جواهر الكلام - ج ١٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

واستأنف للثاني كما صرح به الفاضل وغيره ، بل نسبه الكركي إلى المعظم ، والبحراني إلى المشهور ، لكن أقصى ما استدل به له‌ الرضوي (١) « إن كنت تصلي على الجنازة وجاءت الأخرى فصل عليهما صلاة واحدة بخمس تكبيرات ، وإن شئت استأنفت على الثانية » وخبر جابر (٢) سأل الباقر عليه‌السلام « عن التكبير على الجنازة هل فيه شي‌ء موقت؟ فقال : لا ، كبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد عشر وتسعا وسبعا وخمسا وستا وأربعا » وصحيح علي بن جعفر (٣) وهو العمدة ، ولذا اقتصر عليه الأكثر سأل أخاه عليه‌السلام « عن قوم كبروا على جنازة تكبيرة أو اثنتين وقد وضعت معها أخرى كيف يصنعون؟ قال : إن شاءوا تركوا الأولى حتى يفرغوا من التكبير على الأخيرة ، وإن شاءوا رفعوا الأولى وأتموا ما بقي على الأخيرة كل ذلك لا بأس به » وفيه أن الأول ليس حجة عندنا ، مع احتماله إن كنت تريد أن تصلي إلى آخره ، وما في كشف اللثام من عدم إرادة الابطال حقيقة بل المراد أنه كما يجوز تكرير الصلاة على جنازة واحدة يجوز زيادة تكبيرة أو تكبيرات عليها لمثل ذلك بدليل خبر جابر فإنما ينوي الآن الصلاة عليهما وينوي الخمس جميعا عليهما ، بل فيه أنه لعله معنى قول الصدوق في كتابيه : « إن شاء كبر عليهما الآن خمس تكبيرات » وقول الشيخ وأتباعه : كان مخيرا بين أن يتم خمس تكبيرات على الجنازة الأولى ، ثم يستأنف الصلاة على الأخرى ، وبين أن يكبر خمس تكبيرات من الموضع الذي انتهى اليه ، وقد أجزأه ذلك عن الصلاة عليهما وإن كان هو كما ترى ، بل عبارة المصنف وما ضاهاها كالصريحة في خلافه ، بل عبارة الفاضل صريحة في ذلك ، وأما الثاني فهو بالنسبة إلى ذلك من المؤل الذي ليس بحجة‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب صلاة الجنازة ـ الحديث ١ من كتاب الطهارة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة الجنازة ـ الحديث ١٧ من كتاب الطهارة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب صلاة الجنازة ـ الحديث ١ من كتاب الطهارة.

١٢١

عندنا ، خصوصا والتأويل بغيره من إرادة تكرار الصلاة ونحوها أقرب منه ، وأما الثالث فمبناه على أن ترك الأولى حتى الفراغ من التكبير على الأخيرة كناية عن الاستئناف عليهما ، والباقي كناية عن إتمام الصلاة على الأولى ثم إتمام ما بقي أي فعل الصلاة على الأخيرة ، وهو إنما يتجه لو كان السؤال عن كيفية الصلاة ، وليس ، بل هو ظاهر في السؤال عن رفع الأولى قبل الأخيرة ، بل قد يظهر من لفظ ما بقي على الأخيرة التشريك بينهما في الأثناء فيما بقي من الأولى ، ثم تخصيص الثانية بما يكمل الصلاة عليها كما فهمه الشهيد في الذكرى.

قال فيها : الرواية قاصرة عن إفادة المدعى ، إذ ظاهرها أن ما بقي من التكبيرات الأولى محسوب للجنازتين ، فإذا فرغ من تكبير الأولى تخيروا بين تركها بحالها حتى يكملوا التكبير على الأخيرة وبين رفعها من مكانها والإتمام على الأخيرة ، وليس في هذا دلالة على إبطال الصلاة على الأولى بوجه ، هذا مع تحريم قطع العبادة الواجبة ، نعم لو خيف على الجنائز قطعت الصلاة ثم استأنف عليها. لأنه قطع للضرورة ، إلا أن مضمون الرواية يشكل بعدم تناوله النية أولا للثانية ، فكيف يصرف باقي التكبير إليها مع توقف العمل على النية ، إلا أن يقال : يكفي إحداث نية من الآن لتشريك باقي التكبير على الجنازتين ، وهو يتم إذا قلنا أن محل النية الثانية لم يفت ما بقي التكبير ، لأن الواجب خمس تكبيرات على الجنازة بأذكارها المخصوصة ، وقد حصل هنا ، فحينئذ إن قلنا بجميع الأذكار مع كل تكبيرة فلا بحث ، وإلا فالأولى الجمع بين وظيفة التكبير بالنسبة إلى الجنازتين فصاعدا ، وابن الجنيد يجوز للإمام جمعهما إلى أن يتم على الثانية خمسا ، وإن شاء أن يومي إلى أهل الأولى ليأخذوها ويتم على الثانية خمسا ، وهو أشد طباقا للرواية ، وهو في غاية الجودة ، بل يحتمله ما سمعته من كلام الصدوق والشيخ وأتباعه ، وما في كشف اللثام من أنه يشكل مختار الشهيد وجوب اتباع كل تكبيرة بذكر غير ما يتبع‌

١٢٢

الأخرى والخبر لا يصلح سندا له يدفعه أنه يكفي فيه إطلاق الأدلة السابقة ، ضرورة صدق وصفي الأولى والثانية مثلا على التكبيرة الواحدة بالنسبة إلى الميتين ، فيجب فيها حينئذ الأمران معا ، كما أن ما في جامع المقاصد ـ من أن ما ذكره من التشريك بين الجنازتين فيما بقي من التكبير فغير مستفاد من الرواية أصلا ، بل كما يحتمله يحتمل الإكمال على الأولى والاستئناف على الثانية ـ واضح الدفع بما عرفت من ظهور لفظ ما بقي فيه ، وأوضح من ذلك اندفاعا ما في كشف اللثام من أنه لا يظهر من لفظ السؤال وضع الأخرى بعد التكبير على الأولى ، بل يحتمل ظاهرا أنه سئل عن أنهم كبروا على جنازة وقد وضعت معها أخرى صلوا عليها أولا ، فإذا شرعوا في التكبير على الأولى في الذكر التي هي الأخيرة لأنهم صلوا على الأخرى أولا كيف يصنع بالأخرى إن لم ترفع حتى شرع في الصلاة على الأولى فأجاب عليه‌السلام بالتخيير بين ترك الأولى التي هي الأخرى حتى يفرغوا من الصلاة على الأخيرة ورفعها والصلاة على الأخيرة ، إذ هو في نفسه كما ترى ـ فضلا عن دعوى كونه احتمالا ظاهرا ، بل يمكن دعوى ظهور الصحيح المزبور في مفروغية السائل عن جواز التشريك المزبور ، إلا أنه أشكل عليه رفع الأولى وإبقاؤها للإشكال في اشتراكها مع الثانية فيما بقي من التكبيرات وعدمه ، بل قد يدعى الغنية عن الصحيح المزبور في إثبات التشريك ، لإمكان الاكتفاء فيه بالإجماع بقسميه على جوازه في الابتداء ، والنصوص المستفيضة ، بل لا دليل على رجحان التفريق عليه وإن ذكره في القواعد والمحكي عن المبسوط والسرائر ، وعلل بأن الصلاتين أفضل من صلاة ، وأن القصد بالتخصيص أولى منه بالتعميم ، لكن الجميع كما ترى.

وكيف كان فظاهر النصوص كالفتاوى أن ليس ذلك من التداخل في شي‌ء ، بل هو أحد طرق امتثال الأمر بالصلاة على الأموات المراد منه إيجاد طبيعتها على جنس الميت اتحد أو تعدد مع اتحاد الصنف وعدمه ، حتى لو كان عدد التكبير مختلفا كالمؤمن‌

١٢٣

والمنافق بناء على الأربعة في الثاني والخمسة في الأول ، فيجمعها حينئذ بصلاة واحدة ، ويختص التكبير الخامس على المؤمن ، ويصدق امتثاله فيهما معا ، ويظهر من الروضة أنه لا إشكال في جواز ذلك ، وأنه كالصلاة على الصنف الواحد ، مع أن ما نحن فيه لا يزيد على ذلك ، فإذا صح اشتراك الأموات في التكبيرة الواحدة فلا فرق بين كونها أولى بالنسبة إلى أحدهم وثانية بالنسبة إلى آخر ، وهكذا ، ضرورة اتحاد المدرك في الجميع ، وهو صدق حصول الخمس تكبيرات على كل واحد منهم ، ودعوى اختصاص التشريك فيها مع اتحاد وصف الأولية مثلا في الجميع لا شاهد لها ، بل هو على خلافها قائم كما عرفت ، فحينئذ لا نحتاج إلى الصحيح المزبور في إثبات الحكم المذكور ، بل منه ينقدح صور أخر للتشريك والتفريق في الأبعاض بالنسبة إلى الأموات وبالنسبة إلى تعدد حضور الجنائز لا بأس بالتزامها وإن كان الأحوط ترك بعضها.

نعم قد يرد على الشهيد وأتباعه بأنه لا دليل على حرمة قطع العمل هنا ، إذ الآية كما عرفته في محله ظاهرة في النهي عن إبطال العمل بالارتداد ونحوه ، ولا دليل غيرها ، فالأصل المقرر بوجوه بحاله مقتض للجواز كما في باقي الواجبات الكفائية ، بل قد يظهر من نصوص (١) نفي الصلاة عنها وأنها كالدعاء في ذلك أيضا فضلا عما هي كالصريحة فيه من عدم انجرار حكم الصلاة لها من حيث الصلاة ، ومن هنا جزم غير واحد من متأخري المتأخرين بجواز القطع اختيارا ، ولعله كالإجماع من الأصحاب في المقام كما اعترف به في جامع المقاصد وغيره ، فلا حاجة حينئذ إلى صحيح علي بن جعفر (٢) في إثبات ما ذكروه من التخيير المزبور ، إذ هو جار على مقتضى دليل التشريك والتفريق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجنازة ـ الحديث ٢ والباب ٢١ منها الحديث ٣ و ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب صلاة الجنازة ـ الحديث ١ من كتاب الطهارة.

١٢٤

من غير فرق بين التلبس في الفعل وعدمه بعد جواز القطع ، فمن الغريب اضطرابهم في ذلك حتى أنهم ذكروا لهم صحيح علي بن جعفر وناقشوهم في دلالته كما عرفته مفصلا ، بل في كشف اللثام كيف يجوز إبطال الصلاة الواجبة من غير ضرورة ولا إجماع ولا نص صحيح ، إلا أن يراد صحة الصلاة وإن حصل الإثم ، وهو واضح لا حاجة به إلى دليل غير ما تقدم من أدلة التخيير بين جمع الجنائز بصلاة وإفراد كل بصلاة ، أو يقال : إنه ليس من الابطال حقيقة بناء على أنه كما يجوز إلى آخر ما نقلناه عنه فيما احتملناه في الرضوي ، لكن لا يخفى عليك ما في ذلك كله بعد الإحاطة بما ذكرناه.

وقد ظهر لك أن الأقوى التخيير بين الوجوه الثلاثة : الإتمام على الأولى والتشريك والقطع ثم الاستئناف من غير فرق في ذلك بين ما استحب الصلاة عليها من الجنائز وما وجب ، لما عرفته سابقا من جواز الجمع بينهما ابتداء ، فكذا في الأثناء ، لكن عن التذكرة ونهاية الأحكام تعيين الإتمام على الأولى إذا كانت الصلاة على الأخيرة مستحبة ، وعلل باختلاف الوجه ، وقد عرفت عدم اعتباره عندنا ، لكن مقتضاه عدم الفرق في عدم جواز الجمع بين حضور هما معا أو مجي‌ء إحداهما في أثناء الأخرى ، وظاهر المحكي عنهما اختصاصه في حضور المستحبة بعد التلبس في الواجبة ، ولذا قال في كشف اللثام : وكأنه ناظر إلى ما احتملناه من أنه لا يبطل صلاته على الأول حتى يريد التشريك ، بل هي صلاة واحدة مستمرة ، فإذا ابتدأ بها مستحبة جاز أن يعرض لها الوجوب في الأثناء ، لأنه زيادة تأكد لها دون العكس ، فإنه إزالة للوجوب لكن لا يخفى عليك أنها اعتبارات لا تصلح أن تكون مدركا لحكم شرعي فضلا عن أن تعارض المدارك التي ربما عد ذلك كله بالنسبة إليها اجتهادا في مقابلة النص.

نعم قد يحرم القطع والتشريك بالمعارض كما إذا خاف على الأولى خاصة من طول المكث من فتق ونحوه ، كما أنه يتعين عليه القطع أو يرجح له حتى على القول بحرمته إذا‌

١٢٥

خاف على الثانية خاصة ، إذ التشريك في الأثناء يزيد في مكثها باعتبار احتياجه إلى اختلاف أدعية التكبيرة إلا إذا كان مجي‌ء الثانية في آخر دعاء رابعة الأولى ، فإنه يكبر الخامسة حينئذ مشتركا بينهما فيها ثم يتشهد ، ولو خاف عليهما معا لاحظ قلة الزمان في القطع والتشريك بالنسبة إليهما إن أمكن ، وإلا لم يكن له القطع ، ومن ذلك كله يظهر لك ما في الروضة ، قال : وما ذكره في الذكرى من جواز القطع على تقدير الخوف على الجنائز غير واضح ، لأن الخوف إن كان على الجميع أو على الأولى فالقطع يزيد الضرر على الأولى ولا يزيله ، لانهدام ما قد مضى من صلاتها الموجب لزيادة مكثها ، وإن كان الخوف على الأخيرة فلا بد لها من المكث مقدار الصلاة عليها ، وهو يحصل مع التشريك الآن والاستئناف ، نعم يمكن فرضه نادرا بالخوف على الثانية بالنظر إلى تعدد الدعاء مع اختلافهما فيه بحيث يزيد ما يتكرر منه على ما مضى من الصلاة ، قيل : ومراده بالنادر ما لو حضرت الثانية في أثناء الشهادتين على الجنازة الأولى خاصة بحيث تصير شريكة في التكبير الثاني ، وفيه أن الجنازة الثانية تنتفع بالقطع حتى لو حضرت بالتكبير الرابع كما عرفت ، فتأمل جيدا.

ثم من المعلوم أنه لو صلى صلاة واحدة على المتعدد شرك بينهم فيما يتحد لفظه وراعى في المختلف كالدعاء لو كان فيهم مؤمن ومجهول ومنافق وطفل وظيفة كل واحد ، ومع اتحاد الصنف راعى تثنية الضمير وجمعه وتذكيره وتأنيثه ، أو يذكر مطلقا مؤلا بالميت ، أو يؤنث مؤلا بالجنازة ، وفي الروضة أن الأول أولى ، والله أعلم.

( الفصل الخامس )

في البحث عن الصلوات المرغبات‌ أي المندوبات وهي قسمان : الأول النوافل اليومية وقد ذكرناها فيما تقدم مفصلة.

١٢٦

والثاني ما عدا ذلك ، فهو ينقسم على قسمين‌ فمنه ما لا يخص وقتا بعينه ، وهذا القسم الكثير بل لا حصر له إن أريد إدراج غير الموسومة فيه ، لأن الصلاة خير موضوع ، بل عن البيان أن النوافل إما مختصة بوقت أو لا ، وكلاهما لا ينحصر غير أنا نذكر كغيرنا من الأصحاب مهمه ، وهو صلوات‌ الأولى صلاة الاستسقاء ، وهي مستحبة عند الجدب بمعنى عوز الأنهار وفتور الأمطار بلا خلاف فيه بيننا بل وبين غيرنا ممن يحفظ عنه العلم عدا أبي حنيفة ، فجعل السنة عند ذلك الدعاء خاصة ، وقد سبقه الإجماع ولحقه ، واستسقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير صلاة بل بالدعاء على المنبر لا دلالة فيه على عدم المشروعية ، إذ لا ريب في جوازه بدونه ، على أنه معارض بما‌ عن (١) عائشة وأبي هريرة وابن عباس وعقبة من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى ركعتين أيضا للاستسقاء ، بل‌ عن عائشة (٢) أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك القضية الخاصة نزل من المنبر فصلى ركعتين.

واعلم أن السبب الأصلي والباعث الكلي في عوز الأنهار واحتباس الأمطار وظهور الغلاء والجدب وسائر علامات الغضب شيوع المعصية وكفران النعمة والتمادي في البغي والعدوان ومنع الحقوق والتطفيف في المكيال والميزان والظلم والغدر وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونقص المكيال والميزان ومنع الزكاة والحكم بغير ما أنزل الله ونحو ذلك من المعاصي التي تخرق الأستاذ وتغضب الجبار ، قال الله تعالى (٣) ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) وقال سبحانه (٤) : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٣ ص ٣٤٧ و ٣٤٩.

(٢) سنن البيهقي ج ٣ ص ٣٤٩.

(٣) سورة الرعد ـ الآية ١٢.

(٤) سورة الأعراف ـ الآية ٩٤.

١٢٧

آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) وقال عز وجل (١) ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) وقال عز اسمه (٢) ( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) وقال تعالى (٣) ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) أي كثيرا ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) : « إذا غضب الله تبارك وتعالى على أمة ولم ينزل عليها العذاب ـ أي عذاب الاستئصال ـ غلت أسعارها ، وقصرت أعمارها ، ولم تربح تجارتها ، ولم ترك ثمارها ، ولم تغزر أنهارها ، وحبس عنها أمطارها ، وسلط الله عليها أشرارها » وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا (٥) : « خمس خصال إن أدركتموها فتعوذوا بالله من النار لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان ، ولم تمنع الزكاة إلا منع القطر من السماء ، فلولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله ورسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم ، فأخذ بعض ما في أيديهم ، ولم يحكموا بغير ما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم » وقال الباقر عليه‌السلام (٦) : « اما أنه ليس سنة أقل مطرا‌

__________________

(١) سورة النحل ـ الآية ١١٣.

(٢) سورة الروم ـ الآية ٤٠.

(٣) سورة الجن ـ الآية ١٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الأمر والنهي ـ الحديث ١ من كتاب الأمر بالمعروف.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الأمر والنهي ـ الحديث ٤ من كتاب الأمر بالمعروف.

١٢٨

من سنة ، ولكن الله يضعه حيث يشاء ، إن الله جل جلاله إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدر لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم وإلى النبات والبحار والجبال » وقال الصادق عليه‌السلام (١) : « إذا فشى أربعة ظهرت أربعة إذا فشى الزنا ظهرت الزلزلة ، وإذ فشى الجور في الحكم احتبس القطر ـ إلى أن قال ـ : وإذا منعوا الزكاة ظهرت الحاجة » وقال الرضا عليه‌السلام (٢) : « إذا كذب الولاة حبس المطر ، وإذا جار السلطان هانت الدولة ، وإذا حبست الزكاة ماتت المواشي » وفي حديث (٣) « إن الله تعالى أوحى إلى شعيب أني معذب أربعين ألفا من شرار قومك وستين ألفا من خيارهم فقال : هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال : إنهم داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي » وفي حديث عقوبات المعاصي (٤) « الذنوب التي تغير النعم البغي ، والذنوب التي تورث الندم القتل ، والتي تنزل النقم الظلم ، والتي تهتك الستور شرب الخمر ، والتي تحبس الرزق الزنا ، والتي تعجل الفناء قطيعة الرحم ، والتي تردد الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين » وفي الخبر (٥) « ان أسرع الشر عقوبة البغي » وقال أحدهم عليهم‌السلام (٦) مشيرا إلى فتوى نقلت له عن بعض الناس : « من هذا وأشباهه تحبس السماء قطرها » إلى غير ذلك من الآيات والأخبار التي هي أكثر من أن تحصى.

ولعل أعظم أسباب حلول النقم وتحويل النعم احتقار النعمة وبطر المعيشة والاستهانة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الأمر والنهي ـ الحديث ٥ من كتاب الأمر بالمعروف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ـ الحديث ٢٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأمر والنهي ـ الحديث ١ من كتاب الأمر بالمعروف.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الأمر والنهي ـ الحديث ٣ من كتاب الأمر بالمعروف.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب جهاد النفس ـ الحديث ٥ من كتاب الجهاد.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من كتاب الإجارة ـ الحديث ١.

١٢٩

بجلائل النعم التي أنعم الله بها على عباده ، خصوصا الخبز ، فقد أمرنا بإكرامه وتعظيمه قيل : وقد ورد (١) أن من إكرامه أن لا يشم ولا يقطع ولا يوطأ ولا يوضع تحت القصع وكذا الاستهانة بالمائدة ووطئها بالرجل ، بل عن‌ الصادق عليه‌السلام (٢) قال : « لقد دخلت على أبي العباس وقد أخذ القوم المجلس ، فمد يده إلى والسفرة بين يديه موضوعة ، فأخذ بيدي فذهبت لأخطو إليه فوقعت رجلي على طرف السفرة فدخلني من ذلك ما شاء الله أن يدخلني ، إن الله يقول ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) إلى آخر الآية (٣) ، ولقد أصاب الأمم السالفة بكفران النعم والاستهانة بها ما قصه الله تعالى في كتابه العزيز ، وورد تفصيله في الأخبار المروية عن النبي والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) ، وحسبك من ذلك قصة سبأ وأصحاب الثرثار وغيرهم ، والذين في قصصهم عبرة لأولي الأبصار.

والذي ينبغي للناس إذا ظهرت مخائل الجدب والغلاء أن يفزعوا إلى الله تعالى ، ويلحوا في الدعاء ليلا ونهارا سرا وجهارا عن صدر نقي وقلب تقي وإخبات وإخلاص خوفا وطمعا ، فان ذلك يحرك سحاب الجود ويستعطف كرم المعبود ، كيف لا والدعاء من مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح ، والمناجاة سبب النجاة ، وبالإخلاص يكون الخلاص وإذا اشتد الفزع فالى الله المفزع ، وقد قال الله سبحانه (٤) ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) وقال (٥) ( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ ) وقال عز وجل (٦) ( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨٠ و ٨٣ و ٨٤ و ٧٨ ـ من أبواب آداب المائدة من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٨ ـ من أبواب آداب المائدة ـ الحديث ٤ من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٣) سورة الأنعام ـ الآية ٨٩.

(٤) سورة المؤمن ـ الآية ٦٢.

(٥) سورة النمل ـ الآية ٦٣.

(٦) سورة البقرة ـ الآية ١٨٢.

١٣٠

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « إلا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟ قالوا : بلى ، قال : تدعون ربكم بالليل والنهار ، فان سلاح المؤمن الدعاء » وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : « الدعاء سلاح المؤمن ، وعمود الدين ، ونور السماوات والأرضين » وقال أبو جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام (٣) : « ما من شي‌ء أفضل عند الله من أن يسأل ويطلب ما عنده ، وما من أحد أبغض إلى الله ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده » وقال أبو عبد الله جعفر بن محمد عليهما‌السلام (٤) : « الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر » وعنه عليه‌السلام (٥) « الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما ، فأكثروا من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ، ونجاح كل حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء ، وأنه ليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه » « وما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار إلا استحى أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضل رحمته » (٦) وعنه عليه‌السلام (٧) « ما اجتمع أربعة رهط قط على أمر واحد فدعوا إلا تفرقوا عن إجابة » وفي آخر (٨) « ما من رهط أربعين رجلا اجتمعوا فدعوا الله في أمر إلا استحباب لهم ، فان لم يكونوا أربعين فأربعة يدعون الله عشر مرات إلا استحباب لهم ، فان لم يكونوا أربعة فواحد يدعوا أربعين مرة فيستجيب العزيز الجبار له ».

وينبغي أن يكون الدعاء بعد التوبة والإقلاع عن المعصية ورد المظالم وإخراج‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ٥ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ٣ من كتاب الصلاة.

(٣) ذكر صدره في الوسائل ـ في الباب ـ ٣ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ٢ وذيلها في الباب ١ منها ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ٥ من كتاب الصلاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ٧ من كتاب الصلاة.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

١٣١

الحقوق والتواصل والتراحم والمواساة والتصدق ، فان ذلك أنجح في المطالب وأسرع إلى إجابة الرب عز شأنه.

ومن أعظم الأسباب في ذلك التوبة والاستغفار ، فإنهما الماحيان للذنب الذي هو السبب الأقوى في ظهور الغلاء والجدب ، وقد قال الله عز وجل (١) حكاية عن هود على نبينا وآله وعليه السلام ( وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) وعن نوح عليه‌السلام (٢) ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) قال لهم ذلك لما حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبه (٣) : « إن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق طريق الخيرات ليتوب تائب ، ويقلع مقلع ، ويتذكر متذكر ، ويزدجرد مزدجر ، وقد جعل سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق ، ورحمة للخلق ، فقال : استغفروا ربكم إنه كان غفارا » إلى آخرها‌ وفي خطبة أخرى له عليه‌السلام أيضا « ولو أن أهل المعاصي وكسبة الذنوب إذا هم حذروا زوال نعمة الله وحلول نقمته وتحويل عافيته أيقنوا أن ذلك من الله جل ذكره بما كسبت أيديهم ، فأقلعوا وتابوا وفزعوا إلى الله جل ذكره بصدق نياتهم وإقرار منهم بذنوبهم وإساءتهم لصفح لهم عن كل ذنب ، وإذا لأقالهم على كل عثرة ، ولرد عليهم كل كرامة ونعمة ، ثم أعاد لهم من صالح أمرهم وما كان أنعم به عليهم كل ما زال عنهم وفسد عليهم » وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليهما‌

__________________

(١) سورة هود عليه‌السلام ـ الآية ٥٤ و ٥٥.

(٢) سورة نوح عليه‌السلام ـ الآية ٩ و ١٠ و ١١.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الاستسقاء ـ الحديث ١.

١٣٢

السلام ) (١) « من أعطي أربعا لم يحرم أربعا : من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة ، ومن أعطي الاستغفار لم يحرم التوبة ، ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة ، ومن أعطي الصبر لم يحرم الأجر » والروايات في هذا المعنى أكثر من أن يحيط بها السير ، فلنكتفي بهذا المقدار.

وبالجملة لا كلام في رجحان الاستسقاء إذا ظهر الجدب عند جميع المسلمين ، بل بالضرورة من الدين ، وخلاف أبي حنيفة في الصلاة لذلك خاصة ، وإلا فقد استسقى النبي والأنبياء من قبله والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) من بعده وأمروا به ، وقد جاء عنهم في ذلك خطب بليغة وأدعية بديعة ، روى الكليني في الكافي كما عن المجالس للشيخ بإسنادهما عن أبي العباس وزريق الخلقاني عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) واللفظ للأول قال : « أتى قوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله : ان بلادنا قد قحطت وتوالت السنون علينا ، فادع الله تعالى يرسل السماء ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمنبر فأخرج واجتمع الناس فصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا وأمر الناس أن يؤمنوا فلم يلبث أن هبط جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد أخبر الناس أن ربك قد وعدهم أن يمطروا يوم كذا وكذا وساعة كذا وكذا فلم يزل الناس ينتظرون ذلك اليوم وتلك الساعة حتى إذا كانت تلك الساعة أهاج الله ريحا فأثارت سحابا وجللت السماء وأرخت عز إليها فجاء أولئك النفر بأعيانهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ادع الله أن يكف السماء عنا فانا قد كدنا أن نغرق فاجتمع الناس ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر الناس أن يؤمنوا على دعائه فقال له‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ١٦ من كتاب الصلاة.

(٢) روضة الكافي ص ٢١٧ ـ الرقم ٢٦٦ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٧ والمستدرك الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٧ وفيهما أبى العباس زريق الخلقاني.

١٣٣

رجل : يا رسول الله أسمعنا ، فكل ما تقول ليس يسمع ، فقال : قولوا اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم صبها في بطون الأودية وفي منابت الشجر وحيث يرعى أهل الوبر ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا » وعن مجالس الشيخ أبي علي بإسناده عن مسلم القلانسي (١) قال : « جاء أعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : والله يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعير باط ولا غنم يعظ ، ثم أنشأ يقول :

أتيناك يا خير البرية كلها

لترحمنا مما لقينا من الأزل

أتيناك والعذراء تدمى لبانها

وقد شغلت أم البنين عن الطفل

وألقى بكفيه الفتى استكانة

من الجوع ضعفا لا يمر ولا يحل

ولا شي‌ء مما يأكل الناس عندنا

سوى الحنظل العامي والعلف الغل

وليس لنا إلا إليك فرارنا

وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن هذا الأعرابي يشكو قلة المطر وقحطا شديدا ثم قام يجر بردائه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وكان فيما حمده به أن قال : الحمد لله الذي علا في السماء فكان عاليا ، وفي الأرض قريبا دانيا أقرب إلينا من حبل الوريد ، ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم اسقنا غيثا مغيثا مرتعا مريعا غدقا طبقا عاجلا غير رائف ، نافعا غير ضار تملأ به الضرع ، وتنبت به الزرع ، وتحيي به الأرض بعد موتها ، فما رد يده إلى نحره حتى أحدق السحاب بالمدينة كالإكليل وألقت السماء بأرزاقها وجاء أهل البطاح يقولون : يا رسول الله الغرق الغرق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللهم حوالينا ولا علينا فانجاب السحاب عن السماء ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عيناه ، من ينشدنا قوله ، فقام عمر بن الخطاب : فقال : عسى أردت يا رسول الله :

__________________

(١) البحار ـ ج ١٨ ص ٩٥٥ من طبعة الكمباني.

١٣٤

وما حملت من ناقة فوق ظهرها

أبر وأوفى ذمة من محمد

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا من قول حسان بن ثابت ، فقام علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : كأنك أردت يا رسول الله :

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه

ربيع اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

إلى آخره. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أجل ، فقام رجل من بني كنانة فقال :

لك الحمد والحمد ممن شكر

سقينا بوجه النبي المطر

دعا الله خالقه دعوة

وأشخص منه اليه البصر

فلم يك إلا كإلقاء الرداء

وأسرع إلا أتانا الدرر

وفاق الغرابل عم البقاع

أغاث به الله عليا نصر

فكان كما قاله عمه

أبو طالب ذا رواء أغر

به الله يسقي صوب الغمام

فهذا العيان وذاك الخبر

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا كناني بواك الله بكل بيت بيتا في الجنة » وعن قرب الاسناد للحميري (١) وفي الفقيه (٢) عن الصادق عليه‌السلام واللفظ للأول قال : « اجتمع عند علي عليه‌السلام قوم فشكوا قلة المطر ، وقالوا : يا أبا الحسن ادع لنا بدعوات في الاستسقاء ، قال : فدعا علي بالحسن والحسين عليهم‌السلام فقال للحسن : ادع لنا » إلى آخره. ومن دعاء علي بن الحسين عليهما‌السلام (٣)

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٢) الفقيه ج ١ ص ٣٣٨ ـ الرقم ١٥١٧ من طبعة النجف.

(٣) الصحيفة السجادية ص ٩٧ رقم الدعاء ١٩.

١٣٥

في الاستسقاء عند الجدب ، وهو من أدعية الصحيفة ، إلى غير ذلك ، بل‌ عن فائق الزمخشري (١) من العامة فضلا عن الخاصة رواية الصلاة للاستسقاء أيضا ، قال : « خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للاستسقاء فتقدم فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسبح اسم ربك الأعلى ، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وهل أتاك حديث الغاشية ، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه وقلب رداءه ثم جثى على ركبتيه ورفع يديه وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا وحيا ريعا وجدا طبقا غدقا مغدفا مونقا عاما هنيئا مريئا مربعا مريعا مرتعا وابلا سائلا سبلا مجللا ديما ديما درا نافعا غير ضار ، عاجلا غير رائث غيثا تحيي به البلاد ، وتغيث به العباد ، وتجعله بلاعا للحاضر منا والباد ، اللهم أنزل علينا بأرضها سكنها ، وأنزل علينا من السماء ماء طهورا ، فأحيى به بلدة ميتا واسعة مما خلقت لنا أنعاما وأناسي كثيرا » وعن نوادر الراوندي (٢) بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام قال : « قال علي عليه‌السلام : مضت السنة في الاستسقاء أن يقوم الإمام فيصلي ركعتين ثم يبسط يده وليدع ، قال : وقال علي عليه‌السلام : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا بهذا الدعاء في الاستسقاء اللهم أنزل علينا رحمتك بالغيث العميق » إلى آخره. وفي الفقيه والتهذيب (٣) « أن أمير المؤمنين عليه‌السلام خطب بهذه الخطبة في صلاة الاستسقاء الحمد لله سابغ النعم ، ومفرج الهم » إلى آخرها ، وهي من الخطب الجليلة ، والمراد أنه صلى وخطب لها‌

__________________

(١) البحار ـ ج ١٨ ص ٩٥٤.

(٢) البحار ـ ج ١٨ ص ٩٥٠.

(٣) الفقيه ج ١ ص ٣٣٥ ـ الرقم ١٥٠٤ والتهذيب ج ٣ ص ١٥١ ـ الرقم ٣٢٨ المطبوعان في النجف.

١٣٦

كما عن الشيخ روايتها بهذا اللفظ في المصباح ، وله عليه‌السلام خطبتان أخريان (١) في النهج ، وكيف كان فلا كلام عندنا في استحباب الصلاة للاستسقاء بعد تظافر النصوص أو تواترها بذلك ، وفي الذكرى أنه استسقى النبي وعلي والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) والصحابة وصلوا ركعتين.

وأما كيفيتها فهي مثل كيفية صلاة العيد إجماعا محكيا عن الخلاف والتذكرة والمنتهى ، وفي الاستبصار هذه الرواية ـ مشيرا إلى موثق إسحاق بن عمار (٢) المتضمن تقديم الخطبة على الصلاة في الاستسقاء ـ مخالفة لإجماع الطائفة المحققة ، لأن عملها على الرواية الأولى لمطابقتها للأخبار (٣) التي رويت في أن صلاة الاستسقاء مثل صلاة العيد ، وفي‌ حسن هشام بن الحكم (٤) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن صلاة الاستسقاء فقال : مثل صلاة العيدين يقرأ فيها ويكبر كما يقرأ ويكبر فيها ، يخرج الامام فيبرز إلى مكان نظيف في سكينة ووقار وخشوع ومسألة ، ويبرز معه الناس فيحمد الله ويثني عليه ويجتهد في الدعاء ويكثر من التسبيح والتهليل والتكبير ، ويصلي مثل صلاة العيدين ركعتين في دعاء ومسألة واجتهاد ، فإذا سلم الامام قلب ثوبه وجعل الجانب الذي على المنكب الأيمن على المنكب الأيسر ، والذي على الأيسر على الأيمن ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك صنع ».

ولا ريب كما أنه لا خلاف في شمول المماثلة للقراءة وعدد الركعات والتكبيرات والقنوتات ، بل في الذخيرة الإجماع عليه غير أنه يجعل مواضع القنوت في العيد استعطاف الله سبحانه وسؤاله الرحمة بإرسال الغيث لأنه هو المقصود والمراد ويتخير‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٢ و ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ـ ١.

١٣٧

من الأدعية في القنوت وبعد الصلاة ما تيسر له للأصل وظاهر النصوص والفتاوى وإلا يختر الأخذ بهذه الرخصة. بل إذا أراد الأفضل فليقل ما نقل في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم أعرف من غيرهم بما ينبغي أن يناجي به رب العباد ضرورة كون الوزير أدرى من الرعية بما يؤدي إلى استجلاب الخير ونيل المقصود من الملك قطعا ، ويمكن أن تكون العبارة من صناعة القلب ، والنكتة فيه جواز الدعاء بما تيسر وإن أمكن المنصوص ، وإلا فليس المراد ظاهرها قطعا ، لكن لم نقف على دعاء مخصوص في القنوت هنا ، ويمكن استحباب ما ورد فيه بالعيد وإن كان بتغيير مقتضى المقام ، فينبغي أن يكون بالاستغفار والدعاء بإنزال الرحمة وتوفير المياه ، وعلى كل حال فليبدأ بالصلاة على النبي وآله ( عليهم الصلاة والسلام ) ويختم بها ، لما‌ روي (١) عن علي عليه‌السلام « إذا سألتم الله حاجة فصلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فان الله تعالى إذا سئل عن حاجتين أستحيي أن يقضي إحداهما دون الأخرى » وليقدم الثناء على الله تعالى لحسن هشام المتقدم (٢) وليعترف بذنبه طالبا من الله العفو والرحمة ، قال الله تعالى (٣) ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى ) وغير ذلك مما لا يخفى على من له معرفة بكيفية الدعاء المستجاب المستفادة من نصوص أهل العصمة وبعض آيات الكتاب

إنما الكلام في شمول المماثلة المزبورة للوقت ونحوه من الأمور الخارجة عن الكيفية وعدمه ، وفيه قولان أحوالهما الأول ، بل في الذكرى أنه ظاهر كلام الأصحاب وأقوالهما الثاني للإطلاقات السالمة عن معارضة إطلاق المماثلة في النص ، إذ حسن هشام كغيره يستفاد منه المماثلة في ذلك الأمر الخاص ، ودعوى المدارك دلالته عليه محل منع ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ١٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٣) سورة الأعلى ـ الآية ١٤ و ١٥.

١٣٨

على أن شمول إطلاقها لمثله كذلك لانسياق الكيفية منه ، فمعاقد الإجماعات تنصرف حينئذ إلى غيره قطعا ، خصوصا بعد ما حكي من الإجماع عن نهاية الأحكام على عدم التوقيت ، وعن التذكرة نفي الخلاف فيه ، نعم لا بأس بتطلب بعض الأزمنة الشريفة لها ، لأنها أرجى للإجابة ، ولعله لذا حكي عن التذكرة أن الأقرب عندي إيقاعها بعد الزوال ، لأن ما بعد العصر أشرف وإن كان هو لا يخلو من بحث ، خصوصا بعد ما قيل من أنه مشهور بين العامة التي جعل الله الرشد في خلافها ، وفي الذكرى أنه نقله ابن عبد البر عن جماعة العلماء من العامة ، والأمر سهل.

ومن مسنونات هذه الصلاة أن يصوم الناس ثلاثة أيام لأنه أرجى للإجابة ، ول‌ خبر السراج (١) قال : « أرسلني محمد بن خالد إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أقول له : إن الناس قد أكثروا علي في الاستسقاء فما رأيك في الخروج غدا؟ فقلت ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال لي : قل له : ليس الاستسقاء هكذا ، فقل له : يخرج فيخطب الناس ويأمرهم بالصيام اليوم وغدا ، ويخرج بهم في اليوم الثالث وهم صيام قال : فأتيت محمدا فأخبرته بمقالة أبي عبد الله عليه‌السلام فجاء فخطب الناس وأمرهم بالصيام كما قال أبو عبد الله عليه‌السلام : فلما كان في اليوم الثالث أرسل إليه ما رأيك في الخروج؟ » وخبر مرة مولى محمد بن خالد (٢) قال : « صاح أهل المدينة إلى محمد ابن خالد في الاستسقاء فقال لي : انطلق إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فاسأله ما رأيك؟ فإن هؤلاء قد صاحوا إلى ، فأتيته فقلت له فقال لي : قل له : فليخرج ، قلت له : متى يخرج جعلت فداك؟ قال : يوم « الاثنين ». قيل : ونحوه خبر العيون (٣) عن مولانا العسكري عليه‌السلام.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ٢.

١٣٩

ومن ذلك يعرف استحباب أن يكون خروجهم يوم الثالث كما عن التذكرة نسبته إلى علمائنا خلافا لما عن الشافعي فقال : رابع أيام الصيام ومنه يعرف أيضا أنه يستحب أن يكون ذلك الثالث الاثنين ولذا اقتصر عليه جماعة ، بل في الرياض نسبة ذلك إلى الأكثر ، لكن قال المصنف ( فان لم يتيسر فـ ) يوم الجمعة ولم نقف له على دليل بالخصوص ، إلا أنه لا بأس به لشرفه وكونه محلا لإجابة الدعاء بل‌ ورد (١) « أن العبد ليسأل الحاجة فتؤخر الإجابة إلى يوم الجمعة » ولعله لذا خير غير واحد بينهما ، بل قيل : إنه المشهور بين المتأخرين ، وأنه يظهر من التذكرة الإجماع عليه ، بل عن المفيد وأبي الصلاح الاقتصار على الجمعة ، وكأنه لما ورد (٢) في ذم يوم الاثنين ، وأنه يوم نحس لا تطلب فيه الحوائج ، وأن بني أمية تتبرك به وتتشاءم منه آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقتل الحسين عليه‌السلام فيه ، حتى ورد أن من صامه أو طلب الحوائج فيه متبركا حشر مع بني أمية ، مع ترجيح ذلك على الخبرين المزبورين لكن لا يخفى عليك ما فيه بعد عمل الأصحاب بهما ، وفيهم من لا يعمل إلا بالقطعيات كالحلي وغيره وإن اختلفوا في الترتيب أو التخيير ، بل لعل أحوط القولين منهما أقواهما هذا مع إمكان حمل ذلك على من أراد الفعل بقصد التبرك بيوم الاثنين كما يفعله بنو أمية ، والله أعلم.

وكذا يستفاد من التأمل في الخبرين المزبورين وغيرهما كخبر هشام بن الحكم (٣) أنه يستحب أيضا أن يخرجوا في هذه الصلاة إلى الصحراء كما هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب آداب السفر من كتاب الحج والباب ٢١ من أبواب الصوم المندوب ـ الحديث ٣ من كتاب الصوم.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الاستسقاء ـ الحديث ١.

١٤٠