جواهر الكلام - ج ١٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

عمار (١) المروي عن كتاب الدعاء لابن طاوس « إذا أراد أحدكم أن يشتري أو يبيع أو يدخل في أمر فيبتدئ بالله ويسأله ، قلت : فما يقول؟ قال : يقول : اللهم إني أريد كذا وكذا ، فان كان خيرا لي في ديني ودنياي وآخرتي وعاجل أمري وآجله فيسره لي ، وإن كان شرا لي في ديني ودنياي فاصرفه عني ، رب اعزم لي على رشدي وإن كرهته وأبنته علي نفسي ، ثم يستشير عشرة من المؤمنين ، فان لم يصبهم وأصاب خمسة فيستشير خمسة مرتين ، وإن كان رجلان فكل واحد خمسا ، وإن كان واحد فليستشره عشرا » ولا بأس به ، وعلى كل حال فهو معنى آخر غير المعنيين الأولين المتقدمين وإن قيل : إنه قريب من أولهما ، بل مآلهما غالبا إلى واحد ، وفيه أنه إلى الثاني وهو طلب العزم على ما هو الخيرة والتوفيق له أقرب منه إلى الأول الذي هو الدعاء بأن يجعل الخيرة في الأمر الفلاني الذي قد عزم على فعله كما هو واضح ، أقصاه تعرف حصول الخيرة من الله بالعزم على الفعل ، أو بما يقع على لسان المستشار ، فليس حينئذ قسما مستقلا ، ومع التسليم فلا يبعد مشروعية الاستخارة بالمعاني الثلاثة ومشروعية الصلاة لها وتكرار الدعاء المزبور بمقدار العدد المذكور لكن لا على جهة الشرطية ، بل هو من المكملات ، بل لا يبعد اختلافه باختلاف الأمور في الاهتمام والعظمة وعدمهما كما أومأ إليه خبر ناجية المتقدم ، بل يومي اليه اختلاف الروايات في العدد بمائة مرة ومرة أو السبعين أو الخمسين وغيرها.

كما أنه من المكملات ملاحظة شرف المكان على ما يومي اليه خبر ابن أسباط (٢) والجهم (٣) المتقدمان ، بل والزمان كما يومي اليه خبر اليسع (٤) المتقدم ، بل والحال‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

١٦١

كما في السجود وفي حال الطهارة ، وقال في فهرست الوسائل : « باب استحبابها أي الاستخارة حتى في العبادات المندوبات وكيفياتها ، وفي ذلك ثلاث عشر حديثا ، وأن الأفضل إيقاعها في الأوقات الشريفة والأماكن الكريمة ، خصوصا عند قبر الحسين عليه‌السلام » وهو جيد وإن لم تكن النصوص صريحة في جميع ما ذكره ، لكن يستفاد منها أن كل ما له مدخلية في استجابة الدعاء وبعد الشيطان عنه من مكان أو زمان أو غيرهما ينبغي ملاحظته ، لأن المقام نوع منه ، كما يومي اليه أيضا زيادة على ما سمعت خبر يسع القمي (١) المتقدم ، ويستفاد منها أيضا القطع في الدعاء على الوتر ، وعدم التكلم في أثناء الاستخارة ، واشتراط العافية إلا إذا طابت نفسه ، ولم يتهم الله في شي‌ء مما يفرض وقوعه من موت ولد وذهاب مال وغيرهما ، لأنه هو الذي اختاره الله بدليل ما سمعته من النصوص الدالة على أنه متى استخار الله فلا بد أن يختار له ، ومعرفة ذلك إما بما يتفق وقوعه من المستخير ، أو بالعزم عليه ، أو بما يجري على لسان المستشار.

ومن هنا يقوى أن للاستخارة معنيين لا غير : أحدهما أن يسأل من الله سبحانه أن يجعل الخير فيما أراد إيقاعه من الأفعال ، والثاني أن يوفقه لما يختاره له وييسره له ، نعم لتعرف الثاني طرق ، ولعلها تتبع إرادة المستخير بالمعرفة ، فتارة يشاء ويطلب من الله معرفة ذلك بالعزم منه على ما هو مختار ، وتارة بما يقع على لسان المستشار.

وتارة بالرقاع كما في‌ خبر هارون بن خارجة (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا أردت أمرا فخذ ست رقاع فاكتب في ثلاث منها بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة افعل ، وثلاث منها كذلك لا تفعل ، ثم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

١٦٢

ضعها تحت مصلاك ثم صل ركعتين فإذا فرغت فاسجد سجدة وقل فيها مائة مرة أستخير الله برحمته خيرة في عافية ، ثم استو جالسا وقل : اللهم خر لي واختر لي في جميع أموري في يسر منك وعافية ، ثم اضرب بيدك إلى الرقاع فشوشها واخرج واحدة واحدة ، فإن خرج ثلاث متواليات افعل فافعل الأمر الذي تريده ، وإن خرج ثلاث متواليات لا تفعل فلا تفعله ، وإن خرجت واحدة افعل والأخرى لا تفعل فأخرج من الرقاع إلى خمس فانظر أكثرها فاعمل به ، ودع السادسة لا تحتاج إليها ».

وتارة بالبنادق كما في‌ مرفوع علي بن محمد (١) عنه عليه‌السلام « أنه قال لبعض أصحابه وقد سأله عن الأمر يمضي فيه ولا يجد أحدا يشاوره كيف يصنع؟ قال : شاور ربك ، قال : فقال له : كيف؟ قال : انو الحاجة في نفسك ثم اكتب رقعتين في واحدة لا وفي واحدة نعم ، واجعلهما في بندقتين من طين ، ثم صل ركعتين واجعلهما تحت ذيلك وقل : يا الله إني أشاورك في أمري هذا وأنت خير مستشار ومشير ، فأشر علي بما فيه صلاح وحسن عاقبة ، ثم أدخل يدك فان كان فيها نعم فافعل ، وإن كان فيها لا فلا تفعل ، هكذا تشاور ربك ».

وتارة بالسبحة كما‌ روي عن الصادق عليه‌السلام (٢) وصاحب الزمان عليه‌السلام (٣) وعليهما العمل في زماننا هذا من العلماء وغيرهم ، وصورتها « أن يقرأ الحمد عشر مرات أو ثلاثا أو مرة ، وإنا أنزلناه كذلك ، وهذا الدعاء ثلاث مرات أو مرة ، اللهم إني أستخيرك لعلمك بعاقبة الأمور ، وأستشيرك لحسن ظني بك في المأمول والمحذور ، اللهم إن كان الذي قد عزمت عليه مما قد نيطت بالبركة أعجازه وبواديه وحفت بالكرامة أيامه ولياليه فخر لي ، اللهم فيه خيرة ترد شموسه ذلولا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

١٦٣

وتقعض أيامه سرورا ، اللهم إما أمرا فأئتمر ، وإما نهيا فأنتهي ، اللهم إني أستخيرك برحمتك خيرة في عافية ، ثم تقبض على السبحة وتنوي إن كان المقبوض وترا كان أمرا وإن كان زوجا كان نهيا ، أو بالعكس » وقال في الذكرى : لم تكن هذه الاستخارة مشهورة في العصور الماضية قبل زمان السيد الكبير العابد رضي الدين محمد بن محمد الآوي الحسيني المجاور بالمشهد المقدس الغروي رضي‌الله‌عنه ، وقد رويناها عنه ، وجميع مروياته عن عدة من مشايخنا عن الشيخ الكبير الفاضل الشيخ جمال الدين بن المطهر عن والده رضي الله عنهما عن‌ السيد رضي الدين عن صاحب الأمر عليه‌السلام « يقرأ الفاتحة عشرا ودونه ثلاث ودونه مرة ، ثم يقرأ القدر عشرا ويقول » إلى آخر الدعاء‌ ثم قال : وقال ابن طاوس رحمه‌الله في كتاب الاستخارات : وجدت بخط أخي الصالح الرضي‌ الآوي محمد بن محمد الحسيني ضاعف الله سيادته وشرف خاتمته بما هذا لفظه عن الصادق عليه‌السلام « من أراد أن يستخير الله فليقرأ الحمد عشر مرات وإنا أنزلناه عشر مرات ثم يقول » وذكر الدعاء ، إلا أنه قال عقيب « والمحذور » : اللهم إن كان أمري هذا قد نيطت ، وعقيب « سرورا » يا الله إما أمر فأئتمر وإما نهي فأنتهي اللهم خر لي برحمتك خيرة في عافية ثلاث مرات ثم يأخذ كفا من الحصى أو السبحة ، انتهى.

وقد يقوى إرادة التمثيل من الحصى والسبحة لكل معدود ، إلا أن الأحوط الاقتصار عليهما ، كما أن الأولى الاقتصار على السبحة الحسينية وإن كان الأقوى الاكتفاء بكل ما يسبح به ، خصوصا إذا كانت من تراب الرضا عليه‌السلام ونحوه بل كل معدود ، ولا يعتبر العدد المخصوص في السبحة كالثلاث أو الأربع والثلاثين ، لعدم الدليل.

١٦٤

وتارة تكون بالقرعة والمساهمة كما اتفق ليونس ، فإنه روي (١) « أنه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى فركب في السفينة فوقفت ، فقالوا هذا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ، فرمى بنفسه في الماء فالتقمه الحوت » وفي‌ الوسائل عن علي بن طاوس في كتاب الاستخارات وأمان الأخطار بإسناده إلى عبد الرحمن بن سيابة (٢) قال : « خرجت إلى مكة ومعي متاع كثير ، فكسد علينا ، فقال بعض أصحابنا : ابعث به إلى اليمن فذكرت ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال : ساهم بين مصر واليمن ثم فوض إلى الله عز وجل ، فأي البلدين خرج اسمه في السهم فابعث اليه متاعك ، فقلت : كيف أساهم؟ قال : اكتب في رقعة بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنه لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة ، وأنت العالم ، وأنا المتعلم فانظر في أي الأمرين خير لي حتى أتوكل عليك فيه وأعمل به ، ثم اكتب مصر إن شاء الله ، ثم اكتب في رقعة أخرى مثل ذلك ثم اكتب اليمن إن شاء الله ، ثم اكتب في رقعة أخرى مثل ذلك ثم اكتب يحبس إن شاء الله فلا تبعث به إلى بلدة منهما ، ثم اجمع الرقاع وادفعها إلى من يسترها عنك ثم أدخل يدك فخذ رقعة وتوكل على الله واعمل بها ».

وقد وقفت على خيرة بالقرعة بغير هذا الطريق بل هي بالأصابع في كيفية أخرى طويلة ، وربما ادعي تجربتها إلا أني لم أعرف سندها معرفة يعتد بها في الركون إلى مثل ذلك ، خصوصا إن قلنا بعدم التسامح في مثله ، لعدم اندراجه في السنن ، بل هو تعرف للغيب ، وإن كان الأظهر أن استحباب الاستخارة بهذا الطريق أو غيره لا ريب في أنه من السنن التي يتسامح في أدلتها ، فلا بأس في نية القربة للمستخير بذلك حينئذ ، ولا ينافيه اشتمال الدليل على علامة الخيرة ، إذ لا ريب في أن للفاعل إيقاع فعله كيف شاء ،

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ١٣٥ من طبعة صيدا ـ سورة يونس عليه‌السلام الآية ٩٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

١٦٥

ومباح له الفعل والترك ، فلا حرج عليه بإناطة الفعل والترك بهذه العلامة لاحتمال إصابتها الواقع ، ولا تشريع فيه ، ومن ذلك تعرف أنه لا بأس حينئذ بالأخذ بجميع ما سمعت من أقسام الاستخارات وإن ضعف سند دليل بعضها.

فما في السرائر ـ من الاقتصار في الاستخارة على ذات الصلاة والدعاء ، ثم فعل ما يقع في القلب ، والتشديد في الإنكار على الاستخارة بالرقاع والبنادق والقرعة ، قال : لأن رواتها فطحية مثل زرعة ورفاعة وغيرهما ملعونون ، فلا يلتفت إلى ما اختصا بروايته ، والمحصلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه إلا ما اخترناه ، ولا يذكرون البنادق والرقاع والقرعة إلا في كتب العبادات دون كتب الفقه ، فشيخنا أبو جعفر لم يذكر في نهايته ومبسوطة واقتصاده إلا ما ذكرناه واخترناه ، وكذلك شيخنا المفيد في رسالته إلى ولده لم يتعرض للرقاع ولا للبنادق ، بل أورد روايات كثيرة فيها صلوات وأدعية ، ولم يتعرض لشي‌ء من الرقاع ، والفقيه عبد العزيز أورد ما اخترناه ، وقال : قد ورد في الاستخارة وجوه عديدة أحسنها ما ذكرناه ، وأيضا فالاستخارة في كلام العرب الدعاء ، وهو من استخارة الوحش ، وذلك بأن يأخذ القانص ولد الظبية ، فيفرك ( فينفرك خ ل ) أذنيه فيبغم ، فإذا سمعت أمه بغامه لم تملك أن تأتيه فترمي بنفسها عليه فيأخذها القانص حينئذ ، واستدل على ذلك بقول حميد بن ثور الهلالي ، ثم قال : وكان يونس بن حبيب اللغوي يقول : إن معنى قولهم : استخرت الله استفعلت من الخير أي سألت الله أن يوفق لي خير الأشياء أي أفضلها ، فمعنى صلاة الاستخارة على هذا صلاة الدعاء ـ محل للنظر من وجوه ، وإن تبعه المصنف فيما حكي من معتبره حيث قال : وأما الرقاع وما يتضمن افعل ولا تفعل ففي حيز الشذوذ ، نحو ما يحكى عن بعض نسخ المقنعة من أن هذه الرواية ـ مشيرا به إلى رواية الرقاع ـ شاذة ليست كالذي تقدم ، لكنا أوردناها على وجه الرخصة دون محض العمل ، لكن عن ابن طاوس أن النسخ‌

١٦٦

الصحيحة العتيقة لم توجد فيها هذه الزيادة ، ولم يتعرض الشيخ في التهذيب لها ، وقال : « إني قد اعتبرت كلما قدرت عليه من كتب أصحابنا المتقدمين والمتأخرين ، فما وجدت ولا سمعت أن أحدا أبطل هذه الاستخارة » انتهى. ولقد أجاد الفاضل في المختلف ـ بعد أن نقل ما سمعته من السرائر ـ في قوله : وهذا الكلام في غاية الرداءة ، وأي فرق بين ذكره في كتب الفقه وكتب العبادات ، فان كتب العبادة هي المختصة به ، ومع ذلك فقد ذكره المفيد في المقنعة وهي كتاب فقه ، والشيخ في التهذيب وهو أصل الفقه ، وأي محصل أعظم من هذين ، وهل استفيد الفقه إلا منهما ، وأما نسبة الرواية إلى زرعة ورفاعة فخطأ ، فإن المنقول روايتان ليس فيهما زرعة ولا رفاعة ، ثم أخذ يشنع عليه بعدم معرفته بالروايات والرجال ، وأن زرعة ورفاعة ليسا من الفطحية ، وأن من حاله كذلك كيف يجوز له أن يقدم على رد الروايات والفتاوى ، ويستبعد ما نص عليه الأئمة عليهم‌السلام ، وهلا استبعد القرعة وهي مشروعة إجماعا في حق الأحكام الشرعية والقضاء بين الناس ، وشرعها دائم في جميع المكلفين ، وأمر الاستخارة سهل يستخرج منه الإنسان معرفة ما فيه الخير في بعض أفعاله المباحة المبتنية عليه منافعها ومضارها الدنيوية.

وعن ابن طاوس في كتاب الاستخارات ردا على السرائر أيضا أنه ما روينا عن زرعة وسماعة شيئا ، وإنما روينا عمن اعتمد عليه ثقات أصحابنا ، وكأن ما حضره من نسخة السرائر فيها إبدال رفاعة بسماعة ، وعن وسائل الحر أن ابن طاوس روى الاستخارة بالرقاع بعدة طرق ، وفي الذكرى إنكار ابن إدريس الاستخارة بالرقاع لا مأخذ له مع اشتهارها بين الأصحاب وعدم راد لها سواه وسوى الشيخ نجم الدين في المعتبر ، وكيف تكون شاذة وقد دونها المحدثون في كتبهم والمصنفون في مصنفاتهم ، وقد صنف السيد السعيد العالم العابد صاحب الكرامات الظاهرة والمآثر الباهرة أبو الحسن علي بن طاوس الحسني كتابا ضخما في الاستخارات ، واعتمد فيه على رواية‌

١٦٧

الرقاع ، وذكر من آثارها عجائب وغرائب أرانا الله تعالى إياها ، وقال : « إذا توالى الأمر في الرقاع فهو خير محض ، وإن توالى النهي فهو شر محض ، وإن تفرقت كان الخير والشر موزعا بحسب تفرقها على أزمنة ذلك الأمر بحسب ترتبها » وفي الفوائد الملية « ونحن قد جربنا ما ذكره ابن طاوس فوجدناه كما قال » وفي الروض « أن ذات الرقاع الست أشهر الاستخارات » وفي مفتاح الكرامة أن ابن طاوس قد ادعى الإجماع على الاستخارة بالرقاع ممن روى ذلك من أصحابنا ومن الجمهور ، لأنه نقل هذه الاستخارة عن جماعة كثيرين من العامة ، وجعل الأخبار الواردة بالدعاء وما يقع في الخاطر وغيرها محمولة على الضرورة ، كعدم التمكن من الكتابة ولو لعدم معرفتها ، بل نزل جملة منها على إرادة الرقاع ، ومن هذا كله مضافا إلى ما سمعته سابقا من التسامح في أدلة الاستخارة كما أومأ إليه في المختلف تعرف وجوه النظر فيما سمعته من السرائر ، وما أبعد ما بينه وما بين ما ذهب اليه بعض مشايخنا من التوسعة في أمر الاستخارة حتى جعل مدارها ما ينوي المستخير تعرف الخيرة به كائنا ما كان ، وربما يؤيده ما سمعته في بعض الروايات السابقة كرواية (١) الاستخارة بالحصى والسبحة ونحوهما بل قد يدعى أنه المستفاد من مجموع الروايات ، نعم ينبغي للمستخير أن يسأل من ربه الخيرة ويتضرع له في ذلك ثم يطلب منه تعرف الخير بما يشاء مما يقع في ذهنه ، وفي الوافي بعد ذكر مرفوعة البنادق قال : وطريق المشاورة لا ينحصر في الرقعة والبندقة بل يشمل كل ما يمكن استفادة ذلك منه مثل ما مضى في حديث الرقاع ومثل ما يأتي في باب القرعة وغير ذلك ، وإنما ذكر البندقة تعليما وإرشادا للسائل ، لكنك خبير بما في مثل هذه التوسعة ، كما أنك خبير بما في مثل ذلك الجمود ، فالأولى الاقتصار على ما في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ و ٨ ـ من أبواب صلاة الاستخارة.

١٦٨

النصوص الواردة عن أئمة الهدى عليهم‌السلام الذين هم المرجع والمعول في هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله ، ومعادن سره وخزان وحيه.

وكيف كان فالمعروف في كيفيتها ما سمعته في الخبر الذي هو الأصل فيها ، لكن في النفلية زيادة الغسل أولا ولم نعرف له مستندا ، اللهم إلا أن يكون مأخذه رجحان الغسل في نفسه كالوضوء ، فينبغي للمستخير ملاحظة ما له مدخلية في إجابة الدعاء ، أو أنه من الغسل للحاجة ، إذ هي أعم من طلب الخيرة من الله ، أو لغير ذلك ، ولعله لذا ونحوه قال في الفوائد الملية بعد أن أنكر وجود النص على الغسل : ولا ريب أنه أكمل ، كما أنه حكي في الروض عن ابن طاوس « أن من آدابها أن تكون صلاة المستخير بها صلاة مضطر إلى معرفة مصلحته التي لا يعلمها إلا من علام الغيوب ، فيتأدب في صلاته ، وأن يكون عند قوله : أستخير الله برحمته خيرة في عافية بقلب مقبل على الله ونية حاضرة صافية ، وإذا عرف وقت سجوده أنه قد غفل عن ذكر الله بين يدي عالم الخفيات أن يستغفر ويتوب في تلك الحال من ذلك الإهمال ، وإذا رفع رأسه من السجود يقبل بقبلة على الله ويتذكر أنه يأخذ رقاع الاستخارة من لسان حال الجلالة الإلهية وأبواب الإشارة الربانية ، وأنه لا يتكلم بين أخذ الرقاع مع غير الله جل جلاله ، وأنه إذا خرجت مخالفة لإرادته لا يقابل مشورة الله تعالى بالكراهة ، بل يقابله بالشكر » انتهى هذا ، وقد سمعت أن الموجود في النص ابن فلانة وافعل ولا تفعل بغير هاء ، لكن عن المقنعة ابن فلان ، وعن أكثر نسخ النفلية افعله بالهاء ، بل في الفوائد الملية أنه كتب عليها المصنف في بعض كتبه لفظ « صح » تأكيدا لإثباتها ، ولا يخفى عليك أن العمل بما في النص المزبور أولى.

وتارة بالمصحف الشريف كما سمعته في خبر اليسع القمي (١) المتقدم سابقا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

١٦٩

لكن هل المراد بأول ما ترى فيه من الآيات أو الصفحة؟ وجهان ، حقيقة اللفظ تقتضي الثاني ، والمناسب لتعرف الاستخارة الأول ، وهو الذي اختاره بعض مشايخنا مدعيا أنه صريح الخبر المزبور ، وناقلا له عن تصريح البعض ، إلا أن الخبر كما سمعت ، ولم نعثر على ذلك البعض ، بل في الذكرى وعن الموجز الحاوي التعبير بما في النص ، نعم قد يقال إن الظاهر عدم العبرة بالمقام والسوق ، بل المدار على ما يتبادر من لفظ الآية كما صرح به بعض مشايخنا ، فلو أنه وقع نظره على قوله عز وجل (١) ( إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) ـ كما وقع لبعض حيث استخار على المهاجرة الطلب العلم فوقع نظره على هذه الآية الكريمة فهاجر فوفق لما أراد وبلغ المراد ـ قلنا له : استخارتك حسنة جيدة ولا نعتبر المقام ، لأنه كان مقام استهزاء ، فنقول : هي غير جيدة ، لكن ملاحظة المقام إنما هي للعارف الخريت الماهر ، فإنه إذا لاحظها ظهر له من ذلك الأسرار الغريبة ، وقد يقال إنه لما لم يعلم المراد بالأول في الخبر المزبور الآيات أو الكلمات ، وعلى الأول فهل المدار على أول آية في صفحة النظر أو على أول الآية من الصفحة السابقة على صفحة النظر ، إذ الفرض كون محل النظر بعض الآية في هذه الصفحة والبعض الآخر في الصفحة السابقة ، ولم يعلم أيضا اعتبار المقام والسوق وعدمه ، ولم نقف على خبر غير الخبر المزبور ، كان المتجه الاقتصار في الجيدة والردية على الجامعة لجميع ذلك ، وإلا جدد الاستخارة به بعد التوسل والدعاء في أن يريه الله رشده صريحا ، لأنه لم يوفق له في الرأي في الاستخارة الأولى ، هذا.

وربما أشكل أصل الاستخارة بالمصحف بما‌ روي (٢) في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « لا تتفأل بالقرآن » وأجيب بأنه إن صح الخبر أمكن التوفيق‌

__________________

(١) سورة هود عليه‌السلام ـ الآية ٨٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٢.

١٧٠

بينهما بالفرق بين التفؤل والاستخارة ، فإن التفؤل إنما يكون فيما سيقع ويتبين الأمر فيه كشفاء المريض أو موته ووجدان الضالة وعدمه ، ومآله إلى تعجيل تعرف ما في علم الغيب ، وقد ورد النهي عنه وعن الحكم فيه بتة لغير أهله ، وكره النظر في مثله ، بخلاف الاستخارة فإنها طلب لمعرفة الرشد في الأمر الذي يراد فعله أو تركه ، وتفويض الأمر إلى الله تعالى في التعيين واستشارته ، كما‌ قال عليه‌السلام (١) : « تشاور ربك » وبين الأمرين فرق واضح ، وإنما منع التفؤل بالقرآن وإن جاز بغيره إذا لم يحكم بوقوع الأمر على البت ، لأنه إذا تفأل بغير القرآن ثم تبين خلافه فلا بأس ، بخلاف ما إذا تفأل بالقرآن ثم تبين خلافه ، فإنه يقضي إلى إساءة الظن بالقرآن ، ولا يتأتى ذلك في الاستخارة ، لبقاء الإبهام فيه بعد وإن ظهر السوء ، لأن العبد لا يعرف خيره من شره قال الله (٢) ( عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ) الآية ، وفيه أنه بناء على صحة الخبر المزبور يبعد حمله على ذلك ، لأن التفؤل إن لم يكن هو أقرب إلى موضوع الاستخارة من تعرف علم الغيب فهو بالنسبة إليهما على حد سواء ، لصدقه على كل منهما.

نعم يسهل الخطب عدم صحة الخبر المزبور ، على أنه قد يعارضه ما يحكى عن ابن طاوس في كتاب الاستخارات من أنه ذكر للتفؤل بالقرآن بالمعنى المذكور وجوها يستبعد بل يمتنع عدم وصول نصوص فيها اليه ، بل ظاهر بعض عباراته أو صريحها وقوفه على ذلك ، قال : « منها أنك تصلي صلاة جعفر وتدعو بدعائها ثم تأخذ المصحف وتنوي فرج آل محمد عليهم‌السلام بدء وعودا ثم تقول : اللهم إن كان في قضائك وقدرك أن تفرج عن وليك وحجتك في خلقك في عامنا هذا وفي شهرنا هذا فاخرج لنا آية من كتابك نستدل بها على ذلك ، ثم تعد سبع ورقات وتعد عشرة أسطر من ظهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٢.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٢١٣.

١٧١

الورقة السابعة وتنظر ما رأيته في الحادي عشر من السطور ، ثم تعيد الفعل ثانيا لتفسيره فإنه تتبين حاجتك إن شاء الله ـ ثم إنه بين معنى قوله في عامنا هذا ـ أن العلم بالفرج عن وليه يتوقف على أمور كثيرة ، فيكون كل وقت يدعى له بذلك في عامي هذا أو شهري هذا يفرج الله أمرا من تلك الأمور الكثيرة فيسمى ذلك فرجا ـ وذكر أيضا عن بندر بن يعقوب ـ أنك تدعو للأمر والنهي أو ما تريد الفأل فيه بفرج آل محمد عليهم‌السلام وذكر نحوا من ذلك الدعاء ، وقال : ثم تعد سبعة أوراق ثم تعد من الوجهة الثانية من الورقة السابعة ستة أسطر ، وتتفأل بما يكون في السطر السابع قال : وفي رواية أخرى تدعو بالدعاء ثم تفتح المصحف وتعد سبع قوائم ، وتعد ما في الوجهة الثانية من الورقة السابعة ، وما في الوجه الآخر من الورقة الثامنة من لفظ الجلالة ، ثم تعد قوائم بعدد اسم الجلالة ، ثم تعد من الوجهة الثانية من القائمة التي ينتهي العدد إليها ، ومن غيرها مما يأتي بعدها سطورا بعدد لفظ الجلالة ، وتتفأل بآخر سطر من ذلك » انتهى.

وهو كما ترى ظاهر فيما قلنا ، ومنه ينقدح إرادة البت والقطع من النهي عن التفؤل في الخبر المزبور ، لا على أنه أمارة لا يورث تخلفها في نفس المتفئل شيئا من ظن السوء بالقرآن ، بل لعل المراد بالنهي المزبور إنما هو لعامة الناس الذين لا يعلمون الكيفية ولا يفهمون المعنى والمراد ، وإذا تخلف الأمر يظنون ظن السوء بالقرآن الكريم ، بل لعل الاستخارة فيه أيضا بالنسبة إليهم كذلك فضلا عن التفؤل بالمعنى المتقدم ، فمن المحتمل قويا أن يراد حينئذ بالتفؤل المنهي عنه المعنى الذي يشمل الاستخارة أيضا ، والله أعلم.

وهناك استخارة أخرى مستعملة عند بعض أهل زماننا ، وربما نسبت إلى مولانا القائم عليه‌السلام ، وهي أن يقبض على السبحة بعد قراءة ودعاء ويسقط ثمانية ثمانية ، فإن بقي واحد فحسنة في الجملة ، وإن بقي اثنان فنهى واحد ، وإن بقي ثلاثة‌

١٧٢

فصاحبها بالخيار ، لتساوي الأمرين ، وإن بقي أربعة فنهيان ، وإن بقي خمسة فعند بعض أنها يكون فيها تعب ، وعند بعض أن فيها ملامة ، وإن بقي ستة فهي الحسنة الكاملة التي تجب العجلة ، وإن بقي سبعة فالحال فيها كما ذكر في الخمسة من اختلاف الرأيين أو الروايتين ، وإن بقي ثمانية فقد نهي عن ذلك أربع مرات ، إلا أنا لم نقف عليها في شي‌ء من كتب الأصحاب قديمها وحديثها أصولها وفروعها كما اعترف به بعض المتبحرين من مشايخنا ، نعم قد يقال بإمكان استفادتها من استخارة السبحة المتقدمة المقتضية إيكال الأمر في علامة الجودة والرداءة بالشفع والوتر على قصد المستخير ، وإن كان الذي يسقط في تلك اثنان اثنان.

ويخطر بالبال أني عثرت في غير واحد من المجاميع على فأل لمعرفة قضاء الحاجة وعدمها ينسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام يقبض قبضة من حنطة أو غيرها ثم يسقط ثمانية ثمانية ، ويحتمل أنه على التفصيل المزبور ، ولعله هو المستند في ذلك ، وإلا فالاستفادة الأولى لا تنطبق على هذه الكيفية الخاصة التي يكون القصد في الحقيقة تابعا لها لا العكس ، على أنه فيها تقسيم الأمر المستخار إلى أزيد من الأمر والنهي المستفادين من تلك الأخبار المتقدمة حتى في ذات الرقاع ، بل لم أعرف استخارة قسم الأمر المستخار فيها إلى أمر ونهي ومخير فيه سوى ما حكاه في الحدائق عن كتاب السعادات لوالده ، قال : قال فيه‌ خيرة مروية (١) عن الامام الناطق جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام « يقرأ الحمد مرة والإخلاص ثلاثا ، ويصلي على محمد وآله خمس عشر مرة ، ثم يقول : اللهم إني أسألك بحق الحسين وجده وأبيه وأمه وأخيه والأئمة التسعة من ذريته أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل لي الخيرة في هذه السبحة ، وأن تربني ما هو الأصلح لي في الدين والدنيا ، اللهم إن كان الأصلح في ديني ودنياي وعاجل أمري‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٢.

١٧٣

وآجله فعل ما أنا عازم عليه فمرني ، وإلا فانهني ، إنك على كل شي‌ء قدير ، ثم تقبض قبضة من السبحة وتعدها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله إلى آخر القبضة ، فإن كان الأخيرة سبحان الله فهو مخير بين الفعل والترك ، وإن كان الحمد لله فهو أمر ، فإن كان لا إله إلا الله فهو نهي » بل ظاهر الدعاء في هذه الاستخارة أيضا الحصر في النهي والأمر كالروايات السابقة ، نعم ذيل الرواية صريح في ثبوت التخيير ، وربما جمع بينها بإرادة الأعم من الراجح والمساوي من الأمر في تلك ، أي عدم الضرر انضمت معه مصلحة أولا ، وبإرادة خصوص الراجح والمرجوح من الأمر والنهي هنا ، فجاز التخيير ، وربما قيل برجوع ذلك إلى قصد المستخير ، وعليه حينئذ فله تكرير الاستخارة على عدم الضرر مثلا إذا كان استخارته أولا على الأرجحية.

ولا يخفى عليك أنه بناء على ما ذكرنا سابقا لا بأس على الإنسان في تعرف الرشد وعدمه بشي‌ء من ذلك كله ، ضرورة أن له إيقاع فعله كيف أراد ، ومنه وقوع فعله على مقتضى هذه الأمور لاحتمال إصابة الرشد فيها ، إذ احتمال اشتراط الإصابة بجزمه بذلك أو أخذه من دليل معتبر واضح المنع ، بل هو بالنسبة إلى هذا المعنى أوسع تسامحا من السنن ، إذ قد يتوقف في مشروعية نية التقرب بمجرد قيام الاحتمال الناشئ من نحو تلك المراسيل ، مع أنه لا بأس به أيضا بناء على ابتناء التسامح فيها على الاحتياط العقلي ، بل وعلى غيره لمكان تلك الأخبار المرسلة وإن كانت هي في غاية الضعف من الإرسال ، بل قد سمعت ما حكيناه عن بعض فضلاء مشايخنا من أن المستفاد من أخبار الاستخارة الإناطة بما يشاؤه المكلف من الطرق لمعرفة رشده وإن لم يكن لها أثر في النصوص بعد الدعاء والتوسل والتضرع لله تعالى ونحوها في أن يبين له رشده بذلك ، وإن قلنا إنه محل للتأمل أو للمنع ، خصوصا بعد ما قيل من أنه في الوسائل روي (١)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

١٧٤

عن الطبرسي بإسناده إلى صاحب الأمر عليه‌السلام خبرا ظاهره أنه لا استخارة في الخواتيم بأن يكتب في أحدهما افعل وفي الآخر لا تفعل ، ولا ريب أن الأولى الاقتصار في الاستخارة على تلك الطرق الثابتة بما عرفت.

كما أن الأولى الاقتصار على استخارة الإنسان نفسه لما يريده من أموره ، فان لم يكن عالما بكيفيتها تعلمها كما سمعته في‌ الخبر السابق « إنا كنا نتعلم الاستخارة كما نتعلم السورة من القرآن » الخبر. إذ لا ريب في أنه أولى من الاستنابة ، لخلو النصوص الواردة في هذا الباب عن الإشارة إليها ، بل قد يومي التأمل فيها إلى عدمها ، خصوصا والامام عليه‌السلام بين أظهرهم حتى أنه يستشيرونه في الأمر فيأمرهم بالاستخارة كما سمعته في خبر ابن أسباط ، بل لعل مقتضى الأصل عدم مشروعية النيابة فيها ، لأنها من المستحبات المشتملة على التضرع والتوسل والدعاء ونحوها مما لا يجري الاستنابة فيها ، إلا أن المعروف في زماننا هذا بل وما تقدمه بين العلماء فضلا عن الأعوام الاستنابة فيها ، قال جدي العلامة ملا أبو الحسن رحمه‌الله فيما حكي عنه في شرح المفاتيح : لا يخفى أن المستفاد من جميع ما مر أن الاستخارة ينبغي أن تكون ممن يريد الأمر بأن يتصداها هو بنفسه ، ولعل ما اشتهر من استنابة الغير على جهة الاستشفاع ، وذلك وإن لم نجد له نصا إلا أن التجربات تدل على صحته ، وهو في غاية الجودة ، وربما يؤيده ـ مضافا إلى إطلاقات الوكالة وعموماتها ورؤيا بعض الصالحين من المعاصرين ما يقتضي جواز الاستنابة فيها ـ ان الاستخارة بمعانيها ترجع إلى الطلب ، وأن من طلب حاجة من سلطان عظيم الشأن فإن الأرجح والأنجح في حصولها أن يوسط بعض القريبين إلى حضرة ذلك السلطان في سؤالها ، وأن الاستخارة مشاورة ، ولا ريب في صحة النيابة فيها ، كما استشار ابن الجهم أبا الحسن عليه‌السلام لابن أسباط ، بل مشاورة المؤمن نوع منها ، وقد فعلها غير المستشير ، بل إن كان المقصود من خطاب‌

١٧٥

أبي الحسن عليه‌السلام ابن الجهم كان صريحا في الاستنابة ، وغير ذلك ، بل حكي عن الشيخ سليمان البحراني الاستدلال عليها بوجوه عشرة بعد اعترافه بعدم نص فيها ، منها أن علماء زماننا مطبقون على استعمال ذلك ، ونقلوا عن مشايخهم نحو ذلك ، ولعله كاف في مثله ، لكن الإنصاف أن الجميع كما ترى ، ومن المعلوم أن المراد بالاستنابة غير استخارة الإنسان نفسه على أن يشور على الغير بالفعل أو عدمه بعد أن يشترط على الله المصلحة لمن يريد الاستخارة له ، إذ هي ليست من النيابة قطعا ، بل قد يقال إنه ليس من النيابة ما لو دعا المستخير لنفسه وسأل من ربه صلاحه واستناب غيره في قبض السبحة أو فتح المصحف أو نحوهما وإن دعا هو معه ، ولعل الاستنابة المتعارفة في أيدينا من هذا القبيل ، والله أعلم.

ومنها صلاة الحاجة بلا خلاف أجده فيها نصا وفتوى ، بل قيل : إنه ذكر الصدوق والشيخان في الفقيه والهداية والمقنع والمقنعة والمصباح صلوات شتى للحاجة ، قلت : منشأ ذلك النصوص (١) المستفيضة جدا إن لم تكن متواترة كما لا يخفى على من لاحظها في مثل وافي الكاشاني ونحوه مما أعد لجمع الروايات ، ومنها ما هو مطلق في صلاة الركعتين وطلب الحاجة كخبر الحارث بن المغيرة (٢) عن الصادق عليه‌السلام « إذا كانت لك حاجة فتوضأ فصل ركعتين ثم احمد الله واثن عليه واذكر من آلائه ثم ادع تجب » وفي خبره الآخر (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « إذا أردت حاجة فصل ركعتين وصل على محمد وآل محمد وسل تعطه » ومنها ما قد اشتمل على ذكر مقدمات وكيفيات لها ، منها ما ذكره في القواعد من صلاة ركعتين بعد صوم ثلاثة أيام آخرها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة الحديث ٣.

١٧٦

الجمعة ، كما في‌ صحيح صفوان بن يحيى ومحمد بن سهل (١) عن أشياخهما عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا حضرت لك حاجة مهمة إلى الله عز وجل فصم ثلاثة أيام متوالية : الأربعاء والخميس والجمعة ، فإذا كان يوم الجمعة إن شاء الله فاغتسل وألبس ثوبا جديدا ، ثم اصعد إلى أعلى بيت في دارك ، وصل فيه ركعتين ، وارفع يديك إلى السماء ، ثم قل : اللهم إني حللت بساحتك لمعرفتي بوحدانيتك وصمدانيتك ، وأنه لا قادر على حاجتي غيرك ، وقد علمت يا رب أنه كلما تظاهرت نعمتك علي اشتدت فاقتي إليك ، وقد طرقني هم كذا وكذا وأنت بكشفه عالم غير معلم ، واسع غير متكلف ، فأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فنسفت ، ووضعته على السماء فانشقت ، وعلى النجوم فانتشرت ، وعلى الأرض فسطحت ، وأسألك بالحق الذي جعلته عند محمد والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) وتسميهم إلى آخرهم أن تصلي على محمد وأهل بيته ، وأن تقضي حاجتي ، وأن تيسر لي عسيرها ، وتكفيني مهمها ، فان فعلت فلك الحمد ، وإن لم تفعل فلك الحمد ، غير جائر في حكمك ، ولامتهم في قضائك ، ولا حائف في عدلك ، وتلصق خدك بالأرض ، وتقول : اللهم إن يونس بن متى عبدك دعاك في بطن الحوت وهو عبدك فاستجبت له ، وأنا عبدك أدعوك فاستجب لي ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لربما كانت الحاجة لي فأدعو بهذا فأرجع وقد قضيت » وفي خبر أبي علي الخزاز (٢) صلاة أربع ركعات بكيفية مخصوصة مع صوم الأيام المزبورة ، إلى غير ذلك من النصوص المتضمنة لصلاة الحاجة المشتملة على ذكر كيفيات ومقدمات وأدعية خاصة لها ، من أرادها فليطلبها من مظانها.

نعم ينبغي الاقتصار في فعل ما لا يخالف ما علم عدمه من إطلاق أدلة أخر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ـ الحديث ١.

١٧٧

كالتربيع والقرآن بين السورتين ونحوهما ، إلا إذا كان فيها دليل معتبر ، لأن التسامح في أدلة السنن حتى في مثل ذلك لا يخلو من نظر أو منع ، فتأمل.

ثم إن ظاهر النصوص والفتاوى عدم الفرق في الحاجة بين قضاء الدين ودفع المرض وهلاك العدو وغيرها ، بل ظاهر خبر إسماعيل بن الأرقط (١) وخبر جميل (٢) منها أنه لا فرق في الحاجة بين أن ترجع للمصلي نفسه وبين أن ترجع إلى غيره كشفاء مرض ولده أو غيره ، إذ هي حاجة له أيضا كما هو واضح ، قال في أولهما : « مرضت في شهر رمضان مرضا شديدا حتى ثقلت واجتمعت بنو هاشم ليلا للجنازة وهم يرون أني ميت فجزعت أمي فقال لها خالي أبو عبد الله عليه‌السلام : اصعدي إلى فوق البيت فابرزي إلى السماء وصل ركعتين فإذا سلمت فقولي : اللهم إنك وهبته لي ولم يكن شيئا ، اللهم إني أستوهبك مبتدئا فأعرنيه ، قال : ففعلت فأفقت وقعدت ، ودعوا بسحور لهم هريسة فتسحروا بها وتسحرت معهم » وقال في ثانيهما : « كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فدخلت عليه امرأة وذكرت أنها تركت ابنها وقد قالت بالملحقة على وجهه ميتا ، فقال لها : لعله لم يمت فقومي فاذهبي إلى بيتك فاغتسلي وصلي ركعتين وادعي وقولي يا من وهبه لي ولم يك شيئا جدد هبته لي ثم حركيه ولا تخبري بذلك أحدا ، قالت : ففعلت فحركته فإذا هو قد بكى ».

ومن الأخير يستفاد استحباب الغسل كما ذكرناه في الأغسال.

كما أنه يستفاد من‌ صحيح زرارة (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام استحباب الصدقة أيضا ، قال : « في الأمر يطلبه الطالب من ربه ، قال : تصدق في يومك على ستين مسكينا على كل مسكين صاعا بصاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا كان الليل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ـ الحديث ١.

١٧٨

اغتسلت في الثلث الباقي ، ولبست أدنى ما تلبس من تعول من الثياب ، إلا أن عليك في تلك الثياب إزارا ، ثم تصلي ركعتين ، فإذا وضعت جبهتك في الركعة الأخيرة للسجود هلكت الله وعظمته وقدسته ومجدته وذكرت ذنوبك فأقررت بما تعرف منها مسمى ، ثم رفعت رأسك ، ثم إذا وضعت رأسك للسجدة الثانية استجرت الله مائة مرة ، اللهم إني أستجيرك ثم تدعو بما شئت وتسأله إياه ، وكلما سجدت فأفض بركبتيك إلى الأرض ثم ترفع الإزار حتى تكشفهما ، واجعل الإزار من خلفك بين ألييك وباطن ساقيك » ونحوه رواه مرازم في الحسن (١) كالصحيح عن العبد الصالح موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وفي‌ خبر يونس بن عمار (٢) « شكوت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام رجلا كان يؤذيني ، فقال : ادع عليه ، فقلت : قد دعوت عليه فقال : ليس هكذا ، ولكن أقلع عن الذنوب وصم وصل وتصدق ، فإذا كان آخر الليل فأسبغ الوضوء ثم قم فصل ركعتين ثم قل وأنت ساجد : اللهم إن فلان بن فلان قد آذاني ، اللهم أسقم بدنه واقطع أثره وانقص أجله وعجل له ذلك في عامي هذا ، قال : ففعلت فما لبث أن هلك » ونحوه‌ خبر ابن أذينة (٣) عن شيخ من آل سعد قال : « كان بيني وبين رجل من أهل المدينة خصومة ذات خطر عظيم ، فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فذكرت ذلك له وقلت : علمني شيئا لعل الله يرد علي مظلمتي ، فقال : إذا أردت العدو فصل بين القبر والمنبر ركعتين أو أربع ركعات ، وإن شئت ففي بيتك ، وتسأل الله أن يعينك ، وخذ شيئا مما تيسر فتصدق به على أول مسكين تلقاه ، قال : ففعلت ما أمرني فقضي لي ورد علي مظلمتي » إلى غير ذلك من النصوص التي يطول ذكرها تماما ، والله أعلم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ـ الحديث ١.

(٣) الفقيه ج ١ ص ٣٥٢ ـ الرقم ١٥٥٠ المطبوع في النجف.

١٧٩

ومنها صلاة الشكر لله تعالى عند تجدد النعم بلا خلاف أجده فيها أيضا ، وهي ركعتان يقرأ في الأولى الحمد والإخلاص ، وفي الثانية الحمد والجحد ، ويقول في ركوع الركعة الأولى وسجوده : الحمد لله شكرا شكرا وحمدا ، ويقول في ركوع الركعة الثانية وسجودها : الحمد لله الذي استجاب دعائي وأعطاني مسألتي ، كما صرح بذلك كله في‌ خبر هارون بن خارجة (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا أنعم الله عليك بنعمة فصل ركعتين تقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ، وتقرأ في الثانية بفاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون ، وتقول في الركعة الأولى في ركوعك وسجودك : الحمد لله شكرا شكرا وحمدا ، وتقول في الركعة الثانية في ركوعك وسجودك : الحمد لله الذي استجاب دعائي وأعطاني مسألتي » لكن عن الصدوقين أنه يقول في ركوع الأولى : « الحمد لله شكرا ، وفي سجودها شكرا لله وحمدا ، ويقول في ركوع الثانية وسجودها : الحمد لله الذي قضى حاجتي وأعطاني مسألتي » ولم نعثر عليه في رواية ، بل قد سمعت خلافه في الرواية المزبورة ، كما أن فيها أيضا خلاف ما في النفلية من إطلاق القول المزبور في الركوع والسجود من الركعتين ، ثم قال : وتقول بعد التسليم : الحمد لله الذي قضى حاجتي وأعطاني مسألتي ، ثم تسجد سجدة الشكر ، إلا أن الأمر في ذلك كله سهل ، بل لا يبعد استفادة مطلق ذكر هذا المعنى من الخبر المزبور بأي عبارة كانت ، بل لا يبعد أيضا عدم اعتبار تلك الكيفية المخصوصة فيها ، بل هي مستحب في مستحب ، ولا الكيفية المذكورة في‌ خبر محمد بن مسلم المروي (٢) عن كشف اللثام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « إذا كسا الله المؤمن ثوبا جديدا فليتوضأ وليصل ركعتين يقرأ فيهما أم الكتاب وآية الكرسي وقل هو الله أحد وإنا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الملابس ـ الحديث ١.

١٨٠