جواهر الكلام - ج ١٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

مجمع عليه نقلا في الذكرى وعن المعتبر والمنتهى والتذكرة وغيرها إن لم يكن تحصيلا ، بل في‌ خبر أبي البختري (١) عن الصادق عليه‌السلام « مضت السنة أنه لا يستسقى إلا بالبراري حيث ينظر الناس إلى السماء ، ولا يستسقى بالمساجد إلا بمكة » وليكن خروجهم إليها حفاة وفي المسالك ولكن نعالهم بأيديهم ، ولم نعرف له شاهدا على سكينة ووقار وذكر الله وإخبات ، لأنه أبلغ في الخشوع وأرجى للإجابة ، ول‌ قوله عليه‌السلام في خبر مولى محمد بن خالد (٢) : « يمشى كما يمشى يوم العيدين » وفي خبر هشام بن الحكم (٣) « فيبرز إلى مكان نظيف في سكينة ووقار وخشوع ومسألة » وزاد في أولهما أن « بين يديه ـ أي الإمام ـ المؤذنون في أيديهم عنزهم » أي عصيهم وفي المسالك يخرجون في ثياب البذلة بكسر الباء ، وهي ما يمتهن من الثياب.

ولا يصلوا هذه الصلاة في المساجد وإن كانت مكشوفة للخبر السابق ، لكن قد عرفت أنه صريح في استثناء مكة من ذلك ، فإنه يستسقى في المسجد الحرام منها ، ولا بأس به خصوصا بعد ما عن المنتهى من الإجماع عليه منا ومن أكثر أهل العلم فما عساه يظهر من عدم استثناء المصنف له كغيره ممن نقل عنه ذلك من العدم في غير محله كالمستفاد من ظاهر عبارة الكاتب من إلحاق مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، لعدم المستند له سوى القياس الذي لا ينبغي الاقتصار معه على خصوص مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ينبغي حينئذ إلحاق مسجد الكوفة ونحوه من المساجد المعظمة المشرفة به ، وهو كما ترى مخالف لصريح الخبر المزبور وظاهر غيره ، والأسرار الربانية لا تدور مدار الشرف ، نعم في الذكرى لو حصل مانع من الصحراء لخوف وشبهه جازت في المساجد ، ولا بأس به.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

١٤١

وكذا يستحب أن يخرجوا معهم أهل الصلاح والورع ونحوهم ممن يظن إجابتهم بل الشيوخ والأطفال والعجائز على المشهور كما في الكفاية والذخيرة لأنهم أقرب إلى الرحمة وأسرع للإجابة ، وللنبوي (١) « لولا أطفال رضع وشيوخ ركع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا » وفي المحكي عن‌ فقه الرضا عليه‌السلام من الخطبة (٢) « اللهم ارحمنا بمشايخ ركع وصبيان رضع وبهائم رتع وشباب خضع » لكن قد اشتمل على ذكر الشباب ، ولم يذكره أحد من الأصحاب هنا ، ولعل المراد أهل الورع والتقوى منهم كما يومي اليه الوصف المزبور ، فيندرجون حينئذ فيما ذكروه من إخراج أهل التقوى والصلاح.

وعليه فالظاهر إرادة الذكور من الشباب خاصة لا النساء ، لما في خروجهن من الفتنة ، ولذا صرح غير واحد بعدم خروجهن ، بل لعله ظاهر الاقتصار على الشيوخ والأطفال والعجائز من الجميع ، وعلى كل حال فقد يتأكد الخروج المزبور في أبناء الثمانين فصاعدا ، لقوله عليه‌السلام (٣) : « إذا بلغ الرجل ثمانين سنة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر » قيل : وعن الكيدري زيادة البله ، كما عن ابن حمزة والفاضل والشهيدين وأبي العباس وغيرهم زيادة البهائم أيضا ، ولا بأس به ، بل وبكل ما يرجى فيه الإجابة واستجلاب الرأفة والرحمة ، وعن الصادق عليه‌السلام (٤) « ان سليمان ابن داود خرج ليستسقي فرأى نملة قد استلقت على ظهرها وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ولا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم وهي رافعة قائمة من‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٣ ص ٣٤٥.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٤.

(٣) البحار ـ الجزء الثالث من المجلد ١٥ ص ١٦٤ الباب ٦٤.

(٤) الفقيه ج ١ ص ٣٣٣ ـ الرقم ١٤٩٣ المطبوع في النجف.

١٤٢

قوائمها إلى السماء فقال عليه‌السلام : ارجعوا فقد سقيتم بغيركم » وكأنه في بالي أن‌ عالم قوم يونس عليه‌السلام أمرهم بإخراج البهائم وتفريق أطفالها عنها فكشف الله عنهم العذاب (١) والله أعلم.

وصرح غير واحد من الأصحاب بأنهم لا يخرجوا معهم ذميا لقوله تعالى (٢) ( وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ ) بل منه ونحوه زيد جميع الكفار والمتظاهرين بالفسق والمنكر ونحوهما من المسلمين ، ولعله لبعد الرحمة بهم ، وعدم محبة الله سماع أصواتهم ، فحضورهم أبعد للإجابة ، ونقض للغرض ، لكن قد يقال : إن مثل هؤلاء إذا خضعوا واعترفوا بذنبهم كانت الإجابة لهم أقرب من غيرهم ، أو يقال : إنه ربما تعجل إجابتهم لعدم محبة الله سماع أصواتهم عكس المؤمن الذي يحب سماع صوته فيؤخر إجابة دعائه كما‌ ورد في الخبر (٣) وعن الصادق عليه‌السلام (٤) « أنه جاء أصحاب فرعون اليه فقالوا له : غار ماء النيل وفيه هلاكنا فقال : انصرفوا اليوم ، فلما كان الليل توسط النيل ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إنك تعلم أني أعلم أنه لا يقدر على أن يجي‌ء بالماء إلا أنت فجئنا به فأصبح النيل يتدفق » الخبر. وقد خرج المنافقون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للاستسقاء ، والمخالفون مع الرضا عليه‌السلام ، وعن المنتهى بعد أن ذكر خبر خروج فرعون فعلى هذه الرواية لو خرجوا جاز أن لا يمنعوا لأنهم يطلبون أرزاقهم من الله تعالى ، وقد ضمنها لهم في الدنيا ، فلا يمنعون من طلبها ، فلا يبعد إجابتهم ، وقول من قال : إنهم ربما ظنوا أن ما حصل من السقيا بدعائهم ضعيف ،

__________________

(١) تفسير الصافي سورة يونس عليه‌السلام ـ الآية ٩٨.

(٢) سورة الرعد ـ الآية ١٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الدعاء من كتاب الصلاة.

(٤) الفقيه ج ١ ص ٣٣٤ ـ الرقم ١٥٢ المطبوع في النجف.

١٤٣

لأنه لا يبعد أن يتفق نزول الغيث يوم خروجهم بانفرادهم فيكون أعظم لفتنتهم.

ويستحب أيضا في المشهور كما في الكفاية أن يفرقوا بين الأطفال وأمهاتهم لما فيه من الهيبة بكثرة البكاء والضجيج ما يستوجب الرقة والرأفة والرحمة كما يشهد له فعل ذلك من قوم يونس بأمر عالمهم فكشف الله تعالى عنهم العذاب ، إلا أنه ينبغي مراعاة حفظ الأطفال الواجب ، فيفرقهم حينئذ بأن يدفع كل واحد إلى غير أمه أو غير ذلك إذا أمن الضرر معه ، وظاهر المتن أن هذه الأحكام من المستحب الكفائي حيث لم يوجهها كالنصوص إلى أحد بعينه ، خلافا لظاهر الذكرى فوجهها جميعا أو بعضها إلى الامام ، ولعل الأول أولى.

وكيف كان فـ ( إذا فرغ الامام من صلاته حول ) استحبابا رداءه بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل عن صريح الخلاف وظاهر المعتبر الإجماع عليه للنصوص المستفيضة (١) والتفاؤل والتأسي به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) بل للأخير خصوصا مع التعليل في صحيح هشام (٣) وإمكان دعوى التناول لهما في صحيح ابن بكير (٤) واشتراك التفاؤل بذلك لتحويل الجدب خصبا الذي هو المقصود من هذا التحويل كما يومي اليه‌ بعض النصوص (٥) « سألته عن تحويل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رداءه إذا استسقى قال : علامة بينه وبين أصحابه يحول الجدب خصبا بين الامام والمأموم » صرح الشيخ والثانيان باستحبابه لهما معا ، وقواه في الذكرى ، بل في ظاهر المحكي من خلاف الشيخ الإجماع عليه ، خلافا لظاهر المتن وغيره ، بل هو صريح المحكي عن معتبره ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٢.

١٤٤

فيختص بالإمام ، بل عن ظاهر المنتهى عدم الخلاف فيه بيننا حيث نسبه إلى بعض العامة ولعله الأقوى نظرا إلى تطابق النصوص (١) وأكثر الفتاوى على ذكره للإمام خاصة ، بل لعل التأمل فيها يشرف الفقيه على القطع بذلك وإن كان الحق عدم حجية مفهوم اللقب ما لم تقتضها القرائن ، والمنساق من صحيح ابن بكير (٢) الامام.

والمراد بتحويل الرداء للإمام جعل ما على اليمين على اليسار وبالعكس ، كما نص عليه في الصحيحين وغيرهما ، وفسره به غير واحد ، بل عن التذكرة الإجماع عليه سواء كان مربقا ( مربعا خ‌ل ) أو مقورا ، وقال الكركي والشهيدان : « لا يشترط جعل الظاهر باطنا وبالعكس ، ولا الأسفل أعلى وبالعكس وإن كان جائزا » وفي روضة الثاني منهما بعد أن فسر التحويل بجعل اليمين يسارا وبالعكس قال : « ولو جعل مع ذلك أعلاه أسفله وظاهره باطنه كان حسنا » وفيه أن المنساق إلى الذهن من التحويل لا يكون إلا بأحد الأمرين خاصة ، فلا معنى حينئذ لعدم اشتراطهما ، ولا لجمعهما مع التحويل ، اللهم إلا أن يراد بالتحويل جعل ما على اليمين على اليسار أو بالعكس بمعنى جمعهما على أحد الجانبين ، أو يراد تحويل الرداء حيث يكون موضوعا على أفضل حالية بأن كان على المنكبين مع رد ما على الأيسر على الأيمن ، فإن تحويله حينئذ يتحقق بعكس هذه الهيئة ولو برد ما على الأيمن على الأيسر من دون حاجة إلى جعل ظاهره باطنه وأعلاه أسفله لكنهما معا كما ترى خلاف المنساق إلى الذهن من التفسير المزبور ، بل لعل قول الأصحاب وبالعكس صريح في خلافه ، خصوصا بالنسبة إلى الأخير ، كما أن ما في‌ صحيح هشام (٣) عن الصادق عليه‌السلام كذلك أيضا ، قال فيه : « فإذا سلم الامام قلب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١ والباب ٣ منها.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

١٤٥

ثوبه وجعل الجانب الذي على المنكب الأيمن على المنكب الأيسر ، والذي على الأيسر على الأيمن ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك صنع » ونحوه في صحيح ابن بكير.

ثم إن ظاهر المصنف وغيره استحباب ذلك مرة واحدة ، بل هو ظاهر النصوص وصريح المحكي عن فقه الرضا عليه‌السلام وإن كان ظاهر خبر مولى محمد بن خالد أن وقته بعد صعود الامام المنبر ، وقد سمعت ما في صحيح هشام ، وفي خبر ابن بكير « يصلي ركعتين ويقلب رداءه » ولعله لا تنافي بينها بعد حمل مطلقها على المقيد ، اللهم إلا أن يشكل بأن شرطه التنافي ، ومع عدم العلم باتحاد المأمور به كما في المقام لم يحمل المطلق على المقيد ، وبأن المستحبات لا مقتضي لحمل مطلقا على مقيدها أيضا ، وبإمكان دعوى عدم قابلية صحيح هشام للتقييد ، لضعف احتمال إرادة القلب فيه بعد التسليم وصعود المنبر ، ولعله لذا ولزيادة التفاؤل وللعمل بالأخبار الكثيرة كان خيرة المفيد وسلار والقاضي والراوندي فيما حكي عنهم استحباب تثليث التحويل ، لكن المتجه بناء على ذلك تخصيص استحباب التحويلين منهما بما بعد الصعود وبعد التسليم وإطلاق الثالث ، كما أن المتجه بناء على اتحاده كونه بعد الفراغ من الصلاة والصعود إلى المنبر قبل الخطبة ، إذ هو الحاصل من حمل الأخبار بعضها على بعض. وكيف كان فلا ريب أن الأقوى الأول وإن كان الثاني أحوط.

ثم إذا صعد المنبر وحول رداءه استقبل القبلة وكبر مائة تكبيرة رافعا بها صوته وبعده سبح الله ملتفتا إلى الناس عن يمينه مائة تسبيحة كذلك رافعا بها صوته وبعده هلل الله مائة تهليلة ملتفتا إلى الناس عن يساره رافعا بها صوته مثل ذلك وبعده استقبل الناس بوجهه وحمد الله مائة مرة كما صرح بذلك كله في خبر مولى محمد بن خالد ، وزاد غير واحد من الأساطين كالحلي والشهيدين وغيرهم بل في الذكرى نسبته إلى الأصحاب رفع الصوت بالتحميد أيضا ،

١٤٦

ولا بأس به وإن كان الخبر خاليا منه ، إذ قد يفهم من التصريح به فيه في الأولين إرادته في الأخير ، فكأنه حذف منه لدلالة سابقه عليه ، نعم لا وجه للاقتصار عليه في كلام بعضهم في التكبير خاصة مع التصريح به في الخبر في التسبيح ، وأضعف منه عدم ذكر الرفع أصلا ، كما أنه لا وجه لعدم ذكر البعض أيضا ذلك بعد التحويل مع التصريح به في الخبر أيضا ، وكذا لم نقف على دليل لما في الغنية والمحكي عن غيرها من جعل التحميد عن اليسار والاستغفار مائة عند استقبال الناس بوجهه ، ولا للمحكي عن إشارة السبق من جعل التحميد عن اليمين والتسبيح عن اليسار والاستغفار عند استقبال الناس بوجهه ، بل ولا لغيره أيضا مما حكي في المقام ، إذ قد عرفت أن الموجود في الخبر الذي هو دليل الحكم هنا ما سمعت ، وأنه بعد التحميد يرفع يديه فيدعو ثم يدعون.

كما أنه ليس فيه ما ذكره المصنف وغيره من أن الامام يذكر وهم أي المأمون يتابعونه في كل ذلك لكن لعله لأنه ذكر الله ، ولأن وظيفة المأموم المتابعة للإمام ولما فيه من الضجيج والدوي ما هو أرجى لتحصيل المقصود من غيره ، ومن هنا نص ابن حمزة والثانيان على متابعته في رفع الصوت ، بل هو المحكي عن إشارة السبق والتقي والكيدري والبيان وظاهر القاضي ، بل لعله ظاهر المصنف وكل من عبر بمثل عبارته ، ولا بأس به وإن خلا النص عنه ، خلافا للسرائر والمحكي عن الإسكافي فلا يتابعونه في الرفع ، وعن الفقيه والمقنع أنهم يتابعونه في رفع الصوت والدعاء ، وظاهر هما الاقتصار عليهما ، والأولى ما عرفت من المتابعة في الجميع أي الأذكار والدعاء ، وقد يستفاد من خبر زريق أبي العباس (١) أنهم يؤمنون على دعاء الإمام ، فحينئذ مقتضى الجمع بينه وبين غيره التخيير في خصوص الدعاء بين المتابعة وبين التأمين كما هو ظاهر السرائر ، نعم لا يتابعونه في الالتفات إلى الجهات كما صرح به غير واحد ، بل لعله ظاهر الجميع ،

__________________

(١) روضة الكافي ص ٢١٧ ـ الرقم ٢٦٦ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٧.

١٤٧

بل لعله مقطوع به بالنسبة إلى جميع الجهات ، لتصريحهم باستقباله الناس بالتحميد كما عليه الأكثر ، أو الاستغفار كما عليه البعض ، ولو تابعوه في الجهات لم يتحقق ذلك ، اللهم إلا أن يكون جهتهم حينئذ استقبال الامام ، والأمر سهل.

ثم يخطب ويبالغ في تضرعاته كما بالغ‌ أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته (١) التي أولها « الحمد لله سابغ النعم » إلى آخرها ، وهي من الخطب العجيبة البديعة ، والأولى له اختيارها أو غيرها من المأثور عنهم عليهم‌السلام ، ضرورة أنهم أعرف من غيرهم بذلك وبكيفية الخطاب معه تعالى ، فان لم يحسنها خطب من نفسه بما يتمكن من الحمد والثناء ، وعقبهما بالتضرع والدعاء كما صنع العباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قال له عمر بن الخطاب قم واستسق ، فإنه قام وحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : « اللهم إن عندك سحابا وإن عندك مطرا » إلى آخره. وظاهر المتن أن الخطبة بعد الصلاة بل وبعد فعل الأذكار ، ولا ريب فيه بالنسبة إلى الأول ، بل في السرائر وعن الخلاف والتذكرة الإجماع عليه وإن كان قد نفى البأس في الأخير بعد ذلك عن المحكي عن أحمد في إحدى الروايات من التخيير بين إيقاعها قبل الصلاة وبعدها ، لورود الأخبار بهما ، كما أنه استحسنه في المحكي عن المعتبر على تقدير القول به ، وفي‌ خبر طلحة بن زيد (٢) عن الصادق عليه‌السلام « ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى للاستسقاء ركعتين وبدأ بالصلاة قبل الخطبة وكبر سبعا وخمسا وجهر بالقراءة » ونحوه المرسل (٣) عن الباقر عليه‌السلام بل وغيره أيضا في أصل تأخير الخطبة عن الصلاة ، بل لا خلاف فيه في النصوص سوى‌ خبر إسحاق بن عمار (٤) عن الصادق عليه‌السلام « الخطبة‌

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٤٣٥ ـ الرقم ١٥٠٤ من طبعة النجف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٢.

١٤٨

في الاستسقاء قبل الصلاة » كما يحكى عن أبي علي اختياره ، وقد أجاد في الاستبصار بقوله : إن هذه الرواية شاذة مخالفة لإجماع الطائفة المحقة ، لأن عملها على الرواية الأولى لمطابقتها للأخبار التي رويت في أن صلاة الاستسقاء مثل صلاة العيد ، وتبعه على ذلك أو نحوه غيره من الأصحاب.

قلت : على أنها محتملة الحمل على التقية وعلى إرادة الدعاء من الصلاة ، أو الخطبة بأمر الناس بالصيام والتهيؤ للاستسقاء كما قاله عليه‌السلام في تعليم حماد السراج (١) وأما حسن هشام (٢) فدلالته على تقديم الخطبة على الصلاة مبنية على كون الحمد والتمجيد والثناء عبارة عن الخطبة مع إفادة الواو والتقديم الذكري الترتيب ، والأول وإن كان يمكن تسليمه لكن الثاني واضح المنع ، خصوصا مع معارضته بالأخبار المصرحة بتقديم الصلاة على الخطبة ، ومع اشتماله على التشبيه بصلاة العيد التي تتأخر فيها الخطبة بناء على اقتضائه مثل ذلك.

وأما الثاني أي تأخرها عن الأذكار فظاهر المتن والمبسوط والوسيلة والإرشاد وغيرها ذلك أيضا ، بل عن الحدائق أنه المشهور بين المتأخرين ، ولعله لخبر مرة مولى محمد (٣) بناء على إرادة الخطبة من الدعاء فيه خلافا للفاضل في المختلف والمحكي عن الصدوق والمفيد وعلم الهدى وأبي يعلى وأبي المكارم والتقي والقاضي وغيرهم ، فتقدم على الذكر ، بل في الذكرى أنه المشهور ، وربما قيل بجوازهما معا ، وهو قوي وإن كان سابقه أقوى منه كما يومي اليه ظاهر ما حكي من أفعالهم عليهم‌السلام من تمام عمل الاستسقاء بالخطبة والدعاء ولم يحك عنهم فعل شي‌ء آخر بعد ذلك ، وخبر مرة يمكن حمله على الاكتفاء فيه بالأذكار عن الخطبة ، بل لعله أولى من حمل الدعاء فيه على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٢.

١٤٩

الخطبة ، فتأمل جيدا.

وكذا ظاهر المتن اتحاد الخطبة ، بل لعله ظاهر الأصحاب قبله أيضا لقولهم : « يخطب » بل لعله ظاهر النصوص ، لكن في الدروس وغيرها تعددها ، بل عن المنتهى والغرية الإجماع عليه ، للتشبيه بصلاة العيد التي تتعدد فيها الخطبة ، وهو وإن كان أحوط إلا أنه لم أعثر على خبر يتضمن التشبيه إلا حسن هشام ، وهو كما عرفت إنما يدل على المشابهة في كيفيتها ، والخطبة خارجة عنها ، ولعل المراد بإحدى الخطبتين التي تتقدم على الاستسقاء لتعليم الناس الصوم ونحوه له كما يومي اليه استدلال الذكرى عليه بخبر مرة ، ولا ريب في أنه أمر خارج يفعل للتعليم حيث يكون الناس في حاجة إليه.

ثم إنه قد يظهر من قول المصنف وغيره : « ويبالغ في تضرعاته » أن المراد بالخطبة هذا الدعاء والابتهال والتضرع كما يومي اليه عبارتا الذكرى والروض أنه « يستحب المبالغة في التضرع والإلحاح في الدعاء في الخطبتين » بل وما عن المصباح من أنه « يستحب أن يدعو بخطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام » وما في خبر مولى محمد السابق من أنه بعد الأذكار يدعو ثم يدعون حيث لم يتعرض فيه لذكر خطبة غير هذا ، كما أنه حكي عن المقنع مثل ذلك أيضا ، لكن اشتمال خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام على المعنى المعروف منها وعلى الدعاء يؤيد عدم الاكتفاء بالدعاء المحض عن الخطبة بالمعنى المعروف ، نعم قال بعض الأصحاب إنه إن لم بحسن الخطبة بالمروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام اقتصر على الدعاء.

وكيف كان فلا ريب في أن الأحوط بل والأقوى الخطبة بالحمد والثناء ونحوهما أولا ثم تعقيب ذلك بالدعاء مبالغا في التضرع كما صنعوا صلوات الله عليهم فإن تأخرت الإجابة كرروا الخروج إجماعا محكيا عن المعتبر والمنتهى والتذكرة ، بل عن الغرية الإجماع على هذا التكرير حتى تدركهم الرحمة وهو الحجة حينئذ ، مضافا إلى‌

١٥٠

إمكان دعوى استفادته من الأدلة باعتبار أن المقصود والمراد من تلك الأفعال لم يحصل ولأن المتعارف في السائلين تكرار السؤال إذا لم يجابوا بأول مرة ، فما عن إسحاق من المنع من التكرير لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخرج إلا مرة واحدة ضعيف كدليله ، إذ لعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استغنى عن المعاودة لأنه أجيب ، وكون التحقيق أن الأمر ليس للتكرار لا يقتضي عدم إرادة التكرار على وجه خاص لدليل خاص غير الأمر كما هو واضح.

إنما الكلام في أنهم إذا كرروا الصلاة كرروا سائر ما تقدمها من الصوم ونحوه كالاستسقاء الأولى أولا ، الظاهر الأول إذا كان تكريرهم ذلك وقع بعد مضي مدة من الاستسقاء الأول بحيث أفطروا مثلا ، أما إذا كان متصلا بالأول فيكفي فيه على الظاهر الصوم الأول مع فرض الاتصال بصوم يوم التكرير كما يفهم من المحكي عن الكاتب ، قال : « إن لم يمطروا أولا ولا أظلتهم غمامة لم ينصرفوا إلا عند وجوب صلاة الظهر ، ولو أقاموا بقية نهارهم كان أحب إلى ، فان أجيبوا وإلا تواعدوا على المعاودة يوما ثانيا وثالثا » ولا بأس به في الجملة وإن كنا لم نقف على نص دال عليه ، فتحصل مما ذكرنا حينئذ أن للتكرير كيفيتين : الأولى بعد أيام ، والثانية متصلة بيوم الاستسقاء ، والظاهر جواز الأمرين معا ، كما أن الظاهر جواز استئناف الصوم والصلاة إذا لم يجابوا بأول يوم ، قال في الذكرى : « ولو تأخرت الإجابة كرروا الخروج حتى يجابوا إما بصوم مستأنف أو بالبناء على الأول » وهو في غاية الجودة ، أما التكرار للصلاة مثلا في مجلس واحد إذا لم تظهر أمارات الإجابة من الغمام ونحوه فلا يخلو من إشكال ، لفقد النص وظهور كلام الأصحاب في توقف مشروعية التكرير على عدم الإجابة ولم تعرف حتى تمضي مدة في الجملة ، فتأمل جيدا.

واعلم أنه كما يجوز هذه الصلاة عند قلة الأمطار فإنها تجوز عند جفاف‌

١٥١

مياه العيون والآبار عند علمائنا كافة كما عن التذكرة ، وهو الحجة بعد إمكان التنقيح بين المنصوص في الأدلة من قلة الأمطار وبين الجفاف المزبور باعتبار اشتراكهما في تسبيب الجدب وحلول الخوف من الغضب ، قال في المسالك : « وكذا تجوز عند كثرة الغيوث إذا خيف الضرر بها ، وتسمى صلاة الاستضحاء ، وهي نوع من صلاة الحاجة ، وكذا لو غزرت مياه العيون والأنهار بحيث خيف منها الضرر شرعت صلاة الحاجة ، بل هي من مهام الحوائج » قلت : لا إشكال في مشروعية صلاة الحاجة عند ذلك وعند غيره كما نص عليه ، بل وعلى الصوم أيضا في الذكرى ، إنما الكلام في مشروعية خصوص صلاة الاستسقاء التي هي كيفية خاصة في أمثال ذلك ، والأولى الاقتصار فيها على قلة المياه بحيث يخشى منها الجدب سواء كان من الغيوث والعيون.

ثم إنه لا ريب في أنه لا أذان ولا إقامة لصلاة الاستسقاء للنص وللإجماع المحكي عن المعتبر ، نعم يقول بدلهما : « الصلاة الصلاة » بالرفع والنصب ، كما أنه لا ريب في استحباب الجهر بالقراءة فيها للنص أيضا (١) بل في الذكرى وبالقنوت لما مر في صلاة العيد ، ولو سقوا قبل الخروج لم يخرجوا ، وكذا لو خرجوا فسقوا قبل الصلاة ، نعم يستحب في المقامين صلاة الشكر ، ولو سقوا في أثناء الخطبة أتموها ، كما أنه كذلك لو كان في أثناء الصلاة وإن سقطت الخطبة حينئذ والأذكار معا ، ويجوز الاستسقاء بغير صلاة قطعا ، إما في خطبة الجمعة والعيدين أو في أعقاب المكتوبات أو يخرج الإمام إلى الصحراء فيدعو والناس يتابعونه ، كما يستفاد ذلك كله من النصوص ، بل الظاهر الجواز بصلاة بغير الكيفية المزبورة فيفعل مجرد ركعتين لكن بعنوان صلاة الحاجة ، ضرورة أن ذلك من أهم الحوائج ، واحتمال مشروعية صلاة خاصة لخصوص هذه الحاجة بحيث الجواهر ـ ١٩‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

١٥٢

لا يجوز صلاة غيرها باطل قطعا.

ويستحب رفع الأيدي في دعاء الاستسقاء لما‌ روي (١) « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفعهما حتى رأي بياض إبطيه » والظاهر أن هيئته كهيئة أيدي القانتين بأن يقلب ظهرهما إلى الأرض ووجههما إلى السماء ويجعلهما بإزاء وجهه ، لكن في الذكرى أنه‌ روى العامة (٢) عن أنس « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء » وهكذا دعاء رفع البلاء ، ويمكن أن يكون في بعض الأحيان فعل ذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا ريب في استحباب استسقاء أهل الخصب لأهل الجدب بالدعاء ونحوه كما صنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأعرابي (٣) ولأن الله أثنى على من قال : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ) (٤) وأما الجواز بالصلاة والخطبة ونحوها كما لو كانوا هم أهل الجدب فلا يخلو من إشكال.

ويجوز نذر صلاة الاستسقاء قطعا ، للإطلاق ولكن في وقتها ، أما في غير وقتها فالأقرب عدم الانعقاد ، لعدم التعبد بمثله في غير وقته. ثم يخرج الباذر بنفسه ، قيل : ويستحب له دعاء من يجيبه إلى الخروج ، وخصوصا من يطيعه من أهله وأقربائه ، ولا يجب عليهم الإجابة ، وليس له إكراههم عليها سواء بقي الجدب أو وقع الغيث ، ولو سقوا بعد النذر قبل الخروج ففي وجوب الخروج حينئذ نظر ، وربما قيل بالوجوب ، ولعله لإيجاد الصورة شكرا لله تعالى.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٣ ص ٣٥٧.

(٢) سنن البيهقي ج ٣ ص ٣٥٧.

(٣) البحار ـ ج ١٨ ص ٩٥٥ من طبعة الكمباني.

(٤) سورة الحشر ـ الآية ١٠.

١٥٣

وهل تجب الخطبة بنذر الصلاة؟ إشكال اختار في الذكرى العدم ، لانفصالها عنها ، فان نذرهما معا وجبتا ، ولا يجب القيام فيها ولا كونها على المنبر وإن وجبا لو قيدها به ، بل لا تجزيه الخطبة على مرتفع غيره من حائط ونحوه ، وهل يجب على ناذر الاستسقاء الصلاة في الصحراء؟ ظاهر الشيخ ذلك لأنه المعتاد والأفضل ، وفيه نظر ، نعم لو قيده به وجب ، ولو قيده في منزله أو المسجد جاز له العدول بناء على عدم الانعقاد بالنسبة إلى الأفضل ، لكن صرح الشيخ بعدم جوازها في الصحراء مع التقييد بالمسجد ، وهو حسن ، وتسمع ما له نفع في المقام في نذر النافلة إن شاء الله.

ويستحب الدعاء عند نزول الغيث ، لما روي (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر بالدعاء في ثلاث : التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول الغيث ، وهو مأثور (٢) عن أهل البيت عليهم‌السلام.

قيل : ويستحب التمطر في أول المطر بأن يخرج فيه ليصيبه ، وكان ابن عباس إذا وقع الغيث قال لغلامه : أخرج فراشي ورحلي يصيبه المطر ، فقال له أبو الجوزاء : لم تفعل هذا يرحمك الله؟ قال : لقول الله سبحانه وتعالى (٣) ( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ) فأحببت أن يصيب البركة فراشي ورحلي ، ولا يجوز نسبة الأمطار إلى الأنواء بمعنى أنها مؤثرة بنفسها ، وأن لها مدخلا في التأثير قطعا ، لقيام البرهان على أن ذلك من فعل الله ، وتحقق الإجماع عليه ، ولأنها تختلف كثيرا تتقدم وتتأخر ، ولو قال غير معتقد مطرنا بنوء كذا فظاهر الشيخ عدم الجواز ، قال : لنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولعله أشار إلى ما في‌ رواية الجهني (٤) من أنه « صلى بنا‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الدعاء من كتاب الصلاة.

(٣) سورة ق ـ الآية ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب آداب السفر ـ الحديث ١٠ من كتاب الحج.

١٥٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء من الليل ، فلما انصرف الناس فقال : هل تدرون ما ذا قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب ، وكافر بي ومؤمن بالكواكب ، من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي ومؤمن بالكواكب » لكنه كما ترى ظاهر في اعتقاد المدخلية ، قبل : والنوء سقوط كوكب في المغرب وطلوع رقيبه من المشرق ، ومنه الخبر من أمر الجاهلية الأنواء ، وحكي عن أبي عبيدة أنها ثمانية وعشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة ، يسقط في كل ثلاث عشر ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر ، ويطلع آخر بمقابله من ساعته ، وانقضاء هذه الثمانية وعشرون مع انقضاء السنة ، وكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر قالوا : لا بد من أن يكون عند ذلك مطر ، فينسبون كل غيث يكون عند ذلك إلى النجم ، فيقولون مطرنا بنوء كذا ، وإنما سمي نوءا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءا أي نهض ، فسمي النجم به ، قال : وقد يكون النوء السقوط ، أما لو قال مطرنا بنوء كذا وأراد به فيه أي في وقته وأنه من فعل الله تعالى ففي الذكرى قيل : لا يكره ، لأنه ورد أن الصحابة استسقوا بالمصلي ثم قيل للعباس : كم بقي من نوء الثريا فقال : إن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد وقوعها ، فما مضت السبع حتى غيث الناس ، ولم ينكر ذلك أحد ، والله أعلم بحقيقة الحال.

الثاني مما لا يختص وقتا معينا من الصلوات المرغبات صلاة الاستخارة وهي طلب الخيرة كما في المصباح وعن القاموس والنهاية ومجمعي البرهان والبحرين ، قال في الأخير : « خار الله لك أي أعطاك ما هو خير لك ، والخيرة بسكون الباء اسم منه والاستخارة طلب الخيرة كعنبة ، وأستخيرك بعلمك أي أطلب منك الخير متلبسا‌

١٥٥

بعلمك بخيري وشري ، وفي الحديث (١) « من استخار الله راضيا بما صنع خار الله له حتما » أي طلب منه الخيرة في الأمر ، وفيه (٢) « استخر ثم استشر » ومعناه أنك تستخير الله أولا بأن تقول : اللهم إني أستخيرك خيرة في عافية ، وتكرر ذلك مرارا ثم تشاور بعد ذلك فيه ، فإنك إذا بدأت بالله أجرى الله لك الخيرة على لسان من يشاء من خلقه ، وخر لي واختر لي أي اجعل أمري خيرا وألهمني فعله ، واختر لي الأصلح » انتهى. والمراد بطلب الخيرة الدعاء والتوسل في أن يكون ما أراد فعله أو تركه من الأمور خيرا له ، ومن هنا قال في المحكي عن إشارة السبق : يصلي ركعتين إلى أن قال : ويسأل الخير فيما قصد اليه ، ومعتبر المصنف تصلي ركعتين وتسأل الله سبحانه أن يجعل ما عزمت عليه خيرة ، فالصلاة لها بهذا المعنى من صلاة الحوائج حينئذ ولذا قال في الغنية بعد ذكر الركعتين والدعاء : ويذكر حاجته التي قصد الصلاة لأجلها.

لكن الإنصاف أني لم أجد في النصوص ما هو صريح في إرادة ذلك من الاستخارة التي يصلي لها ، نعم يحتمله‌ صحيح عمر بن حريث (٣) قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : صل ركعتين واستخر الله فو الله ما استخار الله مسلم إلا خار الله له » بل لعله الظاهر منه عند التأمل ، والمرسل عن العنبري (٤) سئل أبو عبد الله عليه‌السلام أيضا « عن الاستخارة فقال : استخر الله في آخر ركعة من صلاة الليل وأنت ساجد مائة مرة ومرة ، قال : كيف أقول؟ قال : تقول : أستخير الله برحمته أستخير الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٢ مع الاختلاف في اللفظ.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١ لكن روى عن عمرو بن حريث.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٢ ـ لكن رواه عن محمد بن خالد القسري.

١٥٦

برحمته » وصحيح حماد بن عثمان (١) عنه عليه‌السلام أنه قال في الاستخارة : « أن يستخير الله الرجل في آخر سجدة من ركعتي الفجر مائة مرة ومرة ، ويحمد الله ويصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم يستخير الله خمسين مرة ، ثم يحمد الله ويصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتم المائة والواحدة » بل أظهر منه‌ خبر حماد بن عيسى عن ناجية (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه كان إذا أراد شراء العبد أو الدابة أو الحاجة الخفيفة أو الشي‌ء اليسير استخار الله عز وجل فيه سبع مرات ، فإذا كان أمرا جسيما استخار الله مائة مرة » ونحوه‌ خبر معاوية بن ميسرة (٣) عنه عليه‌السلام أنه قال : « ما استخار الله عبد سبعين مرة بهذه الاستخارة إلا رماه الله بالخيرة ، يقول : يا أبصر الناظرين ويا أسمع السامعين ويا أسرع الحاسبين ويا أرحم الراحمين ويا أحكم الحاكمين صل على محمد وأهل بيته وخر لي في كذا وكذا » وقال في الفقيه : قال أبي رضي‌الله‌عنه في رسالته إلى : إذا أردت يا بني أمرا فصل ركعتين واستخر الله مائة مرة ومرة ، فما عزم لك فافعل ، وقل في دعائك : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلا الله العلي العظيم ، رب بحق محمد وآله صل على محمد وآله ، وخر لي في كذا وكذا الدنيا والآخرة خيرة في عافية » إلا أنه وإن كان ظاهر الدعاء فيه يقتضي ما ذكرنا لكن قوله : « فما عزم لك فافعل » قد يشعر بإرادة طلب تعرف ما فيه الخيرة باتفاق حصول العزم من المستخير الذي كان مترددا في الفعل وعدمه كما صرح به في السرائر في كيفية الاستخارة ، وهو مضمون‌ خبر اليسع القمي (٤) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أريد الشي‌ء فأستخير الله فيه فلا يوفق فيه الرأي أفعله أو أدعه؟

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

١٥٧

فقال : انظر إذا قمت إلى الصلاة ـ فإن الشيطان أبعد ما يكون من الإنسان إذا قام إلى الصلاة ـ أي شي‌ء يقع في قلبك فخذ به ، وافتح المصحف فانظر إلى أول ما ترى فيه فخذ به إن شاء الله » إذ قوله : « فلا يوفق فيه الرأي » كالصريح في إرادة عدم حصول العزم كي يتعرف ما فيه الخيرة ، ولذا أمره عليه‌السلام بما سمعت ، وخبر ابن فضال (١) قال : « سأل الحسن بن الجهم أبا الحسن عليه‌السلام لابن أسباط فقال : ما ترى له وابن أسباط حاضر ، ونحن جميعا نركب البر أو البحر إلى مصر ، وأخبره بخبر طريق البر ، فقال : البر وائت المسجد في غير وقت صلاة الفريضة فصل ركعتين واستخر الله مائة مرة ثم انظر إلى ما يقع في قلبك فاعمل به ، وقال الحسن : البر أحب إلى قال : له وإلى » وموثق ابن أسباط أو صحيحه (٢) قال : « قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : جعلت فداك ما ترى آخذ برا أو بحرا ، فان طريقنا مخوف شديد الخطر ، فقال : اخرج برا ولا عليك أن تأتي مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصلي ركعتين في غير وقت فريضة ، ثم تستخير الله مائة مرة ومرة ، ثم تنظر فان عزم الله لك على البحر فافعل ». وخبر إسحاق بن عمار (٣) عن الصادق عليه‌السلام قال : « قلت له : ربما أردت الأمر تفرق مني فريقان : أحدهما يأمرني والآخر ينهاني قال : فقال : إذا كنت كذلك فصل ركعتين واستخر الله مائة مرة ومرة ، ثم انظر أجزم الأمرين لك فافعل فإن الخيرة فيه إن شاء الله ، وليكن استخارتك في عافية ، فإنه ربما خير للرجل في قطع يده وموت ولده وذهاب ماله » وروي عن كتاب الدعاء (٤) « إن أبا جعفر الثاني عليه‌السلام كتب إلى إبراهيم بن شيبة فهمت ما استأمرت به في ضيعتك التي تعرض السلطان فيها ، استخر الله تعالى مائة مرة خيرة في عافية ، فإن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٧.

١٥٨

أحلل بقلبك بعد الاستخارة بيعها فبعها ، واستبدل غيرها إن شاء الله ، ولا تتكلم بين أضعاف الاستخارة حتى تتم المائة ».

وعن الكليني أنه روي في كتاب رسائل الأئمة (١) أن الجواد عليه‌السلام كتب بمثل ذلك إلى علي بن أسباط ، ويقرب من ذلك ما رواه‌ هارون بن خارجة (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا أراد أحدكم أمرا فلا يشاور فيه أحدا من الناس حتى يبدأ فيشاور الله تعالى ، قال : قلت : وما مشاورة الله تعالى جعلت فداك؟ قال : تبدأ فتستخير الله فيه أولا ثم تشاور فيه ، فإنه إذا بدأ بالله تعالى أجرى له الخيرة على لسان من يشاء من الخلق » إذ هو وإن لم يكن فيه تعرف الخيرة بالعزم عليه لكن فيه التعرف بما يقع على لسان المشير ، وأما‌ خبره الآخر عنه عليه‌السلام أيضا (٣) « من استخار الله راضيا بما صنع الله له خار الله له حتما » فيحتملهما معا ، كالمرسل (٤) عن الصادق عليه‌السلام « كنا نتعلم الاستخارة كما نتعلم السورة من القرآن ، ثم قال : ما أبا لي إذا استخرت على أي جنبي وقعت » إلا أن الأظهر إرادة التفويض إلى الله من الأول مع الدعاء والسؤال لأن يختار له ما هو خير له كما يتفق للإنسان في بعض الأمور التي تتعارض عليه فيها المصالح والمفاسد في الفعل والترك فيبقى متحيرا مترددا ما يدري كيف يفعل ، فينبغي له حينئذ أن يستخير الله ويفوض أمره اليه ويطلب منه توفيقه لما يختاره له مما هو خير له في عافية ، فإذا فعل ذلك فلا بد أن يختار الله له حتما ، بل لعل المراد من الثاني أيضا ذلك ، بل قد يحمل عليه‌ مرسل عثمان بن عيسى (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إن أبغض الخلق إلى الله من يتهم الله ، قال السائل :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الاستخارة ـ الحديث ٣.

١٥٩

وأحد يتهم الله قال : نعم من استخار فجاءه الخيرة بما يكره فسخط فذلك يتهم الله » بل‌ وخبر البرقي (١) عنه عليه‌السلام « من دخل في أمر بغير استخارة ثم ابتلي لم يؤجر » وإن كان الظاهر من قوله عليه‌السلام : « دخل في أمر » إرادة الاستخارة بالمعنى الأول لا الثاني.

نعم هو ظاهر‌ خبر مرازم (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا أراد أحدكم شيئا فليصل ركعتين ثم ليحمد الله وليثني عليه وليصل على محمد وعلى أهل بيته ، ويقول : اللهم إن كان هذا الأمر خيرا لي في ديني ودنياي فيسره لي واقدره ، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني ، فسألته أي شي‌ء أقرأ فيهما؟ فقال : اقرأ ما شئت ، وإن شئت قرأت فيهما قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون » وخبر جابر (٣) عن الباقر عليه‌السلام قال : « كان علي بن الحسين عليهما‌السلام إذا هم بأمر حج أو عمرة أو بيع أو شراء أو عتق تطهر ثم صلى ركعتي الاستخارة وقرأ فيهما بسورة الحشر وسورة الرحمن ، ثم يقرأ المعوذتين وقل هو الله أحد إذا فرغ وهو جالس في دبر الركعتين ، ثم يقول : إن كان كذا وكذا خيرا لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فصل على محمد وآله ، ويسره لي على أحسن الوجوه وأجملها ، اللهم وإن كان كذا وكذا شرا لي في ديني ودنياي وآخرتي وعاجل أمري وآجله فصل على محمد وآله ، واصرفه عني ، رب صل على محمد وآله ، واعزم لي على رشدي وإن كرهت ذلك أو أبته نفسي ».

وقد جمع بين الاستشارة وبين طلب تيسر ما فيه الخير في‌ خبر إسحاق بن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستخارة ـ الحديث ٣.

١٦٠