جواهر الكلام - ج ١٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بل والصف الثاني الزائد على الصف الأول بحيث لا يشاهدون الأول في جهة الإمام ، بل وبطلان صلاة من وقف بين الأساطين إذا كان لا يشاهد المأمومين إلا من الجانبين أو أحدهما دون جهة الإمام ، مع أن صحيح الحلبي (١) دل على أنه لا بأس بالصلاة بين الأساطين ، إلى أن قال : وبالجملة فما ذكره من الأوهام البعيدة والتشكيكات الغير السديدة.

قلت : لا ريب في ظهور الصحيح المزبور بقصر الصحة على خصوص من كان بحيال الباب من الصف وحصرها ، ودعوى إرادة الإضافي من ذلك بالنسبة إلى الصف السابق على هذا الصف كما في المدارك تهجم من غير شاهد ولا مقتض ، كدعوى إرادة الصف الذي بحيال الباب لانصباب الصحيح جميعه على ذلك كما في الحدائق ، ضرورة كون بعض الصف حيال الباب ، بل الواحد منه في الحقيقة ، فوصف جميعه بذلك باعتبار هذا البعض لا شاهد له أيضا ولا مقتض ، بل لفظ « من » فيه بعد ذكر الصف كالصريح بخلافه ، لظهور إرادة من كان بحيال الباب من الصف ، كما هو واضح ودعوى استلزام ذلك بطلان صلاة طرفي الصف الأول كما سمعت يدفعها منع كون منشأ البطلان فيما ذكرنا عدم تحقق المشاهدة الإمامية كي يستلزم ذلك ، بل هو وجود الحائل والحاجز المفقود في الصف الأول ، إذ ليس في شي‌ء من الأدلة اشتراط المشاهدة للإمام أو لمشاهدة ولو بوسائط حتى يكون المسألتان من واد واحد ، بل قصارى ما يستفاد من الصحيح بطلان الصلاة مع تحقق السترة أو الجدار ، وهذا مفقود بالنسبة إلى الصف الأول أو الثاني بالغا ما بلغ في الطول ، فاتضح الفرق بين المسألتين.

وأما بطلان صلاة الواقف بين الأساطين فمع فرض صيرورتها حائلا بين الامام والمأموم أو بين الصفين ولو بالنسبة إلى البعض فلا استنكار فيه ، بل هو من المسألة حتى لو كان متصلا بمشاهد ، المشاهد لصدق السترة والجدار ، وتصريح بعض الأصحاب بأنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٩ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

١٦١

لا بأس به بين الأساطين بل نسب إلى الجم الغفير من القدماء والمتأخرين لا حجة فيه ، أو ينزل على إرادة البينية التي لا تكون بها حائلة بأن يكون المصلي متوسطا بينها ، أي بعضها على يمينه وآخر على شماله لا أمامه وخلفه بحيث تكون حائلة ، أو على عدم حيلولة الأسطوانة كما يومي اليه عبارة البيان « ولا يعد الطريق والأساطين والماء حائلا » وفي المجمع الأسطوانة بضم الهمزة والطاء السارية ، كصحيح الحلبي وغيره مما نفى فيه البأس عن الصلاة بينها ، وإلا كان معارضا بصحيح الحائل ، وبينهما عموم من وجه ، أو يدعى خروج نحو الأساطين وقوائم المسجد ونحوها بإجماع أو غيره ، إلا أن دون إثباته خرط القتاد ، كما أن دون إثبات اتفاق الأصحاب على خلاف ما استظهرناه من صحيح الحائل ذلك أيضا ، وإن ادعي.

بل قد يدعى موافقة جملة من عبارات الأصحاب له ، منها ما في القواعد « ولو صلى الإمام في محراب داخل صحت صلاة من يشاهده من الصف الأول خاصة وصلاة الصفوف الباقية أجمع ، لأنهم يشاهدون من يشاهده » ومنها عبارة الكتاب فيما يأتي ، ومنها عبارة الموجز « ولو كان في محراب صحيح صح مشاهدة في الأول وبواقي الصفوف وبطل الجناحان » ومنها عبارة الدروس « ولو صلى الإمام في محراب داخل بطلت صلاة الجناحين من الصف الأول خاصة » ونحوها البيان أيضا ، بل منها ما في التذكرة أيضا المصرح فيها بما سمعته سابقا من المنتهى « لو وقف الإمام في المحراب الداخل في الحائط فإن صلاة من خلفه صحيحة ، لأنهم يشاهدونه ، وكذا باقي الصفوف التي من وراء الصف الأول ، أما من على يمين الامام ويساره فان حال بينهم وبين الإمام حائل لم تصح صلاتهم وإلا صحت » اللهم إلا أن يريد بقرينة تصريحه السابق الجناحين المنفصلين المتقدمين على الصف الأول المتصل ، كما أن ذلك محتمل الدروس والبيان أيضا خصوصا بعد ذكرهما قبيل ذلك الاكتفاء بالمشاهدة ولو بوسائط ، بل والموجز أيضا ، بل لعل وصف المحراب‌

١٦٢

بالصحيح فيه مشعر بذلك ، إذ الظاهر منه إرادة ما ذكره جماعة من المتأخرين في تفسير المحراب الداخل الواقع في عبارات الأصحاب ، قال بعضهم : المراد الداخل في المسجد لا الحائط على معنى أنه يكون له جدران مستقلة في المسجد حتى يتم ما ذكروه من الحكم بصلاة من إلى جانبيه ، ضرورة حصول الحائل حينئذ ، بخلاف الداخل في الحائط ، فإنه لا جانب له يقف فيه المأموم بحيث لا يشاهد الامام ، بل الغالب اتصال الصف خلفه ، فيشاهده مقابله حينئذ ، وتتم صلاة الباقي الذين عن يمينه وشماله لمشاهدتهم مشاهده فلا وجه للبطلان المذكور في كلامهم ، اللهم إلا أن يفرض محراب داخل في الحائط يكون كالمحراب الأول.

لكنك خبير أن ذلك منه بناء على صحة صلاة من على جانبي المقابل للإمام في الصف الأول ، لمشاهدتهم له بطرف عيونهم ، ومن هنا التجأوا إلى تفسير العبارات بما سمعت ، بل هذا منه شهادة على ظهورها فيما ذكرنا ، نعم هي ظاهرة في صحة صلاة جميع الصف الثاني المقابل للمشاهد وغيره ، لعدم صدق الحائل بين الصفين ، وإن كانت صحة الصلاة منحصرة في المقابل من الصف الأول ، والباقي بمنزلة العدم ، إذ المراد بالصف الواحد فما زاد ، فيكون حينئذ حاله كحال الإمام بالنسبة إلى الصف الأول وإن طال ، فإنه يكفي تقدم الامام عليه وعدم الحيلولة بينهما ، فكذا الصف الثاني بالنسبة إلى ما تقدم ، لا أن منشأ الصحة فيه مشاهدة كل منهم الآخر بطرف عينه حتى ينتهي إلى المقابل كي يرد أن ذلك حاصل في الصف الأول الذي هو خلف الجدار حتى ينتهي إلى الذي هو بحذاء الباب ، ولعله لبعض ما ذكرناه بالغ الأستاذ الأكبر في شرحه على المفاتيح على ما حكي عنه في الإنكار على المنتهى والمدارك ومن تبعهما في تفسير الصحيح بما سمعته أولا ، وحكمهم بصحة صلاة تمام الصف الخارج عن المسجد إذا كان بعضه محاذيا للباب ، لتحقق المشاهدة بالمعنى المتقدم حتى ادعى أنهم خالفوا بذلك النص‌

١٦٣

وفتاوى الأصحاب ، مستشهدا عليه بعباراتهم التي سمعتها في المحراب ، وهو وإن كان ما فيه من دعوى صراحة تلك العبارات بذلك محلا للنظر أو المنع ، لكنه جيد بالنسبة إلى أصل الحكم ، ضرورة أن هذه المشاهدة التي اعتبروها واكتفوا منها بما سمعت مما لا نعرف لها مأخذا معتدا به ، وبعد التسليم فلم ينقحوا سائر ما يتصور عليها من الفروع كالاكتفاء بمجرد حصولها ولو بطرف العين من بعد ، أو لا بد من الاتصال بمن تلحظه بطرفك بمعنى أنه لو فرض وقوف الامام خلف حائل لا يحصل بسببه البعد عن الجماعة ولكنه لم يكن متصلا بالمشاهد بالوسائط إلا أنه يلحظ بعينه بعض أطراف الجماعة المتباعدة ، ولا غير ذلك من الفروع ، وإن كان الظاهر من مطاوي كلماتهم الاكتفاء بنحو ذلك ، إلا أنه حيث كانت الجماعة من العبادات التوقيفية والذمة مشغولة بيقين وجب عدم ترك الاحتياط الذي هو ساحل بحر الهلكة فيه وفي سابقه مما عرفت ، وإن كان المتعارف في عصرنا هذا عدم تجنب شي‌ء من قوائم المساجد ونحوها ، بل قد يعد فعله من المنكرات ، بل في الذكرى « الإجماع عملا في جميع الأعصار على الصلاة جماعة بالاستدارة على الكعبة » إلى آخره ، وهو مما يرشد إلى أصل المسألة من الاكتفاء بالمشاهدة المزبورة ، وعدم قدح الحائل مع الاتصال بمشاهد المشاهد ، والله أعلم.

ثم إن ذلك كله لو كان المأموم رجلا ، بل وامرأة بامرأة لأصالة الاشتراك ، بل وإطلاق معاقد الإجماعات بل والنص في وجه وإن كان ضعيفا ، بل ظاهر المحكي عن الغرية الإجماع عليه بالخصوص ، بل وعلى المأموم الخنثى ، وهو كذلك ، لإطلاق الأدلة ، وعدم معلومية اندراجها في الامرأة ، وإلزاما لها بالمتيقن في البراءة من الشغل ولذا لو كانت إماما لامرأة لم يغتفر الحائل ، لعدم معلومية كونها ذكرا ، كما عن الميسية التصريح به.

نعم لو أيتمت المرأة بالرجل اغتفر الحائل كما ذكره المصنف مستثنيا له من الحكم‌

١٦٤

بعدم الصحة مع السابق ، فقال كغيره من الأصحاب إلا أن يكون المأموم امرأة فيصح ولو مع الحائل من جدار وغيره ، بل لا أجد فيه خلافا بينهم كما اعترف به بعضهم إلا من الحلي فجعلها كالرجل في الفساد بعد اعترافه بورود رخصة لها في ذلك ، ولا ريب في ضعفه ، للمرسل الذي حكاه بعد انجباره بعمل الأصحاب عداه ، والموثق (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلي بالقوم وخلفه دار فيها نساء هل يجوز لهن أن يصلين خلفه؟ قال : نعم إن كان الإمام أسفل منهن ، قلت : فان بينهن وبينه حائطا أو طريقا قال : لا بأس » بل والأصل في وجه ، وإطلاقات الجماعة بناء على تنقيح شمولها لمثل ذلك السالمة عن معارضة نص الفساد بعد ظهوره في غير الامرأة ، فتبقى خيرة الحلي حينئذ لا مستند لها ، كما أنه يتعين القول بخلافها وهو الجواز ، لكن عن جماعة كثيرين تقييده بما إذا علمت أحوال الإمام في انتقالاته وحركاته ، ولعله مستغنى عنه ، كما هو واضح.

وكذا لا تنعقد الصلاة والامام أعلى من المأمومين بما يعتد به كالأبنية علوا دفعيا لا انحداريا على الأشهر ، بل المشهور نقلا وتحصيلا ، بل عن المهذب والمقتصر نفي الخلاف فيه ، بل في التذكرة نسبته إلى علمائنا مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، للأصل في وجه ، وموثق عمار (٢) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن الرجل يصلي بقوم وهم في موضع أسفل من موضعه الذي يصلي فيه؟ فقال : إن كان الامام على شبه الدكان أو على موضع أرفع من موضعهم لم تجز صلاتهم وإن كان أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقل إذا كان الارتفاع ببطن مسيل ، فان كان أرضا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٣ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

١٦٥

مبسوطة وكان في موضع منها ارتفاع فقام الإمام في الموضع المرتفع وقام من خلفه أسفل منه والأرض مبسوطة إلا أنهم في موضع منحدر فلا بأس ، قال : وسئل الإمام عليه‌السلام فان قام الإمام أسفل من موضع من يصلي خلفه ، قال : لا بأس ، وقال : إن كان رجل فوق بيت أو غير ذلك دكانا كان أو غيره وكان الامام يصلي على الأرض أسفل منه جاز للرجل أن يصلي خلفه ويقتدي بصلاته وإن كان أرفع منه بشي‌ء كثير ».

وما في المدارك ـ من أن هذه الرواية ضعيفة السند ، متهافتة المتن ، قاصرة الدلالة ، فلا يسوغ التعويل عليها في إثبات حكم مخالف للأصل ـ يدفعه ـ مع أنها من الموثق الذي هو حجة عندنا في نفسه ، مضافا إلى الإجماع عن الشيخ في العدة على العمل بروايات عمار ـ انجبارها بما عرفت ، وبذكرها في الكافي والفقيه ، واعتضادها بمفهوم‌ موثقته الأخرى (١) سئل الصادق عليه‌السلام « عن الرجل يصلي بالقوم وخلفه دار فيها نساء هل يجوز لهن أن يصلين خلفه؟ قال : نعم إن كان الإمام أسفل منهن » وبالمرسل العامي (٢) على الظاهر « إن عمارا تقدم للصلاة على دكان والناس أسفل منه فقدم حذيفة رضي‌الله‌عنه فأخذ بيده حتى أنزله ، فلما فرغ من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم؟ قال عمار : فلذلك تبعتك حين أخذت بيدي » والمرسل الآخر (٣) « إن حذيفة أم على دكان بالمدائن فأخذ عبد الله بن مسعود بقميصه فجذبه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال : بلى ذكرت حين جذبتني » بل وب‌ خبر محمد بن عبد الله (٤) أو معتبرة على بعض الوجوه ، سأل الرضا عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٣ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

(٢) سنن البيهقي ج ٣ ص ١٠٩.

(٣) سنن البيهقي ج ٣ ص ١٠٨ وفيها « أبو مسعود » بدل « ابن مسعود ».

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦٣ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

١٦٦

« عن الامام يصلي في موضع والذين خلفه يصلون في موضع أسفل منه ، أو يصلي في موضع أرفع منه ، فقال : يكون مكانهم مستويا » بناء على إرادة مطلق الرجحان من الجملة الخبرية فيه ، فلا ينافي الندب حينئذ في غير صورة الفرض ، فتأمل.

وتهافت المتن في غير روايات عمار غير قادح فضلا عنه الذي لا زالت رواياته المعمول بها بين الأصحاب كذلك ، على أن موضع الحاجة من روايته هنا سالم عن التهافت ، إذ ليس هو إلا في‌ قوله : « وإن كان أرفع » إلى آخره ، فإنه‌ عن الفقيه روايته « إذا كان الارتفاع يقطع سبيلا » وعن بعض نسخ التهذيب « ببطن مسيل » وعن أخرى « بقطع مسيل » وعن ثالثة « بقدر يسير » ورابعة « بقدر شبر » وأوضحها الأخيرتان ، بل الأخيرة المؤيدة بوضوح اللفظ والمعنى ، وبرواية التذكرة والذكرى لها كذلك وإن اختلفاهما أيضا في كيفية الرواية ، ففي الأولى ما سمعته من متن الخبر سوى‌ قوله : « بقدر شبر » وفي الثاني « ولو كان أرفع منهم بقدر إصبع إلى شبر ، فان كان » إلى آخره ، ثم قال بعد أن روى ذلك : إنها تدل بالمفهوم على منع الزائد على الشبر ، وأما هو فيبني على دخول الغاية في المغيا وعدمه ، وكأنه فهم أن جواب الشرط فيه لا بأس ، وإلا فهو فيه غير مذكور ، وسياقه يقتضي أن يكون لا بأس ، واحتمال أن الجواب‌ قوله : « فان كان أرضا مبسوطة » كما هو الظاهر على رواية الذكرى له ـ مع أنه مغن عن‌ قوله فيه : « وكان في موضع منها ارتفاع » ـ يدفعه أنه يقتضي تخصيص العفو عن المقدار المزبور بالعلو الانحداري.

مع أن الظاهر اغتفار العلو اليسير في الدفعي كما صرح به غير واحد من الأصحاب بل كأنه لا خلاف فيه ، بل في التذكرة وعن إرشاد الجعفرية الإجماع عليه وإن اختلف في تقديره بشبر كما عن جماعة للرواية على إحدى النسخ ، أو بما لا يتخطى كما في التذكرة والدروس والموجز والمدارك ، وقربه في البيان ، كما عن جماعة الميل اليه لحسن زرارة‌

١٦٧

المتقدم (١) وكونه كالبعد ، واضطراب خبر الشبر لاختلاف نسخه الموجب للاعراض عنه إذا لم يترجح أحدها لا التخيير بينها بناء على عدم كونها كاختلاف الأخبار وإن كان هو محتملا ، وعدم تقديره بشي‌ء منهما بل يوكل إلى العرف كما في السرائر والذكرى والمسالك وعن غيرها ، بل نسبه في الحدائق إلى الأكثر ، ولعله يرجع اليه ما في الكتاب والقواعد من الاقتصار على المعتد به ، وكأنه لا يخلو من قوة ، كما أنه يمكن رجوع التحديد بما لا يتخطى إليه أيضا على أن يكون تقديرا للعرف كما أومأ إليه الشهيدان وسبط الثاني منهما ، بل يمكن دعوى تحقق العلو المعتد به عرفا بالشبر ، ويدفعه أيضا أنه يقتضي تخصيص العفو في العلو الانحداري بما إذا كان بالمقدار المزبور ، مع أن المعروف من الفتاوى تخصيص العفو بذلك في الدفعي ، وإلا فالانحداري معفو عنه مطلقا كما هو قضية معقد نفي الخلاف تارة ، والإجماع أخرى ، بل عن المهذب وإرشاد الجعفرية التنصيص على أنه يغتفر في الانحداري وإن كان علوه بالمعتد به ، نعم قيده المحقق الثاني والشهيد الثاني على ما حكي عن أولهما بما إذا لم يحصل البعد المفرط ، وكأنه قوي ، لإطلاق دليل المنع في العلو من غير معارض ، إذ ليس هو إلا هذا الموثق ، ولا إطلاق فيه بحيث يشمل ذلك ، بل قد يدعى ظهوره في اغتفار خصوص الانحداري الذي يتراءى بحسب النظر مبسوطا ككثير من الأراضي لا ما يكون علوه ظاهرا وإن كان بالتدريج كبعض الجبال ونحوها فتأمل.

وأما احتمال جعل الشرط في الموثق وصليا حتى على نسخة « بقطع مسيل » على أن يكون المراد كون الارتفاع على سبيل القطع والابانة والامتياز أي يكون قطعة خاصة‌

__________________

(١) ذكر صدره في الوسائل في الباب ـ ٦٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢ وذيله في الباب ٥٩ منها ـ الحديث ١.

١٦٨

مرتفعة عن قطعة أخرى بعنوان الإبانة والامتياز لا علوا انحداريا الذي لا ظهور فيه ولا امتياز ، أو يراد إذا كان الارتفاع يقطع سبيلا أو مسيلا باعتبار علوه الدفعي دون الانحداري ، لكن على هذا يجب نصب السبيل أو المسيل ، ففيه مع ركاكته خصوصا الأخير أنه يقتضي عدم العفو عن العلو اليسير الذي قد عرفت الإجماع على العفو عنه ، وإن كان قد يظهر من بعض علمائنا المتأخرين احتماله ، لخبر محمد بن عبد الله (١) المتقدم سابقا ، إلا أنه لا يخفى عليك قصوره عن معارضة ما يقتضي العفو من وجوه.

وكيف كان فتهافت الرواية بالنسبة إلى ذلك ـ مع إمكان علاجه ولو بتكلف ، بل لا تكلف فيه بناء على‌ رواية التنقيح له « ولو كان أرفع منهم بقدر إصبع إلى شبر أو كان أرضا مبسوطة أو في موضع فيه ارتفاع وكان الإمام في المرتفع إلا أنهم في موضع منحدر فلا بأس » إذ يكون حينئذ قوله : « لا بأس » جوابا عن الجميع ـ لا يقدح في حجيتها بالنسبة إلى غيره مما نحن فيه من عدم اغتفار علو الامام ، خصوصا بعد انجبارها واعتضادها بما سمعت.

فما في موضع من الخلاف ـ من كراهية ذلك مستدلا بإجماع الفرقة وأخبارهم ، كظاهره في موضع آخر منه حيث عبر عنه بلا ينبغي مع احتمال إرادته الحرمة فيهما بقرينة استدلاله عليه بالإجماع وموثق عمار السابق ـ ضعيف جدا وإن مال إليه في المدارك والمفاتيح وعن صاحب المعالم وتلميذه في الاثنى عشرية وشرحها ، ولم يجزم به المصنف ، بل قال على تردد كظاهره في النافع وعن الذخيرة ومجمع البرهان ، لعدم ما يقتضي شيئا من ذلك سوى‌ مرسل سهل (٢) الذي هو ليس من طرقنا على الظاهر ، إنه قال : « رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه ثم ركع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٣ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

(٢) سنن البيهقي ج ٣ ص ١٠٨.

١٦٩

وهو على المنبر ، ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ، ثم عاد حتى فرغ ، ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس فعلت كذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي » وهو ـ مع منعه أولا ، خصوصا مع موافقته لظاهر المحكي عن الشافعي بل وأبي حنيفة ، وقصوره عن معارضة ما تقدم من وجوه ثانيا ـ محتمل لكون العلو بما لا يعتد به كالمرقاة السفلى وكونه من خواصه ، أو لإرادة مجرد تعليم الصلاة المحتاج إلى الصعود على مرتفع كي يشاهد ، لا أنها صلاة حقيقة ، وغير ذلك ، وسوى الإجماع المدعى في الخلاف الذي هو على تقدير إرادة الكراهة منه واضح المنع ، فوجب الركون حينئذ إلى الموثق المذكور بالنسبة إلى ما تضمنه من الحكم المزبور من غير فرق بين المأمومين الأضراء والبصراء ، لإطلاق الأدلة السابقة.

فما عن أبي علي ـ من أنه لا يكون الإمام أعلى في مقامه بحيث لا يرى المأموم فعله إلا أن يكون المأمومون أضراء ، فإن فرض البصراء الاقتداء بالنظر ، وفرض الأضراء الاقتداء بالسماع إذا صح لهم التوجه ـ في غاية الضعف ، بل وإلى ما تضمنه من الأحكام الأخر كاغتفار العلو الانحداري الذي أشار إليه المصنف جازما به من غير تردد ، فقال ويجوز أن يقف على علو من أرض منحدرة وقد سمعت البحث فيه فيما تقدم ، وكاغتفار العلو الدفعي المعتد به بالنسبة للمأموم فضلا عن الانحداري وغير المعتد به من الدفعي كما يدل عليه الموثق الآخر (١) أيضا ، وأشار إليه المصنف أيضا بقوله ولو كان المأموم على بناء عال كان جائزا كغيره من الأصحاب ، بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في الرياض ، بل في المنتهى وعن الذخيرة نسبته إلى علمائنا ، وفي المدارك إلى قطع الأصحاب مشعرين بدعوى الإجماع ، بل في الخلاف والتنقيح دعواه صريحا ، وفي المفاتيح لا بأس به قولا واحدا ، بل في التذكرة والروض وعن الغرية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٣ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

١٧٠

الإجماع على صحة صلاة المأموم وإن كان على شاهق ، كما أنه نسب الصحة إلى علمائنا وإن كان على سطح في كشف الالتباس على ما حكي عنه ، ولعله يرجع إليهما ما في السرائر وإن قيده بأن لا ينتهي إلى حد لا يمكنه الاقتداء به ، ضرورة خروج ذلك عن محل البحث.

نعم قيد العلو في البيان والروض بل وكذا حاشية الإرشاد وعن الجعفرية وإرشادها وفوائد الشرائع والغرية والروضة بما لم يؤد إلى العلو المفرد ، بل عن النجيبية الإجماع عليه ، ولا ريب في مخالفته لما عرفت إذا لم يرد به ما سمعته من السرائر ، كما أنه لا ريب في ضعفه حينئذ لإطلاق كثير من الأدلة وصريح بعضها ، بل كاد يكون صريح الموثق السابق ، ودعوى استلزام ذلك البعد المفرط يدفعها ظهور دليل الفساد فيه بالبعد من غير جهة العلو.

ولا يجوز تباعد المأموم عن الامام بما يكون كثيرا في العادة إذا لم يكن بينهما صفوف متصلة لا تباعد بينها كذلك على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة كادت تكون إجماعا ، بل هو كذلك في ظاهر التذكرة للأصل بل الأصول بعد توقيفية الجماعة وقصور إطلاقاتها عن تناوله مثل ذلك ، لعدم معهوديته بل معهودية خلافه ، خلافا للمحكي عن المبسوط من التحديد بثلاثمائة ذراع ، وعن الخلاف بما يمنع من مشاهدته والاقتداء بأفعاله حتى لو أرادا تحديد الكثرة العادية بذلك ، ضرورة تحققها بالأقل منه قطعا ، على أنا لم نتحقق هذه عنهما ، إذ الموجود في أولهما « وحد البعد ما جرت العادة في تسميته بعدا ، وحد ذلك قوم بثلاثمائة ذراع ، قالوا : إن وقف وبينه وبين الإمام ثلاثمائة ذراع ثم وقف آخر بينه وبين هذا المأموم ثلاثمائة ذراع ثم على هذا الحساب والتقدير بالغا ما بلغوا صحت صلاتهم ، قالوا : وكذلك إذا اتصلت الصفوف في المسجد ثم اتصلت بالأسواق والدروب بعد أن يشاهد بعضهم بعضا ويرى الأولون‌

١٧١

الإمام صحت صلاة الكل ، وهذا قريب على مذهبنا أيضا » ومراده بالقوم بعض الجمهور قطعا ، وإلا فلا قول لأحد من علمائنا بذلك كما اعترف به الفاضل ، ولعل مراده بهذا إشارة إلى الفرض الأخير خاصة لا إلى ما يشمل التقدير بثلاثمائة كما احتمله في الذكرى ويؤيده أنه الأنسب بقوله أولا « وحد البعد » على أنه يمكن إرادته بما نسبه إلى قوم تحديد البعد في العادة لا تحديده من دون نظر إليها ، فيكون حينئذ نزاعا في موضع علمنا من العادة خلافه.

والموجود في موضع من ثانيهما « الثاني من صلى خارج المسجد وليس بينه وبين الإمام حائل وهو قريب من الامام والصفوف متصلة به صحت صلاته ، وإن كان على بعد لم تصح صلاته وإن علم بصلاة الامام ، وبه قال جميع الفقهاء إلا عطا ، فإنه قال : إذا كان عالما بصلاته صحت صلاته وإن كان على بعد من المسجد ، دليلنا أن ما اعتبرناه مجمع عليه ، وما ادعاه ليس عليه دليل » إلى آخره ، وهو كما ترى صريح في خلاف ما نسب اليه ، نعم قال بعد أن ذكر أن الماء ليس بحائل : « مسألة إذا قلنا : الماء ليس بحائل فلا حد في ذلك إذا انتهى اليه يمنع من الائتمام به إلا ما يمنع من مشاهدته والاقتداء بأفعاله ، وقال الشافعي : يجوز ذلك إلى ثلاثمائة ذراع ، فان زاد على ذلك لا يجوز ، دليلنا أن تحدد ذلك يحتاج إلى شرع ، وليس فيه ما يدل عليه » ولعله لذا نسب اليه ما عرفت ، لكن قد يقال بمعونة ما سمعته منه سابقا بتخصيص ذلك منه في الماء أو إرادة علو الماء لا البعد المنافي أو غير ذلك ، وإلا كان محجوجا بما عرفت من غير فرق بين الماء وغيره.

فلو انعقدت الجماعة حينئذ في سفينتين فصاعدا اعتبر في البعد بينهما ما يعتبر في الأرض اقتصارا على المتيقن في براءة الذمة عن الشغل بالعبادة التوقيفية ، كما هو واضح أما إذا لم يكثر البعد في العادة بل كان الثابت ضده وهو القرب فظاهر المشهور بل‌

١٧٢

صريحهم نقلا وتحصيلا الصحة وإن كان لا يتخطى ، بل في الرياض كاد يكون إجماعا ، بل ظاهر التذكرة ، حيث قال : « عندنا الإجماع عليه » بل عن إرشاد الجعفرية لا يضر البعد المفرط مع اتصال الصفوف إذا كان بين كل صفين القرب العرفي إجماعا ، لإطلاق أدلة الجماعة ، وما ورد فيها من الأمر (١) بالوقوف خلف الامام ونحوه ، وإطلاق ما دل على جواز الائتمام مع اعتراض الطريق والنهر بل والحائط في المرأة من معقد الإجماع والموثق (٢) السابقين ونحوهما ، خصوصا مع غلبة كون ذلك مما لا يتخطى ، وللأخبار (٣) المعتبرة الآمرة بالائتمام عند خوف رفع الإمام رأسه من الركوع ثم اللحوق بعد ذلك بالصف في الركعة الثانية أو في أثناء الركوع ، وكأنه لتحصيل الفضيلة ورفع كراهة الانفراد بالصف لا لقادحية مثل هذا البعد ، وإلا لم يصح الاقتداء بالركعة الأولى ، واحتمال اغتفاره لإدراك الجماعة ضعيف بل مقطوع بفساده ، ضرورة أنه لم يستثن أحد ذلك من مانعية البعد ، وفحوى اغتفار العلو في المأموم ومطلقا في الأرض المنحدرة ، فتأمل ، ولعدم التحديد شرعا للبعد المشترط عدمه في الجماعة في معقد إجماع المدارك ومصابيح الأنوار للأستاذ ورياض الفاضل وظاهر التذكرة ، ومفهوم بعض الأدلة السابقة ، فيرجع في تحديده كغيره إلى العرف والعادة ، لكن لا بد من ملاحظة الاجتماع في الصلاة ، ضرورة تفاوت مصداق القرب والبعد بتفاوت الحيثيات ، بل لا يبعد دعوى محفوظية هيئة الجماعة عند المتشرعة ومأخوذيتها يدا عن يد ، فكل ما عد في عرف المتشرعة وعادتهم أنه بعيد بالنظر إلى جماعة الصلاة بطل ، وكلما عد أنه قريب صح ، وربما يلحق به ما لا يحكم فيه بالقرب والبعد عملا بإطلاقات الجماعة ، وليس ذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة.

١٧٣

من إثبات الحكم الشرعي بالعرف والعادة ، بل ولا من إثبات بيان مهية العبادة التوقيفية بهما ، بل هو من إثبات مصداق التباعد وعدمه فيها الثابت حكمه من الإجماعات السابقة وغيرها ، على أنه لا بأس بالتزام اعتبارهما هنا إذا صارا سببا لكشف المعهود من جماعة النبي والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) فيقتصر على الثابت منه ، وهو الذي لا تباعد فيه.

وما يقال : إن ذلك كله جيد لو أن الأدلة خلت عن التعرض لبيان التحديد ، وليس ـ إذ في‌ صحيح زرارة (١) عن الباقر عليه‌السلام المتقدم سابقا « إن صلى قوم وبينهم وبين الامام ما لا يتخطى فليس ذلك الامام لهم بإمام ، وأي صف كان أهله يصلون بصلاة إمام وبينهم وبين الصف الذي يتقدمهم قدر ما لا يتخطى فليس تلك لهم بصلاة ـ إلى أن قال ـ : وقال أبو جعفر عليه‌السلام : ينبغي أن يكون الصفوف تامة متواصلة بعضها إلى بعض ، لا يكون بين الصفين ما لا يتخطى يكون قدر ذلك مسقط جسد الإنسان إذا سجد ، قال : وقال : أيما امرأة صلت خلف إمام وبينها وبينه ما لا يتخطى فليس لها تلك بصلاة ، قال : قلت : فان جاء إنسان يريد أن يصلي كيف يصنع وهي إلى جانب الرجل؟ قال : يدخل بينها وبين الرجل وتنحدر هي شيئا » واحتمال إرادة الحائل مما لا يتخطى فيه يدفعه ذكر الحائل فيه بعد ذلك مستقلا ، على أن لفظ القدر وذيل الصحيح شاهدا إرادة المسافة ، وفي‌ صحيح عبد الله بن سنان (٢) عن الصادق عليه‌السلام « أقل ما يكون بينك وبين القبلة مربض عنز ، وأكثر ما يكون مربض فرس » إذ المراد بالقبلة كما عن المجلسي ومولانا مراد في شرحيهما على الفقيه الصف الذي قبلك أو الإمام مع تأيدهما بأن الجماعة توقيفية ، والثابت منها ذلك لا أزيد ، فالأصل عدم البراءة وعدم سقوط القراءة وغيرها من أحكام الجماعة في غير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢ و ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

١٧٤

المتيقن ، وليسا من الشواذ ، بل عمل بهما ابن زهرة في الغنية مدعيا الإجماع عليه والإشارة والمدارك والمفاتيح والحدائق وغيرها ، بل حكي عن السيد وظاهر الكليني والصدوق أيضا ـ يدفعه قوة الظن بإرادة الفضيلة والاستحباب من الصحيح المذكور ، بل والكراهة مع التباعد بما لا يتخطى.

ولقد أجاد الحلي في سرائره بقوله : « وينبغي أن يكون بين كل صفين قدر مسقط الإنسان أو مربض عنز إذا سجد ، فان تجاوز ذلك إلى القدر الذي لا يتخطى كان مكروها شديد الكراهية حتى أنه قد ورد بلفظ لا تجوز » إلى آخره ، خصوصا مع ملاحظة الشهرة العظيمة بين الأصحاب التي كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك في ظاهر معقد إجماع إرشاد الجعفرية المتقدم وغيرها ، وإعراضهم عن هذا الصحيح مع أنه بمرأى منهم ومسمع وبين أيديهم ، بل قد استدلوا ببعضه بحيث لا يحتمل خفاؤه عليهم ، بل عن المصنف نفسه كغيره من الأصحاب ذكره له بالخصوص فيما نحن فيه ، إلا أنه أعرض عنه حاملا له على الندب معللا لذلك باستبعاد القول بشرطية ما فيه ، بل قد يظهر منه عدم وقوفه على قائل به ، نعم عن العلامة أنه نسبه إلى الحلبي خاصة ، كما أنه في الذكرى نسبه اليه وإلى ابن زهرة خاصة ، وظاهره انحصار الخلاف فيهما ، وهو كذلك ، لعدم تحققه من غيرهما ، إذ متأخرو المتأخرين كصاحب المدارك والمفاتيح والذخيرة والحدائق ممن لا يعتد في رفع الشذوذ عن الأخبار بفتاواهم ، كما أنه لا يعتد بخلافهم في اعتبار الخبر والعمل به والركون اليه كما هو واضح للخبير بطريقتهم ، والكليني والصدوق لم يصرحا بذلك ، بل أقصاه روايتهما هذا الصحيح التي هي أعم من العمل به على جهة الوجوب قطعا ، والمرتضى لم يحك عنه إلا قوله : « ينبغي أن يكون بين كل صفين قدر مسقط الجسد ، فان تجاوز ذلك إلى القدر الذي لا يتخطى لم يجز » ولعله يريد الاستحباب مع كراهة الزائد كما يومي اليه لفظ « ينبغي » في كلامه ، فيكون كالمحكي‌

١٧٥

عن النهاية والمبسوط والمراسم والوسيلة والبيان والهلالية من التعبير بأنه ينبغي أن يكون قدر مربض عنز مع معلومية اعتبار التباعد العرفي من بعضهم ، بل قد يشهد لإرادة الاستحباب من الصحيح المزبور زيادة على ذلك ما في ذيله أو صدره على اختلاف كيفية الرواية له « وينبغي » إلى آخره ، لإشعار لفظ « ينبغي » به ، وظهور إرادة بيان ضد التواصل من قوله : « لا يكون » كظهور إرادة بيان ما يتخطى من قوله : « تكون » الثانية على معنى أنه إن كان بينهما ما لا يتخطى فلا تواصل ، وإن كان بينهما ما يتخطى كقدر مسقط جسد الإنسان إذا سجد تحقق التواصل ، ومن المعلوم إرادة الاستحباب من الأخير ، ضرورة عدم تحقق شي‌ء من البعد فيه بل يكون سجوده عند عقب من تقدمه ، إذ المراد قدر مسقط جسد الإنسان إذا سجد بين الموقفين ، وليس هو إلا مقدار سجود الإنسان ، ومن الواضح اغتفار أزيد من ذلك عند من جعل المدار ما لا يتخطى إذ لا يتصور في الفرض المزبور اغتفار ، لعدم إمكان تحقق الجماعة بدونه.

ومنه حينئذ ينقدح استحباب ما قبله من أنه لا يكون بينهما ما لا يتخطى ، إذ هو من قبيل البيان له ، وأنه هو الذي يتخطى وأنه هو الذي يتحقق به التواصل المطلوب في الجماعة بلفظ « ينبغي » كما أنه من ذلك كله ينبغي إرادة الكراهة من قوله : « إن صلى » إلخ « وأي صف » إلى آخره ، ضرورة شهادة الخبر بعضه على بعض ، بل لو قلنا إن قوله : « ينبغي » إلى آخره ، رواية أخرى ليست من تتمة الخبر المزبور كما عساه يظهر من الحدائق أمكن الاستشهاد بها ، لأن كلامهم عليهم‌السلام بمنزلة كلام متكلم واحد ، وإن كان الأول أقوى شهادة منه ، على أنه قد يدعى تعارف نحو « لا صلاة » في نفي الكمال على وجه الحقيقة لا أقل من الشهادة بذلك ، بل قد يقال إن المراد باشتراط أن لا يكون بين الصفين مثلا ما لا يتخطى إنما هو بين محل السجود من الصف الأول وبين‌

١٧٦

الصف الثاني ، كما لعله يؤيده إرادة التحديد بالنسبة إلى جميع أحوال الصف التي منها السجود لا حال القيام خاصة ، وأن المراد بما لا يتخطى أي ما لا يمكن تخطيه أبدا بأعلى أفراد مصداق التخطي ، وهو الذي يملأ الفرج ، لكونه نكرة واقعة في سياق النفي لا التخطي المتعارف في المشي ، إذ مسقط جسد الإنسان إذا سجد أزيد منه قطعا ، مع أنه اكتفي به في بيان ما يتخطى ، وحينئذ يوافق المختار أو يقرب منه ، لتحقق التباعد المعتاد في الجماعة به خصوصا مع ملاحظة التقريب والمسامحة في التحديد المزبور لا التحقيق والمداقة كما يومي اليه التحديد بذلك من غير بيان المراد به من المتعارف وغيره ولا أفراد المتخطين ، بل لعله يكون حينئذ شاهدا للمختار لا عليه ، بل يمكن تنزيل كلام من سمعت ممن حدد بما لا يتخطى على ذلك ، فيرتفع الخلاف حينئذ من البين ، ويؤيده أنه لو كان المراد به غير ذلك لاشتهر غاية الاشتهار علما وعملا ، ضرورة استعمال الناس الجماعات من سالف الأزمنة إلى يومنا هذا ، مع أنك قد عرفت ندرة من أفتى به ومعروفية الفتوى بخلافه بل والعمل.

وبذلك كله يتضح لك الوجه في صحيح عبد الله بن سنان المتقدم بعد تسليم إرادة ما عرفت منه ، بل هو أولى بالحمل على الندب ، لكن ومع ذلك كله فالأحوط والأفضل مراعاة ما لا يتخطى بالخطوة المتعارفة ملاحظا فيه موقف المصلي لا مسجده كي يتحقق التواصل ، وإن كان الأقوى ما عليه المشهور من أن المدار على العادة في القرب والبعد بالنسبة للإمام والمأموم ، وإلى الصفوف بعضها مع بعض ، وإلى أشخاص الصف الأول بعضهم مع بعض ، لعدم الفرق بين الجميع نصا وفتوى ، فيصير الصف الأول مثلا حينئذ إماما للصف الثاني وهكذا ، لا أنه يراعى القرب والبعد للإمام بالنسبة إلى سائر المأمومين المعلوم بالضرورة خلافه.

ولذا قال المصنف أما إذا توالت الصفوف فلا بأس بالبعد الكثير عن‌

١٧٧

الامام بالغا ما بلغ بلا خلاف أجده ، بل قد تشعر عبارة الذكرى بالإجماع عليه ، بل قد سمعت فيما تقدم معقد إجماع إرشاد الجعفرية ، نعم ينبغي تقييده بما إذا لم تطل الجماعة بحيث يؤدي إلى التأخر المخرج عن الاقتداء كما قيده به جماعة ، ولعله مستغنى عنه ، ضرورة كون المانع حينئذ التخلف الفاحش عن الامام المخرج عن اسم الاقتداء باعتبار عدم علمه بانتقالاته.

ثم لا فرق عندنا في جميع ما ذكرنا بين الجامع وغيره ، لعدم ما يصلح له ، خلافا للمحكي عن الشافعي فجوز التباعد بثلاثمائة ذراع في الأول ، لكونه مبنيا للجماعة بخلاف الثاني ، وضعفه واضح ، كما أنه لا فرق في هذا الشرط بين ابتداء الصلاة واستدامتها نحو غيره من الشرائط من الحائل والعلو ونحوهما ، لاقتضاء ما دل عليه من معقد الإجماع أو غيره ذلك ، ضرورة كون الصلاة المشترط فيها ذلك اسما للمجموع ، فلو حصل حينئذ البعد الذي لم يعف عنه في أثناء الصلاة بعد أن لم يكن بطل الاقتداء ووجب الانفراد إن لم نقل بمشروعية الانتظار لمن انتهت صلاته حتى يسلم الامام فيسلم معه ، أو قلنا به ولكن لم ينتظر بناء على كون ذلك جائزا له لا واجبا ، أو أنه انتظر ولكن لم نقل ببقاء أحكام الجماعة عليه بل كان ذلك تعبدا فيكون حينئذ كمن سلم وخرج فيتعين الانفراد حينئذ ويبطل الاقتداء ، نعم له تجديده لو ائتموا هؤلاء جديدا بعد انتهاء صلاتهم أو أمكنه المشي بحيث لا يكون فعلا كثيرا مثلا إلى محل القرب بناء على جواز تجديد الائتمام في الأثناء ، بل لعله أولى منه ، لسبق القدوة ، ومن هنا صرح في البيان والدروس والروض والمسالك وغيرها بأنه لو خرجت الصفوف المتخللة بين الامام والمأموم عن الاقتداء إما لانتهاء صلاتهم كما لو كان فرضهم القصر ، وإما لعدولهم إلى الانفراد وقد حصل البعد المانع عن الاقتداء انفسخت القدوة ، بل صرح بعضهم بعدم عوده لو انتقل بعد ذلك إلى محل الصحة ، ولعله بناء منهم على عدم جواز تجديد الائتمام في‌

١٧٨

الأثناء ، خلافا للمدارك والحدائق فجعلاه شرطا في الابتداء دون الاستدامة ، وربما نسب للشهيد في قواعده كما عن الذخيرة أنه استحسنه ، وربما مال إليه في الرياض ، ولا ريب في ضعفه ، لخلوه عن الشاهد له بعد الغض عن كونه عليه.

نعم قد يقال إن الشرط بقاء الصف لا كونهم مصلين ، فيفصل حينئذ بين قيام من انتهت صلاته وعدمه ، فيبقى الاقتداء في الأول دون الثاني كما هو خيرة المولى الأعظم في شرح المفاتيح ، وربما يؤيده عدم كون مثله تباعدا في العرف والعادة ، بل قد يؤيده أيضا نص جماعة كالشهيد في البيان والكاشاني في المفاتيح والمولى الأعظم في شرحها على الصحة ، حيث يحرم البعيد قبل القريب ، وما ذاك إلا للاكتفاء بالصف وإن لم يكن مصليا فعلا ، وقد يخدش بالفرق أولا بين من يؤول أمره إلى الصلاة وهو متهئ لها وبين من فرغ منها وأعرض عنها وإن كان جالسا في مكانه ، وبالمنع ثانيا كما أومى إليه في المسالك والمدارك وغيرهما حيث قالا : ينبغي أن لا يحرم البعيد قبل أن يحرم من قبله ممن يزول معه التباعد وإن كان قد يدفع الأخير بعدم عد مثله من التباعد في العادة ، وبأنه ليس في النصوص والفتاوى ما يشهد له ، إنما الذي فيها وجوب افتتاح المأمومين بعد افتتاح الإمام خاصة قلوا أو كثروا ، استطالت صفوفهم أو قصرت من غير مدخلية للمأمومين في ذلك بعضهم مع بعض كما هو لازم قولهما عدا من كان متصلا بالإمام من الشخص والشخصين ، مع ما فيه من التضييق والتشديد لإدراك الجماعة خصوصا بالنسبة إلى بعض المأمومين الذين يتوقفون في النية ، بل فيه من الإفضاء إلى عدم حضور القلب والتوجه ما لا يخفى ، على أنه غالبا يتعذر أو يتعسر على المتأخر العلم بحصول تكبيرة الافتتاح من بين التكبيرات من المتقدم ، خصوصا لو كان مجيئه للجماعة بعد اصطفاف الصفوف وتهيؤهم للصلاة وشروعهم في تصورها ونيتها ، بل قد يفضي مراعاة ذلك إلى عدم إدراك أول ركعة في الجماعات المعظمة إلا للقليل منها ، بل والركعة‌

١٧٩

الثانية أيضا ، بل ربما تفوت الفريضة تماما خصوصا الثنائية أو الثلاثية ، وخصوصا مع إرادة الإسراع فيها لسفر أو نحوه من الأعذار ، إلى غير ذلك مما يمكن دعوى القطع بخلافه من السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار وعظم الجماعات كجماعة النبي وأمير المؤمنين ( عليهما الصلاة والسلام ) وغلبة تخلل الصفوف من لا يوثق بصحة صلواتهم ومن أنه لو كان كذلك لاشتهر رواية وفتوى وعملا اشتهار الشمس في رابعة النهار ، لتوفر الدواعي وكثرة الاستعمال ، ولو أن هذا القائل اعتبر عدم العلم بسبق المتأخر على المتقدم لكان أسهل من اعتبار العلم بسبق المتقدم وإن كان هو بعيدا أيضا مخالفا للسيرة المعلومة من أغلب الناس ، فإنهم لا يتوقفون في الائتمام بعد إحراز افتتاح الامام خصوصا بعد تهيئة الصفوف وشروعها في التوجه والنية ونحو ذلك ، وإن كان الأحوط مراعاته بل مراعاة الأول أيضا.

ثم إن الظاهر الاكتفاء على كل حال في الاتصال بغير التباعد ولو بوسائط على نحو ما سمعته من بعضهم في المشاهدة من غير فرق بين الصف الأول وغيره ، فلا يقدح حينئذ استطالة الصف الثاني على الأول بمراتب حتى لو كان الصف الأول واحدا أو اثنين والصف الثاني مائة أو مائتين فصاعدا ، فأحرم غير البعيد عنهما من الصف الثاني بعد إحرامهما ثم أحرم باقي الصف القريب فالقريب بناء على مراعاة ما سمعته من المسالك والمدارك ، وإلا فعلى ما ذكرنا لم يراع شي‌ء من ذلك ، بل يكون الصف الأول على قصره بمنزلة الإمام للصف الثاني وهكذا ، وأما احتمال مراعاة القرب في جميع أفراد الصف الثاني بالنسبة إلى الصف الأول بحيث إذا لم يحصل القرب من بعضهم اليه كما لو طال الصف الثاني على الأول مثلا بطل ايتمام الفاقد للقرب من الصف الثاني وإن كان متصلا بالقريب بوسائط وبذلك يفرق بين الصف الأول حينئذ وغيره لعدم اعتبار ذلك فيه بالنسبة للإمام قطعا وضرورة فهو لا يخلو من وجه ، لكن الأوجه والأقوى الأول‌

١٨٠