جواهر الكلام - ج ١١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

نسبة الخلاف إلى المبسوط ، بل لا أجد فيه خلافا بين المتأخرين ، نعم عن المبسوط الوجوب ، لأنه ملك نفسه في ذلك اليوم ، ووافقه الجزائري في شافيته ، واستحسنه في موضع من المدارك ، قال الشهيد : ويلزمه مثله في المكاتب وخصوصا المطلق ، وهو بعيد لأن مثله في شغل شاغل ، إذ هو مدفوع في يوم نفسه إلى الجد في الكسب لنصفه الحر فإلزامه بالجمع حرج عليه ، قلت : مضى عن المبسوط وغيره السقوط بمثل التجهيز والمطر ، وقد لا يقصر عنهما ما ذكر ، فلا نلزمه بها ، وفي موضع آخر من المدارك بعد أن حكى عن المبسوط ما سمعت قال : وهو توجيه ضعيف ، والحق أنه إن ثبت اشتراط الحرية انتفى الوجوب على المبعض مطلقا ، وإن قلنا باستثناء العبد خاصة ممن تجب عليه الجمعة كما هو مقتضي الأخبار اتجه القول بوجوبها عليه مطلقا.

قلت : يمكن استفادة اشتراطها من معاقد بعض الإجماعات المعتضدة بالفتاوي وإن كان فيه ما عرفت ، كما أنه يمكن القول بالسقوط للاستصحاب وإن لم يثبت اشتراط الحرية ، والاستصحاب الخاص مقدم على العام بعد تسليم اندراجه فيه ، وأنه لم يرجع العام بالتخصيص إلى ما لا يندرج فيه ذلك كما لم يندرج في الخاص ، وعدم صدق اسم العبد عليه لا ينافي ثبوت الحكم عليه من حيث الاستصحاب بعد عدم الظهور من لفظه في اشتراط رقية الجملة في السقوط ، وليس ذا من تغير الموضوع ، بل هو أشبه شي‌ء بتغير الأحوال ، ولعله من هنا اتفق الأصحاب على الظاهر على السقوط في غير يومه ، بل عدا من عرفت عليه مطلقا ، إذ احتمال أنه من جهة بقائه تحت أمر السيد مع أنه مندفع في فرض المهاياة وفي فرض الاذن وفي غير ذلك يدفعه أنه لا يحتاج إلى الاذن مع اندراجه في العمومات ، بل لا أثر للنهي كغيرها من الواجبات العينية ، وعلى كل حال فالقول بالسقوط لا يخلو من قوة ، إلا أن الاحتياط مع إمكانه لا ينبغي تركه ، وقد ظهر لك من ذلك الحال في الانعقاد وعدمه على تقدير الوجوب وإن لم نقل بانعقادها بالعبد ،

٢٨١

لكن في الذكرى أن فيه الوجهين السابقين.

وكذا لا تجب على المكاتب والمدبر قطعا. لصدق اسم العبد والمملوك من غير فرق بين المشروط والمطلق الذي لم يؤد شيئا ، وإلا كان من المبعض ، والله أعلم.

المسألة الثانية من سقطت عنه الجمعة ولم يحضرها يجوز أن يصلي الظهر في أول وقتها ولا يجب عليه تأخيرها حتى تفوت الجمعة ، بل لا يستحب بل يستحب التقديم كغيره من الأيام بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، كما لا إشكال فيه ولو حضر الجمعة بعد ذلك لم تجب عليه لصدق الامتثال حتى لو صلح للخطاب بها ، كما لو أعتق العبد أو برئ المريض أو زال العرج ونحو ذلك ، لقاعدة الأجزاء التي لا وجه معتد به لدفعها باحتمال انكشاف كونه من أهل الجمعة وأن ذلك كان حكما ظاهريا ، نعم استثني من ذلك الصبي إذا صلى الظهر ثم بلغ في وقت الجمعة ، فإنها تجب عليه ، كما يجب عليه على ما في الذكرى إعادة الظهر في غير يوم الجمعة لو كان قد صلاها أولا ، لتعلق الخطاب به بعد البلوغ بناء على ذلك ، وقد تقدم البحث فيه في المواقيت ، فلاحظ وتأمل. وكذا الخنثى المشكل لو وضحت ذكوريته بعد ما صلى الظهر أعادها جمعة ، لأنه قد تبين أنها فرضه لا الظهر ، وقاعدة الاجزاء غير جارية فيه على ما هو التحقيق فيها.

المسألة الثالثة إذا زالت الشمس لم يجز السفر ونحوه قبل أدائها لتعين الجمعة عليه بلا خلاف أجده فيه إلا ما يحكى عن القطب الراوندي من الكراهة ، ولا ريب في ضعفه ، بل يمكن إرادة الحرمة منها كما يومي اليه عدم تعارف نقل خلافه ، بل حكى الإجماع عليه غير واحد ، بل يمكن تحصيله ، وهو الحجة بعد ظهور الآية (١) وما شابهها من النصوص (٢) في الأمر بترك سائر المنافيات لفعلها ، ضرورة عدم الخصوصية للسعي‌

__________________

(١) سورة الجمعة ـ الآية ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب صلاة الجمعة.

٢٨٢

والبيع ونحوهما في الترك ، وخصوصا مع ملاحظة مجموع الآية والاتفاق المزبور معها وما تسمعه ، فليس الحرمة حينئذ مبنية على مسألة الضد التي على القول بها تكون دليلا آخر بناء على إرادة مطلق المفوت من الضد لا خصوص المنافي عقلا ولو من الشرع كالصلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة إن قلنا بحرمة إبطالها في هذا الحال أيضا ، وحرمة السفر بأول وقتها وإن لم نقل بتضيقها فيه ، لأنه مانع من إقامتها في دوامه ، ففيه إسقاط للواجب بعد حصول سببه وفي الذكرى ولأن التضيق غير معلوم ، فان الناس تابعون للإمام ، ووقت فعله غير معلوم.

كما أن‌ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة (١) : « لا تسافر يوم جمعة حتى تشهد الصلاة إلا ناضلا في سبيل الله أو في أمر تعذر به » ‌و‌النبوي (٢) « من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة لا يصحب في سفره ولا يعان على حاجته » ‌و‌قول الصادق عليه‌السلام (٣) : « إذا أردت الشخوص في يوم عيد فانفجر الصبح وأنت في البلد فلا تخرج حتى تشهد ذلك العيد » ‌بناء على أولوية حرمة السفر بعد الزوال يوم الجمعة منها بعد الفجر في العيد ، وغيرها من النصوص التي سمعتها في الكراهة قبل الزوال دليل آخر ولو بالانجبار سندا ودلالة بما سمعت ، وإن كان مع ذلك لا يخلو من نظر إلا أنا في غنية عنه بما عرفت ، كما أن به يستغنى عن إثبات الحرمة بالنهي عن الضد كي يرد عليه منع الاقتضاء أولا ، وأنه يلزم من تحريمه عدمه ثانيا ، إذ لا مقتضي لتحريم السفر إلا استلزامه لفوات الجمعة كما هو المفروض ، ومتى حرم السفر لم تسقط الجمعة ، لأنه سفر معصية ، فلا يحرم السفر ، لانتفاء المقتضي ، فيؤدى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٦.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٢ مع الاختلاف في اللفظ.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب صلاة العيد ـ الحديث ١.

٢٨٣

وجوده إلى عدمه فيبطل ، وإن كان قد يدفع الأخير بأن هذا السفر وإن لم يكن مفوتا لخطاب الجمعة لكنه مفوت لفعلها كما هو مبنى الاستدلال على الظاهر فيحرم لذلك ، ومن هنا كان المتجه الجواز فيما إذا أمكنه فعلها في السفر ، كما لو سافر على جهة الجمعة أو عن جمعة إلى جمعة أخرى بين يديه يعلم إدراكها ، للأصل ، وعدم فوات الغرض ، إذ المكلف به صلاة الجمعة لا جمعة خاصة ، وظهور الأدلة في حرمة المفوت المندرج فيه السفر غالبا الذي ينصرف إليه إطلاق النبوي وغيره بناء على الاستدلال به ، نعم الظاهر عدم الرخصة في الترك لهذا السفر ، استصحابا للوجوب الحاكم على إطلاق الرخصة للمسافر ، بل ظاهر تلك النصوص سبق السفر على تعلق الجمعة لا العكس.

ومنه ينقدح عدم السقوط بتجدد سائر الأعذار من العرج ونحوه بعد تعلق الوجوب ، فدعوى أن تجويز السفر في الفرض مما يقتضي وجوده عدمه ـ لأنه على تقدير الجواز مقتض لحرمان الجمعة فيكون محرما ، وإذا حرم لا يكون مفوتا ، لأنه سفر معصية فيجوز حينئذ ، فيفوت فيحرم ـ واضحة الدفع حينئذ لما عرفت من وجوب الجمعة عليه عينا ، وأنه غير مندرج في أدلة الوضع عن المسافر ، قال بعض المحققين : وإلا لكان السفر جائزا له ، وكانت الجمعة موضوعة عنه ، ولا إثم عليه في شي‌ء منهما ، وهو مخالف للإجماع ، وفيه أنه يمكن القول بالحرمة عليه لا طلاق النهي ونحوه وإن كان لو أثم فسافر يندرج في الوضع كمن أراق الماء ، وليس ذا من سفر المعصية الذي يثبت معه وجوب الجمعة ، بل المراد به المحرم من غير جهة الجمعة ، نحو ما لو نذر أن لا يفعل ما ينافي الصوم فأراد السفر ، بل لو قلنا بوجوب الجمعة والصوم وأن سفر المعصية شامل لهما أمكن أن يقال إن المراد أنه لو لم يكن التحريم لزم الفوات ، فثبوت الجمعة من حيث التحريم بسبب الفوات لا ينافي تعليل عدم الجواز بأن جوازه يستلزم فوات الجمعة ، إذ هو ثابت على تقدير الحرمة أيضا كما في كل علة ومعلول ، ومن هنا حكي عن بعض المحققين تقرير‌

٢٨٤

الدعوى المزبورة بأنه يلزم تحريم السفر من فرض جوازه ، وعدم إمكان الصلاة من فرض إمكانها.

ومن ذلك كله يظهر لك ما في كشف اللثام من الجواب عن الدعوى المزبورة بالنقض ، وأن الحرمة على تقديرها أيضا مما يستلزم وجودها عدمها ، إذ لو حرم لم يمنع فلا يكون محرما ، لأن المحرم المفوت ، وفيه ما عرفت إلا أنا في غنية عن ذلك كله بما سمعت ، نعم قد يمنع اقتضاء الجواز الحرمان ، إذ أقصاه جواز الترك لا حرمة الفعل ، فمع فرض الصلاة جمعة في الطريق لم يكن عليه إثم بوجه من الوجوه ، لعدم الدليل على حرمة ما يقتضي نقل الوجوب من العيني إلى التخييري مع عدم اختيار الترك بعد الانتقال ، ونية الوجوب على جهة التعيين لم يثبت وجوبها ، نعم لو اختار الترك أثم بعدم امتثال التكليف حال الحضور ولو بالفعل حال السفر الذي كان يقوم مقامه ويجزي عنه والحاصل أن جواز الترك من حيث السفر لا ينافي الوجوب من حيث العارض ، وهو امتثال التكليف الأول ، ومثله لا يعد تقييدا لأدلة الوضع في حال السفر ، فتأمل جيدا فإنه ربما دق. وكيف كان فالأقوى جواز السفر المزبور ووجوب الجمعة خلافا لثاني الشهيدين وسبطه وبعض من تأخر عنهما.

ثم الظاهر أن اعتبار الزوال في المتن وغيره في الحرمة إنما هو بالنسبة إلى من يجب عليه السعي قبله كالحاضر في محلها ، أما من كان بعيدا عنها بفرسخين فما دون بحيث لا يمكنه الوصول إليها إلا قبل الزوال فإنه يجب عليه السعي مثله إليها قطعا ، وحينئذ فالظاهر حرمة السفر وغيره مما يمنع فعلها عليه أيضا قبله ، إلا أن الظاهر اختصاص ذلك في وقت الضيق ، لعدم الوجوب قبله ، فلا بأس بالسفر وغيره فيه ، لكن في المدارك « أنه لو قيل باختصاص تحريم السفر بما بعد الزوال وأن وجوب السعي إلى الجمعة قبله للبعيد إنما يثبت مع عدم إنشاء المكلف سفرا مسقطا للوجوب لم يكن بعيدا من الصواب » ‌

٢٨٥

وفيه أن ما دل على وجوب السعي عام ومقدم على إنشاء السفر ، فيستصحب حتى يثبت خلافه ، وهو السقوط ، ولم يعلم ، إذ على تقدير تسليم عموم يشمل الفرد النادر يمكن أن يقال إن الخاص مقدم عليه ، كما أن تعليق الأمر بالسعي على النداء في الآية لا يراد منه نفي الوجوب عن محل الفرض قطعا.

ومن ذلك كله يظهر لك ما في الذكرى قال : « لو كان بين يدي المسافر جمعة أخرى يعلم إدراكها ففي جواز السفر بعد الزوال وانتفاء كراهته قبله نظر ، من إطلاق النهي وأنه مخاطب بهذه الجمعة ، ومن حصول الغرض ، ويحتمل أن يقال إن كانت الجمعة في محل الترخص لم يجز ، لأن فيه إسقاطا لوجوب الجمعة ، وحضورها فيما بعد تجديد للوجوب ، إلا أن يقال يتعين عليه الحضور وإن كان مسافرا ، لأن إباحة سفره مشروطة بفعل الجمعة ، ومثله لو كان بعيدا بفرسخين فما دون عن الجمعة فخرج مسافرا في صوب الجمعة فإنه يمكن أن يقال يجب عليه الحضور عينا وإن صار في محل الترخص ، لأنه لولاه لحرم عليه السفر ، ويلزم من هذين تخصيص قاعدة عدم الوجوب العيني على المسافر ، ويحتمل عدم كون هذا القدر محسوبا من المسافة ، لوجوب قطعه على كل تقدير إما عينا كما في هذه الصورة ، أو تخييرا كما في الصورة الأولى ، ويجري مجرى الملك في أثناء المسافة ، ويلزم من هذا خروج قطعة من السفر عن اسمه بغير موجب مشهور ، وإن كانت قبل محل الترخص كموضع يرى الجدار أو يسمع الأذان إن أمكن هذا الفرض جاز » قلت : إمكانه واضح فيما إذا كان السفر على جهة الجمعة ، ولا ينبغي الشك في الجواز في مثله ، لعدم صدق السفر ولو شرعا قبل قطعه ، نعم يصعب فرضه فيما إذا كان السفر من جمعة إلى أخرى.

وعلى كل حال فلا ريب في الجواز ، أما إذا كانت خارجة عنه فالبحث السابق آت في المقام ، إذ لا فرق بين كون السفر إلى جهة جمعة أو من جمعة إلى أخرى ، إذ‌

٢٨٦

المراد إمكان تحصيل الجمعة في سفره كما هو واضح ، وقد عرفت إمكان كونه ليس من التخصيص على تقدير الوجوب ، أو أنه لا بأس به ، وأما احتمال عدم عده من المسافة فلا ريب في ضعفه ، ضرورة أن الوجوب عليه لا ينافي ذلك وإن تكلف له الأستاذ الأكبر في شرحه ، هذا كله في غير الواجب المضيق من السفر والمضطر اليه على وجه تسقط له الجمعة كما أومأ اليه خبر النهج (١) أما المندوب فكالمباح.

نعم قد يقال بزوال الكراهة عنه التي أشار إليها المصنف بقوله ويكره بعد طلوع الفجر ونحوه غيره ، بل لا خلاف أجده فيه ، بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا وأكثر أهل العلم ، بل عن الخلاف والغنية وغيرهما الإجماع عليه ، و‌قال الهادي عليه‌السلام (٢) في خبر السري : « يكره السفر والسعي في الحوائج يوم الجمعة بكرة من أجل الصلاة ، فأما بعد الصلاة فجائز يتبرك به » ‌و‌عن الرضا عليه‌السلام في المحكي عن الكفعمي (٣) « ما يؤمن من يسافر يوم الجمعة قبل الصلاة أن لا يحفظه الله ولا يخلفه في أهله ولا يرزقه من فضله » ‌و‌النبوي (٤) المروي عن رسالة ثاني الشهيدين « من سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكان أن لا يصاحب في سفره ولا يقضى له حاجته » ‌قال : « وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب يوم الجمعة يودعه فقال : لا تعجل حتى تصلي فقال : يفوتني أصحابي ثم عجل فكان سعيد يسأل عنه حتى قدم قوم فأخبروه أن رجله انكسرت ، فقال سعيد : إني كنت لأظن أنه يصيبه ذلك » وروي « أن جبارا كان يخرج في يوم الجمعة لا يمنعه مكان الجمعة من الخروج فخسف به وببغلته ، فخرج الناس وقد دحيت بغلته فلم يبق منها إلا أذناها وذنبها » وروي « أن قوما خرجوا في‌

__________________

(١) و (٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٦ ـ ١ ـ ٥

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٢.

٢٨٧

سفر حتى حضرت الجمعة فاضطرم عليهم خباؤهم نارا من غير نار يرونها » فلا بأس حينئذ بإرادة الأعم منها ومن الحرمة من إطلاق المنع في بعض الأخبار السابقة ، فما عن بعض العامة من التحريم ضعيف وإن احتمله في المفاتيح ، أما قبل الفجر فلا ريب في عدم الكراهة للأصل ، بل في التذكرة الإجماع عليه ، والله أعلم.

المسألة الرابعة الإصغاء إلى الخطبة هل هو واجب؟ فيه تردد كما عن التحرير والإيضاح وظاهر غاية المراد والخراساني والكاشاني والماحوزي ينشأ من انتفاء فائدة الخطبة بدونه خصوصا الوعظ منها الذي لا قائل بالفصل بينه وبين غيره ، ولو سلم فيجب مقدمة بناء على عدم الترتيب في أجزاء الخطبة ، والأمر بالإنصات للقرآن ، ولا قائل بالفصل ، بل عن الفاضل ذكروا في التفسير أن الآية وردت في الخطبة وسميت قرآنا لاشتمالها عليه ، و‌قوله عليه‌السلام : « يخطب بهم » ‌بل و‌قوله عليه‌السلام : « فهي صلاة » ‌قال في كشف اللثام لدلالتهما على أن الحاضرين كالمقتدين في الصلاة ، فيجب عليهم الاستماع للآية ، و‌قول أمير المؤمنين عليه‌السلام المروي (١) في الدعائم : « يستقبل الناس الامام عند الخطبة بوجوهم ، ويصغون اليه » ‌وفحوى النصوص الآتية الآمرة بالصمت حال الخطبة والناهية عن الكلام ، وكونه مقدمة للسماع الذي يمكن دعوى عدم الشك في وجوبه ، خصوصا مع احتمال توقف صدق اسم الخطبة التي لم يضمحل إرادة معنى التخاطب منها عليه ، واستبعاد وجوب الاسماع دون الاستماع.ومن الأصل و‌قول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن مسلم (٢) : « إذا خطب الامام يوم الجمعة فلا ينبغي لأحد أن يتكلم حتى يفرغ من الخطبة » ‌بناء على‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ١.

٢٨٨

استلزام كراهة الكلام المستفادة من لفظ « لا ينبغي » حتى ادعى الشهيد أنه نص فيها لعدم وجوب الإصغاء ، لعدم حصوله معه غالبا ، أو لعدم (١) اعتبار عدم الكلام في مفهومه ، والإطلاقات ، ضرورة عدم مدخلية الإصغاء في صدق الخطبة حتى الوعظ منها إذ هو أمر زائد على السماع الذي يمكن حصوله بدونه ، كما أنه من الواضح عدم انحصار فائدة الخطبة في الإصغاء ، خصوصا غير الوعظ. قيل : ولذا لا تسقط الجمعة ولا الخطبة لو كانوا كلهم صما ، قلت : فضلا عن غير المصغين الذين يمكن سماعهم سماعا يفهمون به وإن لم يكونوا مصغين ، ونمنع وجوب الإنصات في حال الخطبة بالسيرة التي هي فوق الإجماع ، وعن تفسير ابن عباس « أنها في الصلاة المكتوبة » و‌في تفسير علي ابن إبراهيم « أنها في صلاة الإمام الذي يؤتم به » ‌والتبيان « أن فيها أقوالا : الأول أنها في صلاة الإمام ، فعلى المقتدين به الإنصات ، والثاني أنها في الصلاة ، فإنهم كانوا يتكلمون فيها فنسخ ، والثالث أنها في خطبة الامام ، والرابع أنها في الصلاة والخطبة ـ قال ـ : وأقوى الأقوال الأول ، لأنه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلا حال قراءة الإمام في الصلاة ، فان على المأموم الإنصات لذلك والاستماع له ، فأما خارج الصلاة فلا خلاف أنه لا يجب الإنصات والاستماع ، وعن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) أنه في حال الصلاة وغيرها ، وذلك على وجه الاستحباب » قيل : ونحوه أي في نفي الخلاف فقه القرآن للراوندي.

قلت : بل الظاهر عدم وجوبه في الصلاة أيضا ، للسيرة وإطلاق الأدلة والخطبة بهم ، وكونهما صلاة أعم من الإصغاء قطعا ، بل قد يقضي الثاني منهما بعدم وجوب الإصغاء كالصلاة ، على أن مقتضاه كغيره عدم الفرق في ذلك بين الواجب منها والمندوب‌

__________________

(١) الظاهر أن لفظة « لعدم » زائدة بل مخلة بالمقصود.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٢.

٢٨٩

وبين العدد المعتبر وغيرهم ، بل ظاهره البطلان بدونه ، لأنه الأصل في كل ما أمر به في العبادة المركبة ، مع أنك ستعرف الحال في جميع ذلك ، مضافا إلى ما سمعته سابقا في بيان المراد من كونهما صلاة ، وخبر الدعائم لا جابر له ، ومحتمل للندب ، والأمر بالصمت والنهي عن الكلام أعم من الإصغاء قطعا ، ودعوى التلازم بينهما حتى أن كل من قال بالحرمة قال بالوجوب ومن قال بالندب قال بالكراهة في حين المنع.

فبان لك من ذلك كله وجها التردد ومنشأ القولين ، إذ الأول خيرة الأكثر على ما قيل ، بل في الذكرى أنه المشهور ، واختاره بنو حمزة وإدريس وسعيد والراوندي في موضع من فقه القرآن ، والكيدري في ظاهر الإصباح ، والفاضل في جملة من كتبه كأول الشهيدين ، وابن فهد والمقداد والكركي والميسي والأستاذ الأكبر في الشرح على ما نقل عن بعضهم ، وفي المنظومة أنه الحزم ، بل حكي عن البزنطي والمفيد والمرتضى وإن كنا لم نتحققه ، والثاني خيرة المبسوط والتبيان وموضع من فقه القرآن والنافع والمعتبر والمنتهى والتبصرة ومجمع البرهان وظاهر الغنية وكشف الالتباس والذخيرة على ما حكي عن بعضها ، ولا ريب أن الأول أحوط إن لم يكن أقوى ، خصوصا في الوعظ إلا أن الظاهر كون وجوبه مقدمة للسماع لا تعبدا لنفسه ، فلو فرض حصوله له بلا إصغاء لم يكن عليه إثم.

كما أن الظاهر وجوب ذلك للواجب من الخطبة خاصة للأصل ، وعدم زيادة السماع على القول وإن كان لا مانع منه ، إلا أنه لا مقتضي له إلا ظواهر من النصوص والفتاوى لا وثوق بإرادة الوجوب منها ، ولا جابر لها بالنسبة إلى ذلك سندا ودلالة ، فما في مصابيح الظلام ـ من أن الظاهر وجوب الإصغاء وحرمة الكلام من أول الخطبة إلى آخرها لا في أقل الواجب من الخطبة خاصة كما هو ظاهر الروايات ـ لا يخلو من نظر وإن قيل : إنه مع ذلك ظاهر الأصحاب ، وبه صرح في المبسوط فقال : وموضع‌

٢٩٠

الإنصات من وقت أخذ الإمام في الخطبة إلى أن يفرغ من الصلاة ، إذ يمكن منع ظهور كلام الأصحاب في ذلك ، خصوصا مع قولهم بعدم وجوب إسماع غير الواجب من الخطبة ، والشيخ في المبسوط ممن يقول بندب الإصغاء ، ولا بأس به حينئذ ، وكذا الظاهر اختصاص الوجوب بالقريب السامع ، أما البعيد والأصم فإن شاء اسكتا ، وإن شاء اقرءا ، وإن شاءا ذكرا ، نعم عن المنتهى « هل الإنصات يعني إنصات البعيد أفضل أم الذكر؟ فيه نظر » بل عن نهاية الأحكام احتمال وجوب الأنصاب عليهما ، لئلا يرتفع اللفظ فيمنع غيرهما السماع ، لكنه كما ترى بعد تسليم وجوب ذلك عليهما لذلك خروج عن محل النزاع ، فلا ريب في عدم الوجوب المبحوث فيه عليهما ، بل في التذكرة « أن الأقرب وجوب الإصغاء على العدد خاصة ـ ثم قال ـ : والأقرب حرمة الكلام إن لم يسمع العدد ، وإلا فالكراهية » لكن قال أيضا : « التحريم إن قلنا به على السامعين يتعلق بالعدد ، وأما الزائد فلا ، وللشافعي قولان ، والأقرب عموم التحريم إن قلنا به ، إذ لو حضر فوق العدد بصفة الكمال لم يمكن القول بانعقادها بعدد معين منهم حتى يحرم الكلام عليهم خاصة » نحو ما عن المختلف وإرشاد الجعفرية ومصابيح الظلام « لا تخصيص لأحد بكونه من الخمسة دون غيره » إلا أنه ناقشه في كشف اللثام بأنه لا ينفي كفائية الوجوب ، وهو كذلك لو كان ظاهر الأدلة الوجوب على العدد خاصة ، وفي جامع المقاصد « فان قيل وجوب الإصغاء وتحريم الكلام إما بالنسبة إلى جميع المصلين فلا وجه له ، لأن استماع الخطبة يكفي فيه العدد ، ولهذا لو انفردوا أجزأوا أو البعض وهو باطل ، إذ لا ترجيح ، قلنا الوجوب على الجميع لعدم الأولوية ، ويكفي العدد في الصحة ، فلا محذور » وظاهره اختصاص الشرطي خاصة بالعدد ، وتبعه عليه ثاني الشهيدين في المحكي عن روضة ومسالكه ، وفيه أولا أن الإجماع في التحرير والمحكي عن النهاية على عدم البطلان بالكلام ، بل ظاهر الأول أن الإصغاء كذلك‌

٢٩١

أيضا ، قال : قيل : الإصغاء واجب والكلام حرام ، وعندي فيه إشكال لكن لا تبطل الجمعة معه إجماعا ، وثانيا أنه ليس في الأدلة ما يشهد للتفصيل المزبور ، ومجرد إمكانه لا يصلح مدركا للقول به ، فالمتجه حينئذ التعميم ، ولكنه غير مبطل للإجماع المزبور وغيره ، هذا.

والمراد بالإصغاء التوجه لاستماع الكلام ، قال في الصحاح : « أصغيت إلى فلان إذا ملت بسمعك نحوه » قيل : وبه فسره المحقق الثاني وجماعة ، وعن القاموس « الإصغاء الاستماع مع ترك الكلام » وبه فسره الفاضل في نهايته والشهيد الثاني وغيره فهو حينئذ أخص من الاستماع ، وعلى الأول مرادف له ، وعن الطبرسي « الإنصات السكوت » وعن ابن الأعرابي « أنصت ونصت وانتصت استمع الحديث وسكت » وعن الغريبين « الإنصات سكوت المستمع » وفي المحكي عن كنز العرفان « استدل أصحابنا والحنفية على سقوط القراءة عن المأموم بقوله جل شأنه (١) ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) فإن الإنصات لا يتم إلا بالسكوت ـ وقال قبل ذلك ـ : إن استمع بمعنى سمع ، والإنصات توطين النفس على السماع مع السكوت » وظاهره الفرق بين الاستماع والإنصات ، والظاهر أنهما بمعنى ، وليس ترك الكلام داخلا في حقيقة أحدهما كالاصغاء.

نعم لا تحصل غالبا إلا بترك الكلام المشغل للبال المنافي للتوجه ، وربما يومي اليه ذكر المصنف التردد في الكلام بعد الإصغاء ، فقال وكذا التردد في تحريم الكلام في أثنائها أي الخطبة لكن ليس بمبطل للجمعة إجماعا في التحرير وجامع المقاصد والمحكي عن النهاية ، بل في الأخير « أن الخلاف في الإثم وعدمه » قلت : المشهور كما في الذكرى وكشف الالتباس « حرمة الكلام على السامع » بل عن الخلاف « الإجماع على تحريمه على المستمعين » وعن الكافي « على المؤتمين » وفي الوسيلة « تحريمه على‌

__________________

(١) سورة الأعراف ـ الآية ٢٠٣.

٢٩٢

الخطيب ومن حضر » كالمحكي عن موضع من فقه القرآن ، بل ربما حكي عن المفيد أيضا وظاهر الذكرى بل صريحها تحريمه على الخطيب والمستمعين ، قيل : وذلك صريح المقتصر والمهذب ، وعن الميسية على الخطيب وغيره ، وثاني المحققين والشهيدين على المؤتمين والخطيب ، بل في الروضة « يحرم الكلام مطلقا سواء سمعوا الخطبة أولا » وعن الإصباح « ليس لأحد أن يتكلم » وجامع الشرائع « يحرم عندها » والدروس « في أثنائها ».

وكيف كان فيدل على التحريم ـ مضافا إلى ما سمعته في وجوب الإصغاء بناء على تلازمهما وأن من قال بالوجوب هناك قال بالتحريم هنا ، ومن قال بالاستحباب فيه قال بالكراهة هنا كما ادعاه في الرياض ، بل قد عرفت ما يقضي باعتبار عدم الكلام في مفهوم الإصغاء ، وإلى ما دل (١) على أن الخطبة صلاة ، خصوصا‌ المرسل (٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « لا كلام والامام يخطب ، ولا التفات إلا كما يحل في الصلاة » ‌إلى آخرهما عن جامع البزنطي صاحب الرضا عليه‌السلام المعلوم أن كلامه منه ومن آبائه عليه‌السلام « إذا قام الامام يخطب فقد وجب على الناس الصمت » ‌و‌المرسل (٣) « إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة فقد لغوت » ‌و‌الآخر (٤) « من تكلم يوم الجمعة والامام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا » ‌و‌الآخر (٥) « إن أبا الدرداء سأل أبيا عن سورة تبارك متى أنزلت والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب فلم يجبه ، ثم قال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٤.

(٢) الفقيه ج ١ ص ٢٦٩ ـ الرقم ١٢٢٨ من طبعة النجف.

(٣) صحيح مسلم ج ٣ ص ٤.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٦.

(٥) سنن البيهقي ج ٣ ص ٢٢٠ وفيها « سورة البراءة » بدل « سورة تبارك ».

٢٩٣

له : ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : صدق أبي » ‌ومفهوم‌ صحيح ابن مسلم (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « لا بأس أن يتكلم الرجل إذا فرغ الامام من الخطبة يوم الجمعة ما بينه وبين أن تقام الصلاة » ‌وفحوى‌ صحيحه الآخر (٢) « سألته عن الجمعة فقال : أذان وإقامة يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب ولا يصلي الناس ما دام الامام على المنبر » ‌و‌ما رواه الصدوق (٣) في مناهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنه نهى عن الكلام يوم الجمعة والامام يخطب فمن فعل ذلك فقد لغى ، ومن لغى فلا جمعة له » ‌والمروي عن‌ قرب الاسناد عن أبي البختري (٤) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « أن عليا عليه‌السلام كان يكره رد السلام والامام يخطب » ‌وعن‌ علي عليه‌السلام (٥) « يكره الكلام يوم الجمعة والامام يخطب ، وفي الفطر والأضحى والاستسقاء » ‌بناء على إرادة الحرمة من الكراهة ،و‌في الدعائم (٦) عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام « إذا قام الامام يخطب فقد وجب على الناس الصمت »وعن‌ علي عليه‌السلام (٧) « لا كلام والامام يخطب ولا التفات إلا بما يحل في الصلاة» ‌وعن‌ جعفر بن محمد عليهما‌السلام (٨) « لا كلام حتى يفرغ الامام من الخطبة ، فإذا فرغ منها فتكلم ما بينك وبين افتتاح الصلاة إن شئت ».إلى غير ذلك من النصوص إلا أنها جميعها ظاهرة أو صريحة في السامعين حتى نصوص الحكم بأنها صلاة بقرينة قوله عليه‌السلام فيها : « حتى ينزل الامام » فالقول بحرمة الكلام عليه حينئذ كما ترى ، خصوصا بعد ما‌ روي « أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل قتلة‌

__________________

(١) و (٣) و (٤) و (٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٣ ـ ٤ ـ ٦ ـ ٥ـ

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٣.

(٦) و (٧) و (٨ ) المستدرك ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٢ ـ ٣ ـ ٤

٢٩٤

ابن أبي الحقيق وهو يخطب (١) » ‌و « ان رجلا سأله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاطبا يوم الجمعة متى الساعة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أعددت لها؟ فقال : حب الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :إنك مع من أحببت (٢) » ‌ولعله لذا صرح جماعة كما هو ظاهر قصر الحرمة على غيره من آخرين بعدم الحرمة عليه إلا إذا فاتت به هيئة الخطبة ، بل عن كشف الالتباس أنه المشهور ، بل قد يظهر منهما جواز الكلام لغيره كإقراره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم إنكاره على رجل استسقاه في جمعة وهو يخطب وسأله الرفع في جمعة أخرى وهو يخطب (٣) ولفظ « لا ينبغي » في الصحيح المزبور كلفظ الكراهة ، بل لا يخفى على سالم حاسة الشم أنه تفوح روائح الكراهة من الأخبار المزبورة ، بل كراهة رد السلام الذي هو واجب في الصلاة لا بد من حملها على عدم الرد الواجب أو غير ذلك ، على أن الإجماع في المحكي عن التذكرة على جواز تحذير الأعمى من الوقوع في بئر أو نهي شخص عن منكر ، بل فيه والمحكي عن النهاية وغاية المراد أن محل الخلاف في كلام لا يتعلق به غرض مهم ، بل عدم الفرق في النصوص بين الواجب من أجزاء الخطبة والمندوب وبين الكلام المفوت لاستماع المقصود وغيره ونحو ذلك أوضح شي‌ء على ما ذكرنا ، كما أن النهي في المرسل وغيره عن الالتفات الذي لم أعرف أحدا ذكره شاهد آخر.

نعم عن المرتضى رحمه‌الله في المصباح أنه حرم من الأفعال فيها ما لا يجوز مثله في الصلاة ، وحكي عن الإشارة موافقته على ذلك ، لكن ظاهر الأصحاب خلافه ، بل كاد يكون صريح اقتصارهم على ترك الكلام ونحوه ، وهو مضعف آخر للحكم بأنها صلاة ، والتزام التقييد كما ترى ، بل قد يضعف ما عن البزنطي والدعائم من وجوب‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٣ ص ٢٢٢.

(٢) ذكر صدره في سنن البيهقي ج ٣ ص ٢٢١ وتمامه في صحيح البخاري ج ٨ ص ٤٩ وصحيح مسلم ج ٨ ص ٤٢ ولكن لم يذكر فيهما أنه سأله (ص) في حال الخطبة.

(٣) صحيح البخاري ج ٢ ص ١٢.

٢٩٥

الصمت باستلزامه زيادة الخطبة على الصلاة ، ضرورة جواز الذكر والقرآن ونحوهما فيها بخلافها فيجب فيها الصمت ، بل التزام حرمة ذلك وإن لم يكن مفوتا للاستماع أو لاستماع المقصود من الخطبة من الغرائب ، على أنه ليس في شي‌ء من النصوص الفرق بين العدد والسامعين والحاضرين نحو ما سمعته في الإصغاء ، بل قد ظهر من بعضها البطلان بذلك ، وقد عرفت أنه خلاف الإجماع ، وفي التذكرة « الأقرب الأول أي الحرمة إن لم يسمع العدد ، وإلا الثاني ـ ثم قال ـ : التحريم إن قلنا به ، على السامعين يتعلق بالعدد ، أما الزائد فلا ، وللشافعي قولان ، والأقرب التحريم وإن قلنا به ، إذ لو حضر فوق العدد بصفة الكمال لم يمكن القول بانعقادها بمعين منهم حتى يحرم عليهم خاصة » وعن النهاية « يجوز المداخل في أثناء الخطبة أن يتكلم ما لم يأخذ لنفسه مكانا » وعنها أيضا « هل يحرم الكلام على من عدا العدد؟ إشكال » إلى غير ذلك مما لا يخفى ، ومن هنا تردد في الحرمة جماعة ، بل خيرة المبسوط والمعتبر والتبيان وموضع من الخلاف وفقه القرآن والمنتهى وظاهر الغنية على ما قيل عدمها ، بل ربما كان ظاهر الأخير الإجماع عليه ، كما أن في الخلاف « لا خلاف في أنه مكروه » وكيف كان فالأقوى دوران الحرمة فيه على تقويت ما يجب سماعه من الخطبة ، هذا كله في أثناء الخطبة ، أما حال الجلوس بين الخطبتين فالأقوى عدم الحرمة أيضا كما تقدم سابقا ، والله أعلم.

المسألة الخامسة يعتبر في إمام الجمعة كمال العقل والايمان والعدالة وطهارة المولد والذكورة كما تسمع الكلام فيه مفصلا في الجماعة ، إذ الظاهر عدم الفرق بين الجمعة وغيرها في ذلك ، نعم ستعرف جواز إمامة النساء بعضهن لبعض لا للرجال ولا للمختلطين إلا أنك قد عرفت فيما سبق عدم انعقاد الجمعة ، بهن ، فلا يجوز إمامتهن فيها حينئذ بحال كما هو واضح ويجوز أن يكون عبدا بناء على انعقادها به ، لجواز‌

٢٩٦

إمامته فيها حينئذ وفي غيرها كما تعرف ذلك مفصلا في بحث الجماعة ، بل وتعرف ما ذكره المصنف هنا في قوله وهل يجوز أن يكون أبرص أو أجذم؟ فيه تردد وأن الأشبه الجواز فيها وفي غيرها ، نعم قال وكذا الأعمى أي في التردد في إمامته وأن الأشبه الجواز ولم يذكره في الجماعة ، وعلى كل حال فلا ريب أن الأشبه ما ذكره فيها فضلا عن غيرها من الفرائض ، وفاقا للمبسوط والتحرير والمنتهى والذكرى والدروس وجامع المقاصد وفوائد الشرائع والروض وغيرها على ما حكي عن بعضها ، بل عن المنتهى نسبته إلى أكثر أهل العلم ، وغاية المرام والذخيرة أنه المشهور ، وعن جماعة المنتهى لا بأس بإمامة الأعمى إذا كان من ورائه من يسدده ويوجهه إلى القبلة ، وهو مذهب أهل العلم لا نعرف فيه خلافا إلا ما نقل عن أنس أنه قال ما حاجتهم اليه وفي جماعة المعتبر نسبته إلى علمائنا ، والدروس أنه المعروف من المذهب ، والتذكرة « يجوز أن يكون الأعمى إماما لمثله وللبصراء بلا خلاف بين العلماء » ولكن في بحث إمام الجمعة منها « اشترط أكثر علمائنا كون الامام سليما من الجذام والبرص والعمى ، لقول الصادق عليه‌السلام (١) : « خمسة لا يؤمن الناس على كل حال : المجذوم والأبرص والمجنون وولد الزنا والأعرابي » ‌والأعمى لا يتمكن من الاحتراز عن النجاسات غالبا ، ولأنه ناقص فلا يصلح لهذا المنصب الجليل ، وقال بعض أصحابنا المتأخرين : يجوز ، واختلفت الشافعية في أن البصير أولى أو يتساويان » وعن نهاية الأحكام « أنه اشترط في إمام الجمعة السلامة من العمى لتعذر احترازه عن النجاسات غالبا » وقال في إمام الجماعة : « في كراهة إمامة الأعمى إشكال أقربه المنع ، لقول الصادق عليه‌السلام (٢) : « لا بأس بأن يصلي الأعمى بالقوم وإن كانوا هم الذين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١.

٢٩٧

يوجهونه » ‌و‌قول علي عليه‌السلام (١) : « لا يؤم الأعمى في الصحراء إلا أن يوجه إلى القبلة » ‌ولأنه فاقد حاسة لا يختل بها شي‌ء من شرائط الصلاة فأشبه الأصم ، نعم البصير أولى لتوقيه من النجاسات » وفي التذكرة « هل البصير أولى؟ يحتمل ذلك ، لأنه يتوقى النجاسات ، والأعمى لا يتمكن من ذلك ، ويحتمل العكس لأنه أخشع في صلاته من البصير ، لأنه لا يشغله بصره عن الصلاة ، وكلاهما للشافعية ، ونص الشافعي على التساوي ، وهو أولى ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم الأعمى كما قدم البصير » واستدل فيها وفي المحكي عن المنتهى على جواز إمامته مع ما ذكره في النهاية بأنه استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وكان أعمى (٢) ‌قال : قال السبعي : غزا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث عشر غزوة كل ذلك يقدم ابن أم مكتوم يصلي بالناس ،و‌بعموم « يؤمكم أقرؤكم » (٣).

وقد ظهر من ذلك كله دليل الجواز ، مضافا إلى ما‌ في الحسن (٤) أن زرارة سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن الصلاة خلف الأعمى فقال : « نعم إذا كان له من يسدده وكان أفضلهم » ‌و‌المرسل (٥) في الفقيه عن الصادقين عليهما‌السلام « لا بأس أن يؤم الأعمى إذا رضوا به وكان أكثرهم قراءة وأفقههم » ‌و‌حسن الحلبي (٦) عن الصادق عليه‌السلام « في الأعمى يؤم القوم وهو على غير القبلة قال : يعيد ولا يعيدون فإنهم قد تجروا » وقد ائتم ابن مسلم بأبي بصير (٧) و‌قول علي عليه‌السلام في خبر الشعبي (٨) : « لا يؤم الأعمى في البرية » ‌مطلق يقيده ما سمعت.

ثم إن الجميع كما ترى لا فرق فيها بين الجمعة والجماعة ، فما عن الخلاف ونهاية‌

__________________

(١) و (٤) و (٥) و (٦) و (٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب صلاة الجماعة الحديث ٧ ـ ٥ ـ ٣ ـ ٦ ـ ٢

(٢) و (٣) سنن البيهقي ج ٣ ص ٨٨ ـ ٢٥

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

٢٩٨

الأحكام والموجز ـ من اشتراط السلامة من العمى هنا ، وعن ظاهر غاية المرام نسبته إلى النهاية وابن إدريس ، بل قد سمعت نسبته في التذكرة كالمحكي عن التلخيص إلى الأكثر ، بل نسب الجواز في الأول إلى بعض المتأخرين ـ في غاية الضعف ، بل في كشف اللثام والمحكي عن غاية المراد أني لم أجده في الخلاف ، وفي مفتاح الكرامة « أني قد تتبعت الخلاف في الجمعة والجماعة والقضاء والشهادات ونحو ذلك مما يحتمل فيه ذكر ذلك ولو بالعرض فلم أجد ذلك » بل عن الروض « أن القائل بعدم الجواز غير معلوم فضلا عن الأكثرية » قيل ونحوه ما في الذكري ومجمع البرهان ، ومع ذلك كله فليس في الأدلة ما يصلح معارضا للإطلاقات فضلا عما سمعت ، إذ خبر السكوني (١) ظاهر في الجواز من غير فرق بين الجمعة وغيرها ، وإن كان هو مقتضى الجمع بين عبارتي التذكرة والنهاية ، وعدم وجوب الحضور عليه لا ينافي صحة الانعقاد به وكونه إماما فيها لو حضر ، وعدم التحرز عن النجاسات وكونه ناقصا عن هذا المنصب الجليل لا يصلح مثله لا ثبات حكم شرعي.

نعم قد يقال بالكراهة كما عن النفلية والفوائد الملية ، بل ربما حكي عن المبسوط وإن كان لم نتحققه ، مع أن ظاهر المحكي عن جماعة نهاية الأحكام منع الكراهة التي قد عرفت التسامح فيها ، قال : « إن في كراهة إمامته إشكال أقربه المنع ـ إلى أن قال ـ :

نعم البصير أولى » وقد سمعت ما في التذكرة من أولوية العكس في أحد وجهي الشافعية وبالجملة لا ينبغي التأمل في الجواز ، والله أعلم.

المسألة السادسة قد عرفت فيما تقدم أن المسافر إذا نوى الإقامة في بلد عشرة أيام فصاعدا وجبت عليه الجمعة لأنه بحكم الحاضر حينئذ وكذا إذا لم ينو الإقامة ومضى عليه ثلاثون يوما في مصر واحد بناء على أنه من القواطع للسفر لا أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٧.

٢٩٩

الحكم فيه التمام وإن كان مسافرا كالمكاري ونحوه كما تعرفه إن شاء الله في محله، والله أعلم.

المسألة السابعة الأذان الثالث المسمى بالثاني يوم الجمعة في جملة من عبارات الأصحاب ، بل هو في معقد ما يحكى من ظاهر إجماع التذكرة بدعة كما في النص والفتوى ، ففي‌ خبر حفص بن غياث (١) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة » ‌والمتبادر إرادة الحرمة منها كما نسبه إلى الأكثر في المحكي عن إرشاد الجعفرية ، وإلى عامة المتأخرين في المدارك ، خصوصا بعد ما‌ روى زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل في الصحيح (٢) عن الصادقين عليهما‌السلام « أنهما قالا : ألا وإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النار » ‌وخصوصا بعد ظهور ارادة التعريض لما أبدعه عثمان أو معاوية من أذان ثان للجمعة كما سمعته سابقا في الأذان بل منه مضافا إلى الفتاوى يعلم عدم إرادة الأذان للعصر من الثالث في الخبر المزبور كما أوضحناه سابقا في بحث الأذان.

وعلى كل حال فما في المعتبر والمحكي عن المبسوط والإصباح والخلاف ، لما تسمعه من عبارته ـ واليه أشار المصنف بقوله وقيل إنه مكروه للأصل ، وضعف الخبر ، وعموم البدعة للحرام وغيره ، وحسن الذكر والدعاء إلى المعروف وتكريرهما ، قال المحقق إلا أنه من حيث لم يفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يأمر به كان أحق بوصف الكراهة ـ في غاية الضعف ، لانقطاع الأصل ، وعدم قدح الضعف بعد الانجبار ، ومنع عموم البدعة خصوصا في المقام ، والأخير اجتهاد في مقابلة النص ، وعدم فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره أعم من الكراهة ومن ذلك علم أن الأول أشبه لكن قد يظهر من جماعة لفظية النزاع ، وأن مراد من حرم ما إذا جاء به بقصد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ١.

(٢) ذكره في الوسائل في الباب ٤٠ من أبواب الأمر والنهي ـ الحديث ٥ عن محمد بن مسلم.

٣٠٠