ، أما أولا فلأن العدالة من المعاني الشرعية فيرجع فيها اليه ، وقد سمعت ما يقتضي أنها عبارة عن ذلك فيه ، ولا مدخل للعرف واللغة فيها ، وثانيا لا منافاة بين الحكم بها وبثبوتها بمجرد الايمان وعدم ظهور الفسق وبين كونها أمرا زائدا على ذلك ، بل لو لم يصدق عرفا على المؤمن الذي لم يظهر منه فسق أنه عدل لم يقدح لكون ذلك طريقا شرعيا ثابتا بالدليل الشرعي.

نعم يرجع النزاع معهم في دليلهم الدال على ذلك ، وإلا فكثير من الألفاظ التي للشرع طريق في تحققها والحكم بثبوتها كالبينة وخبر العدل والاستصحاب ونحو ذلك لا يحكم أهل العرف بإطلاق اللفظ فيها ، لكن ذلك غير قادح بعد فرض الطريق الشرعي فالأولى الاقتصار في ردهم على ما عرفت ، مع أن كلامهم في غاية الفساد وإن حكي عن المسالك وبعض المتأخرين في باب الطلاق أنه قال ـ بعد إيراد‌ حسنة البزنطي (٤) المتقدمة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٩.

(٣) سورة الطلاق ـ الآية ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ـ الحديث ٤.

٢٨٩

المشتملة على قوله عليه‌السلام : « من ولد على الفطرة أجيزت شهادته على الطلاق بعد أن يعرف منه خير » ـ : « إن هذه الرواية واضحة الاسناد والدلالة على الاكتفاء بشهادة المسلم في الطلاق ولا يرد أن‌ قوله عليه‌السلام : « بعد أن يعرف منه خير » ينافي ذلك ، لأن الخير قد يعرف من المؤمن وغيره ، وهو نكرة في سياق الإثبات لا يقتضي العموم ، فلا ينافيه مع معرفة الخير منه الذي أظهره من الشهادتين والصلاة والصيام وغيرهما من أركان الإسلام أن يعلم منه ما يخالف الاعتقاد الصحيح ، لصدق معرفة الخير منه معه ، وفي الخبر مع تصديره باشتراط الشهادة ثم الاكتفاء بما ذكر تنبيه على أن العدالة هي الإسلام ، فإذا أضيف إلى ذلك أن لا يظهر الفسق فهو أولى » وظاهره الاكتفاء بشهادة سائر المخالفين ، بل تحقق العدالة فيهم ، وهو من المقطوع بفساده حتى على القول بأن العدالة هي الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، إذ لا فسق أعظم من فساد العقيدة ، وكيف وجميع عباداتهم فاسدة ، لكونهم مخاطبين بما عندنا ، وحالهم كحال الكفار ، فلعل المراد بالخير في الرواية الايمان وغيره ، لكنه لم يصرح به لمكان التقية.

وقيل العدالة عبارة عن حسن الظاهر كما هو ظاهر ما سمعته من المقنعة والنهاية بل وحكي أيضا عن القاضي والتقي وابن حمزة وسلار ، بل قيل في الناصريات ما يشير إلى ذلك أيضا ، بل عن المصابيح نسبته إلى القدماء ، بل سمعت عن حاشية المعالم نقل الإجماع على كون العدالة حسن الظاهر في كل مقام اشترطت فيه ، والمراد بالظاهر خلاف الباطن الذي لا يعلم به إلا الله ، وبحسنه كونه جاريا على مقتضى الشرع بعد اختباره والسؤال عن أحواله ، للنصوص المستفيضة جدا وإن كان بعضها لم يذكر فيه تمام حسن الظاهر لكنه كالصريح في عدم الاكتفاء بظاهر الإسلام ، فيتم الاستدلال به حينئذ بضميمة عدم القائل بالفصل ، منها مضافا إلى ما عرفته في أخبار الخصم‌ قول الصادق‌

٢٩٠

عليه‌السلام في رواية أبي بصير (١) : « لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا » وقوله عليه‌السلام في رواية العلاء بن سيابة (٢) عن الملاح والمكاري والجمال : « لا بأس بهم تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء » كقول الباقر عليه‌السلام (٣) : « شهادة القابلة جائزة على أنه استهل أو برز ميتا إذا سئل عنها فعدلت » وعن‌ أمالي الصدوق (٤) بسنده عن الكاظم عليه‌السلام « من صلى خمس صلوات في اليوم والليلة في جماعة فظنوا به خيرا وأجيزوا شهادته » وخبر سماعة (٥) عن الصادق عليه‌السلام قال : « من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته ، وكملت مروته ، وظهر عدله ، ووجب أخوته » وعن العيون (٦) روايته بسنده إلى الرضا عليه‌السلام ، وعن العسكري عليه‌السلام في تفسيره (٧) في قوله تعالى (٨) : ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) « من ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته وتيقظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه ، فما كل صالح مميز ، ولا كل محصل مميز صالح ، وإن من عباد الله لمن هو أهل لصلاحه وعفته ، ولو شهد لم تقبل شهادته لقلة تمييزه ، فإذا كان صالحا عفيفا مميزا محصلا مجانبا للمعصية والهوى والميل والتحامل فذلك الرجل الفاضل ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٣٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١٢ لكن روى عن الصادق عليه‌السلام.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٩.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١٤.

(٧) ذكر تمامه في تفسير الصافي ـ ذيل الآية الكريمة وصدره في الوسائل في الباب ٤١ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٢٢.

(٨) سورة البقرة ـ الآية ٢٨٢.

٢٩١

وعن الهداية للشيخ الحر رحمه‌الله « روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا تخاصم اليه رجلان ـ إلى أن قال ـ : وإذا جاءوا بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر بعث رجلين من خيار أصحابه يسأل كل منهما من حيث لا يشعر الآخر عن حال الشهود في قبائلهم ومحلاتهم ، فإذا أثنوا عليهم قضى حينئذ على المدعى عليه ، وإن رجعا بخبر شين وثناء قبيح لم يفضحهم ولكن يدعو خصمين إلى الصلح ، وإن لم يعرف لهم قبيلة سأل عنهما الخصم ، فان قال : ما علمت منهما إلا خيرا أنفذ شهادتهما » (١).

وما رواه الصدوق في الصحيح والشيخ في التهذيب بسنده لكن في المتن في الكتابين تفاوت ، ونحن ننقلهما كما في الوافي معلما لموضع الاشتراك من موضع الاختصاص عن‌ عبد الله بن أبي يعفور (٢) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال : أن تعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان ، وتعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة المسلمين وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة « يه » فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس ، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا : ما رأينا منه إلا خيرا مواظبا على الصلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فان ذلك يجيز شهادته وعدالته بين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١ من كتاب القضاء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١ ولا يخفى أن حرف « ش » علامة للاشتراك في الجملة الآتية وكذلك « يه » للفقيه و « يب » للتهذيب.

٢٩٢

المسلمين « ش » وذلك إن الصلاة ستر وكفارة للذنوب « يه » وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلي إذا كان لا يحضر مصلاه ويتعاهد جماعة المسلمين ، وإنما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع « ش » ولولا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح ، لأن من لا يصلي لا صلاح له بين المسلمين « يب » لأن الحكم جرى من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحرق في جوف بيته « يه » فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم بأن يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين ، وقد كان فيهم من يصلي في بيته فلم يقبل منه ذلك ، وكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من الله عز وجل ومن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالحرق في جوف بيته بالنار « ش » وقد كان يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة « يب » وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا غيبة إلا لمن صلى في بيته ورغب عن جماعتنا ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته ، وسقطت بينهم عدالته ، ووجب هجرانه ، وإذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره وحذره ، فان حضر جماعة المسلمين وإلا أحرق عليه بيته ، ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته ، وثبت عدالته بينهم ».

وخبر عبد الله بن سنان (١) المروي عن الخصال عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ثلاث من كن فيه أوجبت له أربعة على الناس : إذا حدثهم لم يكذبهم ، وإذا وعدهم لم يخلفهم ، وإذا خالطهم لم يظلمهم وجب أن يظهروا في الناس عدالته ، ويظهر فيهم مروته ، وأن يحرم عليهم غيبته ، وأن يجب عليهم أخوته ».

وصحيحة محمد بن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس » إلى غير ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ٨.

٢٩٣

من الأخبار الواردة في إمام الجمعة وغيرها كقوله عليه‌السلام (١) : « لا تصل خلف من لا تثق بدينه وأمانته » ونحوها ، ولا ريب في ظهورها ظهورا لا يكاد ينكر في رد القول بالاكتفاء بالإسلام مع عدم ظهور الفسق ، كما أنها ظاهرة في رد القول بالملكة.

وقيل العدالة عبارة عن ملكة نفسانية تبعث على ملازمة التقوى والمروة ، والمراد بملازمة التقوى اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر ، بل هو من جملة الكبائر ، وبالمروة أن لا يفعل ما تنفر النفوس عنه عادة ، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة ، وعن مصابيح الظلام أنه المشهور بين الأصحاب ، بل عن الشيخ نجيب الدين العاملي نسبته إلى العلماء ، ولعل المراد المتأخرون ، وإلا فقد عرفت أن المتقدمين لم يأخذ أحد منهم ذلك في تعريفهم ، بل في الكفاية وعن الذخيرة لم أعثر على هذا التعريف لغير العلامة ، وليس في الأخبار له أثر ولا شاهد عليه فيما أعلم وكأنهم اقتفوا في ذلك أثر العامة ، وعن مجمع البرهان نحوه ، مع أنه نسبه في مجمع البرهان إلى أنه مشهور بين عامة العامة والخاصة ، فيكون قرينة على إرادة المتأخرين.

وحجتهم على ذلك كما قيل إن العدالة لغة الاستقامة وعدم الميل إلى جانب أصلا فإن الفسق ميل عن الحق والطريق المستقيم ، وموضوعات الألفاظ يرجع فيها إلى اللغة والعرف ، فلا بد أن يكون في الواقع استقامة ، لأن الألفاظ أسامي للمعاني الواقعية لا ما ثبت شرعا أو ظهر عرفا ، إذ ذلك خارج عن معنى اللفظ جزما ، فحيث صارت العدالة شرطا فلا بد من ثبوتها والعلم بها ، لأن الشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط ، فمقتضى ذلك العلم بعدم الميل بحسب نفس الأمر ، ولا يحصل ذلك إلا بالمعاشرة الباطنية بحيث يحصل من ملاحظة حاله الوثوق والاطمئنان بأنه لا يميل ، وهو معنى الملكة والهيئة الراسخة ، وكذلك الحال في لفظ الفاسق ، وهو أمر معروف مشاهد في كثير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

٢٩٤

من الناس بالنسبة إلى بعض المعاصي كالزنا بالأم واللواط بالولد ونحو ذلك وإن كانت مراتبهم في ذلك ونحوه متفاوتة ، فمنهم من له ملكة في البعض ومنهم من له ملكة في الجميع ، فلا يمكن حينئذ للإنسان أنه يعلم عدالة شخص حتى يعلم أنه له ملكة يعسر عليه مخالفة مقتضاها بالنسبة إلى جميع المعاصي ، ولا يكون ذلك إلا باختيار الباطني وتتبع الآثار حتى تطمئن نفسه بحصولها في الجميع ، كما في الحكم بسائر الملكات من الكرم والشجاعة ونحوهما ، وربما ادعى بعضهم أنه يمكن رد كلام أكثر المتقدمين إلى ذلك ، كما أنه حمل الأخبار على إرادة تتبع الآثار المطلعة على الملكة ، سيما صحيحة ابن أبي يعفور ، فان هذه الأشياء المذكورة فيها غالبا توصل إلى اطمئنان النفس بالملكة.

لكنه كما ترى في غاية الضعف ، بل عليه لا يمكن الحكم بعدالة شخص أبدا إلا في مثل المقدس الأردبيلي والسيد هاشم على ما ينقل من أحوالهما ، بل ولا فيهما ، فإنه أي نفس تطمئن بأنهما كان يعسر عليهما كل معصية ظاهرة وباطنة ، كلا إن ذلك لبهتان وافتراء ، بل الإنسان من نفسه لا يعرف كثيرا من ذلك ، ومن العجيب تنزيل صحيحة ابن أبي يعفور على الاطمئنان في حصول الملكة في جميع المعاصي بواسطة اجتناب المذكور فيها منها التي هي بالنسبة إليه في جنب العدم ، وكيف يعرف الشخص ببعض أحواله ، مع أنا نرى بالعيان تفاوت الناس أجمع في ذلك ، فكم من شخص تراه في غاية الورع متى قهر بشي‌ء أخذ يحتال ويرتكب ما لا يرتكبه غيره من المحرمات في قهر من قهره ، كما نرى ذلك كثيرا في أهل الأنفة والأنفس الأبية ، وآخر متى أصابه ذل ولو حقيرا ارتكب من الأمور العظيمة التي تستقر بها نفسه ما لا يفعله أعظم الفساق ، بل أغلب الناس كذلك وإن كانت أحوالهم فيه مختلفة ، فمنهم بالنسبة إلى ماله ، ومنهم بالنسبة إلى عرضه ، ومنهم بالنسبة إلى أتباعه وأصحابه ، فدعوى أنه بمجرد الخلطة على جملة من أحواله يحصل الجزم والاطمئنان بأنه في سائر المعاصي ظاهرها وباطنها ما عرض‌

٢٩٥

له مقتضاها وما لم يعرض له ملكة يعسر عليه مخالفتها مقطوع بفسادها.

وكيف وقد سئل الأردبيلي على ما نقل ما تقول لو جاءت امرأة لابسة أحسن الزينة متطيبة بأحسن الطيب وكانت في غاية الجمال وأرادت الأمر القبيح منك فاستعاذ بالله من أن يبتلى بذلك ، ولم يستطع أن يزكي نفسه ، فمن الواضح فساد ذلك كله سيما بالنسبة إلى حال كثير من رواة الأخبار ، وإن قلنا بكون التزكية من الظنون الاجتهادية لكن دعوى حصول الظن بالملكة العامة لسائر المعاصي كذب وافتراء وغيرهما بمجرد نقل بعض أحواله كما ترى ، ومراعاة الأخبار تقضي بأن العدالة أمرها سهل كما ينبئ عنه الحث على الجماعة سفرا وحضرا ، وقولهم : إذا مات الإمام أو أحدث قدم شخص آخر ممن خلفه ، على أن أمر العدالة محتاج إليه في كثير من الأشياء كالطلاق والديون والوصايا وسائر المعاملات ، وهي على هذا الفرض في غاية الندرة ، بل لا يخلو من العسر والحرج قطعا ، بل ظاهر الرواية (١) التي هي مستندهم خلافه ، لقوله عليه‌السلام فيها : « ساترا لعيوبه وأن يكون معروفا بالستر والعفاف وإذا سئل عنه قيل لا نعلم منه إلا خيرا » خصوصا مع ملاحظة لفظ الستر ، بل قد يقطع بعدم وجود الملكة في أكثر أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك صدر منهم ما صدر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكتمان الشهادة ، حتى ورد أنهم كلهم دخلهم شك عدا المقداد وأبي ذر وسلمان وعمار ، واحتمال زوالها عنهم بمجرد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستبعد جدا كما في سائر أهل الملكات ، إذ الظاهر أن الملكة على تقدير زوالها إنما تزول بالتدريج لا دفعة كما اتفق لهم ، فتأمل.

مضافا إلى أن الحكم بزوالها عند عروض ما ينافيها من معصية أو خلاف مروة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١.

٢٩٦

ورجوعها بمجرد التوبة ينافي كونها ملكة ، واحتمال أن المراد الملكة مع عدم وقوع أحد الكبائر خلاف ظاهر تعريفهم من أنها عبارة عن الملكة الباعثة على ذلك ، ولا ريب أن اتفاق وقوع الكبيرة لا يرفع أصل الملكة ، وإرادة أنه يرتفع الحكم بها يدفعها حكمهم بعودها بمجرد التوبة من غير حاجة إلى تجديد الاختبار.

ودعوى أن ذلك أمر تعبدي شرعي للإجماع ، وإلا فلا يحتاج للاختبار للملكة نعم يحتاج إلى زمان يعرف منه الندم ، وقد يظهر ذلك في أيسر زمان ، يدفعها أن الثابت من الشارع أنه بفعل ذلك يكون فاسقا لا عدلا غير مقبول الشهادة مثلا كما هو مقتضى التعريف ، وكون الشأن فيها كالشأن في الكريم إذا بخل والشجاع إذا جبن يقتضي عدم ارتفاعها بذلك ، كما لا يرتفع الحكم بكونه شجاعا وكريما بعد حصول الملكة.

وأيضا قد اشتهر بينهم تقديم الجرح على التعديل لعدم حصول التعارض ، لكون المعدل لا يعلم والجارح عالم ، ومن لا يعلم ليس حجة على من علم ، ولو كان من باب الملكة لكان من باب التعارض ، لأن المعدل يخبر عن الملكة والآخر يخبر عن عدمها ، بل عن ملكة الفسق ، اللهم إلا أن أهل الملكة ينفون الحكم بمقتضاها بمجرد وقوع الكبيرة مثلا وإن لم تذهب الملكة ، فلا يكون تعارضا بينهما ، إذ قد يكون الجارح اطلع على فعل كبيرة ولا ينافي ذلك إخبار العدل بحصول الملكة ، نعم لو كان الجرح بما يرفع الملكة اتجه التعارض ، فتأمل جيدا.

ومع ذلك كله فلم يتضح لنا ما أرادوا بحجتهم السابقة ، أما أولا فلأنا قد بينا أن العدالة لها حقيقة شرعية ، وثانيا لو قلنا ببقائها على المعنى اللغوي فالظاهر بل المقطوع به عدم إرادته هنا ، لكون الاستقامة والاستواء حقيقة في الحسي ، فلا بد أن يراد بهما هنا معنى مجازي ، وكونه عدم الميل الذي يلزمه الملكة ليس بأولى من عدم انحراف الظاهر واعوجاجه.

٢٩٧

والمناقشة في جميع ما ذكرنا أو أكثره بأنها وإن كانت هي الملكة لكن الطريق إليها حسن الظاهر يدفعها وضوح منعها إن أريد حصول الاطمئنان من الطريق المزبور بحصولها ، لما عرفت من أن حسن الظاهر باستقراء بعض أحوال الشخص لا يفيد الاطمئنان بحصول الملكة في الجميع بل البعض ، ورجوع النزاع لفظيا إن أريد كونه طريقا تعبديا ، ولا فائدة حينئذ في ذكرها واشتراطها ، بل فيه إيهام خلاف المراد.

كالمناقشة فيه أيضا بأن قضية كونها حسن الظاهر عدم انقداحها بوقوع الكبيرة تسترا ، ولعله الظاهر من بعضهم حيث قال : إن العادل هو الذي يستر عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ، لا أنه الذي يكون لا عيب له ولا عثرة ، نعم لا بد أن لا يظهر منه ذلك ، فحينئذ إذا صدر منه باطنا يجب إخفاؤه بحيث لو أظهره مظهر يصير فاسقا ، لحرمة الغيبة وإشاعة الفاحشة ووجوب ستر العورة ، مضافا إلى حرمة التجسس ، قال الله تعالى (١) ( وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) وقال (٢) ( الَّذِينَ يُحِبُّونَ ) إلى آخره ، والأخبار الدالة على التحريم وشدة الحرمة والعقوبات الشديدة متواترة ، مضافا إلى إجماع المسلمين بل بداهة الدين ، فحينئذ إذا صدر من أحد ذلك وجب الحكم بتفسيقه ، وهو ظاهر في أن حسن الظاهر لا يقدح فيه وقوع الكبيرة باطنا متسترا بحيث يحرم على أحد أن يخبر عنه بذلك ، فينبغي أن يكون عدلا عند هذا المطلع فضلا عن غيره ، لعدم انقداح حسن الظاهر.

بل قضيته عدم ثبوت الجرح أبدا ، وإلا ينفي حسن الظاهر ، وحينئذ يكون من باب التعارض بينه وبين المعدل ، فلا معنى لتقديم قوله على قول المعدل ، وأيضا لو كان ذلك قدحا في حسن الظاهر لم يكن لإعادة ذلك بصدور التوبة منه معنى.

__________________

(١) سورة الحجرات ـ الآية ١٢.

(٢) سورة النور ـ الآية ١٨.

٢٩٨

إذ يدفعها أيضا ظهور إرادة القائلين بأن العدالة حسن الظاهر اشتراط ذلك بعدم وقوع الكبيرة منه مع ذلك وإن أطلقوا ، فيكون العدالة منهم حسن الظاهر مع عدم وقوع الكبيرة معه ولو باطنا.

أو يقال إن العدالة عندهم كما يومي اليه كلام ابن إدريس وغيره عبارة عن اجتناب جميع الكبائر التي منها الإصرار على الصغائر واقعا سواء كان ذلك عن ملكة أو كان بعضها عنها والآخر عن مجرد اتفاق ، لكن الطريق إلى الحكم بكون الرجل مجتنبا للكبائر حسن الظاهر على حسب ما يستفاد من الأخبار ، فيكون هي في الواقع ذلك وإن كان الحكم بتحققها شرعيا ، فمن اطلع حينئذ على وقوع كبيرة من شخص ولو متسترا ذهبت عدالته ، ولا يجوز له أن يصلي خلفه ، إذ حسن الظاهر غير مثمر بعد الاطلاع على انتفائها ، إذ الفرض أنها عبارة عن اجتناب الكبائر واقعا ، ولا ينافي ذلك كونه يحرم على المطلع أن يتكلم لمكان كونه غيبة ، نعم لو دعي إلى الشهادة في مقام الجرح وجب عليه أن يشهد للإجماع على جوازها في مثل هذا المقام ، وتنقدح حينئذ أصل العدالة وإن كان صدور المعصية منه على وجه التستر بحيث لا ينافي حسن الظاهر قطعا ، ومن ذلك يظهر حينئذ وجه تقديم الجرح على التعديل ، لكون المعدل يثبت حسن الظاهر والجارح لا ينفيه ، بل يقول : إني اطلعت منه على ما يذهب العدالة وإن بقي حسن ظاهره.

فقول الأصحاب العدالة حسن الظاهر لا يخلو من مسامحة ، إذ حسن الظاهر نفسه ليس بعدالة ، بل العدالة غيره ، وهو طريق إليها ، وليست هي الملكة كما يقوله المتأخرون ، فتأمل جيدا.

ودعوى أن الملكة عندهم هي هذه القوة التي انتظم بها حسن الظاهر ، إذ حسن الظاهر لا يكون إلا عن ملكة وقوة يصدر عنها واضحة المنع أولا ، والفساد ثانيا ،

٢٩٩

ضرورة كثرة وقوع ملكة التدليس ، على أن حسن الظاهر قد يكون لا عن ملكة بل مجرد اتفاق ، بل لا معنى لاشتراط الملكة حينئذ بالتقرير المتقدم ، بل هو في الحقيقة رجوع للقول بحسن الظاهر ، كما هو واضح.

فظهر لك من ذلك كله بحمد الله شدة ضعف القول بأنها الملكة ، بل لعله مساو في الضعف للقول الأول فيها ، وقد سمعت أن الخراساني اعترف بعدم الشاهد له في فتاوى القدماء من أصحابنا ، وأنه اقتفوا به أثر العامة ، وبأنه لا شاهد له في النصوص أصلا ، ولعله كذلك ، والصحيحة (١) التي هي أشد ما ورد في أمر العدالة قد عرفت أنه لا دلالة فيها على القول بالملكة بوجه من الوجوه ، مع أنها على اختلاف متنها قد اشتملت على ما لا يقدح في العدالة إجماعا كحضور الجماعة ، ومن هنا احتمل بعضهم أن يراد بها كون الرجل معروف العدالة بين المسلمين حتى تصير شهادته حجة لكل من احتاج منهم ، ومتلقاة بالقبول ، ودلت أيضا على أن حضور الجماعة واجب ، وأنه يحرق بيت من لم يحضرها ، ولعل المراد من لم يحضرها رغبة عنها مع وجود إمام المسلمين عليه‌السلام ، فان ذلك قد يؤدي إلى الكفر ، والأمر سهل.

لكن قد يناقش الخراساني بأن في بعض النصوص إشارة إلى اعتبار الملكة في العدالة‌ كالخبر المروي (٢) عن تفسير العسكري عن علي بن الحسين (ع) واحتجاج الطبرسي عن الرضا عنه عليهما‌السلام قال : « إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته ومنبته وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويدا لا يغرنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف قيمته ( بنيته خ ل ) فنصب الدين فخا لها ، فهو لا يزال يخيل الناس بظاهره ، فان تمكن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١٤.

٣٠٠