جواهر الكلام - ج ١٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ظاهر الإشارة عدم الرجوع ، وكان الأول أقوى وإن كان مقتضى ما سمعت عدم الالتفات ، لأنه قد دخل في غيره ، لكن مع احتمال أن يقال : إن هذا ليس غيرا ، لكونه ليس من أفعال الصلاة ، بل هو مقدمة للقيام قد دل عليه الدليل بخصوصه ، وهو الرواية المتقدمة ، فلا مانع من تخصيص القاعدة بها ، لا يقال : إن العمل بها ينافي ما تقدم في الشك في الركوع وقد هوى للسجود ، ضرورة أن المقدمات إن كانت تسمى غيرا اتجه عدم الالتفات في المقامين ، وإلا اتجه الرجوع فيهما ، لأنه لا مانع من اختيار الأول ، وجريان الأولى على القاعدة المتقدمة ، وكون الثانية مخصصة لها ، والمناقشة في الأولى بأنها غير ظاهرة في حصول الشك في الركوع قبل الدخول في السجود ـ فان‌ قوله : « هوي للسجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ » قاض بأن ذلك الشك واقع بعده لا حينه ـ ضعيفة ، لظهور الفاء في الرواية في التعقيب وحصول الشك حينه ، هذا ، مع أنه يمكن الفرق بين المقامين بأن الهوي للسجود واجب أصلي ليس مقدمة ، ولذلك يجب تلافيه مع نسيانه بخلاف الأخذ في القيام ، فإنه ليس غيرا بل مقدمة للقيام.

ومنها الشك في التشهد كذلك ، وفيه وجهان ، ولعل التدارك إلحاقا له بالسجود لا يخلو من قوة وإن كان هو كما ترى ، نعم قد يفرق بأن الهوي للسجود مستلزم للانتصاب الذي منه أهوى له ، والانتصاب فعل آخر غير الركوع وقد دخل فيه وتجاوز عن محل الركوع ، بخلاف النهوض قبل أن يستتم قائما ، فإنه بذلك لم يدخل في فعل آخر ، ولكن فيه أيضا منع.

ومنها لو شك في الانتصاب من الركوع بعد الجلوس للسجود ، وقضية ما تقدم منا عدم الالتفات ، كما أنه لا يخفى عليك مقتضى تطبيق الوجهين السابقين فيه وفيما لو شك وهو هاو للسجود ولما يسجد ، فتأمل جيدا.

٣٢١

ومنها لو شك في النية وقد كبر فلا يلتفت بناء على ما قلناه ، وكذا على الثالث وأما على الثاني فينبغي التدارك ، لكونه في محل تصح فيه ، وما يقال : إن الشك في النية خارج عن المسألة ، لأن الكلام بعد انعقاد الصلاة ، فإذا شك في شي‌ء منها وقد دخل في غيره لا يلتفت ، لا مع عدم معلومية الانعقاد يدفعه أن المفهوم من الأخبار عدم الفرق ، ضرورة اشتمالها على التكبير المتوقف انعقادها عليه أيضا ، ولذا قال الشيخ في المبسوط : « ومن شك في النية فإنه يجدد إن كان في محلها ، وإن انتقل إلى حالة أخرى مضى في صلاته » على أنه من المعلوم أنه لو شك في النية وهو في الركعة الثانية مثلا لا يلتفت قطعا.

وينبغي التنبيه هنا لأمور : منها ما قد عرفت سابقا أنه لا فرق عندنا في الأمور المترتبة بين المستحب والواجب ، فمن شك في واجب بعد الدخول في مستحب لا يلتفت كمن شك في القراءة وهو في القنوت ، بل وكذا من شك في التكبير وهو في الأذكار المتقدمة على القراءة ، أخذا بظاهر الأخبار ، لتحقق الغيرية في الجميع ، وإطلاق كثير من الأصحاب وجوب التلافي للتكبير إن لم يكن قد قرأ محمول على عدم الاشتغال بشي‌ء قبل القراءة ، أو يراد بالقراءة ما يشمل ذلك ، أو يكون مبنيا على أحد الوجهين السابقين في تفسير الغير ، ولو كان المكلف على هيئة المصلي كما لو كان منصتا أو مشغولا بتسبيح حال قراءة الامام وشك في التكبير مثلا فيمكن القول بعدم الالتفات ، لأن هذه الأحوال غير بالنسبة للتكبير ، وكذلك في المنفرد ، نعم لو كان في حال ليس مترتبا بعد التكبير يلتفت.

ومنها أن الظاهر من التلافي في المحل وعدمه في خارجه العزيمة لا الرخصة ، كما هو ظاهر الأخبار ، فمن ترك التلافي في محله أو تلافى في غير المحل بطلت صلاته ، وما عن بعضهم من احتمال كون عدم التلافي رخصة كما في الذكرى فلا يقدح تلافي المشكوك فيه بعد خروجه‌

٣٢٢

من المحل ضعيف ، لظاهر قوله عليه‌السلام : « يمضي » المقتضي للوجوب ، وما يقال : إنه على تقدير تسليم الوجوب فهو لا يقضي إلا بحرمة التلافي ، وهو لا يفسد الصلاة ضعيف لما بين في الأصول من اقتضاء النهي فيها الفساد ، نعم بناء على ما ذكرناه من الوجوه في المراد بالمحل هل يمكن الاحتياط ، فعلى المختار مثلا فيه يمكن التدارك في الأثناء احتياطا على الوجهين الأخيرين؟ الظاهر العدم في أغلب الأحوال ، ضرورة أنه من تعارض الواجب والمحرم ، نعم قد يتأتى فيما لو شك في الحمد مثلا وهو في السورة بأن يعود إلى الحمد بنية القربة المطلقة على وجه الاحتياط بناء على اقتضائه شرعية مثل ذلك نحو دفع المال على وجه الصدقة زكاة وإلا فصدقة ، وليس هذا ترديدا في النية كما أوضحناه في محله ، لكن لا يقرأ سورة غير الأولى تخلصا من القران ، لا فيما لم يكن من هذا القبيل ، كمن شك في السجدة وهو في التشهد مثلا ، لاستلزامه زيادة سجدة شرعا ، فاحتياطه فيه وفي أمثاله حينئذ منحصر بتكرير الصلاة مرتين ، أما على تقدير الرخصة فوجه الاحتياط فيه واضح ، فتأمل جيدا.

ومنها أن الظاهر جريان حكم الشك في غير صلاة المختار على نحو صلاته ، فمن كان فرضه الصلاة جالسا وقد شك حال الجلوس الذي عزم عليه أنه بدل القيام في أنه هل سجد أم لا أو تشهد أم لا لا يلتفت لخروجه عن المحل بالنسبة اليه ، ولعل المسألة مبنية على أن مثل هذه الأشياء في صلاة المضطر أبدال وأعواض عنها في صلاة المختار على وجه يجري عليها الحكم المزبور ، كما يجري عليها حكم الكيفية كالطمأنينة في التكبير والقراءة وركنية الانتصاب للركوع على نحو القيام المتصل به ونحو ذلك ، أو أنها ليست كذلك بل هي أمور كانت تجب عند الاختيار وأسقطها الشارع عند الاضطرار من غير بدل لها الظاهر الأول ، فتجري عليه جميع الأحكام ، وكذلك الحكم بالنسبة للمستلقي والمضطجع ونحو ذلك ، بل الظاهر جريان أحكام الأركان على الايماءات التي جعلها الشارع عوضا‌

٣٢٣

عن الركوع والسجود ، والانصاف أن المسألة لا تخلو من إشكال ، بل للتأمل فيها مجال ، إذ لم أعثر على من بحث فيها هنا ، نعم نقل عن الموجز الحاوي وكشف الالتباس أنهما قالا : « لو كان يصلي جالسا لعجزه عن القيام ثم شك في سجود الركعة الثانية أو في التشهد سجد أو تشهد ثم استأنف القراءة » وفي مفتاح الكرامة « قد احتمل بعضهم في المقام المضي » قلت : قد عرفت أنه الأقرب في النظر سيما في الفرض الذي قد دخل فيه في القراءة التي لا ريب في أنها غير فعلا ، إنما الإشكال في الغيرية الاعتبارية كالجلوس المنوي به قياما ، ضرورة عدم صدق كونه غيرا فعلا ، وأنه لا دليل واضح على جريان الحكم عليه مع هذه النية ، إذ ليس إلا‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « من لم يستطع القيام فليصل من جلوس » وهو لا يقتضي أزيد من الاتحاد في الكيفية التي أشرنا إليها لا ما يشمل ذلك ونحوه مما هو حكم خارجي ، والله العالم.

ومنها الظاهر أن المراد بتلافي المشكوك ما دام في المحل هو قبل الخروج عنه إلى غيره ولو سهوا ، فمن كان في حال القيام وقد شك في السجود ثم ذكر أنه كان نسي التشهد فرجع اليه لا يسجد حينئذ ، للشك في شمول أدلة الشك قبل الدخول في الغير لمثل هذا الفرد ، مع ظهور ما دل على عدم الالتفات فيه ، فتأمل ، وكذا لو طرأ له الشك بعد الجلوس للتشهد ، وربما ظهر من بعضهم القول بالوجوب ، ولعله لصدق الشك فيه في المحل ، لكن الأقوى خلافه ، وقد تقدمت الإشارة إليه سابقا.

ومنها أن الشك في الصحة والبطلان هل هو كالشك في أصل الوقوع وعدمه ، فيتلافى في المحل ، ولا يلتفت إذا خرج ، فمن شك قبل القراءة مثلا أنه هل جاء بتكبيرة الإحرام على الوجه الصحيح أولا أعاد ، وإن كان بعد القراءة مضى ، أو أنه ليس كذلك؟ ربما ظهر من بعضهم الأول ، لأنه ينحل إلى الشك فيه في فوات شي‌ء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١٨.

٣٢٤

فيجري عليه الحكم ، ويحتمل العدم ، لظهور الأخبار في الشك في أصل الوقوع ، فيقتصر عليه ، ويحكم بالصحة في محل المسألة ، لأصالتها في كل فعل يقع من المسلم ، ولعله الأقوى.

ومنها لو شك في النية بعد تمام التكبير لم يلتفت ، وقبل الشروع فيه أتى بها ، وفي أثنائه لم يلتفت على المختار ، لكن في الذكرى الأقرب الإعادة ، وخصوصا إذا أوجبنا استحضارها إلى آخر التكبير ، قلت : أما على هذا القول فظاهر ، وأما على غيره فلعله لعدم انعقاد الصلاة قبل إتمامه ، وإنما تنعقد بتكبير مقرون بالنية ، والأصل العدم وأما بعد انعقادها فالأصل الصحة ، لكنه كما ترى ، خصوصا بعد ما ذكرناه سابقا ، والله العالم.

ومنها الشك في ذكر الركوع والسجود أو الطمأنينة فيهما أو السجود على بعض الأعضاء السبعة بعد رفع الرأس عنهما ، فعن بعض ( الروض خ ل ) أنه قد وقع الاتفاق على عدم العود في هذه الأشياء مع أنه لم يدخل في فعل آخر ، وأجاب بأن رفع الرأس من الركوع والسجود واجب مستقل لا مقدمة ، وبأن العود يستلزم زيادة ركن ، والتزم أن السجدة الواحدة وعدم البطلان بها استثناء من القاعدة ، والجميع كما ترى ، ضرورة أن المفروض من فوات المحل في النسيان فضلا عن الشك ، لأن هذه الأمور واجبات فيهما لا أنها واجبات مستقلة ، كما هو واضح ، وقد سمعت نظيره في الطمأنينة في القراءة مثلا ، والله العالم.

تفريع إذا تحقق نية الصلاة وانتقل عن محلها وشك في أنه هل نوى ظهرا أو عصرا مثلا أو فرضا أو نفلا استأنف الصلاة احتياطا كما عن المبسوط ، علم ما قام إليه في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ منها ، لقاعدة الشغل ، إذ لا مفرغ شرعي حتى الأصول لتعارضها ، لكن في البيان والمسالك وجامع المقاصد وظاهر كشف اللثام والمدارك بل والمنتهى وعن الذكرى والمنتهى تقييده بما إذا لم يعلم ما قام اليه ، وإلا بنى‌

٣٢٥

عليه ، بل اليه يرجع ما في القواعد والتذكرة حيث قال في أولهما : « بنى على ما هو فيها » وفي ثانيهما « على ما علم عليه فعله » وإن كانا لا يخلو ان من نوع إجمال ، للأصل بمعنى الظاهر بل وبمعنى العدم بالنسبة للسهو أو العدول ، بل وبمعنى الصحة في بعض الوجوه التي ستعرفها ، وقول الصادق عليه‌السلام لابن أبي يعفور على ما في التذكرة والمنتهى وكشف اللثام : « إذا قمت في فريضة فدخلك الشك بعد فأنت في الفريضة ، وإنما يحتسب للعبد من صلاته التي ابتدأ في أول صلاته » بل هو فيما حضرني من نسخة الوسائل (١) أدل من ذلك على المطلوب ، قال : « سألته عن رجل قام في صلاة فريضة فصلى ركعة وهو ينوي أنها نافلة قال : هي التي قمت فيها ، وقال : إذا قمت وأنت تنوي الفريضة فدخلك الشك بعد فأنت في الفريضة على الذي قمت له ، وإن كنت دخلت فيها وأنت تنوي نافلة ثم إنك تنويها بعد فريضة فأنت في النافلة ، وإنما يحسب للعبد من صلاته التي ابتدأ في أول صلاته ».

بل قد تتجه الصحة حتى إذا لم يعلم ما قام لها إذا كان الشك دائرا بين فعلين : أحدهما صحيح والآخر فاسد ، كما لو شك مثلا في أنه نوى الظهر أو العصر وكان في وقت الاختصاص بالظهر ، لأصالة الصحة في فعل المسلم المشخصة أنه الظهر حينئذ ، مضافا إلى وضوح بطلان إطلاق وجوب الاستئناف في خصوص ما في المتن من المثال الأول ضرورة توجه الصحة مع فرض الوقوع في الوقت المشترك ، إذ له العدول من العصر إلى الظهر ، ودعوى اختصاص ذلك في المعلوم أنه العصر لا المشكوك فيه يدفعها وضوح أولوية المقام منه ، كوضوح الصحة أيضا لو كان شكه بعد الفراغ في الفرض ، إذ الواقع إما ظهر أو عصر ، وكل منهما صحيح ، فيبرأ حينئذ قطعا برباعية مرددة بين الظهر والعصر كما احتمله في التذكرة ، وحكاه قولا في البيان ، وجعله طريق البراءة في المسالك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النية ـ الحديث ٣ من كتاب الصلاة.

٣٢٦

بل احتمل تعينه في جامع المقاصد ، وإن كان لم يستبعد قبل ذلك في الفرض المذكور البناء على الظهر ، كما احتمل في التذكرة أيضا ، بل اختاره في البيان والمسالك وعن الذكرى عملا بالظاهر ، إذ الفرض أنه لم يعلم ما قام اليه كما قيده به في البيان.

إلا أنه قد يناقش في جميع ذلك بمنع ثبوت حجية الأول بالمعنى الأول ، وعدم صلاحيته للتشخيص بالمعنى الثاني ، بل والثالث أيضا ، وعدم سلامة السند في الخبر المذكور بل والدلالة ، لاحتمال إرادة ما علم افتتاح الصلاة عليه وإن سها في الأثناء وظن غيره ، كما يومي اليه‌ قوله عليه‌السلام : « في أول صلاته » بل وقوله عليه‌السلام : « قمت في فريضة » إذ القيام للشي‌ء غير القيام فيه ، بل لعل المراد من قوله عليه‌السلام : « له » فيما نقلناه عن الوسائل ذلك أيضا بقرينة ما قبله وما بعده ، بل هو المتعارف في السؤال عنه وبيان حكمه في غيره من الأخبار بنحو هذه العبارة ، ففي‌ خبر عبد الله بن المغيرة (١) عن كتاب حريز أنه قال : « إني نسيت أني في صلاة فريضة حتى ركعت وأنا أنويها تطوعا فقال : هي التي قمت فيها ، إذا كنت قمت وأنت تنوي فريضة ثم دخلك الشك فأنت في الفريضة ، وإن كنت دخلت في نافلة فنويتها فريضة فأنت في النافلة ، وإن كنت دخلت في فريضة ثم ذكرت نافلة كانت عليك فامض في الفريضة » وخبر يونس بن معاوية (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قام في الصلاة المكتوبة فسها فظن أنها نافلة ، أو قام في النافلة فظن أنها مكتوبة قال : هي على ما افتتح الصلاة عليه » فتأمل.

وبمنع صحة العدول هنا اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن ، بل لعله لا يتصور وقوعه إلا على جهة الترديد ، لعدم الجزم بالمعدول عنه ، كمنع الاجتزاء برباعية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النية ـ الحديث ١ ـ ٢ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النية ـ الحديث ١ ـ ٢ من كتاب الصلاة لكن روى عن يونس عن معاوية.

٣٢٧

مرددة في الصورة السابقة ، لعدم حصول الجزم بالنية ، وإن كان لا يخلو اعتبار مثل ذلك في مثل ما نحن فيه من بحث أو منع ، لكن على كل حال المتجه في أكثر ما تقدم مراعاة الاحتياط الذي هو ساحل بحر الهلكة بالاستئناف ، بل وبالإتمام ثم الاستئناف فيما سمعت.

كما أن المتجه الاستئناف لو لم يعلم شيئا ولو على الاجمال ، فلم يدر مثلا فرضا أو نفلا ، أو قضاء أو أداء ، أو ظهرا أو عصرا ، أو غير ذلك بلا خلاف أجده فيه في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ ، لعدم الترجيح ، بل لعله لا يجوز له الإتمام في الأول اعتمادا على النية الأولى ، لعدم حصول الاستدامة التي هي التنبه لما هو فيه بخصوصه بعد الالتفات والتنبيه ، ولا يكفي إجماله ، وإلا لاكتفى به في الأول ، ضرورة عدم تفاوت كيفية اعتبار النية بين الأول وغيره ، كما هو مقتضى‌ « إنما الأعمال بالنيات » (١) ونحوه ، ودعوى أنه أولى بالصحة ممن نوى الفريضة ثم أتمها بنية النفل سهوا أو بالعكس ممنوعة ، بل هو من القياس المحرم ، نعم قد يظهر بالتأمل مما قدمنا وجه صحة لبعض الصور إذا كان بعد الفراغ تركنا التعرض لتفصيلها خوف الإطالة واتكالا على ما تقدم ، فتأمل جيدا.

المسألة الثالثة إذا شك في أعداد الرباعية فإن كان في الأولتين بأن لم يدر ما صلاة ركعة أو ركعتين أعاد على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة كادت تكون إجماعا ، بل حكاه عليه في الانتصار والخلاف والغنية والسرائر وعن الناصرية وإرشاد الجعفرية ومن رواه عن البشرى ، بل حكي أيضا عن ظاهر التذكرة والمعتبر ، بل لم أعرف أحدا نسب الخلاف فيه إلى أحد منا قبل المنتهى ، فحكى الإجماع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١٠.

٣٢٨

عليه ممن عدا أبي جعفر محمد بن بابويه ، فخير بين الإعادة والبناء على الأقل ، نعم تبعه في نقل ذلك بعض من تأخر عنه ، بل ربما مال إليه في الكفاية ، بل اختاره في المفاتيح وإن كان ذلك منه غريبا ، لكنه ليس بالغريب ، وقبل المختلف فحكى عن علي بن بابويه أنه قال : « إذا شك في الركعة الأولى أو الثانية أعاد ، وإن شك ثانيا وتوهم الثانية بنى عليها ، ثم احتاط بعد التسليم بركعتين قاعدا ، وإن توهم الأولى بنى عليها وتشهد في كل ركعة ، فإن تيقن بعد التسليم الزيادة لم يضر ، لأن التشهد حائل بين الرابعة والخامسة ، فإن تساوى الاحتمالان تخير بين ركعة قائما وركعتين جالسا » بل حكى عنه أيضا أنه قال : « إن شككت فلم تدر واحدة صليت أو اثنتين أم ثلاثا أم أربعا صليت ركعة من قيام وركعتين من جلوس ».

وهما ـ مع معلومية نسبهما ومخالفتهما المحكي من الإجماع مستفيضا إن لم يكن متواترا كالمعتبرة المستفيضة (١) حد الاستفاضة الدالة بأنواع الدلالة ، وعدم خلاف الثاني فيما نحن فيه خصوصا عبارته الثانية وإن كانت تؤول إليه بالأخرة ـ لا دليل للمحكي أولا عن ثانيهما بل وثانيا وإن استدل له بما أرسله ولده في فقيهه ، وصحيح ابن يقطين (٢) سأل أبا الحسن عليه‌السلام « عن الرجل لا يدري كم صلى أواحدة أم ثنتين أو ثلاثا قال : يبني على الجزم ، ويسجد سجدتي السهو ويتشهد تشهدا خفيفا » على معنى إرادة البناء على الأكثر ثم التدارك بصلاة الاحتياط من الجزم فيه ، لكن هما ـ مع إرسال أولهما ، ومعارضتهما بصحيح ابن أبي يعفور (٣) عن الصادق عليه‌السلام « إذا شككت فلم تدر أفي ثلاث أنت أم في اثنتين أم في واحدة أم في أربع فأعد ولا تمض على الشك » وغيره ، وتخلف ما ذكره الخصم من الاحتياط الخاص عن إفادة الجرم على المعنى المذكور‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢.

٣٢٩

بحصول الصلاة على بعض الفروض ، كما إذا فرض كون الواقع أنه صلى ركعة ـ قد أجيب عن الثاني منهما بأن المراد الإعادة من الأمر فيه بالبناء على الجزم ، كإرادة الاستحباب حينئذ من الأمر بسجدتي السهو ، وإن كان قد يشكل بأنه لا يجمع بين سجدتي السهو وإعادة الصلاة وجوبا ولا استحبابا ، إلا أنه قد يدفع بأنه لا مانع من الاكتفاء به دليلا لذلك.

بل والمحكي عن أولهما أيضا عدا أخبار (١) قاصرة عن المعارضة سندا وعددا وعملا ، بل ودلالة حتى منه نفسه من حيث ظهورها في لزوم البناء على الأقل المنافي لما عنده من التخيير بينه وبين الإعادة ، ودعوى أن ذلك مقتضى الجمع بين الجميع يدفعها أنه فرع التكافؤ المفقود هنا من وجوه عديدة ، منها موافقة هذه الأخبار للعامة بعد إعراض سائر الأصحاب عنها عداه ، بل هو على ما اعترف به بعض الأساطين من مشايخنا ، حتى أنه نسب الناقل عنه ما عرفت إلى التوهم والغفلة ، وقال : إن محل التوهم لذلك بعض عبارات فقيهه خاصة ، وإلا فهو في الأمالي موافق للأصحاب في الإعادة ، بل نسبه فيها إلى دين الإمامية ، ولم يتعرض لذلك أصلا في الهداية ، كما أنه ليس في المقنع إلا روي ابن علي ركعة ، ثم إنه أطنب رحمه‌الله في بيان فساد محل الوهم من الكتاب المزبور ، ولعل التدبر والتأمل في أطراف كلماته فيه يشهد له ، فلاحظ ، ولو لا خلو الإطالة في تحقيق ذلك عن الفائدة ـ ضرورة قطعية الحكم عندنا في حالتي وفاقه وخلافه ـ لذكرنا ذلك كله مفصلا.

ثم إنه هل يندرج في الرباعية بالنسبة إلى هذا الحكم وغيره من الأحكام التي ستسمعها الرباعية التي هي نفل بالأصل كصلاة الأعرابي ، كما لعله يظهر من إطلاق بعضهم بل جزم به العلامة الطباطبائي في مصابيحه حاكيا عن الروض أنه استظهره ، أو يقتصر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢٢ و ٢٣ و ٢٤.

٣٣٠

على خصوص الفريضة الرباعية ، وإلا فهي يجري عليها أحكام النافلة؟ وجهان لا يخلو الثاني منهما من قوة ، مع احتمال مراعاة ما تقتضيه الأصول والقواعد من هذه الأحكام لتبادر غيرها من أدلة كل من الفريضة والنافلة بالنسبة إلى ذلك ، فتأمل.

وكذا الحال في وجوب الاستئناف إذا لم يدر كم صلى لما عرفته مما تقدم حتى الأدلة السابقة على البطلان في الصورة الأولى ، إذ هي من بعض أفرادها عند التحقيق ، لأنه لم يدر أيضا واحدة صلى أو ثنتين ، ومن هنا كانت الإجماعات السابقة وغيرها الحجة هنا ، مضافا إلى ظاهر المنتهى وما عن ظاهر إرشاد الجعفرية أو صريحه من الإجماع عليه ، وإلى الصحيح (١) السابق وغيره من المعتبرة‌ كخبر صفوان (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « إن كنت لا تدري كم صليت ولم يقع وهمك على شي‌ء فأعد الصلاة » وخبر علي بن جعفر (٣) عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يقوم في الصلاة فلا يدري صلى شيئا أم لا؟ قال : يستقبل » ومنه بل وغيره يعلم إرادة ما يشمل الواحدة أيضا على معنى عدم إحرازها ، والله العالم ، فالمسألة حينئذ من الواضحات وضوحا لا يقدح فيه ما سمعته سابقا من علي بن بابويه بعد أن عرفت ضعفه في الغاية ، كما لا يقدح فيه ما عساه يظهر من بعض الأخبار (٤) القاصرة عن المقاومة من وجوه من خلاف ذلك ، سيما مع إمكان تنزيله على ما لا ينافيه إن لم يكن ظاهرا في ذلك.

وإن تيقن الأولتين أو ظن بناء على مساواته له فيهما كما ستعرف إن شاء الله وشك في الزائد وجب عليه الاحتياط للأدلة الآتية ومسائله العامة البلوى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢٢ و ٢٣ و ٢٤.

٣٣١

بل قيل بوجوب معرفتها عينا على سائر المكلفين ، دون غيرها من مسائل الشك والسهو فيجب كفاية ، بل ربما قيل باشتراط صحة الصلاة بمعرفتها وإن كان في الأخير منع واضح ، وفي التفرقة في سابقه نظر وتأمل أربع‌ الأولى إذا شك بين الاثنتين والثلاث بعد إحراز الاثنتين بما ستعرف تحقيقه إن شاء الله في آخر البحث كانت صلاته صحيحة ولا إعادة عليه إجماعا كما في المعتبر والمنتهى وعن التذكرة والغرية ، بل هو قضية ما تسمعه من الإجماعات وغيرها على البناء على الثلاث ، فما في بعض الأخبار (١) من الأمر بالإعادة المخالف لما عليه الأصحاب مطرح أو محمول على حصوله قبل إكمال السجدتين أو غير ذلك ، وإن كان قد يظهر من المقنع الفتوى به ، لأنه رواه فيه مع أنه معارض بالمحكي عنه صريحا في موافقته الأصحاب وبنى على الثلاث وأتم وتشهد وسلم على المشهور نقلا وتحصيلا شهرة كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك في الخلاف والانتصار والغنية ، وعن ظاهر السرائر ومجمع البرهان بل عن الصدوق في الأمالي أنه من دين الإمامية ، كما عن الحسن دعوى تواتر الأخبار به ، مضافا إلى خصوص‌ خبر زرارة (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام « قلت له : رجل لا يدري اثنتين صلى أم ثلاثا قال : إن دخله الشك بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثم صلى الأخرى ولا شي‌ء عليه » ولعل المراد بدخوله في الثالثة إحراز الثنتين ، كما أن المراد بقوله : « مضى في الثالثة » الثالثة المحتملة على معنى تصييرها رابعة ، ويراد بقوله عليه‌السلام حينئذ « الأخرى » الركعة الاحتياطية ، ولا يقدح عدم فصلها في الرواية ، فإن كثيرا من الأخبار على نحو هذا التعبير عن الركعة الاحتياطية ، ويحتمل إرادة البناء على أنها ثالثة من المضي فيها على إرادة مضي الشك فيها أي ذهابه وانعدامه ، فتكون حينئذ من روايات البناء على الأقل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ١.

٣٣٢

وأوضح منه خبر قرب الاسناد (١) الذي تسمعه ، بل‌ ومقطوع محمد بن مسلم (٢) « إنما السهو ما بين الثلاث والأربع ، وفي الاثنتين والأربع بتلك المنزلة ، وإن سها فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا واعتدل شكه قال : يقوم فيتم ثم يجلس فيتشهد ويسلم ويصلي ركعتين وأربع سجدات وهو جالس » إلى آخره ، فإنه وإن كان ظاهر قوله : « صلى » فيما مضى ، لكنه لا يوافق ما فيه من الأمر بالقيام لإتمام الركعة مع الأمر بركعتين من جلوس للاحتياط لا على القول بالبناء على الأكثر ولا على القول بالأقل ، فلا بد من حمله على إرادة الشك فيما في يده أنها ثالثة أو رابعة ، وفرضه حينئذ على المختار البناء على أنها رابعة ثم يحتاط بركعتين من جلوس.

بل قد ينقدح من ذلك استفادة حكم ما هنا من الصورة الثانية ، ضرورة عدم تصور للشك بين الاثنتين والثلاث على وجه يكون صحيحا إلا على كون ما في يده ثالثة أو رابعة ، فهو حينئذ أحد فردي الشك بين الثلاث والأربع ، بل من لوازمه على هذا الفرض ، وسيأتي إن شاء الله تتمة لذلك في المسألة الثانية ، فتأمل جيدا ، على أن العمدة في المقام ما سمعت من الإجماعات ، بل قاعدة الأخذ بالأكثر عند الشك المستفادة من المعتبرة المستفيضة فعن‌ الفقيه (٣) قال أبو عبد الله عليه‌السلام لعمار ابن موسى : « يا عمار إلا أجمع لك السهو كله في كلمتين : متى ما شككت فخذ بالأكثر وإذا سلمت فأتم ما خلت أنك نقصته » وعن التهذيب عن الساباطي (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شي‌ء من السهو في الصلاة فقال : ألا أعلمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شي‌ء؟ قلت : بلى ، قال : إذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٣.

٣٣٣

سهوت فابنة على الأكثر ، فإذا فرغت وسلمت فقم فصل ما ظننت أنك نقصت ، فان كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه شي‌ء ، وإن ذكرت أنك نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت » بل في‌ خبره الآخر (١) أيضا « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كلما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر ، قال : فإذا انصرفت فأتم ما ظننت أنك نقصت ».

ولا ينافيه قاعدة البناء على اليقين المستفادة من أخبار أخر (٢) بل في‌ بعضها (٣) « إن هذا أصل فقال : نعم يرجع اليه » لقصورها عن مقاومتها من وجوه ، مع احتمال كون المراد منها ما يوافق الأولى ، إذ قد عرفت أن اليقين بصحة الصلاة يحصل بالبناء على الأكثر ، بل لا يحصل بالأقل ، لما فيه من احتمال زيادة الركعة المبطلة للصلاة سهوا وعمدا بخلاف الأول ، إذ ليس فيه سوى كون التسليم في غير محله الذي هو غير قادح ، لجريانه مجرى السهو ، بل قد يؤيده‌ المروي عن قرب الاسناد (٤) « رجل صلى ركعتين وشك في الثالثة قال : يبني على اليقين ، فإذا فرغ تشهد وقام وصلى ركعة بفاتحة الكتاب » إذ لو أراد باليقين الأقل لم يكن لصلاة الركعة وجه ، بل عن بعض النسخ « يبني على الثلاث ».

ومن هنا تعرف ما في نسبة الخلاف إلى المرتضى في الناصريات حيث قال فيها على ما حكي عنه بعد قول الناصر في المسألة الثانية : من شك في الأوليين استأنف ، ومن شك في الأخيرين بنى على اليقين : « ما نصه هذا مذهبنا ، والصحيح عندنا ، وباقي الفقهاء يخالفوننا في ذلك ـ إلى أن قال ـ : والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢ و ٥ و ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢.

٣٣٤

إذ قد عرفت أن مراده باليقين ما ذكرناه ، بل صرح به في الانتصار ردا على العامة بل قد يرشد إلى ذلك قوله فيها أيضا : « وباقي الفقهاء » إلى آخره ، إذ المنقول عنهم البناء على الأقل ، فلو كان مراده باليقين ذلك لم يتجه نقل الخلاف عنهم ، فظهر حينئذ إرادة البناء على النقصان بعد التسليم من اليقين بمعنى معاملتها معاملة الناقصة تحصيلا لليقين ، بل لعل هذا وجه ما في بعض الأخبار (١) أيضا من البناء على النقصان ، على أن بعضها (٢) مشتمل على ما لا يقول به من البناء عليه أيضا حتى في الشك بين الواحدة والثنتين ، كما أن جميعها موافق للعامة ، فان لم تكن قابلة لذلك كان حملها حينئذ على التقية متجها ، لمخالفتها تلك الأخبار المتلقاة بين الأصحاب بالقبول المنقول على مضمونها الإجماعات كما سمعت.

ومن جميع ما تقدم تعرف فساد ما عن علي بن الحسين بن بابويه من التخيير بين البناء على الأقل والتشهد بكل ركعة وبين البناء على الأكثر مع الركعة بعد التسليم ، إذ هو ـ مع ما سمعت من نسبة ولده في الأمالي المشهور إلى دين الإمامية ، وما كان ليخفى عليه مذهب والده مع أنه من رؤسائهم سيما عنده ـ لا أعرف له مستندا في ذلك سوى أنه جمع بين أخبار البناء على الأكثر وأخبار البناء على الأقل ، وهو ـ بعد تسليم أن مثل هذا الجمع لا يحتاج إلى شاهد ، بل ينتقل اليه من اللفظ ، والغض عن دلالة الثانية ، بل هي خالية عن الأمير بالتشهد في كل ركعة ، بل فيها الأمر بالسجود الخالي منه كلامه ـ فرع التكافؤ المفقود من وجوه ، فما وقع من بعض متأخري المتأخرين من أن القول به متجه أو أقرب أو أصوب لا ينبغي أن يلتفت اليه.

ثم استأنف وجوبا ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس مخيرا بينهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢٢ و ٢٣.

٣٣٥

على المشهور نقلا مستفيضا وتحصيلا شهرة كادت تبلغ الإجماع ، بل حكى عليه ذلك في الخلاف وعن الانتصار والغنية ، كما عن كشف الرموز هو فتوى الأصحاب لا أعرف فيه مخالفا ، بل في ظاهر النافع وعن صريح السرائر نسبته إلى الرواية ، بل في الرياض عن الذكرى والروض أنهما نقلا عن العماني تواتر الأخبار به ، ولكن الظاهر أنه وهم ، لأنه نقل في الذكرى أن الجعفي وابن أبي عقيل لم يذكرا التخيير بل اقتصرا على الركعتين من جلوس ، ولعل سبب اشتباهه ما في الذكرى قبل ذلك « وأما الشك بين الثنتين والثلاث فأجراه معظم الأصحاب مجرى الشك بين الثلاث والأربع ، ولم نقف على رواية صريحة ، ونقل فيه ابن أبي عقيل تواتر الأخبار وخالف علي بن إلى آخره. والظاهر أن مراده بقرينة ما بعده البناء على الأكثر لا في كيفية ركعة الاحتياط ، فتأمل.

وكيف كان فيدل عليه مضافا إلى ذلك ما تسمعه من المرسل (١) المنجبر بعمل الأصحاب الدال على التخيير في الصورة الثانية ، ولا قائل بالفصل بينها وبين هذه الصورة كما اعترف به في الرياض ، بل يمكن الاستدلال عليه حينئذ بأن ظاهر الأخبار المتقدمة الآمرة بإتمام ما نقصت الركعة من قيام احتياطا ، ولا ينافيه الحكم فيها بأنها نافلة إذا تبين التمام ، فان كونها ركعة لا يمنع من ذلك ، فمنه حينئذ ومن المعتبرة (٢) في الصورة الثانية الآمرة بركعتين من جلوس ـ لعدم القول بالفصل بينهما ـ يستفاد التخيير ، فما عن العماني والجعفي من الاقتصار على ذكر الركعتين من جلوس في الصورتين لورود الأخبار في الصورة الثانية مع عدم القول بالفصل ضعيف جدا إن أرادا عدم جواز غيره ، كالمحكي عن الكاتب والمفيد والقاضي من تعيين الركعة من قيام فيهما ، لظاهر‌ قوله عليه‌السلام : « فأتمم ما نقصت » ولا ينافي ذلك اعتبار القيام في الفريضة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

٣٣٦

بعد أن كان جبرا شرعا ، سيما مع الالتفات إلى ما ورد من تنزيل الركعتين من جلوس منزلة الركعة من قيام ، والله العالم.

ثم إن الظاهر تعذر الاحتياط بالنسبة إلى هذه الأقوال حتى في الجمع بين الركعة القيامية والجلوسية ، للزوم الفاصلة المخلة بالاحتياط على كل من المذهبين ، فما يظهر من بعضهم من أن الاحتياط هنا في مذهب الكاتب ، وفي الثانية بمذهب الجعفي والعماني لا يخلو من نظر ، نعم هو كذلك بالنظر إلى الأخبار دون الأقوال ، هذا.

ولكن ينبغي أن يعلم أنهم اختلفوا فيما يحصل به إكمال الركعتين الأولتين كي يكون الشك الواقع بعد ذلك معتبرا ، والمحصل من ملاحظة كلماتهم خصوصا الشهيدين والمحقق الثاني منهم في الذكرى وفوائد الشرائع والروض والروضة والمسالك والمقاصد العلية أن في ذلك أربعة وجوه أو أقوال.

الأول تحقق الإكمال برفع الرأس من السجدة الأخيرة ، ولعله ظاهر المشهور كما يستفاد من الذكرى والمدارك ، بل لعله الظاهر أيضا من عرف المتشرعة ، إذ المفهوم من إطلاقاتهم أن الركعة مجموع الأفعال إلى الرفع ، ولذا لو دعا أو أطال الذكر في السجدة الثانية من أي ركعة صدق عرفا أنه دعا وأطال في تلك الركعة ، كما أنه يمتثل بفعله كذلك لو كان ناذرا مثلا ، بل لعله المنساق إلى الذهن من النصوص الواردة في سائر المقامات المشتملة على ذكر أعداد الركعات في النوافل والفرائض ، وهو الذي اختاره العلامة الطباطبائي في مصابيحه حاكيا له عن جماعة من المتأخرين وعن صريح العلامة وغيره ممن تأخر عنه في مسألة إدراك الوقت بإدراك الركعة ، ضرورة أن الركعة معنى واحد لا يختلف باختلاف المواضع ، ولأن الأصل بقاء الركعة حتى يثبت الانتقال منها والخروج عنها ، ولم يثبت إلا بالرفع ، فيكون الشك قبله مبطلا ، ولأن حكم الشك قبل الذكر الابطال فكذا بعده قبل الرفع ، استصحابا للحكم الثابت مع عدم العلم بالمزيل ، ولا‌

٣٣٧

يعارضهما أصل صحة الصلاة ، فإنهما واردان عليه ومخصصان له ، ولأن الركعة من الحقائق الشرعية التي ضابطها ومرجعها إلى عرف المتشرعة ، والمتبادر منها فيه ما عرفت من مجموع الأفعال إلى الرفع ، فتكون كذلك شرعا ، ولعموم الأمر بإعادة الصلاة بالشك بين الثنتين والثلاث والثنتين والأربع ، بل بمطلق الشك المتعلق بالثنتين ، كما يستفاد من حصر الصحة في بعض المعتبرة (١) في الشك بين الثلاث والأربع ، خرج عنه الشك بعد الرفع ، فيبقى غيره.

وأيضا فأجزاء الصلاة تختلف باعتبار الانتهاء والكمال ، فالأقوال منها كالقراءة والذكر والدعاء تنتهي بنفسها ، ولا يتوقف إكمالها على الدخول في غيرها بخلاف الأفعال ، فإن الإكمال فيها لا يحصل إلا بالانتقال إلى فعل آخر ، فالقائم قائم ما لم يركع ، والراكع راكع ما لم يرفع ، وكذا الساجد ، فان السجود فعل واحد ممتد لا يتحقق الفراغ منه إلا بالرفع ، سواء في ذلك السجدة الأولى والثانية ، والقدر الزائد منه على الذكر الواجب وهو المتصل بالرفع جزء من السجود ، غاية الأمر عدم اتصافه بالوجوب بناء على جواز اختلاف أجزاء الفعل الواحد المتصل باختلاف ما يقع فيه كالقيام ، فإنه إنما يقتضي جواز تركه لا عدم توقفه على الرفع على تقدير وجوده كما هو المفروض ، ويمتاز الرفع عن سائر الأفعال بعدم توقف إكماله على الدخول في غيره ، لكونه من الأفعال المنقضية الغير الباقية ، فجاز من هذا الوجه دخوله في الركعة وانتهائها به ، ولا يلزم من توقف إكمال السجود عليه توقفه على شي‌ء آخر ، كما أنه لا ينافي خروج الرفع عن حقيقة السجود والركوع توقف إكمالهما عليه ، بل لا بأس بعده من واجباتهما بهذا الاعتبار ، لتوقف الامتثال على الإكمال المتوقف عليه ، ولا يلزم من ذلك عد الركوع من واجبات القيام وإن أمكن بالاعتبار المذكور ، لأن الأمور الاعتبارية لا يلزم فيها الاطراد ، على أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٣.

٣٣٨

الركوع لما كان ركنا مستقلا لم يجعل تابعا لغيره ، بخلاف الرفع.

وللصحيح أو الحسن عن زرارة (١) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « قلت له : رجل لا يدري اثنتين صلى أم ثلاثا؟ قال له : إن دخله الشك بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ثم صلى الأخرى ولا شي‌ء عليه » فان قضية المفهوم توقف الصحة على الدخول في الثالثة المترددة بينها وبين الرابعة ، فتبطل الصلاة بالشك الواقع قبل رفع الرأس من سجود الركعة المترددة بينها وبين الثانية ، وقد يناقش بأن الدخول في الثالثة ليس إلا بالخروج عن الثانية ، والقائل بعدم توقفه على الرفع يدعى الخروج عنها وإن لم يرفع ، فان بني الاستدلال على التوقف لزم الدور ، وإلا لم يثبت الابطال ، لمكان الاحتمال المانع من الاستدلال ، لكن قد تدفع بمنع دعوى القائل المزبور الخروج عنها وإن لم يرفع ، بل أقصى دعواه أنها تتم بذلك لا أنه يدخل في الثالثة حينئذ ، إذ مبدئها عنده على الظاهر الرفع ، فلا يصدق الدخول فيها قبله ، ولو قال : إن الرفع أمر خارج عنهما أمكن دعوى عدم صدق الخروج عن الثانية قبله أيضا وإن لم يكن مبدأ الثالثة ، فتأمل.

الثاني تحقق الإكمال بالركوع كما حكاه في الذكرى عن بعضهم ، وفي المصابيح عن السيد بن طاوس في البشرى والمحقق في الفتاوى البغدادية ، لإشعار بعض النصوص (٢) أو ظهورها فيه ، ولأن الركعة واحدة الركوع كما أن السجدة واحدة السجود ، ولحصول معظم الأجزاء بالركوع ، فيجتزى به تنزيلا للأكثر منزلة الجميع ول ما ورد (٣) في صلاة الآيات أنها عشر ركعات يقنت في كل ركعتين منها ، ولأنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الركوع من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة الكسوف والآيات ـ الحديث ٦.

٣٣٩

هو المخلص في حكم المشهور بصحة الصلاة إذا شك بين الأربع والخمس بعد الركوع قبل إكمال السجود ، فان النصوص تشمل هذه الصورة لو قيل بتحقق الركعة بالركوع وإلا فهي خارجة عنها ، لعدم إتمام الركعة ، فلا يصدق معه الشك بين الأربع والخمس لكن الجميع كما ترى حتى الأخير الذي هو بعد تسليمه يتم لو انحصر وجه الصحة في تلك النصوص ، وهو ممنوع لإمكان إثباتها بدليل آخر.

الثالث الاكتفاء بوضع الجبهة في السجدة الثانية وإن لم يتشاغل بالذكر ، كما مال إليه في ظاهر الذكرى ، لكمال الركعة بمسمى هذه السجدة ، وفيه أن الذكر من واجباتها فلا تكمل إلا يفعله ، وعدم بطلان الصلاة بالإخلال به سهوا لا يقتضي حصول الإكمال بدونه ، وإلا لحصل بمسمى السجدة الأولى ، لعدم بطلان الصلاة بنسيان السجدة الأولى (١) كما هو المشهور.

الرابع الاكتفاء بإكمال الذكر الواجب في السجدة الثانية وإن لم يرفع رأسه منها كما اختاره الشهيد الثاني في الروض والروضة والمسالك والمقاصد ، وكأنه مال اليه المحقق الثاني في فوائد الشرائع ، بل نسب إلى الشهيد الأول أيضا ، لكن لا صراحة في كلامه به ، لأن الرفع ليس جزء من السجود ، ولا دخل له فيه ، وإنما هو واجب مستقل أو مقدمة لواجب آخر كالتشهد والقراءة ، وفيه أن الرفع عندهم معدود من واجبات الركوع والسجدة الأولى ، فجاز أن يكون من واجبات الثانية ، لأن تعلقه بها كتعلقه بهما من غير فرق ، وخروجه عن السجود لا ينافي توقف إكماله عليه كما عرفت ، فإنه فعل واحد مستمر لا ينتهي إلا به ، مع أن الصحة منوطة بإكمال الركعتين ، ومن الجائز‌

__________________

(١) الصواب أن يكتب لفظة « الواحدة » أو « الثانية » مكان لفظة « الأولى » لعدم معقولية نسيان الأولى من حيث أنها أولى مع الإتيان بالثانية كذلك ، لأنه إذا سجد واحدة كانت هي الأولى قهرا واتصف الثانية بالنسيان.

٣٤٠