جواهر الكلام - ج ١١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

يكون بينك وبينها خطوة بناء على إرادة الكناية بذلك عن الكثير ، و‌صحيح حريز أو مرسله (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا كنت في صلاة الفريضة فرأيت غلاما لك قد أبق أو غريما لك عليه مال أو حية تخافها على نفسك فاقطع واتبع الغلام واقتل الحية وخذ الغريم » ‌و‌موثق سماعة (٢) « عن الرجل يكون قائما في الصلاة الفريضة فينسى كيسه أو متاعا يتخوف ضيعته أو هلاكه قال : يقطع صلاته ويحرز متاعه ثم يستقبل الصلاة ، قلت : فيكون في الصلاة الفريضة فتفلت عليه دابة أو تفلت دابته فيخاف أن تذهب أو يصيب منها عنفا فقال : لا بأس أن يقطع صلاته » وعن الفقيه زيادة « ويتحرز ويعود في صلاته » ‌وفي‌ خبر سلمة بن عطا (٣) أنه سأل الصادق عليه‌السلام « أي شي‌ء يقطع الصلاة؟ فقال : عبث الرجل بلحيته » ‌و‌قال أيضا لأبي هارون المكفوف (٤) : « يا أبا هارون الإقامة من الصلاة ، فإذا أقمت فلا تتكلم ولا تومئ بيدك » ‌بناء على أن الأمر بالقطع فيهما ولو بالإطلاق من حيث الفعل الكثير لا من حيث خصوص استلزام المفسد من الكلام والاستدبار ونحوهما ، وإلا لأمر بفعل ذلك ثم البناء ، على الصلاة.

إلى غير ذلك من النصوص الدالة على البطلان بصدور الأفعال في الأثناء ، منها الأخبار (٥) الدالة على أن من قام من موضعه عليه إعادة الصلاة إذا سها فترك ركعة أو أزيد ، وفي‌ صحيحة ابن يقطين (٦) عن الكاظم عليه‌السلام « أن الحجامة والرعاف والقي‌ء لا تنقض الوضوء بل تنقض الصلاة » ‌وغير ذلك ، وإن كان الإنصاف أن الجميع‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١ ـ ٢ مع الاختلاف في الثانى

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ١٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٧ و ١٠ و ١١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ الحديث ٧.

٦١

غير صالح لإثبات ذلك سندا أو دلالة مع فرض قطع النظر عن الإجماع المزبور.

والتحقيق أن البطلان بالفعل الكثير إنما هو لفوات الموالاة بين الأفعال به ، ولعله المراد بمحو الصورة المذكور في كلام غير واحد من الأصحاب ، بل هو مراد الفاضلين ومن تبعهما من الشهيدين وغيرهما فيما عللوا البطلان به من أنه يخرج المصلي به عن كونه مصليا ، وزاد في المحكي من المقاصد العلية ويخيل للناظر أنه معرض عن الصلاة بل قيل : إنه اقتصر على ذلك في الموجز الحاوي والميسية ، واستجوده في كشف الالتباس ، وحكاه في التذكرة عن بعض العامة في تفسير الكثرة ، وهو مشعر بعدم رجوعه إلى الخروج عن الصلاة الذي علل به أولا ، ولعله كذلك ، ضرورة أعمية تخيل الناظر الاعراض من الخروج عن وصف الصلاة ، إذ قد يتخيل الناظر الاعراض لغلبة خلو أحوال الصلاة عن بعض الأفعال في أثنائها من المشي ونحوه وإن كانت قليلة أو لغير ذلك ، والمراد بالخروج أن يكون في نفس الأمر خارجا عن وصف الصلاة مع الاطلاع على حاله ، لا أن الحكم بأنه غير مصل لاشتباه من الحاكم في ذلك ، ووجه البطلان حينئذ معه عدم تحقق الامتثال معه ، واليه يرجع المحكي عن السرائر من أن الكثير ما يسمى في العادة كثيرا مثل الأكل والشرب واللبس وغير ذلك مما إذا فعله الإنسان لا يسمى مصليا بل آكلا وشاربا ولا يسمى في العادة مصليا ، فهذا تحقيق الفعل الكثير الذي يفسد الصلاة ، ويورد في الكتب في التروك وقواطع الصلاة ، فليلحظ ذلك.

قلت : يظهر منه أن المراد بالكثرة التي يرجع فيها إلى العادة ما أخرجت المصلي عن كونه مصليا ، فلعل مراد جميع من صرح بالرجوع في الكثرة إلى العادة ذلك أيضا وهم الأكثر من أصحابنا ، بل في التذكرة نسبته إلى علمائنا في مقابلة الشافعية ، قال فيها :

لأن عادة الشرع رد الناس فيما لم ينص عليه إلى عرفهم ، لكن ربما خدش ذلك بأنه فرع تعليق الحكم في النص على الكثرة حتى يرجع فيها حينئذ إلى العرف والعادة وليس ،

٦٢

كما اعترف به غير واحد ، ومن هنا جعل المدار في المدارك تبعا لأستاذه في الكثرة على محو صورة الصلاة وعدمه ، قال فيها : « لم أقف على رواية تدل بمنطوقها على بطلان الصلاة بالفعل الكثير ، لكن ينبغي أن يراد به ما تنمحي به صورة الصلاة بالكلية كما هو ظاهر اختيار المصنف في المعتبر اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع الوفاق ».

قلت : لا يخفى عليك أن إرادة مطلق ما يحصل به المحو وإن قل من الكثرة موقوف على اصطلاح جديد ، والمعلوم عدمه ، وما في المنتهى ـ « كلما ثبت أنهم عليهم‌السلام فعلوه أو أمروا به فهو من حيز القليل » وفي كشف اللثام « رب كثير في العدد لا يسمى في العرف كثيرا كتحريك الأصابع للعد أو غيره ، واحتمل الإبطال في التذكرة ورب فعل واحد يحتمل عده كثيرا في العرف كالوثبة الفاحشة ، ولذا استشكل فيه في التذكرة ونهاية الأحكام » ـ يجب صرفه إلى غير ذلك ، وإلا كان محلا للنظر ، ضرورة عدم تفاوت صدق الكثرة والقلة في هذه الأمور كلها ، نعم قد يبطل وإن كثر من جهة عدم تفويته الموالاة ، وقد يبطل مع القلة لثبوت المحو به ، ولا يستحق بذلك تغيير الاسمين ، إذ ليس المبطل منحصرا بالكثير ولا العكس.

ثم إنه لا يخفى عليك إمكان الاكتفاء في الرجوع في مسمى الكثرة إلى العرف والعادة بوقوعه في معاقد الإجماعات مثلا من غير حاجة إلى نص بالخصوص ، على أنه ليس مراد الأصحاب كما أشرنا إليه سابقا في الرجوع في الكثرة إلى العادة من حيث صدق اللفظ وعدمه حتى يتوقف على وجوده في النص وعدمه ، بل المراد أن الصلاة المطلوبة للشارع لا ريب في أن لها صورة خاصة وكيفية محدودة ، بل من المعلوم بالضرورة أن الصلاة من ذوات الهيئات الملاحظ فيها اتصال الأفعال وغيره من الكيفيات ، وليست هي مجرد أفعال من غير مدخلية لاتصالها ونظمها ، ولا ريب أن هذه الصورة إنما يحفظها المكلفون المخاطبون بها المؤدون لها في كل يوم المتشاغلون بها‌

٦٣

في أكثر الأوقات كما هي عادة الشرع في كل ما طلب له صورة ، خاصة وهيئة محدودة ومن ذلك الموالاة في القراءة وغيرها من الأقوال ، وقد أشرنا هناك إلى اعتبار الموالاة بين الأفعال ، ولعل ما نحن فيه من ذاك ، إذ الظاهر ابتناء المقام على عدم الفعل الكثير في أثناء أفعال الصلاة بحيث يفوت الموالاة في أدائها.

فحينئذ لو فعل فعلا كثيرا بحيث لا ينافي التشاغل بأفعال الصلاة من حركة أصابع لعد ركعات واستغفار وتسبيح في صلاة التسبيح وغيرها لم يقدح في الصلاة ، لعدم فوات الموالاة ، وعدم ثبوت مقتضي البطلان ، مع أن الأصل الصحة ، بل هي ظاهر أكثر النصوص السابقة ، ولعل منه حمل أمامة وإرضاع الصبي ولبس الرداء كما تسمعه في خبر علي بن الحسين عليهما‌السلام (١) بل يومي إلى ذلك أيضا ما ستسمعه من إطلاقهم كراهة العبث والفرقعة ، كإطلاق بعض النصوص (٢) نفي البأس عن العبث بالذكر ، أما إذا فعل ما ينافي ذلك كالمشي ونحوه مما لا يمكن معه التشاغل في أفعال الصلاة لفوات الطمأنينة ونحوها فالمتجه فيها البطلان إذا وصل إلى حد يحكم المتشرعة فيه بعدم حصول الموالاة المعتبرة ، ومع الشك فقد يتجه ذلك أيضا بناء على الأعمية فضلا عن القول بالصحيحة إن كان الشك المفروض قدح مثله شكا في تناول الأمر والإطلاقات للفرد المزبور.

ولا يخفى عليك أن ما ذكرنا ليس رجوعا إلى العرف في الأحكام الشرعية كي يقال : إنه بمعزل عنها وليس هو من مداركها ، بل المراد أنه يرجع إليه في حفظ الصورة‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية والصحيح « الحسين بن على عليهما‌السلام » كما يأتي.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١ و ٢.

٦٤

المتلقاة من الشرع التي علق التكليف بها ، ففي الحقيقة إنما رجع إليه في متعلق الحكم الشرعي وموضوعه الذي هو وظيفته.

كما أنه لا يخفى عليك عدم منافاة ذلك لكون الصلاة من محدثات الشرع ومخترعاته التي لا مجال للعرف في معرفتها بدون التوقيف ومعرفة الفعل الكثير فيها والقليل والمنافي وغير المنافي ، ضرورة أنك قد عرفت كون المراد حفظ الصورة عند المتشرعة المأمورين بها المتشاغلين في أدائها الذين وصلت إليهم أيضا بالتوقيف ، ولعل كثيرا من المبطلات مستفاد من ذلك كرفع الصوت فيها زائدا على المتعارف ، وإطالة الذكر في أثنائها ، أو السكوت أو نحو ذلك ، ومنه أيضا بعض الأفعال القليلة الماحية للصورة بمعنى أن المتشرعة يحكمون بمنافاة مثلها للصلاة كالصفق لعبا أو الوثبة الفاحشة أو نحو ذلك مما أدخلوه تحت الفعل الكثير ، لوضوح البطلان به وعدم ذكر عنوان خاص له عند الأصحاب ، فالتجأوا إلى ذلك ، وقد عرفت ما فيه ، وأن كثيرا من الأمور لم يذكروها اعتمادا على معلومية وجوب المحافظة على الصورة المحفوظة عند المتشرعة المعلوم من هذه الجهة ما ينافيها وما لا ينافيها عندهم ، فاكتفوا بذلك عن ذكرها بالخصوص. فظهر لك حينئذ أن البطلان بالفعل الكثير إنما هو من حيث تفويته للموالاة ، فلعل من علله بالخروج عن كونه مصليا كالفاضلين وغيرهما أراد ذلك ، كما أن الفاضل الأصبهاني أراد بما ذكره « من أن الفعل الكثير يبطل الصلاة عمدا لا سهوا إن لم يمح صورة الصلاة وفاقا لإطلاق الأكثر » إلى آخره. عدم المحو لصورة الصلاة وإن فاتت الموالاة وتحققت المنافاة عرفا ، ضرورة كونها حينئذ كفوات الاستقبال والطهارة والطمأنينة ونحوها مما لا يذهب معه الصورة وإن كانت باطلة حتى على القول بالصحيحي لا أن المراد بعدم المحو عدم فوات الموالاة أيضا ، فيدخل فيه الفعل الكثير الذي لا ينافي الموالاة ، وثبوت البطلان به محل منع ، إذ معقد الإجماع وإن كان مطلقا في‌

٦٥

بعض المصنفات لكن في المعتبر والمنتهى وغيرهما تعليله بعد دعواه بخروجه عن كونه مصليا ، وقد صرح غير واحد بأن المدار على محو الصورة ، كما أنه صرح به بعضهم في تفسير الكثرة حتى أنه جعل الوثبة الفاحشة من الكثير لمحوها ، بخلاف حركة الأصابع ونحوها ، وتصفح كلماتهم أكبر شاهد على ما قلنا من أن المدار عندهم في البطلان بالفعل الكثير على المحو للصورة ولو بالمعنى الذي ذكرناه من تفويت الموالاة ، لا أنه مانع لنفسه بالخصوص تعبدا.

وكأن الذي ألجأ الأصبهاني إلى ما ذكره أنه قوي في نظره التفصيل بين العمد والسهو في ذلك ، فيبطل الكثير في الأول دون الثاني كما هو ظاهر بعضهم وصريح آخر ، بل نسبه في الذكرى كما ستسمع إلى الأصحاب ، وغيرها إلى ظاهرهم ، بل ظاهر نسبته إلى علمائنا في التذكرة الإجماع عليه ، للأصل ، وحديث الرفع (١) وحصر الصحيح (٢) المبطلات في الخمسة غيره ، وفي خبر أبي بكر الحضرمي (٣) في الأربع : الخلاء والبول والريح والصوت كما تقدم سابقا ، وخبر علي بن جعفر (٤) المروي عن قرب الاسناد أنه سأل أخاه عليه‌السلام « عن الرجل يقرض أظافيره أو لحيته وهو في صلاته ، وما عليه إن فعل ذلك متعمدا؟ قال : إن كان ناسيا فلا بأس ، وإن كان متعمدا فلا يصلح له » ‌وغير ذلك.

وهو أي التفصيل المزبور لا يتأتى في الكثير الماحي ، ضرورة حصول البطلان به مطلقا ، ومن هنا أنكر هو على الفاضلين تعليلهما البطلان بالمحو وتفصيلهما مع ذلك بين العمد والسهو ، وقال : إنه خلاف التحقيق ، فان الخروج من الصلاة قطع لها ، وهو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس من كتاب الجهاد.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٤ ـ ٢

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١.

٦٦

مبطل لها مطلقا ، ثم قال : ولذا نسبه الشهيد في الذكرى إلى الأصحاب أي مشعرا بالبراءة منه ، واستدل له بعموم رفع النسيان (١) وبأخبار سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ثم قال : وهو متروك بين الإمامية يعني سهوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس له حينئذ إلا ما قلناه ، إذ لا غرابة في التفصيل بين العمد والسهو في الكثير المفوت للموالاة على ما ذكرنا ، خصوصا والعمدة في ثبوت البطلان به هو حصول المنافاة عند المتشرعة ، ويمكن دعوى حصر ذلك عندهم في حال العمد دون السهو ، كما أنه يمكن الاستدلال بسائر ما عرفت على ذلك ، نعم اختصاص البطلان في العمد دون السهو ولو انمحت الصورة بحيث صح سلب اسم الصلاة عنها مطلقا في سائر الأحوال مستغرب مستبشع مقطوع بعدمه يسوغ الفرار منه إلى ما عرفت ، لكن قد سمعت أنه لا صراحة في كلام المفصلين بذلك ، بل يمكن أن يريدوا ما ذكرنا ، وأنه بسبب فوات الموالاة صح إطلاق المحو عليه » إلا أنه مختص بالعمد ، لعدم ثبوت المنافاة عند المتشرعة حال السهو ، بل لعل نصوص (٣) تدارك الركعة فما زاد المعمول بها عندنا في بعض الأحوال كالصريحة في عدم قدح فوات الموالاة سهوا ، فضلا عن نصوص النسيان (٤) في سائر أجزاء الصلاة تركا وتقديما وفصلا ، فإنها أيضا كالصريحة في أن فوات الموالاة سهوا غير قادحة ، وليس مراد الفاضلين وغيرهما بل هو كالمجمع عليه بينهم عدم البطلان بالكثير سهوا مع محو الصورة التي يسلب الاسم عنها في سائر الأحوال حتى حال السهو ، إذ لا يخفى على أصاغر الطلبة أن الامتثال لا يتحقق إلا بفرد من الكلي المأمور به.

ومن ذلك يظهر لك وجه الجمع بين كلمات الأصحاب حيث أبطل بعضهم به عمدا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس من كتاب الجهاد.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الخلل للواقع في الصلاة.

٦٧

وسهوا ، وآخر عمدا خاصة ، وتحير ثالث ، كما أنه ظهر لك من التأمل في مجموع ما ذكرنا أنه ليس كل ماح لاسم الصلاة كثيرا ، فرب قليل يمحو ويكون البطلان به للمحو وعدم حصول الامتثال لا للكثرة ، وأنه ليس كل كثير ماحيا ، فرب كثير ليس بماح ولا مفوت للموالاة ، ومثله لا يبطل صلاة عمدا فضلا عن السهو ، للأصل وإطلاق الأدلة ، ولعل منه كثيرا مما اشتملت عليه النصوص السابقة ، بل وخبر أبي بصير (١) أنه سأل الصادق عليه‌السلام « ما يجزي الرجل من الثياب أن يصلي فيه؟ فقال : صلى الحسين ابن علي عليهما‌السلام في ثوب واحد قلص عن نصف ساقه وقارب ركبتيه ليس على منكبيه منه إلا قدر جناحي الخطاف ، وكان إذا ركع سقط عن منكبيه ، وكلما سجد يناله عنقه فيرده على منكبيه بيده ، فلم يزل ذلك د. به مشتغلا به حتى انصرف » ‌وربما جعل هو وخبر أمامة من الكثير المتفرق ، فيكونان حينئذ دليلين على اعتبار التوالي في الكثير القادح الذي تردد فيه في التذكرة والمحكي عن نهاية الأحكام ، والظاهر أنه لا بأس به وفاقا للمحكي عن جماعة ، خصوصا بناء على ما عرفت من عدم فوات التوالي بذلك ، نعم قد يثبت المحو به فتبطل الصلاة حينئذ من هذه الجهة لا من حيث الكثرة.كما أن الظاهر اندراج ما ذكره غير واحد في المقام في عداد مبطلات الصلاة من السكوت الطويل ونحوه فيما قلناه من تفويت الموالاة ، لعدم ثبوت مقتضي مانعيته بالخصوص ، وبمعناه عدم اتباع الأفعال بعضها ببعض من دون أن يشتغل بفعل خارج عنها ، وربما أدى السكوت الطويل إلى انمحاء صورة الصلاة بحيث لا يصدق عليها الاسم في جميع الأحوال ، فحينئذ يبطل سواء ، كان عمدا أو سهوا لا لفوات الموالاة التي يمكن اعتبار شرطيتها حال العمد ، بل لعدم ما يحصل به الامتثال ، ومراد الأصحاب بأنه مبطل عمدا لا سهوا إذا كان البطلان به من حيث فوات الموالاة كالفعل الكثير لا من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب لباس المصلى ـ الحديث ١٠.

٦٨

حيث المحو التام ، ومن ذلك يظهر ما في الذكرى من أن من المبطلات السكوت الطويل الذي يخرج به عن كونه مصليا ، وظاهر الأصحاب أنه كالفعل الكثير ، فحينئذ يشترط فيه التعمد ، فلو وقع نسيانا لم تبطل ، ويبعد بقاء الصلاة على الصحة فيه وفي الفعل الكثير المخرجين عن اسم المصلي بحيث يؤدي إلى انمحاء صورة الصلاة ، كمن يمضي عليه الساعة والساعتان أو معظم اليوم ، قلت : بل هو مقطوع بعدمه ، ولعله هو مراد جامع المقاصد وكشف اللثام من البطلان به عمدا وسهوا ، لكن كان على الثاني منهما التفصيل كما سمعته في الفعل الكثير بناء على أن السكوت منه.

وعلى كل حال فلا يريد الأصحاب بالسكوت المختص بحال العمد دون السهو الماحي للصلاة مطلقا كي يتوقف فيه ، ومن ذلك ما لو قرأ كتابا في نفسه من غير نطق واشتغل به عن الصلاة عمدا ، فان طال بحيث حصل المحو أو فاتت الموالاة بطل ، وإلا فلا ، للأصل والاضطرار إلى التصور وإطلاق الأدلة ، خلافا لأبي حنيفة فأبطلها بذلك ولا ريب في ضعفه ، والله أعلم.

ومنها البكاء لشي‌ء من أمور الدنيا من فقد ميت أو تلف مال ، فان تعمده مبطل للصلاة على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، بل لم أجد فيه خلافا كما اعترف به بعضهم ، بل لا خلاف فيه في المحكي من شرح نجيب الدين العاملي ، بل في المدارك ظاهر هم أنه مجمع عليه ، بل في الحدائق دعواه صريحا ، وفي التذكرة « والبكاء خوفا من الله سبحانه وخشية من عقابه غير مبطل للصلاة وإن أنطق بحرفين فصاعدا ، وإن كان لأمور الدنيا بطلت صلاته وإن لم ينطق بحرفين عند علمائنا » وبذلك كله ينجبر‌ خبر النعمان بن عبد السلام (١) عن أبي حنيفة المروي في التهذيب « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البكاء في الصلاة أيقطع الصلاة؟ قال : إن بكى لذكر جنة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٤.

٦٩

أو نار فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة ، وإن كان لذكر ميت له فصلاته فاسدة » ‌ولعله إلى ذلك أشار‌ في الفقيه (١) بقوله : « روي أن البكاء على الميت يقطع الصلاة ، والبكاء للجنة والنار من أفضل الأعمال في الصلاة » ‌فيزداد حينئذ قوة إلى القوة السابقة وإن كانت الأولى كافية في جواز العمل به ، إذ هو أعظم طرق التبين ، فوسوسة المقدس الأردبيلي وبعض أتباعه في هذا الحكم لضعف الخبر المزبور وعدم ثبوت الإجماع في غير محلها.

ولا حاجة حينئذ إلى إلحاقه بغيره من المنافيات كالفعل الكثير ونحوه على ما حكي عن الكاشاني والماحوزي ، بل لعله ظاهر الذكرى أيضا حيث أنه ذكر هذه المسألة من مسائل الفعل الكثير ، حتى قال : « الرابعة قد يكون الفعل الكثير مبطلا وغير مبطل باعتبار القصد وعدمه كالبكاء ، فإنه إن كان الذكر الجنة أو النار لا يبطل ، وإن كان لأمور الدنيا كذكر ميت له أبطل » إلى آخره. ضرورة كونه حينئذ بقسميه منافيا كالضحك وإن قل ، ولعل الشهيد منهم يريد بالفعل الكثير ما يشمل كل ما ثبت إبطاله للصلاة من الأفعال ولو قليلا ، كما يومي اليه بعض كلماتهم السابقة وركونه هو فيما بعد إلى النص لا إلى الفعل الكثير بالمعنى السابق المقتضي لعدم البطلان به مع القلة.

ثم المشهور بين الأصحاب ما في المتن من اختصاص ذلك بالعمد ، بل لا أجد فيه خلافا صريحا وإن أطلق جماعة ، ولعله لأصل وحديث الرفع وظهور الجواب في النص المزبور (٢) في العمد ، بل من النادر أو الممتنع البكاء سهوا ، فلا جهة حينئذ لتعميم البطلان للحالين ، اللهم إلا أن يكون المراد السهو عن كونه في الصلاة ولو لظن إتمامها والفراغ منها ، لكن قد عرفت أن الأصل محكم ، والخبر ظاهر في غير السهو ، على أنه لا جابر له بالنسبة إلى ذلك ، بل الموهن موجود كما هو واضح.

أما المغلوب عليه قهرا ففي المنتهى والذكرى وفوائد الشرائع والمحكي من نهاية‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٢ ـ ٤

٧٠

الأحكام وإرشاد الجعفرية والغرية وكشف الالتباس والروض والمقاصد العلية البطلان وإن كان لا إثم ، بل في الحدائق أنه مما لم يطلع على مخالف فيه ، لا طلاق النص والفتوى وثبوت الحكم في نظائره من الضحك وغيره كما عرفت ، لكن قد يناقش بظهور النص في الاختيار ، وبه يفرق بينه وبين القهقهة ، فيبقى المضطر حينئذ على الأصل ، ولعله لذا لم يجزم بالبطلان في الروضة ، بل جعله وجها ، قيل : وهو محتمل نجيب الدين ، بل حكى في التذكرة عن الشافعي عدم البطلان ولم يعقبه بشي‌ء ، فلا ينبغي ترك الاحتياط حينئذ بالإتمام والإعادة.

ثم لا يخفى عليك أن الموجود في النص المزبور انقطاع الصلاة بالبكاء على الميت ، إلا أنه لما كان ذلك في مقابلة ذكر الجنة والنار التي هي منطوق الشرط الأول وكان المنساق إلى الذهن أن المراد من الثاني مفهوم الأول وإن كان قد صرح ببعض أفراده على جهة المثال جعل الأصحاب المدار في البطلان وعدمه البكاء على أمور الدنيا والآخرة ، والثاني لا إشكال فيه نصا وفتوى ، ضرورة تواتر النصوص في فضل البكاء لله الذي يبنى له بكل دمعة ألف بيت في الجنة (١) و‌ « ما من شي‌ء إلا وله كيل ووزن إلا الدموع ، فإن القطرة تطفئ بحارا من نار ، فإذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهها قتر ولا ذلة ، فإذا فاضت حرمه الله على النار ، ولو أن باكيا بكى في أمة لرحموا » (٢) ‌و « ما من عين إلا وهي باكية يوم القيامة إلا عينا بكت من خوف الله ، وما اغرورقت العين بمائها من خشية الله عز وجل إلا حرم الله عز وجل سائر جسده على النار » (٣) ولم يتقرب العبد بشي‌ء أحب إلى الله عز وجل من ثلاثة ، وهي الزهد والورع عن المعاصي‌

__________________

(١) البحار الجزء الثاني من المجلد ١٩ ص ٤٧ باب فضل البكاء وذم جمود العين.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب جهاد النفس ـ الحديث ١١ ـ ١٢من كتاب الجهاد.

٧١

والبكاء من خشية الله الذي يكون العبد به في الرفيع الأعلى لا يشاركه أحد (١) ‌و‌سئل الصادق عليه‌السلام (٢) « عن الرجل يتباكى في الصلاة المفروضة حتى يبكي قال : قرة عين والله ، وقال : إذا كان ذلك فاذكرني عنده » ‌و‌قيل له عليه‌السلام أيضا (٣) « أيتباكى الرجل في الصلاة؟ فقال : بخ بخ ولو مثل رأس الذباب ».

وأما الأولى فلا أجد فيه خلافا بينهم من غير فرق بين البكاء للفوات أو للطلب بل عن الميسية يبطلها البكاء على الميت وإن كان لصلاحه ، لكن في الحدائق « أن ظاهر كلام الأصحاب من حيث تعليقهم الإبطال بالأمور الدنيوية الذي هو أعم من أن يكون لفوتها أو لطلبها هو حصول الابطال بالبكاء لطلب ولد أو مال أو شفاء مريض أو نحو ذلك ، وهو مشكل لأنه مأمور به ومندوب إليه في الأخبار ، مع أن ظاهر الخبر الذي هو مستند الحكم إنما هو فواتها لا طلبها ، وحينئذ فالظاهر أنه لا تبطل بالبكاء لطلبها ، ولا يعارض ذلك بمفهوم صدر الخبر لدلالته على أنه ما لم يكن من الأمور الأخروية يكون مبطلا ، لأنا نقول مفهوم صدر الخبر أنه ما لم يكن كذلك ليس أفضل الأعمال ، وعدم كونه أفضل الأعمال لا يوجب البطلان » وفيه ـ مع أنه مخالف لظاهر الفتاوى باعترافه ـ أنه مخالف للنص أيضا بناء على ما سمعته سابقا من إرادة المثال بذكر الميت لكل ما لم يكن لجنة ونار ونحوهما من الأمور الأخروية ، فيشمل سائر الأمثلة السابقة ولا يختص بالفوات كما هو واضح بأدنى تأمل.

نعم الظاهر أنه يقع البكاء لشفاء مريض أو لطلب ولد ونحو ذلك من الأمور الأخروية فيما إذا بكى متقربا إلى الله ببكائه مثلا ثم إنه أراد من ثواب ذلك وجزائه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب جهاد النفس ـ الحديث ١٥ من كتاب الجهاد.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١ ـ ٥

٧٢

شفاء المريض مثلا ، أو يكون المقصود استعداده بذلك لأن يجاب إذا دعا ويعطى إذا سأل ، وليس ذلك من البكاء لشي‌ء من أمور الدنيا ، ضرورة ظهوره في كون البكاء على نفس ذلك الأمر الدنيوي ، وأنه هو الباعث على البكاء فواته أو طلبه ، لا ما يشمل الفرض الذي ينزل عليه‌ قول الصادق عليه‌السلام لأبي بصير (١) : « إذا خفت أمرا يكون أو حاجة تريدها فابدأ بالله عز وجل فمجده واثن عليه كما هو أهله ، وصل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسأل حاجتك وتباك ولو مثل رأس الذباب ، إن أبي (ع) كان يقول : إن أقرب ما يكون العبد من الرب عز وجل وهو ساجد باك » ‌أو يراد منه خروج الدموع خاصة بناء على أن المبطل الصوت لا خروج الدموع خاصة كما ستعرف ، فتأمل جيدا.

بل قد يمنع أيضا كون البكاء لفقد الميت من الأمور الدنيوية مطلقا ، فان البكاء على الحسين عليه‌السلام وغيره من الأئمة الهادين عليهم‌السلام بل والعلماء المرضيين ونحوهم ممن كانت العلقة بينهم وبين الباكي أخروية ليس من الدنيا في شي‌ء ، وما سمعته من الميسية معرض عنه ، أو ينزل على غير ذلك ، واحتمال عد البكاء على الحسين عليه‌السلام فضلا عن غيره من البكاء لأمر دنيوي ـ باعتبار أن ما وقع بسببه البكاء وكان هو الباعث على البكاء أمر في الدنيا دون الآخرة ، وترتب الثواب عليه وكونه عبادة لا ينافي بطلان الصلاة به ، وذكر الجنة والنار في النص المزبور مثال لنعيم الآخرة وأهوالها من البرزخ وغيره ـ واضح الدفع وإن كان الاحتياط لا ينبغي أن يترك ، خصوصا إذا كان البكاء على الحسين عليه‌السلام من حيث الرحم أو من حيث علقة السيد والعبد ونحوهما من العلائق ، فإن الأفعال تختلف بالقصد وبالجهة والاعتبارات كما هو واضح ، وكأنه لذا قال في مجمع البرهان : « الظاهر أن البكاء لفقد الميت لا يطلق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الدعاء ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

٧٣

عليه الأمر الدنيوي إلا أن يضم إليه شي‌ء ، ويبعد كونه مطلقا كذلك ، فإنه نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البكاء على إبراهيم وكذلك عن الأئمة عليهم‌السلام ويبعد ارتكابهم عليهم‌السلام أمرا يكون محض دنيوي ولا يحصل عليه الثواب ، مع أن الأخبار (١) دالة على حصول الثواب على البكاء والألم بفقد المحبوب ، وخصوصا الولد نعم لو ضم إليه أمر دنيوي كما يوجد في كثير من الناس حيث يبكي لفقد المعين له في أموره فلا يبعد ذلك ».

قلت : لكن قد يقال : إن النص خال عن التعليق بالدنيا صريحا ، بل المراد منه ما سمعته منا مكررا ، وحينئذ لا يبعد الالتزام معه ببطلان الصلاة بالبكاء لسائر مصائب الدنيا في النفس والمال والأهل وغير ذلك ، وترتب الثواب عليه في نفسه وحد ذاته لا ينافي بطلان الصلاة ، معه لو وجد فيها ، وبكاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام مع أنه مقتضى الطبيعة البشرية وربما كان يقع قهرا عليهم لا ينافي ما ذكرنا إذ ليس ذلك واقعا منهم في الصلاة كي يستدل به ، ودعوى استبعاد وقوعه منهم عليهم‌السلام لو كان أمرا دنيويا محضا يدفعها أنه بعد التسليم لا يستلزم صحة الصلاة معه ، إذ ليس المدار على ترتب الثواب عليه ، لما عرفت من ظهور النصوص في ترتب الثواب على سائر المصائب للمؤمن في الدنيا ، فتأمل جيدا ، فالتمسك بترتب الثواب على عدم كونه من أمور الدنيا فلا يكون مبطلا في غير محله ، على أن المراد بالدنيوي والأخروي خصوص ما يبكي عليه لا ما يترتب البكاء من الثواب ونحوه ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ثم الموجود فيما حضرني من نسخ المتن مد البكاء ، فيعتبر فيه الصوت حينئذ ، ولا يكفي خروج الدموع وفاقا لفوائد الشرائع والروضة والمدارك والمحكي عن الغرية وإرشاد الجعفرية والروض والمقاصد العلية ، بل في الحدائق نسبته إلى الشهرة ، واليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٨ ـ من أبواب الدفن ـ من كتاب الطهارة.

٧٤

يرجع ما في كشف اللثام والمحكي عن الموجز وحاشية الإرشاد والميسية من أن المفسد من البكاء ما اشتمل على النحيب وإن خفي ، لا فيض الدمع بلا صوت ، قال في الكشف : « ويرشد اليه كلام ابن زهرة ، إذ جعله من الفعل الكثير » قلت : قد سمعت ما في الذكرى أيضا ، بل يمكن تحصيل الشهرة عليه أو الإجماع بناء على قراءة عبارات الأصحاب « والبكاء » بالمد كالمتن ، للمحكي من تصريح غير واحد من أهل اللغة بالفرق بينه ممدودا ومقصورا ، قال في الصحاح ومجمع البحرين : « البكاء يمد ويقصر ، فإذا مددت أردت الصوت الذي يكون مع البكاء ، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها » وفي المجمل « قال قوم : إذا دمعت العين فهو مقصور ، وإذا كان ثم نشيج وصياح فهو ممدود » وفي المقاييس « قال النحويون : من قصره أجراه مجرى الأدواء والأمراض ، ومن مده أجراه مجرى الأصوات كالثغاء والدعاء والرغاء » وقال نشوان بن سعيد في شمس العلوم : « قال الخليل : إذا قصرت البكاء فهو بمعنى الحزن أي ليس معه صوت ، وإذا كان معه نشيج وصياح فهو ممدود » وقال الراغب : « بالمد سيلان الدمع على حزن وعويل يقال : إذا كان الصوت أغلب كالرغاء والثغاء وسائر هذه الأبنية الموضوعة للصوت ، وبالقصر يقال : إذا كان الحزن أعلب » إلى غير ذلك مما هو ظاهر في الفرق بينهما ، وربما يستفاد المراد بالممدود من قول الرضي في مرثية الحسين عليه‌السلام :

يا جد لا زالت كتائب حسرة

تغشي الفؤاد بكرها وطرادها

أبدا عليك وأدمع مسفوحة

إن لم يراوحها البكاء يغادها

لكن قد يقال : أولا نمنع أنه ممدود في النص والفتوى ، إذ من المحتمل أنه مقصور فيهما ، ولا نسخ مضبوطة بحيث تقطع النزاع لكل منهما ، لمعروفية تسامح النساخ في ذلك ، وثانيا أن لفظ البكاء في النص موجود في السؤال الذي لا يبني عليه الحكم بعد أن كان الفعل في الجواب ، وهو مطلق شامل لكل من الحالين بخلاف المصدر ،

٧٥

وبذلك أنكر في الحدائق على الأصحاب التوقف والاضطراب ، وثالثا أنه يمكن منع وجود كل من المادتين فضلا عن الفرق بينهما ، لما قيل من أن كلام صاحب القاموس صريح في عدم الممدود ، وكذلك كلام الصحاح ظاهر في ذلك ، قال في المحكي عن الذخيرة بعد أن حكى الفرق المزبور عن الصحاح : « إن ما ذكره خلاف المعروف عن العرف ومن ظاهر الأصحاب ، فإن أحدا منهم لم يشر إلى التفرقة أصلا ولا إلى استشكال مطلقا ، ولو كان فرق أو إشكال لكان اللازم عليهم التعرض سيما في مقام دعوى الإجماع » وقال في مجمع البرهان : الظاهر صدق البكاء على مجرد الدمع من غير اشتراط الصوت عرفا ولغة وإن كان له لغة معنى آخر أيضا ، والأصل عدم الزيادة في اللفظ والمعنى ، و « إن بكى » في الخبر مشتق من القصور وكذا البكاء في كلام الأصحاب ، وأيضا لا يعقل معنى في الذي معه صوت إلا مع إرادة الحرفين المبطلين ، لكنه حينئذ من باب الكلام بحرفين ، ورابعا سلمنا وجودهما والفرق بينهما لكنه لغوي ، أما العرف فلا ، وهو مقدم على اللغة ، وخامسا أنه مع قيام الاحتمال وجب معرفة يقين البراءة من الاشتغال ، وليس إلا باجتنابهما معا.

ويدفع الأول بعد الأعضاء عما نشاهده من وجدان المد في بعض النسخ أن المتجه بعد تعارض الاحتمالين وتساقطهما الاقتصار في المبطل على الممدود ، لأصالة الصحة ومعلومية ضعف القول بمانعية ما شك في مانعيته ، ومنه يعرف ما في الخامس ، وأما الثاني فيدفعه أن الفعل مجمل لا مطلق ، ضرورة عدم معلومية كونه فعل الممدود أو المقصور خصوصا في المقام الذي ذكر المصدر في السؤال وأريد من الفعل جوابا له ، والثالث لم نتحققه منهما ، مع أنك قد سمعت كلام الجوهري منهما مضافا إلى غيره ، والرابع مسلم لو كان هناك عرف محقق ، وخطأ العرف واشتباهاته وتسامحاته ونحو ذلك ليست عرفا قطعا كما هو واضح ، وليس البطلان بالممدود لاشتماله على الحرفين ، وإلا لم يعقل اعتبار‌

٧٦

الصوت في إبطاله ، ضرورة معقولية اعتباره كما سمعته في الضحك الذي هو ضده ، على أنك قد عرفت كون التحقيق عدم البطلان بمثل هذه الحروف ، لأنها ليست حروفا وإن سميت بأسماء خاصة كما أوضحناه سابقا ، ولعله ينزل على ذلك ما سمعته من التذكرة أو على ما تقدم من المحقق في التأوه لله ، وإلا فلا معنى لعدم البطلان به وإن اشتمل على حرفين فصاعدا ، ومن الغريب تمسك المقدس الأردبيلي لذلك بإطلاق أدلة البكاء لله مثلا التي لم تسق لبيان ذلك ، بل هي مسوقة لأمر آخر كما هو واضح.

وتعمد الأكل والشرب وإن لم يكثرا على قول ظاهر من إطلاق المبسوط والقواعد واللمعة ومعقد إجماع الخلاف ، بل لعل المراد منه القليل خاصة ، للاستغناء بذكر الكثير سابقا عن كثيرهما ، فعطفهما حينئذ عليه من المصنف وغيره لولا احتمال التخصيص للاستثناء كالصريح في ذلك ، خصوصا مع إمكان دعوى أن الغالب في الشرب بل والأكل القلة ، ضرورة خروج المقدمات عن مسماهما ، ومن ذلك يعلم غرابة ما في التذكرة حيث علل البطلان بمطلق الأكل والشرب بأنهما فعل كثير ، قال : « لأن تناول المأكول ومضغه وابتلاعه أفعال متعددة وكذا المشروب » وهو كما ترى إلا أنه موافق لمن عرفت في البطلان بهما مطلقا كما هو المحكي عن الأستاذ الأكبر (١) لكن صرح غير واحد من المتأخرين ومتأخريهم بأنه لا دليل يختصان به حتى يكونا قاطعين للصلاة مطلقا ، قلت : لأن قبول إجماع الشيخ مشكل كما في المنتهى ، إذ لا نعلم أي إجماع أشار اليه ، ونحوه في المعتبر ، بل في المنتهى أيضا « لو ترك في فيه شيئا‌

__________________

(١) وقد سمعت قوته ، نعم قد يقال : إن المحو أو الكثرة حاصلة في أغلب أفراد الشرب باعتبار تعاطف المشروب وتعاقب تجرعه وإن كان الشرب قليلا بمعنى أنه في العرف يعد شربة واحدة للمشروب الكثير ، فإن كثرة الشرب تحصل بتعدد الشرب مرات لا كثرة المشروب وإن كان الشرب مرة واحدة ، وعلى كل حال فالعمدة ما ذكرناه من المحو بهما على الوجه المذكور ( منه رحمه‌الله ).

٧٧

يذوب كالسكر فذاب وابتلعه لم تبطل صلاته عندنا ، وعند الجمهور تفسد ، لأنه يسمى أكلا ، أما لو بقي بين أسنانه من بقايا الغذاء فابتلعه في الصلاة لم تبطل صلاته قولا واحدا ، لأنه لا يمكن التحرز عنه ، وكذا لو كان في فيه لقمة ولم يبتلعها إلا في الصلاة لأنه فعل قليل » وفي التذكرة « ولو كان مغلوبا بأن نزلت النخامة ولم يقدر على إمساكها لم تبطل صلاته إجماعا » قال في كشف اللثام : يعني وإن كثر للعذر كالمرتعد ، اللهم إلا أن يقال : إن ابتلاع النخامة وما بين الأسنان وسوغ السكرة مع الربق لا يسميان في العرف أكلا ، فلا ينافي حينئذ إجماع الشيخ المزبور ، أو أن ذلك خرج بالدليل كما يومي اليه ما في المبسوط حيث أنه بعد أن أطلق الفساد بالأكل والشرب قال : « وروي (١) جواز شرب الماء في صلاة النافلة ، وما لا يمكن التحرز عنه مثل ما يخرج من الأسنان فإنه لا يفسد الصلاة ازدراده » ‌إذ هو كالتقييد لإطلاقه الأول ، وعدم علم المصنف بالإجماع المشار اليه كاشكال الفاضل فيه لا يقدح في حجية الإجماع المنقول.

ويؤيده مضافا إلى ذلك فحوى سياق الخبر الآتي (٢) في الرخصة في شرب الماء في الوتر المشعر بمعلومية منافاة الشرب للصلاة ومحو اسم الصلاة بحصول المتعارف من كل منهما لا ما تقدم ونحوه ، أو علم المتشرعة منافاتهما للصلاة المرادة كما أوضحناه في الفعل الكثير ، ولعل ذلك ونحوه مأخذ إجماع الشيخ ، إذ لا ريب في حصول البطلان بمحو الاسم ، ولا ريب في حصوله بهما وإن لم يكثرا كما هو الغالب فيهما ، إذ أطفال المتشرعة يعلمون أن الصلاة لا يجتمع معها الأكل والشرب كما هو واضح بأدنى التفات ، فتوقف كثير من الأصحاب في هذا الحكم ـ حتى أن المصنف منهم رد على الشيخ إجماعه وتبعه غيره ، وجعلوا المدار في البطلان بهما على الكثرة تبعا للمحكي عن السرائر ـ في غير محله ، نعم في الدروس « يبطلان إذا كثرا أو آذنا بالاعراض » وفي المحكي عن الموجز‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٠ ـ ١٠

٧٨

وشرحه « إن آذنا بالإعراض أو نافيا الخشوع » بل عن الجعفرية وحاشية الإرشاد وإرشاد الجعفرية « الاقتصار على الإيذان بالاعراض » وعن الجواهر المضيئة « يبطلان لمنافاتهما الخشوع » كالمحكي عن المهذب البارع من « أن الأقوال في ذلك ثلاثة : الإبطال بالمسمى ، وهو ما يبطل الصوم ، والإبطال بالكثرة فلا يبطل باللقمة الصغيرة ، والإبطال بمنافاة الخشوع ولقمة صغيرة ـ ثم قال ـ : وهو ما اخترناه ».

لكن الجميع كما ترى ، ضرورة عدم ثبوت البطلان بالايذان بالإعراض أو بمنافاة الخشوع إن لم يرجعا إلى ما ذكره من المحو أو معلومية المنافاة عند المتشرعة ، ولعله لذا قال في جامع المقاصد : « واختار شيخنا في بعض كتبه الإبطال بالأكل والشرب المؤذنين بالإعراض عن الصلاة ، وهو حسن ، إلا أنه لا يكاد يخرج عن التقييد بالكثرة » وإن كان فيه نظر أيضا ، وكان القول الأول الذي حكاه في المهذب هو الذي حكاه في جامع المقاصد ، حيث قال : « وأغرب بعض المتأخرين فحكم بإبطال مطلق الأكل حتى لو ابتلع ذوب سكرة ، وهو بعيد » وربما بتوهم أيضا من إطلاق بعضهم البطلان بالأكل والشرب ، لكن قد عرفت إجماع المنتهى وغيره الصريح في أن الصلاة ليست كالصوم تبطل بمطلق المسمى بل يمكن تحصيل الإجماع عليه في الجملة فضلا عن الإجماع المنقول كما هو واضح بأدنى التفات إلى سيرة أهل الشرع ، وعدم مبالغتهم في زوال ما يبقى في الفم عند الصلاة ، فلا ريب في وضوح الفرق بين الأكل المنافي للصوم والمنافي للصلاة ، وليس هذا قول منا بأن القليل من الأكل والشرب غير مبطل للصلاة ، فيكونان حينئذ كسائر الأفعال التي يبطل كثيرها دون قليلها ، بل المراد بيان أنه وإن قلنا بأن الأكل والشرب مطلقا مبطلان للصلاة لحصول اسم المحو أو لثبوت المنافاة في أذهان المتشرعة أو لإجماع الشيخ أو لغير ذلك فليس المراد أنه يقدح في الصلاة ما يقدح منه في الصوم إذ المدار ما عرفت ، وهو لا يقضي بذلك قطعا كما هو واضح.

٧٩

هذا كله في العمد ، أما السهو فالبحث فيه نحو ما سمعته في الفعل الكثير ، وقد صرح غير واحد هنا بأنهما لا يبطلان ، بل في المنتهى « لو أكل أو شرب في الفريضة ناسيا لم تبطل صلاته عندنا قولا واحدا » وعن كشف الرموز « الإجماع عليه » وفي فوائد الشرائع أطبقوا على ذلك ، لكن قال : « إنه ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يمح الاسم » كما في جامع المقاصد ، ويجري فيه ما عرفته هناك ، ويزيد بأنه مع تقييده بعدم المحو لا يبطل عمدا عنده وعند غيره ممن عرفت ، والله أعلم.

ثم لا فرق بعد حصول المحو أو المنافاة بين الأكل والشرب وغيرهما حتى العلك كما صرح به الفاضل في المحكي من نهايته قال : « لو مضغ علكا فكا لأكل ». بل في التنقيح « لو مضغ علكا متفتتا فابتلعه مع الريق أبطل اتفاقا لأنه فعل كثير » وإن كان لا يخلو من نظر.

وكيف كان فلا فرق في سائر ما تقدم من الموانع بين الفريضة والنافلة إلا في المقام ، فإنه على المختار ينبغي تخصيص ذلك في غير صلاة الوتر عند التشاغل في الدعاء فيه لمن أصابه عطش وهو يريد الصوم في صبيحة تلك الليلة وبينه وبين الماء خطوتان أو ثلاث ،لخبر سعيد الأعرج (١) المروي في التهذيب « قلت لأبي عبد الله : إني أبيت وأريد الصوم فأكون في الوتر فأعطش فأكره أن أقطع الدعاء وأشرب ، وأكره أن أصبح وأنا عطشان وأمامي قلة بيني وبينها خطوتان أو ثلاثة قال : تسعى إليها وتشرب منها حاجتك وتعود في الدعاء » وفي الفقيه (٢) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك إني أكون في الوتر وأكون قد نويت الصوم فأكون في الدعاء فأخاف الفجر فأكره أن أقطع على نفسي الدعاء وأشرب الماء وتكون القلة‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١ـ ٢

٨٠