جواهر الكلام - ج ١١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

التذكرة : « لو رفع الصوت بقدر ما يبلغ ولكن كانوا كلهم أو بعضهم صما فالأقرب الاجزاء كما لو سمعوا ولم يفهموا » قال : « ولا تسقط الجمعة ولا الخطبة وإن كانوا كلهم صما » وتبعه عليه جماعة ، وفي كشف اللثام « لأن الميسور لا يسقط بالمعسور ، ولأن الوجوب إن سلم فالشرطية ممنوعة ، وإن سلمت فعمومها للضرورة ممنوع » لكن في المدارك « احتمال سقوط الجمعة إذا كان المانع حاصلا للعدد المعتبر ، لعدم ثبوت التعبد بالصلاة على هذا الوجه ».

قلت : ولأن قاعدة الميسور معارضة بما دل على الانتقال إلى الظهر بتعذر الجمعة الصادق بتعذر بعض ما يعتبر فيها ، والتعارض وإن كان من وجه لكن لا ترجيح أو هو لها ، خصوصا مع الاعتضاد بقاعدة الشرطية ، فلا أقل حينئذ من الاحتياط بالجمع بين الفرضين وربما يأتي في الإصغاء ماله نفع في المقام ، خصوصا بعد ما عرفت من الاستدلال بوجوب الاستماع على وجوب الاسماع ، بل قد ينقدح منه وجوب إسماع الزائد على العدد ممن حضر ولا مشقة في إسماعه ، بل هو مقتضى الاستدلال بقوله عليه‌السلام (١) : « إذا لم يكن من يخطب بهم » ‌بل وبالتأسي ونحو ذلك ، والاكتفاء بخطبة العدد لو لم يحضر غيرهم لا ينافي الوجوب مع الحضور وعدم تعذر الاسماع أو تعسره ، ولو قيل :

إن المراد من نحو « يخطب بهم » المجموع لا الجميع أمكن حينئذ المناقشة في اعتبار إسماع خصوص السبع بحيث لا يجزي الأقل ، و‌قوله عليه‌السلام (٢) : « متى اجتمع سبعة أمهم بعضهم وخطبهم » ‌إنما المراد منه بيان الوجوب إذا لم يكن إلا السبعة ، اللهم إلا أن يدعى أن المراد وجود السبعة مقتض للوجوب ولو كانوا في ضمن المائة ، فيدل حينئذ على إجزاء خطبهم ولو حضر معهم غيرهم ، فتأمل جيدا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ٤.

٢٤١

وكيف كان فلا ريب أن الأحوط إسماع الحاضرين مع عدم المشقة ، كما أن الأحوط الجمع بين الفرضين لو كان المانع من الاسماع من جهة الإمام كبحة الصوت ونحوها بل هو أشد احتياطا من تعذر السماع بالصمم ونحوه لحصول المنشأية فيه دونه ، خصوصا إذا كانت بحة الصوت خلقة له ، والله أعلم.

الشرط الرابع الجماعة فلا تصح ابتداء فرادى إجماعا بين المسلمين فضلا عن المؤمنين كما اعترف به في المعتبر والتذكرة والمنتهى والذكرى على ما حكي عن بعضها ونصوصا كقوله عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) منها : « صلاة واحدة فرضها الله في جماعة » وغيره (٢) لكن سمعت فيما تقدم أن ظاهر الخلاف الاكتفاء بتكبير الامام وإن انفضوا بعده ولم يكبروا ، كما أنك سمعت أيضا أنها شرط في الابتداء لا الاستدامة وبه صرح بعضهم هنا ، لكن في الذكرى « لو بان أن الامام محدث فان كان العدد لا يتم بدونه فالأقرب أنه لا جمعة لهم ، لانتفاء الشرط ، وإن كان العدد حاصلا من غيره صحت صلاتهم عندنا ، لما سيأتي إن شاء الله في باب الجماعة ، وربما افترق الحكم هنا ، لأن الجماعة شرط في الجمعة ولم يحصل في نفس الأمر بخلاف باقي الصلوات ، فإن القدوة إذا فاتت فيها يكون قد صلى منفردا ، وصلاة المنفرد هناك صحيحة بخلاف الجمعة ، أما لو ظهر فسق الامام فهو أسهل ، لأن صلاته صحيحة في نفسها بخلاف المحدث ، ووجه المساواة ارتباط صلاة كل منهم بالإمام ، وإذا لم يكن أهلا فلا ارتباط ، ولا نسلم أن صلاته صحيحة لفقد الشرط » وفي المدارك بعد أن حكى ذلك عنها إلى قوله : « أما » قال : « لا يخفى ضعف هذا الفرق ، لمنع صحة الصلاة هنا على تقدير الانفراد ، لعدم إتيان المأموم بالقراءة التي هي من وظائف المنفرد ، وبالجملة فالصلاتان مشتركتان في الصحة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الجمعة.

٢٤٢

ظاهرا وعدم استجماعهما الشرائط المعتبرة في نفس الأمر ، فما ذهب إليه أولا من الصحة غير بعيد ، بل لو قيل بالصحة مطلقا وإن لم يكن العدد حاصلا من غيره أمكن ، لصدق الامتثال وإطلاق‌ قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) وقد سأله عن قوم صلى بهم إمامهم وهو غير طاهر أتجوز صلاتهم أم يعيدونها؟ : « لا إعادة عليهم ، تمت صلاتهم ، وعليه هو الإعادة ، وليس عليه أن يعلمهم ، هذا عنه موضوع ».

قلت : قد يعتذر الشهيد عن القراءة لو فات محلها بأن تركها كان لعذر فهي كالمنسية ، فلا تقدح في الصحة على تقدير الانفراد ، نعم تظهر الثمرة لو بان ذلك في محل القراءة وإن كان بعد أن فعلها ، كما أنه يتجه على كلام الشهيد البطلان لو كان المأموم قد زاد ركوعا للمتابعة فظهر حدث الامام ونحو ذلك من الأحكام التي يبعد على الشهيد التزامها ، خصوصا مع ما قيل من ظهور أدلة الجماعة في الائتمام بذي الصلاة الصحيحة ظاهرا ، وأنه هو المنساق في كل ما كان المتعارف في طريقه الظاهر من الصلاة والعدالة ونحوهما ، ولا تنافي بين واقعية الائتمام وظاهرية صحة الصلاة ، بل قد عرفت فيما سبق أنه لا إشكال عندهم حتى عند الشهيد في عدم بطلان الجمعة بموت الإمام في الأثناء ، مع أنه قد انكشف عدم خطابه بالصلاة من أول الأمر ، وأنه إنما كان أمرا ظاهريا ، فلا فرق عند التأمل بينه وبين من ظهر حدثه في تبين عدم الصلاة من أول الأمر ، ولا إشكال في حصول ما مضى من الصلاة جماعة ، بل قد يقال به فيما لو ظهر إقدام الامام على الصلاة بغير وضوء ، لكفاية الظاهر عند المأمومين ، بل إن لم ينعقد الإجماع أمكن القول بالصحة على هذا التقدير فيما لو صلى بظن الطهارة وكان عالما بعدمها ، لكفاية الظاهر عندهم ، كل ذلك لظهور الأمر في الاجزاء هنا ، خصوصا إذا خرج ما في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٥.

٢٤٣

النصوص (١) من الحكم بالصحة فيما لو بان حدثه أو فسقه أو كفره أو مات في الأثناء أو أحدث فيه مؤيدا لذلك ، فتأمل فإن ذلك كله لا يخلو من بحث كما تسمعه في الجماعة إن شاء الله.

ولكن عليه فالإشكال في اعتبار إتمام ما بقي من صلاتهم جماعة ، فيقدمون من يأتمون به فيه وعدمه ، وقد عرفت فيما مضى البحث فيه المبني على اشتراطها في الابتداء والاستدامة أو في الأول خاصة ، كما أنه تقدم ما يظهر منه اعتبار العدد فيهما وعدمه من غير فرق بين تبين فساد صلاتهم من أول الأمر وبين الخلل في الأثناء ، لكفاية التلبس ظاهرا أيضا فيه ، فالحكم بالبطلان في عبارة الذكرى إن لم يتم العدد إلا به لا يخلو من منافاة لما سبق ، اللهم إلا أن يخص ذلك بما إذا لم يظهر الفساد من أول الأمر ، فلا حظ وتأمل.

وعلى كل حال فالجماعة شرط في صحتها ، ولا ريب في توقفها من المأمومين على نية الاقتداء ، واحتمال الاكتفاء بوجوبه في الجمعة عن نيته في غاية الضعف بل البطلان ، ضرورة كون الاقتداء من العبادات المتوقفة على النية ، أما وجوب نية الإمامة فتردد فيها في الذكرى والمحكي عن موضع من نهاية الأحكام ، ولعله من وجوب نية كل واجب ومن حصول الإمامة إذا اقتدي به ، ثم استقرب الأول في الذكرى والدروس والبيان وحاشية الإرشاد وشرح المفاتيح للأستاذ الأكبر وغيرها ، كالمحكي عن نهاية الأحكام والجعفرية وشرحيها ، لكن لا يخلو من نظر ، إذ هو واجب شرطي ، فيكفي فيه حصوله وإن لم ينوه ، كما أن وجوبه من باب المقدمة لا يقتضي أزيد من ذلك ، ولعله لذا كان خيرة جماعة من متأخري الأصحاب العدم ، وهو في غاية القوة ، لكن الاحتياط لا ينبغي تركه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ و ٣٧ و ٤١ و ٤٣ ـ من أبواب صلاة الجماعة.

٢٤٤

وكيف كان فـ ان حضر إمام الأصل عليه‌السلام كان أعرف بما قيل هنا من أنه وجب عليه الحضور لوجوب الجمعة عليه ، وعلى الناس التقديم ووجب عليه التقدم لعدم جواز ائتمامه بغيره ، وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر حماد (١) : « إذا قدم الخليفة مصرا من الأمصار جمع بالناس ، ليس ذلك لأحد غيره » ‌بل الظاهر بطلان جمعة الغير لو سبق بناء على عدم اشتراط الاذن نعم إن منعه مانع من الحضور جاز أن يستنيب لعقد الجمعة ، وفي وجوبه عليه نظر ، نعم يجب عليه الاستخلاف لو كان في الأثناء وقلنا باشتراط الجماعة استدامة فيها وإنها متوقفة على إذنه أيضا ، مع أنه يمكن القول بعدم الوجوب أيضا ، لأن أقصاه بطلان صلاتهم جمعة ويتعين عليهم الظهر ، وليس في الأدلة ما يدل على وجوب حفظ صحتها لهم عليه ، والأمر سهل بعد الاستغناء عن تحقيق ذلك بغيبته أو حضوره ، نسأل الله تعجيل فرجه وأن يوفقنا للزوم طاعته ، والله أعلم.

الشرط الخامس أن لا يكون هناك جمعة أخرى وبينهما دون ثلاثة أميال إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا أو متواترا ونصوصا ك‌

قول أبي جعفر عليه‌السلام في حسن ابن مسلم (٢) : « يكون بين الجمعتين ثلاثة أمثال لا يكون جمعة إلا فيما بينه وبين ثلاثة أميال ، وليس يكون جمعة إلا بخطبة ، وإذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال فلا بأس أن يجمع هؤلاء ، ويجمع هؤلاء » ‌و‌في موثقه (٣) « إذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال فلا بأس أن يجمع هؤلاء ويجمع هؤلاء ، ولا يكون بين الجماعتين أقل من ثلاثة أميال » ‌ولا فرق عندنا بين المصر والمصرين ، وفصل النهر العظيم كدجلة وعدمه ، والجسر وعدمه ، وكبر البلد وعدمه ، بل ولا فرق بين جمعة الحضور والغيبة ، بل لعل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ١.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة الجمعة ـ الحديث ١ ـ ٢

٢٤٥

الثانية أظهر اندراجا في معاقد الإجماعات ، بل والنصوص الصادرة في الزمن المساوي لها ، لكن في المحكي عن الموجز ولا تتعدد جمعة في دون الفرسخ إلا بندبها حال الغيبة ، وهو غريب ، وكأنه توهمه من عبارة الدروس في صلاة العيد ، قال : « ويشترط فيها الاتحاد كالجمعة إذا كانتا واجبتين ، فتنعقد في الفرسخ الواجبة مع المندوبة والمندوبتان فصاعدا » ومن المعلوم أن مرجع الضمير فيها العيدان لا الجمعة والعيد ، وفي كشف اللثام « لعل المراد من عبارة الموجز أن العامة إذا صلوها وأراد المؤمنون إقامتها عندهم زمن الغيبة جازت لهم وإن لم يبعدوا عن جمعتهم فرسخا لبطلانها ، لا أنه يجوز للمؤمنين إقامة جمعتين في فرسخ أو أقل ، إذ لم يقل بذلك أحد ، ولا دل عليه دليل ».

ثم إن الظاهر من النص والفتوى اعتبار ذلك بين تمام الجماعتين ، بل هو كصريح الأول منهما ، بل منه يعلم أن المراد بالجمعة الجماعة ، بل هو المنساق منه نفسه من غير فرق بين المسجد وغيره ، إذ دعوى انصراف محل الجمعة من المسجد أو الموضع المعد لها من لفظ الجمعة واضحة المنع ، خصوصا بعد التعبير بالجماعة ، وخصوصا إذا كان المصلي في المسجد مقدار العدد المعتبر مع فرض طول مسافته ، فما في جامع المقاصد « يعتبر الفرسخ من المسجد إن صليت فيه ، وإلا فمن نهاية المصلي » لا يخلو من نظر ، ثم قال : « فلو خرج بعض المصلين عن المسجد أو كان بعضهم في الصحراء بحيث لا يبلغ بعده عن موضع الآخر النصاب دون من سواه ولا يتم به العدد فيحتمل صحة جمعة إمامه ، لانعقادها بشرائطها من العدد والوحدة بالإضافة إلى ما هو معتبر في صحتها ، ويجي‌ء في جمعته مع الجمعة الأخرى اعتبار السبق وعدمه ، ويحتمل اعتبار ذلك في الجمعتين ، لانتفاء البعد المعتبر بينهما ، ولا أعرف في ذلك تصريحا للأصحاب ، وللنظر فيه مجال » قلت :

لعل المتجه على كلامه صحة الجمعتين ، ضرورة فرض تحقق المسافة بين المسجد وبين الجمعة الأخرى.

٢٤٦

نعم تأتي الاحتمالات الثلاثة فيما لو صليت في غيره وكانت المسافة متحققة بين الامام والعدد وبين الجمعة الأخرى وغير متحققة بالنسبة إلى باقي المأمومين أو بعضهم ، وإن اقتصر في كشف اللثام على اختصاص البطلان بالقريبين واحتمال صحة الجمعتين ، وفي المدارك على الأول وبطلان الجمعتين ، ثم قال : والأقرب الأول عكس المحكي عن الذخيرة ومجمع البرهان من البطلان فيهما معا ، وهو المتجه بناء على ما ذكرنا ، ولعله اليه يرجع ما عن مصابيح الظلام للأستاذ الأكبر من أن المعتبر الصدق العرفي ، والظاهر أن يكون بين مجموع هؤلاء ومجموع هؤلاء ثلاثة أميال.

ثم إنه بناء على ما ذكرنا يمكن جعل المدار على الجماعتين وإن كان حصولها تدريجيا فلو عقدوا جمعتين مقترنتين مثلا وكان بينهما المسافة حال العقد ثم تكاملت إحداهما بحيث ارتفع المسافة بينها وبين الأخرى بطلا معا ، لعدم المسافة بين الجماعتين الصادق على ذلك وإن كان حصوله في الأثناء ، وسبق الصحة المراعى ببقاء الشرط غير مجد ، مع احتمال اختصاص البطلان بالمتكاملين القريبين ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فان اتفقتا أي اقترن الجمعتان بطلتا قطعا كما عن جماعة ، بل لا خلاف معتد به أجده فيه ، لامتناع الحكم بصحتهما معا لما عرفت سابقا من اشتراط الوحدة نصا وإجماعا ، ولا أولوية لإحداهما ، فلم يبق إلا الحكم ببطلانهما معا من غير فرق بين علم كل فريق بالآخر وعدمه ، لكن ربما أشكله بعض متأخري المتأخرين بعد الاعتراف أنه مقتضى إطلاق الأصحاب بأن الإتيان بالمأمور به ثابت لكل من الفريقين في الثاني ، لاستحالة تكليف الغافل ، وعدم ثبوت شرطية الوحدة على هذا الوجه ، وليس للروايات التي هي مستند الحكم دلالة واضحة على انسحاب الحكم في الصورة المذكورة إلا بتكلف ، وفيه أنه لا تكلف فيه بناء على ما سلف من أن الأحكام الوضعية المستفادة من الأوامر والنواهي لا تتقيد بما يقيد به الحكم التكليفي كما حقق في محله ، مضافا إلى‌

٢٤٧

إطلاق الفتاوى ومعاقد الإجماعات ، على أن الظاهر من الخبر المزبور (١) النفي لا النهي هنا ، فلا إشكال حينئذ أصلا ، بل ربما قيل : إن مقتضى النص بطلان الجمعتين مطلقا إلا ما خرج بالدليل ، وإن كان قد يناقش فيه بظهور النص في إرادة نفي الصحة عن مجموعهما الجامع لصحة إحداهما ، إلا أنه لما لم يكن في صورة الاقتران إمارة على صحة خصوص إحداهما اتجه الحكم ببطلانهما ، أي عدم إجزاء كل منهما في الفراغ عن يقين الشغل ، بخلاف ما لو سبق إحداهما ، فإن استصحاب الصحة إمارة على صحتها ، لا أن الحكم بصحتها للإجماع ، وإلا كان مقتضى إطلاق الخبر بطلانها أيضا ، ولعل التأمل في كلام الأصحاب وفيما ذكروه من دليل البطلان في صورة الاقتران والصحة للسابقة يرشد إلى ما ذكرناه ، فتأمل جيدا ، ويتحقق الاقتران عند علمائنا وأكثر العامة كما في المدارك وشرح المفاتيح باستوائهما في التكبير ، واعتبر بعضهم الشروع في الخطبة التي هي ليست من الصلاة حقيقة عندنا ، وآخر الفراغ المقتضي جواز عقد جمعة بعد أخرى إذا علم السبق بالإسراع في القراءة والاقتصار على أقل الواجب ، وهو غير جائز اتفاقا منا.

وحينئذ فـ ان سبقت إحداهما ولو بتكبيرة الإحرام عندنا كما في كشف اللثام بطلت المتأخرة لأن الأولى قد انعقدت صحيحة جامعة للشرائط ، ولم يثبت إبطال المتأخرة لها ، إذ الخبران (٢) كما عرفت إنما يدلان على نفي الصحة عنهما معا لا كل منهما ، فترجيح السابقة حينئذ باستصحاب صحتها وموافقتها لظاهر الأوامر في محله ، مضافا إلى ما في التذكرة من الإجماع ظاهرا أو صريحا على صحتها وبطلان اللاحقة الذي يشهد لصحته تتبع كلام الأصحاب ، بل لا فرق فيه بين علم المصلين عند عقدها أن اللاحقة ستوقع وعدمه ، أو أن جمعة تعقد هناك إما لاحقة أو غيرها وعدمه ، ولا بين‌

__________________

(١) و (٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة الجمعة.

٢٤٨

علم مصلي اللاحقة أن جمعة سبقتها أو تعقد هناك وعدمه ، ولا بين تعذر الاجتماع والتباعد عليهما أو على أحدهما علم به الآخرون أولا وعدمه ، كما اعترف به في كشف اللثام إلا أنه قال : « وقد يحتمل البطلان إذا علموا بأن جمعة تعقد هناك إما لاحقة أو غيرها مع جهل مصليها بالحال أو تعذر الاجتماع والتباعد عليهم مع إمكان إعلام الأولين لهم أو الاجتماع إليهم أو تباعدهم بناء على وجوب أحد الأمور عليهم والنهي عن صلاتهم كما صلوها وقد يمنعان للأصل ، أو على وجوب عقد صلاة عليهم يخرجون بها عن العهدة ، ولما علموا أن هناك جمعة تنعقد هناك مع احتمال سبقها فهم شاكون في صحة صلاتهم واستجماعها الشرائط عند عقدها ، فلا يصح منهم نيتها والتقرب مع التمكن من الاجتماع أو التباعد ، واحتملت صحة اللاحقة إذا لم يعلموا عند العقد أن جمعة أخرى تعقد هناك أو لم يتمكنوا من الاجتماع أو التباعد واستعلام الحال ، لامتناع تكليف الغافل والمعذور بما غفل عنه أو تعذر عليه ، ووجوب الجمعة ما لم يعلموا المانع ».قلت : قد عرفت ما يظهر منه ضعف الاحتمال الأخير ، وأن الحكم الوضعي الذي هو البطلان غير مقيد بشي‌ء من ذلك على تقديري النفي والنهي ، وأما الاحتمال الأول فأصله لثاني الشهيدين في المحكي عن روضه ومقاصده ، فإنه اعتبر في صحة السابقة عدم علم كل من الفريقين بصلاة الأخرى ، وإلا لم تصح صلاة كل منهم ، للنهي عن الانفراد بالصلاة عن الأخرى المقتضي للفساد ، وقد سبقه اليه المحقق الثاني لكن بطريق السؤال قال : فان قيل : كيف يحكم بصحة صلاة السابقة مع أن كل واحد من الفريقين منهي عن الانفراد بالصلاة عن الفريق الآخر ، والنهي يدل على الفساد قلنا : لا إشكال مع جهل كل منهما بالآخر ، أما مع العلم فيمكن أن يقال : النهي عن أمر خارج عن الصلاة لا نفسها ولا جزئها ، والوحدة وإن كانت شرطا إلا أنه مع تحقق السبق يتحقق الشرط ويشكل بأن المقارنة مبطلة قطعا ، فإذا شرع في الصلاة معرضا بها للإبطال كانت باطلة ،

٢٤٩

إما للنهي عنها حينئذ ، أو لعدم الجزم بنيتها ، فعلى هذا لو شرع في وقت يقطع بالسبق فلا إشكال ، ومنه اعترض في المدارك على جده بأن للمانع أن يمنع تعلق النهي بالسابقة مع العلم بالسبق ، أما مع احتمال السبق وعدمه فيتجه ما ذكره ، لعدم جزم كل منهما بالنية لكون صلاته في معرض البطلان ، ونحوه عن الذخيرة حيث نفى تعلق النهي بالسابقة ، قال : لأن النهي إنما وقع عن التعدد ، وهو غير حاصل من السابقة ، نعم يمكن أن يعتبر في صحة السابقة العلم بالسبق أو الظن عند تعذر العلم بأن يعلم أو يظن انتفاء جمعة أخرى مقارنة لها أو سابقه عليها ، إذ مع احتمال السبق وعدمه لا يحصل العلم بامتثال التكليف ، لا يقال : هذا مبني على أن النهي عن الشي‌ء هل يقتضي الاجتناب عما يشك في كونه فردا له أم لا ، وعلى الأول صح اعتبار العلم والظن المذكور ، لأن النهي إنما وقع عن الصلاة اللاحقة والمقارنة ، فيجب التحرز عما جاز فيه أحد الأمرين ، وعلى الثاني يكفي في صحة الصلاة عدم العلم بكونها لاحقة أو مقارنة مع أن الراجح الأخير ، لأنا نقول : المستند في اعتبار العلم أو الظن حصول الأمر بجمعة لا تكون مقارنة ولا لاحقة ، وامتثال هذا التكليف يستدعي العلم أو الظن بانتفاء الوصفين ، وليس المستند مجرد النهي عن الجمعة المقارنة واللاحقة حتى ينسحب فيه التفصيل.

والظاهر أن المستفاد من الأخبار الدالة على وجوب وحدة الجمعة أنه متى تحقق جمعتان يجب أن يكون بينهما المسافة المذكورة ، فالتكليف بوجوب اعتبار المسافة بين الجمعتين أو اعتبار السبق إنما يتحقق إذا حصل العلم بوجود جمعة أخرى كما هو شأن الأمر المعلق بالشرط ، فالمأمور به صلاة جمعة يراعى فيها هذه الشرطية ، وعلى هذا لا يلزم في امتثال التكليف العلم أو الظن بانتفاء جمعة أخرى سابقه أو مقارنة ، نعم يعتبر العلم أو الظن بعدم السبق أو المقارنة ، أو حصول المسافة عند العلم بحصول جمعة أخرى لا مطلقا ، وبالجملة لا يتضح دلالة الأخبار على أكثر من ذلك ، فتدبر.

٢٥٠

ثم قال : ويبقى الإشكال أيضا في صورة يظن الفريق الأول حصول جمعة متأخرة مع عدم علم أصحابها بالجمعة المتقدمة ، وحينئذ فالحكم بصحة السابقة لا يصفو عن كدر الاشكال ، وقد أطنب الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح والمحكي من حاشيته على المدارك في الانتصار لما سمعته عن الروض ، والمناقشة للذخيرة والمدارك مدعيا أنه مراد الأصحاب فقال : ما حاصله أن البعد بثلاثة أميال شرط في الواقع. فإذا صلى الفريقان في الأدون على التعاقب مع علم كل من الفريقين بصلاة الآخر فلا بد في صحة السابقة من علم أصحابها بالسبق ، ولا يكفي الظن ، لعدم الدليل على حجيته ، بل الأصل والعمومات قاضيان بعدمها ، والعلم بالسبق مع البعد في الجملة من المحالات العادية ، ولا يمكن تحققه إلا في صورة صدور كل واحد من الفريقين بمحضر من الآخر ، وحينئذ فدخول السابقين في الصلاة حرام ، لكونه مفوتا للواجب الذي هو تحصيل الوحدة في الجمعة فيما دون ثلاثة أميال ، لأن السابقين واللاحقين مخاطبون بتحصيل الوحدة التي هي شرط ، وهي واجبة ، كما هم مخاطبون بإتيان الجمعة ، وليس الخطاب مختصا بفريق دون آخر ، فإذا بادر فريق فربما لم يتيسر للآخر الدخول معهم ، فتصير المبادرة منشأ لترك الفريضة ، فتجب على السابقين ترك السبق حتى يتفق أولئك معهم ، وتحصل الوحدة التي قد خوطبوا بها جميعا ، قولكم : إن إمام الفريق اللاحق يصير فاسقا جوابه أن إمام السابقين كذلك لعدم امتثاله الأمر بالوحدة ، فإن قلت : لعل كل فريق لا يعتقد بإمام الفريق الآخر ، لأنا نقول : إن كان كل فريق منهم يحكم ببطلان صلاة الآخر خرجت المسألة عن فرضها ، لأن ما نحن فيه إنما هو وقوع جمعتين صحيحتين عند الجميع لولا السبق واللحوق ولذا لم يتعين صحة صلاة فريق منهم إلا بالسبق ، نعم لو كان إمام الأصل موجودا تعين على الجميع الحضور عنده ، وهو أيضا خلاف الفرض ، وكذا يخرج عن الفرض ما إذا أراد السابقون تحصيل الوحدة والإطاعة إلا أن الفريق الآخر يمنعونهم من ذلك‌

٢٥١

فإن الصحة على هذا الفرض ليست من جهة السبق ، بل لو كانوا هم اللاحقين لصحت صلاتهم أيضا.

فظهر أن نظر الفقهاء ليس إلى هذه الصورة ، بل مرادهم من سبق إحداهما تحقق السبق بعد الدخول في الصلاة ، وأنه يشترط حينئذ عدم العلم بجمعة أخرى ، ولا يجب تحصيل العلم بعدم جمعة أخرى ، بل يكفي العلم الشرعي بالعدم ، وهو الاستصحاب ، فعلى هذا يتعين ما في الروض ، ويعلم يقينا أنه هو مراد الفقهاء ، وليس مرادهم أنهم حين الدخول علموا سبقهم ، لأن الدخول حرام كما عرفت ، ولا يكفي عند الفقهاء عدم العلم بالسبق كما في المدارك كما كفى عندهم عدم العلم بجمعة أخرى ، لأنه يلزم على ذلك أن حصول العلم بجمعة أخرى غير مضر ما لم يحصل العلم بالسبق ، ويلزمه صحة الجمعات المتعددة الكثيرة في مكان واحد ، إذ بعد العلم بالسبق يحصل جمعة صحيحة ، فلا يصلون أخرى ، فتأمل ، مع أن الشروط معتبرة عندهم في أول الصلاة ، وأنه لا تبرأ الذمة إذا وقع الاشتباه في السبق ، وأيضا لو كان عدم العلم كافيا في الصحة تكون الجمعتان صحيحتين قطعا ، وإلا فكيف يكفي عدم العلم بالسبق مع أنهم حكموا بفساد الجمعتين من جهة عدم العلم بالسابقة ، واختلفوا فيما يلزمهم إعادته هل هو الظهر أو الجمعة أو الجميع.

قلت : يمكن أن يكون إطلاق الأصحاب صحة السابقة مبنيا على ما إذا لم يحصل ما ينافي نية القربة ، بل المراد من حيث السبق واللحوق مع اجتماع باقي الشرائط ، فما كان فاسدا حينئذ من جهة أخرى خارج عن محل النزاع ، فلا جهة حينئذ للتقييد بما سمعت ولا للإيراد بأن اجتماع أهل الفرسخ لجمعة واحدة واجب على الجميع ، ولا لغير ذلك مما سمعت ، أو يكون مبنيا على عدم شرطية السبق في صحتها وإن كانت هي التي يحكم بصحتها باعتبار حصول الامارة الشرعية على صحتها ظاهرا ، ضرورة انعقادها صحيحة بوقوعها امتثالا للأوامر المطلقة بها جامعة للشرائط فاقدة للموانع ، فيكون حينئذ مقتضي‌

٢٥٢

الصحة فيها محققا والمانع غير معلوم ، فلا يصح حينئذ انعقاد الثانية ، لعدم اجتماع جمعتين صحيحتين في المكان المفروض ، فليس اشتراط السبق فيها حينئذ على حسب الشرائط الثابتة بنص خاص حتى يحتاج إلى إحرازها في نية التقرب التي يكفي فيها ظاهر الأمر وعدم العلم بسبق جمعة أخرى ، ولا منافاة بين توقف الحكم بصحة الجمعة المخصوصة على العلم بسبقها وبين صحة الإقدام على التلبس بها لظاهر الأمر وعدم العلم بسبق أخرى ، وكأنه لا مفر للخصم مما ذكرنا فيما لو فرض مانع من حضور كل من الجماعتين مع الأخرى ومن تباعدها ، واحتمال التزامه بسقوط الجمعة حينئذ يدفعه أنه إسقاط للفرض بلا مقتض ، بل ظاهر الإطلاقات وغيرها خلافه ، فلا مناص حينئذ في هذا الحال عن صلاة الجمعة وجمع الظهر معها إذا لم يتبين له الحال ، وندرة الاقتران تدفعه ، مع أصالة عدمه أيضا ، فتأمل جيدا.

وأولى من ذلك في الصحة ما لو علم بسبق جمعته ، إذ دعوى نهيه عن التلبس ووجوب اجتماعه مع الأخرى ، وتواطئهم على الجمعة ، سواء كانوا عالمين بالجمعة أولا ، معذورين في عدم المجي‌ء أو التباعد أولا لا دليل عليها من نص أو إجماع ، ونفي الصحة عن مجموع الجمعتين في الخبرين المزبورين (١) أعم من ذلك قطعا ، بل لو أريد منه النهي كان مختصا بالمتأخر ، لأنه به يحصل تعدد الجمعتين ، فيجب حينئذ عليهم السعي إليها ، ومع فرض المانع تعين الظهر ، ومع عدم علم كل منهم بالسبق فالأصل براءة الذمة من تعين حضور أحدهم مع الآخر ، لأن الفرض التساوي ، ويقين البراءة يحصل بجمع الظهر مع الجمعة ، ووجوب تحصيل الجمعة الصحيحة أولا يحصل بالمبادرة إلى فعلها ، لأصالة عدم جمعة في وقت الفعل ، فهي صحيحة بحسب الظاهر حتى يعلم وقوع جمعة أخرى ، فيحتاج حينئذ إلى معرفة السبق ، فان لم يعرف صلى الظهر كما ستعرف الحال مفصلا ، فظهر أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صلاة الجمعة.

٢٥٣

إطلاق الأصحاب في محله ، وأن له التلبس بالجمعة مع العلم بأن هناك جمعة تقع فضلا عما لو لم يعلم.

ثم إن تعين السابقة منهما اختصت بالحكم بالصحة ، وإلا فلا ، وليس لكل منهم التمسك بالأصل في صحة صلاته بالخصوص حيث لم يعلم السابقة بعينها وإن كان لا يقدح العلم ببطلان إحداهما في إجراء الأصل بالنسبة إلى تكليف كل منهما ، كالصلاة في الثوب المشترك ، إلا أن من الواضح عدم صلاحية الأصل لتعيين السابقة ، ضرورة اقتضاء أصالة تأخر كل منهما عن الأخرى الاقتران ، إلا أنه لما كان هو حادثا أيضا فالأصل عدمه ، ولذا لم يحكم به أحد من الأصحاب عند الاشتباه ، على أن الفرض هنا سبق إحداهما ، كما أنهم لم يلتفتوا أيضا هنا إلى العلم بالتاريخ والجهل ، وأن مجهول التاريخ يحكم بتأخره عن معلوم التاريخ ، لما أوضحناه في محله من أن الأصل لا يصلح لإثبات صفة التقدم على آخر والتأخر عنه ، إذ هو يقضي بتأخر الشي‌ء في نفسه لا عن آخر بالخصوص ففي المقام الذي فرض فيه معلومية سبق إحداهما لا على التعيين لا يصلح الأصل لاستخراجه ، ويبقى مجملا ولا يحكم ببراءة ذمة أحد منهما بالخصوص.

نعم لا يسقط الحكم الذي لا يعتبر فيه التعيين ، كعدم صحة عقد جمعة أخرى في هذا المكان ، ضرورة ابتنائه على حصول جمعة صحيحة ، والفرض حصولها ، فالواجب حينئذ عليهم إعادة الجمعة مع بقاء الوقت وإمكان التباعد عن ذلك المكان بمقدار المسافة ومع عدم التمكن يعيدون ظهرا ، واليه أشار المصنف بقوله ولو لم يتحقق السابقة ولو لاشتباهها بعد المعلومية أعادا معا ظهرا بل هو المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، بل عن غاية المرام نفي الخلاف عنه ، ولعله كذلك بين من تأخر عن الشيخ ويحيى بن سعيد ، إلا أنه ينبغي تقييده بما عرفت من عدم إمكان التباعد ، كما أنه ينبغي تقييد إطلاق الشيخ ويحيى بن سعيد إعادة الجمعة فيه بما عرفت ، إذ دعوى وجوبها‌

٢٥٤

عليهما ولو في ذلك المكان المخصوص باعتبار أنه لما لم تتشخص السابقة ولم تجز عن أحدهما على التعيين كانت كالباطلة ـ ولأن الأمر بصلاة الجمعة عام ، وسقوطها بهذه الصلاة غير معلوم ، ولأن المانع من فعل كل منهم إعادة الجمعة معلومية المسبوقية ، ولم يتحقق عند أحد منهما ـ واضحة البطلان بل اجتهاد في مقابلة النص ، وأوضح منها بطلانا وجوب إعادة الظهر والجمعة عليهما كما عن مجمع البرهان وشرح الأستاذ ، بل لم أجد من احتمله هنا ، نعم هو خيرة الفاضل في جملة من كتبه والكركي والمحكي عن فخر الإسلام وأبي العباس وغيرهم فيما إذا لم يعلم السبق والاقتران ، لأن الواقع في نفس الأمر إن كان هو السبق فالفرض هو الظهر ، وإن كان الاقتران فالفرض هو الجمعة ، فلو أتوا بإحداهما دون الأخرى لم تتحقق البراءة بذلك ، وفيه أنه لا يجب مثل هذا الاحتياط ، ضرورة استصحاب الشغل بالجمعة ، وإطلاق الأمر بها ، فيعيدون حينئذ جمعة ويجتزون بها ، لصدق الامتثال ، كما هو خيرة المبسوط وجامع الشرائع والمنتهى والتحرير والإرشاد والدروس والذكرى والبيان والذخيرة والمسالك والروضة والمقاصد العلية والميسية وغيرها على ما حكي عن بعضها محتجين بما يرجع حاصله إلى ما ذكرنا من أن ما فعلاه لتردده بين الصحة والبطلان كان كالباطل ، والأصل البراءة من الفريضتين وما في كشف اللثام ـ من أنه كما يتردد ما فعلاه فكذا ما يفعلانه ، فكما أن ما فعلاه كالباطل فهو كالمبطل ـ يدفعه أن الجمعة الثانية لا يحكم ببطلانها إلا مع العلم بصلاة جمعة صحيحة ، ولم يعلم هنا ، فهي صحيحة بمقتضى ظاهر الشرع ، فتكون مجزية ، ولا يجب الاحتياط للاحتمال ، وإلا لم يكن لأصل البراءة مورد.

نعم بناء على ندرة احتمال الاقتران بحيث لا يعبأ به أو فرض كونه كذلك كانت من المسألة السابقة ، وعليه بنى احتمال الاجتزاء بالظهر في التذكرة ، ومثله لا يعد قولا في المسألة ، ولذا أنكر وجود قائل به في المدارك وإن كان ربما استظهر من عبارة المتن ،

٢٥٥

لعدم اشتراط صدق السالبة بوجود الموضوع ، بل عن المنتهى حكايته بلفظ القيل ، إلا أنه علله بالندرة المزبورة ، بل حكي عن المختلف وإن كنت لم أتحققه ، كما أنه لا يخفى ضعف ما يحتج به له مضافا إلى الندرة المزبورة التي مرجعها إلى النزاع في الموضوع ، من حصول الشك في شرط إقامة الجمعة ، وهو عدم سبق أخرى ، فلا يجزي حينئذ إعادتها ، ضرورة أن ذلك مانع لا شرط ، فيكفي أصالة عدمه في تحقيقه كما هو واضح فلا ريب حينئذ في الاجتزاء بإعادة الجمعة مجتمعين أو متباعدين بالفرسخ ، ولا يحتاج إلى تغيير الامام بناء على ما ذكرنا استصحابا لشغل ذمة الجميع ، بل الظاهر كونه كذلك لو قلنا بوجوب الفرضين عليهما ، ضرورة الاكتفاء بالوجوب المقدمي في صحة الائتمام ، لكن في التذكرة « ويتولى إمامة الجمعة من غير القبيلين أو يفترقان بفرسخ » وفي كشف اللثام « قلت : لأن كلا منهم يحتمل كون صلاته لغوا ، لصحة جمعته ، فلا تصح صلاة المؤتمين به ، ولذا لا يجتمعان على ظهر بإمام منهما ، بل إما أن يجتمعا على ظهر بإمام من غيرهما ، أو على ظهرين بإماميهما ، ولا يأتم أحد منهما بإمام الآخر أو ينفردوا ، ولا يكفي إذا اجتمعا على جمعتين افتراقهما بفرسخ بينهما كما يوهمه ظاهر العبارة ، بل لا بد من افتراق كل منهما عما أقيمت فيه الأوليان بفرسخ » وفيه ما عرفت من أن احتمال لغو الصلاة بعد الوجوب المقدمي المشترك بين الامام والمأموم غير قادح ، نعم ما ذكره أخيرا جيد إذا كان المراد الاحتياط في رفع مطلق الاحتمال ، إلا أن إعادة الظهر مع هذا الفرض من التباعد في غاية الغرابة ، للقطع حينئذ بحصول جمعة صحيحة معه ، فتأمل جيدا.

ويتحقق السبق بالتكبير قطعا ، لأنه العاقد للصلاة ، وكل جمعة انعقدت بعد أخرى في فرسخ باطلة ، لكن عن نهاية الأحكام « أن الاعتبار إنما هو بتمام التكبير حتى لو سبقت إحداهما بهمزة التكبير والأخرى بالراء فالصحيحة هي التي سبقت بالراء ،

٢٥٦

لأنها التي تقدم تكبيرها » وفي كشف اللثام « لأن انعقاد الصلاة بتمام التكبير كما يفيده الأخبار » قلت : قد عرفت أنه ليس في شي‌ء من النصوص تعليق الصحة على سبق الانعقاد كي يكون المدار عليه ، بل مبناها حصول وصف الصحة للأولى ، وهو يتحقق بالشروع بها متقدمة على الأخرى وإن كانت صحة إجزاء التكبير مراعاة بإتمامه على وجه الكشف ، فلا يبعد أن يكون المدار عليه كما احتمله جماعة ، وكذا لا يبعد أن يكون المدار على سبق الامام من غير حاجة إلى سبق العدد ، أما بناء على ما سمعته من الخلاف في الانعقاد جمعة وإن انفضوا بعد تكبيره فواضح ، وأما على غيره فتكبير العدد إنما هو كاشف عن الانعقاد ، واحتمال عدم الانعقاد قبله ضعيف ، ومنه يظهر ضعف احتمال اعتبار سبقهم أيضا كما وقع من غير واحد على وجه لم يظهر منهم ترجيح الأول عليه ، فتأمل.

وقد ظهر لك من ذلك كله حال جميع صور الاجتماع الذي ذكر في جامع المقاصد تصور موضوعه باجتماع نائب الإمام في بلد واحد أو بلدين ، بل باجتماع الامام ونائبه كذلك ، ولا محذور في ذلك ، لإمكان عدم علم أحدهما بصاحبه أو اعتقادهما بلوغ المسافة الخد المعتبر ثم يظهر خلافه ، ولو علم النائبان عدم البلوغ ثم أقدما على الصلاة كذلك لم يقدح في عدالتهما بوجه ما لم يظهر إقدامهما على معصية تخل بها ، قلت : لا حاجة إلى مراعاة النيابة في هذا الزمان بناء على العينية بل وعلى التخيير ، ولا يتوهم تعين فعل الظهر على الثاني مع العلم بقيام جمعة أخرى فيما دون الفرسخ ، للأصل وإطلاق دليل التخيير ، نعم لا يجتزى بالجمعة التي بادر إليها إذا لم يتبين له سبقها ، استصحابا للشغل ، فيفعل الظهر حينئذ تحصيلا لليقين ، والله أعلم.

النظر الثاني فيمن تجب عليه الجمعة بحيث يجب عليه السعي إليها ويراعى فيه سبعة شروط : التكليف والذكورية والحرية والحضر والسلامة من العمى والمرض والعرج‌

٢٥٧

وأن لا يكون هما وفي‌ صحيح زرارة (١) « منها صلاة واحدة فرضها الله في جماعة ، وهي الجمعة ، ووضعها عن تسعة عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين » ‌وفي‌ خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) « الجمعة واجبة على كل مؤمن إلا الصبي والمريض والمجنون والشيخ الكبير والأعمى والمسافر والمرأة والعبد المملوك ومن كان على رأس فرسخين » ‌وفي‌ صحيح ابن مسلم (٣) « منها صلاة واجبة ، على كل مسلم أن يشهدها إلا خمسة : المريض والمملوك والمسافر والمرأة والصبي» ‌و‌خبر منصور بن يعقوب (٤) « الجمعة واجبة على كل أحد لا يعذر الناس فيها إلا خمسة : المرأة والمملوك والمسافر والمريض والصبي » ‌و‌النبوي (٥) « الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة : عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض » ‌إلى غير ذلك من النصوص التي لا ضرر في النقيصة فيها والزيادة في المستثنى بعد تحكيم منطوق بعضها على مفهوم الآخر ، أو تكلف تداخل بعضها في بعض ، على أنه لا خلاف في أكثرها أو جميعها بل عن المنتهى وغيره الإجماع على اشتراط البلوغ ، بل لعله من ضروريات المذهب أو الدين كالعقل ، فلا تجب على غير البالغ والمجنون المستمر جنونه إلى فواتها ، نعم تصح من المميز بناء على الصحيح من شرعية عباداته ، وستعرف كيفية صحتها منه وحكمه لو بلغ في الأثناء.

وفي المعتبر والمنتهى والتذكرة وإرشاد الجعفرية والذخيرة على ما حكي عن بعضها الإجماع على اشتراط الذكورة ، بل في الأول منها إجماع العلماء ، كما عن الثاني « لا تجب على المرأة ، وهو قول كل من يحفظ عنه العلم » نعم قد يقال بأن الظاهر من النصوص سقوطها عن المرأة ، ولعله المراد من الفتاوى ومعاقد الإجماعات ، قال في التذكرة :

__________________

(١) و (٢) و (٣) و (٤) و (٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الجمعة الحديث ١ ـ ٦ ـ ١٤ ـ ١٦ ـ ٢٤

٢٥٨

« الذكورة شرط فلا تجب على المرأة إجماعا » ولعله مراد غيره أيضا ، فيتجه حينئذ وجوبها على الخنثى المشكل سواء قلنا بالواسطة في الواقع أو لا ، للعموم الذي يدخل فيه المشتبه صدق الخاص عليه ، بناء على عدم كونه مقسما للعام ، وأنه لم يؤخذ في مفهومه عدم الخاص كي يكون مجملا بالنسبة إلى الفرض ، فيتمسك فيه بأصالة البراءة ، على أنه لو سلم أمكن الوجوب مع الظهر هنا أيضا ، لتوقف يقين البراءة على الجمع ، ودعوى أصالة الظهر غير مسموعة كما أوضحناه سابقا ، لكن عن شرح الأستاذ الأكبر « أن المعروف بين الأصحاب عدم وجوبها على الخنثى ، لاحتمال كونه امرأة ، والأصل براءة الذمة وعدم التكليف حتى يثبت ، ولا ثبوت مع الاحتمال ، وشمول كل مسلم للخنثى محل تأمل ، لعدم تبادره من إطلاق لفظ مسلم وإن قلنا بأن العام اللغوي يشمل الأفراد النادرة لأنه يشمل ما علم أنه فرد لا ما يحتمل ، وهذا وإن كان يقتضي عدم وجوب الظهر أيضا ، لاحتمال كونه رجلا إلا أن الظهر هو الأصل ، لأن الجمعة مشروطة بالذكورة وغيرها ، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط ، والظهر واجب على المكلفين إلا من اجتمع فيه شرائط الجمعة ، ولأن الواجب أولا كان الظهر ثم تغير إلى الجمعة بالنسبة إلى من اجتمع فيه شرائطها ، والظاهر أن الممسوح مثل الخنثى » وفيه ما لا يخفى خصوصا بعد ما سمعت من لفظ الناس ونحوه في النصوص ، وشرطية الذكورة لا مدرك لها إلا معقد الإجماع المنقول الذي لا ظن بإرادة الزائد على ما في النصوص من السقوط عن المرأة فيه ، فتأمل جيدا.

وأما الحرية فعليها إجماع العلماء في المعتبر والتذكرة ، والإجماع في المحكي عن المنتهى ، ولعل المراد أنها لا تجب على العبد كما في النصوص السابقة ، وهو معقد الإجماع أيضا في الثلاثة المزبورة والذكرى وكشف الالتباس والروض على ما حكي عن بعضها ، قال في التذكرة : « الحرية شرط في الوجوب ، فلا تجب على العبد عند علمائنا أجمع ،

٢٥٩

وبه قال عامة العلماء » وقال في الذكرى : الأمر الخامس الحرية ، فلا تجب على العبد بإجماعنا ، ولعل غيرهم كذلك ، فلا تسقط عن المبعض حينئذ ، لعدم صدق العبد حينئذ عليه ، فيبقى مندرجا تحت الأدلة السابقة ، نعم لو قلنا باشتراط الحرية في الوجوب أمكن حينئذ السقوط عنه ، لعدم صدق الحر عليه ، لكن قد عرفت أنه لا مقتضي لذلك إلا معقد الإجماع المزبور الذي يقوى في الظن إرادة عدم الوجوب على العبد منه ، كما هو المراد من معقد الإجماع المتقدم ، ويومي اليه زيادة على ذلك ذكر المبعض مسألة أخرى غير ما حكوا الإجماع عليه ، وتسمع إن شاء الله تمام الكلام في ذلك.

وأما الحضر فعليه الإجماع في المعتبر ونهاية الأحكام والذكرى ومصابيح الظلام على ما حكي عن بعضها ، بل عن الأخير أنه ضروري ، وفي التذكرة « الإقامة أو حكمها شرط في الجمعة ، فلا تجب على المسافر عند عامة العلماء » وقد سمعت أن الموجود في النصوص المسافر ، والمنساق إلى الذهن منه السفر الشرعي وإن لم نقل بثبوت الحقيقة الشرعية له ، ولا يتوقف صدقه على وجوب التقصير عليه قطعا ، فتسقط عنه في مواضع التخيير وإن تعين عليه التمام فيها بنذر ونحوه ، واحتمال أن سقوط الجمعة عن المسافر لأن فرضه التقصير ، ولا تقصير في الجمعة التي أقيم فيها الخطبتان بدل الركعتين ، فتتعين الجمعة حينئذ لا طلاق الأدلة كما ترى لا يصلح مستندا شرعيا ، فما في التذكرة ـ من وجوب الجمعة في المواضع الأربعة كما هو محتمل المحكي عن النهاية ـ لا يخلو من نظر ، اللهم إلا أن يريد وجوبها من حيث صدق حضورها عليه ، إذ الفرض أن تخييره في القصر والإتمام إنما يكون إذا كان فيها ، فمع فرض انعقاد جمعة فيها حال تخييره صدق عليه حضور الجمعة ، فتجب من هذه الجهة لا أنها تجب عليه من حيث مشروعية التمام له ، إذ قد عرفت أنه لا ينافي صدق السفر عليه مع ذلك ، وأنه ليس من القواطع كالإقامة وما في حكمها ، على أن احتمال التخيير بين الجمعة وعدمها كما في الدروس أولى بناء على‌

٢٦٠