جواهر الكلام - ج ١١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بالحرمة الأصلية هنا للنهي دون البطلان ، إذ هو ـ مع أنه خرق للإجماع المركب كما اعترف به المحقق الثاني في جامعه بل البسيط ـ مخالف المنساق إلى الذهن عرفا من إرادة الشرطية في كل ما أمر به أو نهي عنه في الصلاة التي هي من المركبات ، بل المقصد الأصلي منهما ذلك إذا صدرا من الشارع المعد لبيانهما في بيان المركبات ، وقد استدل الباقر عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) على بطلان الصلاة حال ترك الاستقبال بالأمر في قوله تعالى (٢) ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) والفرق بينه وبين النهي مقطوع بعدمه ، إذ هو شرط الوجود ، والنهي شرط العدم ، وكأنه اغتر بقول الأصوليين باقتضاء النهي الفساد إذا كان نفس العبادة أو جزءها لا الأمر الخارج عنها ، ولم يتنبه لاقتضاء العرف ، وأن مرادهم هناك الاقتضاء العقلي لا العرفي.

هذا كله في حكم التكفير ، وقد عرفت سابقا أنه لا حقيقة له شرعية وإن توهم ذلك من جريان الحكم شرعا على بعض أفراده ، وهو وضع اليد على الأخرى ، والظاهر أنه لا فرق فيه بين وضع اليمنى على اليسرى والعكس كما عن مجمع البحرين النص عليه ، ويقتضيه ما عن القاموس من أنه خضوع الإنسان لغيره ، ضرورة تعارف كل منهما في الخضوع بين الفرس المعبر عنهم في النصوص بالمجوس على الظاهر ، وبه صرح الفاضل في القواعد والشهيد الثاني وغيرهما في معنى التكفير ، واليه يرجع تصريح الشيخ والشهيد الأول وبني حمزة وإدريس وسعيد فيما حكي عنهم وغيرهم بتحريم وضع اليمين على الشمال والعكس ، بل هو معقد إجماع الأول منهم ، ضرورة إرادة التكفير من ذلك ، لا أن العكس محرم وإن لم يكن تكفيرا ، كإرادة المبسوط وغيره ممن عبر بالكتف ذلك أيضا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣.

(٢) سورة البقرة الآية ١٤٥.

٢١

وقد سمعت ما في خبر قرب الاسناد (١) والخصال (٢) وكتاب المسائل (٣) والدعائم (٤) ويؤيده أيضا اجتزاء العامة به كما قيل في أصل الاستحباب ، ولا ينافي ذلك ما في صحيح ابن سنان (٥) من توهم حصره في وضع اليمنى على اليسرى وإن ظنه بعض الأساطين لوجوب رفع اليد عن مفهومه بما عرفت لو سلم إرادة الحصر منه ، مع إمكان المنع بل ظهوره بدعوى إرادة العهد الذهني من اللام فيه نحو ما يذكر فرد بحضرتك فتقول ذلك الأسد أو ذلك الرجل لا الجنسية المقتضية للحصر ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، وفي كشف اللثام يجوز عود الإشارة فيه إلى الوضع ، فلا يكون نصا في الحصر.

فمن الغريب بعد ذلك ما وقع للفاضل وغيره من التردد في صورة العكس أو الميل إلى العدم ، حتى قال في المنتهى بعد أن حكاه عن الشيخ : « نحن نطالبه بالمستند ، والقياس عندنا باطل » ولا ريب في ضعفه كظاهر المتن وغيره ممن اقتصر على وضع اليمين على الشمال.

والظاهر أيضا أنه لا فرق فيه بين الوضع فوق السرة وتحتها كما صرح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافا ، لإطلاق الأدلة ، كما أنه لا فرق بين وجود الحائل وعدمه بل ولا بين وضع الكف على الكف والذراع والساعد أي العضد وإن استشكل فيه في التذكرة ، قال : « من إطلاق اسم التكفير ، ومن أصالة الإباحة » ولا يخفى عليك ما فيه بل الظاهر تحققه بوضع الذراع على الذراع أيضا ، وفي بعض النصوص (٦) السابقة تصريح ببعض ذلك فضلا عن إطلاق وضع اليد على الأخرى ، والظاهر أن المدار على‌

__________________

(١) و (٢) و (٥) و (٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب قواطع الصلاة الحديث ٤ ـ ٧ ـ ١ ـ ـ٥

(٣) البحار ـ ج ١٠ ص ٢٧٧ ـ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٧.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٢.

٢٢

الهيئة المتعارفة في الخضوع عند مستعمليه من الفرس وأتباعهم ، وفي اعتبار القيام فيه بحيث لا يجري عليه حكم حال غيره تردد ، من تعارف الخضوع به حاله ، بل في التذكرة والمنتهى في أول كلامه تفسير التكفير بأنه وضع اليمين على الشمال حال القراءة ، وإيماء خبري الدعائم والخصال ، والاقتصار على المتيقن ، ومن إطلاق الأدلة ، وهو الذي جزم به في المنتهى في آخر كلامه على القول بالتحريم فضلا عن الكراهة ، فقال : التحريم يتناول حال القراءة وغيرها ، لرواية محمد بن مسلم ، وعلى كل حال فالعبرة بما يسمى تكفيرا وخضوعا لا مطلق الوضع وإن كان لغرض ، ونحوه قال في جامع المقاصد : « ولو دعته حاجة إلى الوضع كرفع داء ، فوضع لدفعه يده أمكن عدم التحريم هنا للحاجة وتخيل أنه لا يعد تكفيرا ، لكن ظاهر الرواية يتناوله » قلت : لا ريب في إرادة التكفير من الوضع في النصوص ، كما أنه لا ريب في صدقه على نحو ذلك بعد أن عرفت أنه لا حقيقة له شرعية ، والتشبيه بالمجوس في التكفير لا الوضع.

ثم إن صريح المصنف وغيره بل لا أجد فيه خلافا بل ظاهر إرساله إرسال المسلمات من جماعة من الأصحاب كونه من القطعيات اختصاص الحكم المزبور في صورة العمد دون السهو ، فلو كفر ساهيا عن كونه في الصلاة لم تبطل صلاته ، ولعل هذا من المؤيدات لما ذكرناه سابقا من أن الحرمة فيه ، والابطال للتشريع المنفي حال السهو ، وإلا فلم نقف لهم على ما يدل على خروج صورة السهو ، خصوصا على القول بإجمال العبادة وأنها للصحيح الجامع للشرائط الفاقد للمانع ، ودعوى أن الدليل اختصاص ما دل على مانعيته بصورة العمد ، لما فيه من النهي الذي لا يتصور توجهه إلى الساهي يدفعها ما سمعته منا غير مرة من أن التحقيق عدم تقيد الحكم الوضعي بالتكليفي وإن استفيد منه سواء في ذلك الشرط والمانع ، والعرف أعدل شاهد به فالمتجه حينئذ إن لم يكن كما ذكرنا العموم للحالتين إلا أن يثبت إجماع ، ودون إثباته مع فرض قطع النظر عن القول‌

٢٣

بالحرمة التشريعية خرط القتاد ، وفي الرياض « وهل يختص الحكم بحالة العمد أم يعمها وغيرها؟ وجهان مضيا في نظائر المسألة ، وظاهر الأكثر هنا الأول ، وبه صرح جماعة » ومقتضاه كون المسألة غير قطعية.

أما إذا اقتضت التقية فعله فلا خلاف في جواز فعله بل وجوبه مع فرض توقف دفعها عليه ، ولا بطلان به حينئذ كما صرح به جماعة ، بل الظاهر الإجماع عليه ، لعموم أدلة التقية وكونه مسنونا عندهم لا ينافي ذلك بل أقصاه تخيير المكلف بين الفردين ، إذ التقية دين ، فلو فرض عروض عارض يقتضي اختيار الفرد المزبور إما لكونه شعارا أو غير ذلك تعين فعله ولا بطلان ، لأنه أحد الفردين المكلف بهما ، نعم لو خالف فلم يفعل ففي الذكرى فكترك الغسل والمسح (١) فإن الجزئية محققة فيهما ، فيتحقق النهي عن العبادة في الجملة ، ثم قال : والأقرب هنا الجزم بعدم البطلان ، وفي جامع المقاصد في بطلان الصلاة تردد ، نظرا إلى وجوب التقية والإتيان بالواجب أصالة ، ومثله ما لو وجب الغسل في الوضوء والمسح على الخفين ونحو ذلك ، قلت : قد يفرق بين التكفير وبين الغسل والمسح بأنه ليس جزءا في العبادة ولا شرطا ، فلا يتعدى النهي بسببه إلى العبادة ، ضرورة تحقق اسم الصلاة الصحيحة عندنا وعندهم مع تركه ، والوجوب العارضي الخارج عن مقتضى التقية في الواقع لا يدخله في الكيفية ، بل هو أشبه شي‌ء بترك ما ألزم فعله الموافق مما ليس من الصلاة ، واحتمال أن المجرد عن فعله غير مأمور به لكون الفرض وجوب الفرد المشتمل على فعله مقدمة لحفظ النفس ، فلا صحة للمجرد حينئذ يدفعه منع عدم الأمر به ، بل جميع الأوامر الأولة متعلقة به ، ولا ينافيه العصيان بترك حفظ النفس معه ، فهو كمن عصى وصلى تحت الجدار الغير المستقيم المظنون الضرر فان صلاته صحيحة وإن عصى بترك التحفظ ، وليس هو من انقلاب التكليف كالتيمم‌

__________________

(١) في الذكرى هنا في موضع الوضوء وقد سلف وأولى هنا بالصحة لأنه خارج عن الصلاة بخلاف الغسل والمسح ( منه رحمه‌الله ).

٢٤

عند خوف الضرر والصوم كذلك ، لعدم الدليل عليه بالخصوص كي يقتضي بظاهره ذلك ، ووجوب الترك مقدمة لا ينافي الأمر الذاتي كما حققناه في الأصول ، وعليه بنينا عدم الفساد في مسألة الضد وإن قلنا بوجوب المقدمة وإن ترك الأضداد من المقدمات لا المقارنات ، فتأمل.

ولا فرق في التكفير للتقية بين وضع اليمنى على اليسرى والعكس ، لما عرفت من أنه يتأدى بكل منهما ، وإن كانت الكيفية المندوبة عندهم الأولى ، لكن في الذكرى احتمل البطلان ، قال : لأنه لم يأت بالتقية على وجهها ، فيكون المحذور سليما من المعارض ، والصحة إذا تأدت بها التقية ، وفيه أنه لا وجه للصحة مع فرض عدم مشروعية العكس عندهم بعد إطلاق الأدلة في المنع منهما معا ، ضرورة عدم كون هذا الفرد من الدين حينئذ ، كما أنه لا وجه للبطلان بعد فرض مشروعيتهما معا ، إلا أن الكيفية الأولى مستحب في مستحب ، نعم لو فرض توقف دفع التقية على هذه الكيفية وجبت كأصل التكفير ، فلو خالف ولم يفعلها بل فعل العكس لم تبطل صلاته للترك نحو ما سمعته في التكفير نفسه ، وفي بطلانها بسبب ما فعله وجهان ، أقواهما الصحة ، لأن الشارع قد جعل حكم التقية في الواقع دينا ، وعدم اندفاعها في بعض الأحيان ببعض الموافق لها واقعا لخبث بعض أهلها ونحوه لا يرفع الدينية عنها ، والله أعلم.

ومنها الالتفات إلى ما ورائه كما عبر بذلك جماعة ، بل ربما نسب إلى الأكثر ، بل في كشف اللثام الإجماع على عبارة القواعد التي هي كهذه العبارة ، وفي المحكي عن الأمالي « أن من دين الإمامية أن الالتفات حتى يرى من خلفه قاطع للصلاة » لكن لم أجد هذه العبارة في أكثر نصوص المسألة المروية في الكتب الأربع ، بل الموجود في‌ صحيح ابن أذينة (١) منها سأل الصادق عليه‌السلام « عن رجل يرعف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١.

٢٥

وهو في الصلاة وقد صلى بعض صلاته فقال : إن كان الماء عن يمينه أو عن شماله أو عن خلفه فليغسله من غير أن يلتفت ، وليبن على صلاته ، فان لم يجد الماء حتى يلتفت فليعد الصلاة ، قال : والقي‌ء مثل ذلك » ‌وفي‌ صحيح زرارة (١) « أنه سمع أبا جعفر عليه‌السلام يقول : الالتفات يقطع الصلاة إذا كان بكله » ‌وسأله عليه‌السلام محمد بن مسلم (٢) في الصحيح « عن الرجل يلتفت في الصلاة قال : لا ، ولا ينقض أصابعه » ‌و‌قال هو عليه‌السلام أيضا في صحيح زرارة الآخر (٣) : « استقبل القبلة بوجهك ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك » ‌فان الله عز وجل قال لنبيه (ص) في الفريضة :( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (٤) » ونحوه صحيحه الآخر (٥) عنه عليه‌السلام أيضا ، و‌قال الصادق عليه‌السلام : في صحيح الحلبي أو حسنه (٦) : « إذا التفت في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشا ، وإن كنت قد تشهدت فلا تعد » ويقرب منه‌ خبر الخصال (٧) بسنده عن علي عليه‌السلام « الالتفات الفاحش يقطع الصلاة ، وينبغي لمن فعل ذلك أن يبدأ الصلاة بالأذان والإقامة والتكبير » ‌وفي‌ صحيح الحلبي الآخر أو حسنه (٨) « وإن لم يقدر على ماء حتى ينصرف بوجهه عن القبلة أو يتكلم فقد قطع صلاته » ‌وفي‌ خبر أبي بصير (٩) عن الصادق عليه‌السلام « ان تكلمت أو صرفت وجهك عن القبلة فأعد » ‌وفي‌ خبر محمد بن مسلم (١٠) عن أحدهما عليهما‌السلام أنه سئل « عن رجل‌

__________________

(١) و (٢) و (٦) و (٧) و (٩) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة الحديث ٣ ـ ١ ـ٢ ـ٣ ـ ١ ـ٢ ـ ٧ ـ ٦

(٣) و (٥) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣.

(٤) سورة البقرة ـ الآية ١٤٥.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٦.

(١٠) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢.

٢٦

دخل مع الإمام في صلاته وقد سبقه الإمام بركعة فلما فرغ الامام خرج مع الناس ثم ذكر أنه فاتته ركعة قال : يعيد ركعة واحدة ، يجوز له ذلك إذا لم يحول وجهه ، فإذا حول وجهه عن القبلة استقبل الصلاة استقبالا » ‌وهي كما ترى خالية عن التعبير المزبور.

نعم في‌ صحيح علي بن جعفر عليه‌السلام (١) المروي في التهذيب وعن قرب الاسناد وكتاب المسائل عن أخيه موسى عليه‌السلام « سألته عن الرجل يكون في صلاته فيظن أن ثوبه قد انخرق أو أصابه شي‌ء هل يصلح له أن ينظر فيه أو يفتشه؟ قال : إن كان في مقدم ثوبه أو جانبيه فلا بأس ، وإن كان في مؤخره فلا يلتفت فإنه لا يصلح » ‌وفي‌ المروي عن قرب الاسناد عن علي بن جعفر عليه‌السلام (٢) وكتاب المسائل له أيضا عن أخيه موسى عليه‌السلام « سألته عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : إذا كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته ، هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : إذا كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته ، فيعيد ما صلى ولا يعتد به ، وإن كانت نافلة لم يقطع ذلك » ‌وفي‌ المروي عن مستطرفات السرائر نقلا من جامع البزنطي (٣) « سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : إذا كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته ، فيعيد ما صلى ولا يعتد به ، وإن كانت نافلة فلا يقطع ذلك صلاته ، ولكن لا يعود ».

وتفصيل البحث أن يقال : إن الصور المتصورة في المقام كثيرة جدا ، بل ربما كانت بملاحظة بعض القيود تنتهي إلى ستمائة أو أزيد ، إلا أن الذي يهم معرفة الحكم فيها ستة عشر ، وذلك لأن الالتفات إما عن عمد أو سهو ، وعلى كل منهما إما أن يقع بالكل أو بالوجه ، وعلى كل منهما فاما إلى الخلف أو اليمين أو اليسار أو ما بينهما بحيث‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٤.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٨.

٢٧

يخرج عن الاستقبال ، فأما الصورة الأولى وهي الالتفات بكله إلى الخلف عمدا فهي المتيقنة من النصوص والفتاوى ، ويمكن تحصيل الإجماع عليها فضلا عن محكيه ، بل لعلها المرادة من المتن ومن عبر كعبارته ، كما يومي اليه ما في المعتبر والمنتهى والتذكرة ، قال فيه : الالتفات يمينا وشمالا ينقص ثواب الصلاة ، والالتفات إلى ما ورائه يبطلها لأن الاستقبال شرط صحة الصلاة ، فالالتفات بكله تفويت لشرطها ، ويؤيد ذلك‌ خبر زرارة (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « إذا استقبلت القبلة » ‌إلى آخر الخبر المتقدم ، وأما كراهية الالتفات يمينا وشمالا بوجهه مع بقاء جسده مستقبلا فل‌ رواية الحلبي (٢) « إذا التفت » ‌إلى آخرها وروى زرارة (٣) « الالتفات » ‌إلى آخره ، ونحوه في المنتهى والتذكرة ، وعن النهاية بل والذكرى بعد التأمل بأكثر الألفاظ وتمام المعنى ، بل لعلها بالنسبة إلى المراد أتم دلالة ولا ريب في ظهورها في كون المراد بالعبارة الالتفات بالكل إلى ورائه لا ما يشمل الوجه كما عن الإصباح التقييد به إي الكل ، ويؤيده ما في جامع المقاصد حيث أنه بعد أن ذكر جملة من الصور قال : « ولو استدبر بوجهه خاصة فلا تصريح للأصحاب فيه ، وظاهر شيخنا في الذكرى في التروك المستحبة إلحاقه بالمستدبر ، وكذا في غير الذكرى ، وقد يوجد ذلك لبعض المتأخرين ، ولا بأس به « إذ هو كما ترى كالصريح في تنزيل العبارة على ما ذكرنا ، وإلا كان الإلحاق ظاهر أكثر الأصحاب أو جميعهم ، وأوضح منه ما في المحكي عن المقاصد العلية من أن ظاهر الأصحاب عدم البطلان بالالتفات بالوجه خاصة دبر القبلة كالالتفات به يمينا وشمالا ، وربما قيل بإلحاقه بالاستدبار بكله ، إذ لو لا فهم ما ذكرنا من العبارة المزبورة ما صح له هذه النسبة قطعا ، بل قد يقال بامتناع الاستدبار بالوجه خاصة أو بعده بحيث لا تنزل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٢ ـ ٣

٢٨

عليه العبارات المزبورة ، ضرورة كون المتيسر في الجملة النظر إلى ورائه ، وهو غير الالتفات بالوجه إلى ورائه ، قال في المسالك في شرح العبارة « إذا كان بكله » : ولو كان بوجهه بحيث يصير الوجه إلى حد الاستدبار فالأولى أنه كذلك وإن كان الفرض بعيدا ، أما البصر فلا اعتبار به.

فمن الغريب بعد ذلك كله ما في الرياض حيث أنه ـ بعد أن نفى الخلاف في الجملة عن عبارة النافع التي هي كالمتن ، واستدل عليها بالصحاح المستفيضة ، وأورد على نفسه أنها شاملة بإطلاقها الالتفات بالوجه يمينا وشمالا وأجاب عنه ، ثم ذكر صورة السهو ـ قال : « هذا كله إذا كان الالتفات بالوجه ، وأما إذا كان بجميع البدن فله شقوق مضى أحكامها في مباحث القبلة » وكأنه أشار إلى ما ذكروه هناك من صلاة الظان والناسي إلى غير القبلة ، وفيه ما لا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرنا ، بل وما ستعرفه من الفرق بين المقام المبني على حصول المانع الذي تعرض له في النصوص في المقام ، ومن جهتها ذكره الأصحاب بالخصوص دون تخلف باقي الشرائط من انكشاف العورة ونحوه وبين مسألة من صلى لغير القبلة المبينة على فوات الشرط ابتداء المذكورة في ذلك المقام ، لا يقال : لو أراد الأصحاب من العبارة المزبورة هنا الالتفات بالكل دون الوجه لأشعرت مع التقييد بالعمد كما في كثير من العبارات بجواز الالتفات بالكل يمينا وشمالا عمدا ، خصوصا بعد قولهم فيما يأتي : ويكره الالتفات يمينا وشمالا ، وهو معلوم الفساد للنصوص السابقة فضلا عن غيرها ، بخلاف ما إذا أريد الوجه منها ، لأنا نقول في تنزيلها على الوجه خاصة ترك لبيان المتيقن من النصوص ، وهو الالتفات بالكل الذي كان أولى بالبيان ، لتعرض النصوص له ، ولا يكتفى عنه بالأولوية ونحوها ، وإرادتهما معا منها لا يدفع الاعتراض المذكور ، نعم يمكن أن يراد بالوراء ما يشمل اليمين والشمال ، ضرورة تسمية الجميع عكس القبلة وخلفها ونحوهما ، سيما والمشاهد أنه متى التفت إلى جهة اليمين‌

٢٩

أو الشمال كان جميع الذي خلفه أو معظمه مشاهدا له ، وربما يومي إلى ذلك في الجملة ما في بعض النصوص المتقدمة من المقابلة لما بين المشرق والمغرب بغيره الشامل لجهتي اليمنى والشمال ، مع إطلاق دبر القبلة أو نحوه عليه ، فلاحظ وتأمل.

ولقد طال بنا الكلام فيما لا طائل تحته ، ضرورة كون المتبع الدليل ، ولا ريب في ظهوره بإبطال تعمد الالتفات بالكل مطلقا حتى ما بين اليمين والشمال بحيث يخرج عما يعتبر من الاستقبال وإن لم يكن فاحشا ، لفوات الشرط الذي قد عرفت غير مرة ظهور ما دل على اعتباره ونظائره في الاتصال الذي ينافيه الانقطاع وإن لم يقارنه شي‌ء من أفعال الصلاة ، ولا طلاق صحيح زرارة وغيره من النصوص السابقة ، ولا ريب في رجحانه على مفهوم صحيح الحلبي المقتضي عدم البطلان بغير الفاحش من الالتفات وإن كان بالكل على ما هو التحقيق من عموم المفهوم بالاعتضاد بدليل الشرطية وبكونه منطوقا وبغير ذلك مما تعرفه مما مر من النصوص وغيرها ، فيقدم عليه ، مع أن معارضته له بالعموم من وجه ، وكذا مفهوما خبري علي بن جعفر عليه‌السلام والبزنطي ، خصوصا والمهم فيهما بيان الفرق بين الفريضة والنافلة (١) لا استيعاب صور الالتفات. أما الالتفات بالوجه إلى الخلف مع فرض إمكانه ولو بحرف مجموع البدن بحيث يخرج عن حد الاستقبال به فالأقوى البطلان به ، وفاقا لصريح جماعة وظاهر آخرين إن لم يكن الجميع ، لفوات الشرط ، ولصدق الفاحش والالتفات إلى الخلف ، وصحيح خرق الثوب (٢) وإن كان فيه « لا يصلح » لمنع إشعارها هنا بالكراهة ، مضافا إلى الاعتضاد بإطلاق النهي عن الالتفات ، ولا ينافي ذلك مفهوم صحيح زرارة المقتضي‌

__________________

(١) وفي النسخة الأصلية « والالتفات » بدل « والنافلة » والصحيح ما أثبتناه.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٤.

٣٠

عدم البطلان بالالتفات بغير الكل ، أما بناء على فرض عدم إمكانه (١) إلا به فواضح ، وأما على فرض الإمكان فيرجح عليه منطوق صحيح الحلبي بما رجح به منطوقه على مفهومه من الاعتضاد بدليل الشرطية ، وبكونه منطوقا ، وبأخبار علي بن جعفر عليه‌السلام والبزنطي ، وبغير ذلك ، فيكون الحاصل حينئذ ترجيح منطوق كل منهما على مفهوم الآخر ، لأن التعارض بينهما من وجه ، ويرجع إلى أن المبطل أحدهما لا مجموعه الذي لا يفهم من تعارض أمثالهما ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

أما لو التفت بوجهه مع بقاء جسده مستقبلا يمينا وشمالا فالمشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا عدم البطلان به ، بل قد يشعر نسبة الخلاف فيه إلى بعض الحنفية في المعتبر والتذكرة بالإجماع عليه ، للأصل ومفهوم صحاح زرارة وعلي بن جعفر عليه‌السلام والبزنطي وصحيح خرق الثوب و‌خبر عبد الملك (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الالتفات في الصلاة أيقطع الصلاة؟ قال : لا ، وما أحب أن يفعل » ‌المنزل على ذلك بمعارضة ما تقدم لا على الالتفات بالعين لبعده ، كخبر الخضر بن عبد الله (٣) المروي عن ثوب الأعمال ومحاسن البرقي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا قام العبد إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه ، ولا يزال مقبلا عليه حتى يلتفت ثلاث مرات ، فإذا التفت ثلاث مرات أعرض عنه » ‌و‌خبر أبي البختري (٤) المروي عن قرب الاسناد عن الصادق عن أبيه عن علي عليهم‌السلام « الالتفات في الصلاة اختلاس من الشيطان ، فإياكم والالتفات في الصلاة ، فإن الله تبارك وتعالى يقبل على العبد إذا قام في الصلاة ، فإذا التفت قال الله تبارك وتعالى عمن تلتفت ثلاثا ، فإذا التفت الرابعة أعرض عنه » ‌قيل :

__________________

(١) وفي النسخة الأصلية « على عدم فرض إمكانه ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٥.

(٣) و (٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١ ـ ٢

٣١

ورواه‌ البرقي في المحاسن ، قال وفي رواية ابن القداح (١) عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام قال علي عليه‌السلام : « للمصلي ثلاث خصال : ملائكة حافين به من قدميه إلى عنان السماء ، والبر يتناثر من رأسه إلى قدمه ، وملك قائم عن يمينه ، فإذا التفت قال الرب تعالى : إلى خير مني تلتفت يا ابن آدم ، لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل » ‌وإن احتمل الجميع الالتفات بالقلب ، لكن لا شاهد له ولا داعي إليه ، كاحتمال تنزيلها جميعا على السهو دون العمد كما في كشف اللثام ، بل ربما كان في بعضها ما ينافيه.

ومن هنا حكم غير واحد من الأصحاب بجوازه إلا أنه مكروه ، وهو المراد بقول المصنف وغيره فيما يأتي : « ويكره الالتفات يمينا وشمالا » إي بالوجه كما قيده به جماعة منها المعتبر والتذكرة كما عرفت ، ضرورة معلومية حرمة الالتفات بالكل دون اليمين والشمال فضلا عنهما كما سمعته مفصلا ، وكذا احتمال تنزيلها على الالتفات بالعين خاصة ، فإنه أيضا لا شاهد له ولا داعي إليه ، إذ لا حرمة في الالتفات بالوجه للأدلة المزبورة ، ولم نعرف فيه خلافا بين أصحابنا إلا ما حكاه في الذكرى عن بعض مشايخه المعاصرين من أنه يقطع الصلاة كما يقوله بعض الحنفية ، قال : لما رووه‌ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « لا تلتفتوا في صلاتكم ، فإنه لا صلاة للملتفت » رواه عبد الله بن سلام (٢) ‌وأجاب عنه كالفاضل بحمله على الالتفات بالكل ، والظاهر أنه أراد بالبعض فخر المحققين كما حكاه عنه غير واحد ، بل لعله مراد المقداد في التنقيح بالسعيد الذي حكى عنه ذلك أيضا ثم قال : وهو أولى ، إذ يبعد إرادته الشهيد منه ، لأن المعروف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٣.

(٢) عمدة القارئ ج ٣ ص ٥٣.

٣٢

اختياره المشهور ، لكن ستعرف حكايته في كشف اللثام عن ألفيته ، إلا أن الشهيد الثاني قد فهم منها خلاف ذلك.

وكيف كان فقد انحصر الخلاف في الفخر خاصة أو مع الشهيد والمقداد بناء على إرادته الوجوب من الأولوية ، نعم مال إليه في المدارك تبعا لشيخه وبعض متأخري المتأخرين ، وفي كشف اللثام أنه الأقوى للأمر في الآية (١) بتولية الوجوه شطر المسجد الحرام ، واحتمال كونه فاحشا ، وظهور ما مر من خبري الفضيل (٢) والقماط (٣) في غير العمد ، واحتماله في المجوز للالتفات من الأخبار ، واحتمال الالتفات بالعين أو القلب فيها ، وهو مختار الألفية ، وفي الحدائق ـ بعد أن اعترف أن الأصحاب ردوا فخر المحققين ـ قال : « ولكن ذلك منهم عجيب ، لأن هذه الأخبار ظاهرة الدلالة عليه كالنور على الطور » مشيرا إلى سائر النصوص (٤) المتضمنة للنهي ونحوه عن قلب الوجه وصرفه ونحوهما تبعا لسيد المدارك ، بل زاد فيها أنه حملها الشهيد على الكل لصحيح زرارة (٥) إلى آخره ، ثم قال : وقد يقال : إن هذا المفهوم مقيد بمنطوق رواية الحلبي (٦) فإن الظاهر تحقق التفاحش بالالتفات بالوجه إلى أحد الجانبين ، قلت : قد عرفت مقتضى الجواز من النصوص والفتاوى مما لا يصلح شي‌ء من ذلك لمعارضته ، إذ الوجوه المأمور بتوليتها المكنى بها عن الكل قطعا التي هي منه بل معظمه قد يمنع منافاة الالتفات المزبور لتوليتها ، خصوصا بعد قيام الأدلة المذكورة.

ولعل مرجع اعتبار الأصحاب الاستقبال مع حكمهم هنا بالكراهة إلى ذلك ، ومثله المراد في مجموع الآية والنصوص ، فلا يتفاوت حينئذ بين طول الالتفات وقصره‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٤٥.

(٢) و (٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٩ ـ ١١

(٤) و (٥) و (٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٠ ـ ٣ ـ ٢

٣٣

أو مقارنته لبعض أفعال الصلاة مطلقا أو لما لا يمكن تداركه منها كالأركان وعدمها ، أو مقارنته لأول انعقاد الصلاة وعدمها ، فيبطل الأول دون الثاني في الاحتمالات الثلاث وإن احتمل الأولين منها بعضهم ، وكأنه لما ضاق به الخناق وأراد الجمع بين اشتراط الاستقبال والحكم بعدم قادحية الالتفات بالوجه ارتكب ما سمعت.

وفيه أنه لا ريب في عدم قابلية النصوص والفتاوى للجمع المزبور ، ضرورة عدم الشاهد على مدخلية الطول والقصر في ذلك ، إذ ليس هو بناء على اعتبار الاستقبال به بحيث ينافيه الالتفات إلا كالاستقبال بالكل والالتفات به الذي لا يتفاوت فيه بين الطول والقصر قطعا ، اللهم إلا أن يقال : إن الإبطال به مع الطول لا من حيث الالتفات الذي هو المانع بل لفوات الشرط الذي هو الاستقبال ، إذ الالتفات كما أنه يعتبر فيه سبق غير الحال الذي التفت عنه يعتبر فيه أيضا الانقطاع بسرعة على الظاهر ، فالفرض حينئذ ليس من الالتفات حتى يكون مكروها ، بل هو حال آخر فات شرط الاستقبال فيه ، لكنه كما ترى ، وكذا لا مدخلية لمقارنة الأفعال وعدمها ، لأنه على التقدير المزبور شرط للصلاة لا لأفعالها خاصة كالطمأنينة مثلا ، بل هو مثل الطهارة والستر ونحوهما مما يعتبر حصوله ما دام المكلف في الصلاة حال الفعل أولا ، ومن الواضح أنه لا زمان متخلل بحيث يكون فيه ليس في صلاة وإن تلبس ببعض الأفعال الخارجة عنها ، إلا أن وصف كونه في صلاة لاحق له ، وإلا لم يكن تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وستسمع إن شاء الله زيادة توضيح له ، والثالث وإن كان هو أولى من السابقين ـ ومرجعه إلى شرطية الاستقبال به ابتداء لا استدامة بحيث ينافيه الفرض ـ مساعدة الأدلة عليه والفتاوى لا تخلو من صعوبة ، فالأولى حينئذ ما ذكرنا من عدم منافاة هذا الالتفات للمعتبر من الاستقبال بالوجه وتوليته ، والله أعلم.

٣٤

وأما نصوص الوجه (١) ونحوه فلا يخفى على من لاحظها وله أدنى خبرة بالمحاورات أن المراد منها ـ حتى خبري الفضيل والقماط المطرحين عندنا كما سمعته في الحدث ـ الاعراض عن القبلة والمضي عنها بالكل المكنى عنه بالوجه كالآية المستدل بها في بعض تلك النصوص (٢) فلا شاهد فيها حينئذ على ذلك ، ولعله لذا ترك الاستدلال بها في كشف اللثام مع شدة تجسمه لمختاره حتى استدل باحتمال كونه فاحشا الذي لا يجديه بعد تسليمه له في تقييد إطلاق أدلة الجواز ، نعم يتجه ذلك بناء على ظهور تناول الفاحش كما سمعته في المدارك ، إذ هو ليس من مصداق الموضوع كي يعتبر فيه القطع مثلا ، بل هو من الظن بمعنى اللفظ ، فيرجع حينئذ إلى استظهار شمول لفظ الفاحش لذلك ، ولا ينافيه العلم ببعض أفراده ، لكن قد يمنع عليه دعوى الشمول ، خصوصا والعمدة في معرفة المراد منه في خصوص الصلاة التي هي توقيفية فهم الأصحاب ، وقد عرفت أن المشهور بينهم ، بل لعله إجماع عدم البطلان بذلك ، فلا يكون من الفاحش ، إذ هم العمدة في أمثال ذلك لأسواد المتشرعة وأعوامهم الذين يعتقدون كثيرا مما يواظب عليه العلماء والأتقياء ، لشدة استحبابه أو للاحتياط فيه أو نحو ذلك من الواجبات التي تفسد بتركها العبادات ، وربما يؤيده أن المشاهد حال الالتفات بالوجه خاصة يمينا وشمالا عدم الخروج به عن القبلة ، بل أقصاه توجه النظر إلى الجهتين ، وإلا فصفحة الوجه بل صفحتاه معا إلى القبلة وإن لم يكن على الطريق المتعارف في استقبالهما ، فتأمل جيدا. بل لولا بعض النصوص السابقة وأكثر الفتاوى ومعاقد بعض الإجماعات لأمكن إرادة الالتفات بالكل من الفاحش ، بل ربما احتمل عود الضمير في‌ قوله ( عليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣ و ٤ والباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٩ و ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣.

٣٥

السلام ) (١) : « بكله » ‌إلى الالتفات ، فيكون المراد الكامل في التفاحش ، والإطلاق في الحسنة منصرف اليه ، وإن كان هو كما ترى ، كاحتمال عدم تقييد مفهوم الصحيح بمنطوق الحسن ، لعدم مقاومته له من هذه الجهة ، وستعرف ما فيه ، خصوصا وهذا الحسن بمنزلة الصحيح ، بل لعله منه كما هو واضح. وبذلك كله ظهر لك البحث في جميع صور العمد.

أما السهو فظاهر المتن وغيره ممن عبر كعبارته وربما قيل : إنه الأكثر وإن كنا لم نتحققه تقييد هذا المبطل بالعمد دون السهو والنسيان بل والاضطرار ، وفي المحكي عن البيان في مسألة من نقص ركعة فما زاد من باب السهو أن ظاهر أكثر الأصحاب عدم بطلان الصلاة بالاستدبار سهوا ، ولم نتحققه أيضا ، كما أنا لم نتحقق ما في الدروس في المقام من أن المشهور عدم البطلان بالاستدبار سهوا ، إذ لم أجده لغير المصنف إلا للشيخ في مبسوطة وجمله وعن نهايته ، والفاضل في قواعده ومنتهاه وإرشاده وعن تبصرته ونهايته ، وابني حمزة وإدريس وسلار فيما حكي عنهم ، مع أنه قيل : إن الأول منهم قد صرح في مسألة من نقص ركعة سهوا من الجمل والنهاية بأنه إن لم يذكر حتى تكلم أو استدبر أعاد ، والثاني في الإرشاد لو نقصها أو ما زاد سهوا أتم إن لم يكن تكلم أو استدبر أو أحدث.

قلت : قد يدفع بعد تسليم اتحاد المسألتين بأن المراد التمثيل لذلك بالمبطل المذكور في مقام كيفية إبطاله عمدا وسهوا أو عمدا خاصة ، ولذا ذكر الكلام المعلوم أنه من المبطل عمدا لا سهوا ، نعم كلامه في التذكرة صريح في كونه مبطلا مطلقا ، بل قد يظهر منه الإجماع عليه ، قال : « لو نقص من عدد صلاته ناسيا ثم ذكر بعد فعل المبطل عمدا وسهوا كالحدث إجماعا والاستدبار خلافا للشافعي بطلت صلاته » إلا أنه لم يصرح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٣.

٣٦

في المقام بالتقييد كي يتناقض كلامه في الكتاب الواحد ، أما اختلافه في الكتب المتعددة فغير عزيز ، لكن في مجمع البرهان عن المنتهى في أحكام الخلل في مسألة من نقص ركعة التمثيل للمبطل عمدا وسهوا بالالتفات إلى ما ورائه ، فيتناقض كلامه السابق ، ولعله يريد بناءه على أحد القولين كما قيده بنحو ذلك في المحكي عن نهايته ، على أن المسامحة بالتمثيل معلومة ، فلا يعد نحوها تناقضا وتدافعا ، وإن أطنب فيه بعض الناس هنا وجعله من المناقض للمقام ، كما أنه قال أيضا : يناقضه تصريح الشيخين والفاضل وغيرهم في بحث القبلة بأن الناسبي كالظان ، إذ قد أجمعوا على أن من صلى ظانا للقبلة ثم بان له الاستدبار أعاد في الوقت ، واختلفوا في خارجه فبعض أوجبه وبعض نفاه ، ونقلت الشهرة على كل من القولين ، لكن في إرشاد الجعفرية نسبة الأول إلى عمل الأصحاب ، بل في جملة من كتب الأصحاب ككشف الرموز ونهاية الأحكام والمختلف والموجز الحاوي وكشف اللثام أن الناسي ليس كالظان ، لاشتراط الصلاة بالقبلة أو ما يعلمه أو يظنه ، ورفع النسيان رفع المؤاخذة ، وعموم أكثر الأخبار منزل على الخطأ في الاجتهاد لكونه المتبادر ، فإذا كان الناسي كالظان أو أسوأ حالا منه قوي القول بالبطلان هنا ، وكاد يكون المصر على الخلاف نادرا.

قلت : قد يقال : ـ بعد إمكان منع المصرح في المقامين بما يقتضي التناقض ـ أنه لا يخفى وضوح الفرق بين موضوعي المسألتين ، ضرورة كون الأول الصلاة لغير القبلة نسيانا ، وما نحن فيه الالتفات نسيانا في أثناء الصلاة عن القبلة ، ولا يصدق عليه أنه صلى لغير القبلة ، وفرض استمرار الالتفات قد يمتنع معه صدق مسمى الالتفات ، فثبوت وجوب الإعادة في الوقت أو فيه وفي خارجه في تلك المسألة لا يستلزمه في المقام نعم قد يستلزم النفي فيها النفي هنا ، فتأمل جيدا فإنه قد وقع في المقام خبط.

ومنه يعلم أنه لا جهة للاستدلال ببعض نصوص تلك المسألة على المقام ، بل الأولى‌

٣٧

تحريره مستقلا عن غيره ، فيقال : إن في البطلان وعدمه بالالتفات بالكل حتى يستدبر سهوا قولين ، قد عرفت القائل بالثاني منهما ، أما الأول فهو خيرة الشيخ في ظاهر التهذيب والشهيدين والمحقق الثاني والفاضل الأصبهاني وغيرهم ، بل في كشف اللثام أنه نصر التهذيب والاستبصار والغنية وظاهر الصدوق في الفقيه والهداية والأمالي ، قلت :فيكون من معقد دين الإمامية فيها حينئذ ، وعد ثقة الإسلام في الكافي من السبعة مواضع التي يجب على الساهي فيها إعادة الصلاة الذي ينصرف عن الصلاة بكليته قبل أن يتمها ، وأطلق في المقنعة وجوب الإعادة الصلاة الذي ينصرف عن الصلاة بكليته قبل أن يتمها ، وأطلق في المقنعة وجوب الإعادة على من التفت حتى رأى من خلفه ، وفي باب القبلة منها « من أخطأ القبلة أو سها عنها أعاد في الوقت لا في خارجه إلا أن يكون قد استدبر القبلة ، فيجب عليه حينئذ الإعادة كان الوقت باقيا أو منقضيا » لكن قد سمعت أن ذلك لا يستلزم وجوب الإعادة ، اللهم إلا أن يقال : إنه لا ريب في أنه أسوأ حالا من المجتهد المخطئ ، وفيه تأمل ، ولعله ظاهر المعتبر والتذكرة والذكرى وغيرها ، بل قد عرفت أن الظاهر من التذكرة الإجماع عليه ، وفي الغنية الإجماع على وجوب الإعادة على من سها فنقص ركعة أو أكثر ولم يذكر حتى استدبر القبلة أو تكلم بما لا يجوز مثله في الصلاة ، لكن قد عرفت الكلام فيه سابقا ، نعم فيها في المقام « ويجب الاستدامة على ما هو شرط في صحة الصلاة كالطهارة وستر العورة وغيرهما ، وقد دخل في ذلك ترك الالتفات إلى دبر القبلة » وفي فصل القبلة « من توجه مع الظن ثم تبين له أن توجهه كان إلى غير القبلة أعاد الصلاة إن كان وقتها باقيا ، ولم يعد إن كان قد خرج إلا أن يكون استدبر القبلة ، فإنه يعيد على كل حال » إلى آخره ، ولعل ما نحن فيه أسوأ حالا من المصلي بظن القبلة ، وفيه تأمل كما عرفت.

وكيف كان فالبطلان مطلقا هو الأقوى ، لقاعدة الشرط الظاهر في إرادة الاتصال منه هنا كما سمعته في الطهارة ، وإطلاق ما دل على الانقطاع به من النصوص‌

٣٨

السابقة ، كإطلاق‌ الصحيح (١) « ولا تعاد الصلاة إلا من خمسة » ‌إلى آخره ، وتقييد إضافة الركعة في خبر محمد بن مسلم (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام لمن نقص سهوا بما إذا لم يحول وجهه عن القبلة ، وإلا كان عليه الإعادة بناء على اتحاد المسألتين ، بل لعل اشتراط ذلك بعدم الانصراف عن مقامه وانه لا يبرح عن مكانه في غيره من النصوص المستفيضة (٣) كناية عن عدم تحويل وجهه عن القبلة ، فتكثر النصوص الدالة على ذلك حينئذ ، وبذلك كله ينقطع الأصل ، ويقيد النبوي (٤) لو قلنا بإرادة رفع الحكم والإثم منه ، لأنه أقرب مجازا وأليق بإرادة المزية لأمته إكراما له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلا فارتفاع الإثم عقلي ، وإن كان التعارض بينه حينئذ وبين الأدلة السابقة من وجه ، بل يمكن ترجيحه على قاعدة الشرطية التي هي عند عدم الدليل ، وعلى الإطلاقات التي لم تسق للبيان بصراحة الدلالة ، إلا أن الرجحان لها عليه من غير وجه ، بل لا محيص عنه بناء على شمول الصحيح (٥) وأخبار المسبوق (٦) للمقام ، ضرورة عدم صلاحية النبوي لمعارضتها ، لإطلاقه وتقييدها ، على أن خروج كثير من الأفراد عنه واحتمال إرادة الإثم خاصة منه موهن آخر له.

وأما إطلاق بعض نصوص المسبوق (٧) إضافة الركعة ، بل فيها الصريح (٨) وغيره في أنه ولو استدبر ، فالذي يسهل الخطب فيه أن كثيرا من تلك النصوص مطرحة عندنا‌

__________________

(١) و (٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٧ و ١٠ و ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس من كتاب الجهاد.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ و ٦ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٧) و (٨) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ١ ـ ١٩

٣٩

لمعارضتها بما هو أقوى منها ، وهي المتضمنة (١) للإتمام ولو بلغ الصين وإن كان بعد سنين ولو انمحت صورة الصلاة ، ومنها ما هو مطلق يمكن تنزيله على ما إذا لم يصدر منه المبطل كالحدث وتحويل الوجه ونحوهما ، كما سمعته في خبر محمد بن مسلم (٢) بل وغيره ، فيقيد به حينئذ ، ومن ذلك يعلم ما في خبر القماط (٣) المتقدم سابقا في مسألة الحدث الذي قد عرفت خروجه مخرج التقية.

ثم إن الظاهر وجوب الإعادة في الوقت وخارجه ، كما صرح به في جامع المقاصد لظهور نصوص المقام وغيرها في بطلان ما فعله وعدم الاعتداد به ، فيشمله حينئذ‌

« من فاتته » (٤) ‌خلافا للمحكي عن النهاية في موضع منها والبيان والمقاصد العلية في موضعين ومجمع البرهان ففي الوقت دون خارجه ، ولا ريب في ضعفه حتى لو قاسوه على الناسي للقبلة ، لأن الظاهر فيه ذلك أيضا على ما بين في محله.

كما أن الظاهر وفاقا للذكرى عدم الفرق في جميع ما ذكرنا بين الالتفات دبرا وبين الالتفات بكله يمينا وشمالا بحيث يخرج عما بين المشرق والمغرب الذي ذكرنا أنه مبطل مع العمد حتى في الإعادة في الوقت وخارجه ، لما عرفت ، بل لعل المراد يدبر القبلة في بعض النصوص (٥) ما يشمله بقرينة المقابلة بما بين المشرق والمغرب ، فضلا عن نصوص التحويل (٦) عن القبلة وقلب الوجه والانصراف ونحو ذلك ، خلافا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤.

(٦) المتقدمة في ص ٢٦.

٤٠