بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

واضح البطلان ، كما لا ينبغي أن يقال في تصوير النزاع انَّه بعد الفراغ عن كون مدلول المشتق منتزعاً عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدإ يتكلّم في انَّ المنتزع هل هو عنوان واحد أو أمران ، لأن هذا يعني فراغ كلا الطرفين عن مقومية الذات للمدلول الاشتقاقي ، مع انَّ هذه المقومية محل الإشكال عند القائلين بالبساطة ومورد ما نقل من براهين المحقق الشريف على إبطال التركيب ، وعليه فمرجع البحث في البساطة والتركيب إلى البحث عن انَّه بضمّ مدلول الهيئة إلى مدلول المادة هل يتحصّل معنى واحد إدراكاً وتحليلاً أو انَّه معنى واحد إدراكاً ولكنه بالتحليل مركب من حدث وغيره على نحو تركب مفاد الجملة الناقصة.

وعلى أي حال ، فالأقوال في تحديد مدلول المشتق من زاوية البساطة والتركيب والتمييز بينه وبين المصدر يمكن تلخيصها في أربعة :

الأقوال في المشتق من حيث البساطة والتركيب

١ ـ ما اختاره المحقق الدواني وتبعه المحقق النائيني ( قدس سر هما ) من أن المشتق موضوع بمادته للحدث وبهيئته للدلالة على أنَّه ملحوظ لا بشرط عن الحمل على الذات ، بخلاف المصدر الملحوظ بشرط لا عن الحمل.

٢ ـ ما يظهر من كلمات المحقق الخراسانيّ ( قده ) من دلالة المشتق على معنى بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدإ ، بحيث تكون نسبته إليها نسبة العنوان الانتزاعي إلى منشأه ونسبته إلى المبدأ نسبة العنوان المنتزع إلى مصحح الانتزاع.

٣ ـ ما يظهر من كلمات المحقق العراقي ( قده ) من أن المشتق يدلّ بمادته على الحدث وبهيئته على نسبته إلى الذات ، فيكون مدلول « قائم » مثلاً قيام صادر من ذات.

٤ ـ ما يظهر من كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) وتبعه السيد الأستاذ ( دام ظلّه ) من دلالة المشتق على الذات المنتسب إليها المبدأ ، فيكون مدلول « قائم » مثلاً ذات لها القيام.

٣٢١

أدلة القول الأول ومناقشتها

امَّا القول الأول ، فينحل إلى دعوى سلبية هي عدم أخذ النسبة في هيئة المشتق ، ودعوى إيجابية هي وضع الهيئة للدلالة على اللا بشرطية من ناحية الحمل.

امَّا الدعوى السلبية ، فممّا يمكن أن يستدلّ به عليها.

١ ـ ما نسب إلى الدواني من صحة إطلاق المشتق كالأبيض مثلاً على البياض الّذي هو المبدأ والّذي هو المحسوس المباشر للإنسان قبل قيام البرهان الفلسفي على وجود ذات وراءه ، بل ويصحّ إطلاقه على ما ثبت بالبرهان استحالة وجود ذات وراءه كإطلاق العالم على الواجب تعالى الّذي أوصافه عين ذاته.

وفيه : أنَّه مبنيّ على افتراض دلالة المشتق ـ بناء على التركيب على تلبّس ذات بالمبدإ بنحو يستلزم الاثنينية بينهما في الوجود أيضا وهو بلا موجب ، بل يمكن افتراض دلالته على وجدان ذات للمبدإ ، سواءً كان بنحو التلبّس الخارجي أو التلبّس الذاتي الصادق في المتحدين وجوداً أيضا أي الذات المتلبسة بالمبدإ سواءً كان تلبسها به في مرحلة ذاتها أو في مرحلة لاحقة.

٢ ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من استلزام التركب والدلالة على النسبة مشابهة المشتق للحروف في المعنى ، فلا بدَّ من أن يكون مبنيّا مع انَّه معرب بلا كلام.

وفيه : أولا ـ ما أشرنا إِليه آنفاً من أنَّ الاسم يبنى فيما إِذا تضمّن بمادته لمعنى حرفي.

وثانياً : انَّ مطلق دلالة الاسم على معنى حرفي نسبي لا يصيره مبنيّا بل فيما إِذا دلَّ على المعنى النسبي فحسب بحيث كان تمام ما هو مفاده معنى غير مستقل محتاج إلى طرف كالحروف ، وامَّا إِذا دلَّ على معنى نسبي في ضمن أطرافه بحيث لم يكن محتاجاً في تصوّر معناه الأفرادي إلى دال آخر كما هو المدعى في المشتق فلا يصيره مبنيّا. وإِن شئت قلت : انَّ المدعى دلالة المشتق على حصّة خاصة من الذات ، وهي المنتسب إليها المبدأ. والحصة وإِن كانت متقومة بالنسبة التحليلية المأخوذة فيها إِلاَّ انَّها معنى افرادي تام لا يحتاج إلى غيره ليشابه الحروف. وإِلاَّ لزم أن يكون بعض الجوامد مبنيّا

٣٢٢

أيضا كالصارم مثلاً الموضوع لحصة خاصة من السيف ، والسرير الموضوع لحصة خاصة من الخشب.

٣ ـ ما جاء في تقرير إِفادات المحقق النائيني ( قده ) أيضا من انَّ المشتق ان دلَّ على النسبة مع طرفها وهو الذات اتّجه المحذور الّذي سوف يأتي نقله عن المحقق الشريف ( قده ) وإِلاَّ لزم تقوّم النسبة بطرف واحد وهو مستحيل.

وهذا البيان بظاهره ممَّا يسهّل رفضه ، فانَّ عدم أخذ طرف النسبة في مدلول المشتق لا يعني تقوّم النسبة بطرف واحد بل هي متقومة بطرفين إِلاَّ انَّ المشتق لا يدلّ عليهما معاً فيحتاج إلى دال آخر. بل كان الأفضل أن يوجّه المحذور القادم عن الشريف ( قده ) من تقوّم المشتق بالذات على كلا التقديرين ، لأنَّ النسبة المدلول عليها بالمشتق متقومة بطرفها وهو الذات فيكون مدلول المشتق متقوّماً بالذات أيضا.

ويمكن أن يكون واقع مرام المحقق النائيني ( قده ) انَّ الذات لو كانت خارجة عن مدلول المشتق لزم عدم استقلاليته في المفهوم وهو واضح الفساد لغة وعرفاً.

ولزوم هذا المحذور على هذا التقدير متين لا غبار عليه ، ولكن التخلّص عنه باختيار التقدير الأول ودفع المحاذير التي تخيل لزومها المحقق الشريف ( قده ) على ما سيأتي.

وامَّا الدعوى الإيجابية فبالإمكان تفسيرها بأحد وجوه :

١ ـ ما هو مقتضى ظاهر عنوان لا بشرطية الحمل وبشرط لائيته من اعتبار المبدأ بشرط لا والمشتق لا بشرط.

وقد اعترض عليه : بأنَّ اعتبار اللا بشرطية لا يصحح الحمل ، بل لا بدَّ من الاتحاد والعينيّة بين المحمول والمحمول عليه فلو كان المبدأ متّحداً مع الذات صحَّ حمله عليه ولو اعتبرناه لا بشرط. وما أفيد في هذا الاعتراض من عدم كفاية اعتبار اللا بشرطية في صحة الحمل صحيح ، إِلاَّ انَّ دعوى صحة الحمل إِذا كان المحمول متّحداً مع الموضوع ولو اعتبرناه بشرط لا قابل للمنع بأحد وجهين :

أ ـ ان يدّعى تقييد العلقة الوضعيّة بين اللفظ المحمول ومعناه بعدم الحمل ، نظير ما ادعي في المعاني الحرفية على بعض المسالك.

ب ـ أن يؤخذ مفهوم عدم الحمل قيداً تصوريّاً في المدلول بأن يوضع القيام لحدث

٣٢٣

القيام غير المحمول على ذات فلا يمكن حمله عندئذ ، لأن حمله على حدث يكون محمولاً على الذات ومتّحداً معه ليس مصداقاً له وحمله على حدث غير محمول تهافت ، إِذ كيف يكون الحدث غير المحمول محمولاً.

وعلى هذا الأساس يمكن لأصحاب هذا القول دعوى اعتبار هيئة المصدر لغة للمنع عن الحمل بأحد هذين الوجهين بخلاف هيئة المشتق.

ولكن يرد عليهم حينئذ :

أولا : ابتناؤه على اتحاد المبدأ والذات وجوداً ، وسوف يأتي بطلانه.

ثانياً : أنَّه موقوف على الالتزام بوضع هيئة المصدر لمعنى زائد دون هيئة المشتق ، إذ يكفي عدم وضعها بإزاء المنع عن الحمل في صحة الحمل وهذا ما لم يحتمله أحد.

٢ ـ ما يظهر من خلال كلمات المحقق النائيني ( قده ) تلويحاً أو تصريحاً من انَّ اللا بشرطية والبشرط لائية لم تلحظ بالنسبة إلى الحمل ابتداءً بل لخصوصية أخرى في مدلول اللفظ نتيجة صحة الحمل في المشتق وعدمها في المصدر.

وتلك الخصوصية هي انَّ الاعراض أطوار ومظاهر للموجود الخارجي إلا انَّها تلحظ تارة : بما هي طور من أطواره فيكون وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعها وبهذا الاعتبار تكون متحدة مع الموضوع وأخرى تلحظ بما هي فترى كأنَّها موجودة بوجود مستقل مغاير مع موضوعها. فهناك لحاظان للمبدإ يكون متحداً بأحد هما مع الذات ومغايراً بالآخر معها والمشتقات موضوعة بهيئاتها للدلالة على ملاحظة المبدأ بالنحو الأول ولذلك صحَّ حملها على الموضوع ، والمصادر موضوعة للدلالة على ملاحظته بالنحو الثاني ولذلك لم يصحّ حملها (١).

وقد اعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ بوجوه عديدة (٢) :

منها ـ انَّ مجرد الاختلاف في كيفية لحاظ المفهوم لا يمنع عن حمله على مفهوم آخر إذا كان متحداً معه واقعاً كما انَّه لا يصحح حمله إذا كان متغايراً.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٧٢

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٩٢

٣٢٤

وهذا الاعتراض لا مأخذ له نقضاً وحلاًّ.

امَّا النقض : فبالمصادر الجعلية كالشيئية والإنسانية والحيوانية فانَّه لا إِشكال في عدم صحة حملها على الذات فلا يقال زيد شيئية أو إنسانية كما يقال شيء أو إنسان. ولا يمكن أن يفسّر الفرق بينهما على أساس اختلاف المفهوم خصوصاً في مثل الشيء والشيئة ، إذ لا يوجد مفهوم أوضح من مفهوم الشيء يمكن أخذه فيه بنحو التركيب.

وامَّا الحلّ : فلان مصحح الحمل وعدمه اتحاد المفهومين وتغاير هما بحسب عالم لحاظهما ، فإذا كان لحاظهما بنحو يرى انَّهما متغايران في الوجود لم يصحّ حمل أحدهما على الآخر ، وإذا كان بنحو يرى انَّهما وجود واحد صحَّ الحمل لأن الحمل من شئون عالم اللحاظ الذهني لا الواقع الخارجي فانَّه عالم الاتحاد والعينيّة. ويرى المحقق النائيني ( قده ) انَّ الذهن بتعمله وتحليله يمكن أن يجزّئ الموجود الخارجي إلى ذات وعرض ولو لم يكونا اثنين واقعاً فينتزع عنوان الإنسانية مثلاً بما هو عرض لذات الإنسان ، وبهذا اللحاظ عندئذ يرى وجودين لا يمكن حمل أحدهما على الآخر ، والمصدر موضوع للمبدإ منظوراً إليه بهذه العناية ، ولذلك قال الميرزا ( قده ) انَّ مدلول المصدر بحاجة إلى عناية بخلاف المشتق الموضوع للموضوع الخارجي منظوراً إليه بحسب طبعه وحقيقته.

ومنها ـ النقض بالأعراض الانتزاعية والاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج لكن يمكن أن ينظر إليها تارة بما هي موجودة في نفسها وأخرى بما هي موجودة لغيرها.

والالتزام بالتفصيل بين المشتقات ذات المبادئ الانتزاعية والاعتبارية وغير هما ممَّا لا يمكن المساعدة عليه.

وهذا الاعتراض أوضح اندفاعاً عن سابقه لأنَّه يهدم مدعى المعترض أيضا ، إذ يقصد من ورائه الانتهاء إلى أخذ مفهوم الذات أو الشيء في المشتق ليصحّ الحمل بلحاظه مع انَّه من المفاهيم الانتزاعية التي لا وجود خارجي لها ، فانَّ سلّم بنحو اتحاد بينها وبين مناشئها المصحح لحملها على الخارج كان بنفسه مصحح الحمل عند المحقق النائيني أيضا.

ومنها ـ النقض بأسماء الزمان والمكان فانَّ « مقتل » مثلاً ليس موضوعاً للقتل وملحوظاً لا بشرط عن حمله على زمان أو مكان ، إذ ليس القتل وجوداً لمكان أو زمان

٣٢٥

وطوراً من أطوار هما كي يصحّ حمله عليهما بهذا الاعتبار فيلزم التفصيل أيضا بين المشتقات.

وهذا الاعتراض أيضا يمكن التخلّص عنه بافتراض انَّ المبدأ في أسماء الزمان والمكان ليس هو الحدث ، بل المحلية والمعرضية للحدث التي تكون نسبتها إلى الزمان أو المكان نسبة العرض إلى موضوعه ، نظير ما يلتزم به في أسماء الحرف والملكات من المشتقات.

والصحيح في مناقشة هذا التفسير للا بشرطية أن يقال :

ان سلّم تعدد وجود العرض وموضوعه غاية الأمر انَّ الوجود كما يضاف إلى العرض بنفسه كذلك يضاف إليه بما هو لموضوعه فهذا لا يكفي وحده لصحة الحمل بعد افتراض تغاير هما في الوجود حقيقة ولحاظاً. بل هو نظير إضافة وجود المعلول لعلته فيقال انَّه موجود لعلته باعتبار وجدانها له بنحو التسبيب لا التقييد فكما لا يصحّ حمل المعلول على علته لمجرّد إضافة وجوده إليها بعناية الواجديّة كذلك في العرض وموضوعه.

وإن أنكرنا تعدد الوجود ، وقلنا بأنَّه ليس هناك أكثر من موجود واحد في الخارج هو الموضوع والاعراض حدود ذلك الوجود ومن شئونه فهذا مطلب معقول فلسفيّاً ولا برهان على خلافه غير ما يقال : من أنَّ العرض من مقولة مباينة مع الموضوع وان الموضوع وجود جوهري في نفسه والعرض وجود رابطي. وهذه الكلمات بمجموعها لا تعدو أن تكون مصادرات وقد التزم بعض الحكماء أنفسهم بأن النّفس وما يعرض عليها من الصور العلمية وجود واحد والصور العارضة حدود ذلك الوجود.

إِلاَّ أن الإلهام الفطري للإنسان الّذي هو منبع الأوضاع اللغوية والعرفية يأبى وحدة العرض وموضوعه ويرى تغاير هما مفهوماً ووجوداً ، ومعه لا يمكن حمل ما وضع بإزاء أحدهما على الآخر.

٣ ـ أن يراد باللابشرطية والبشرط لائية تباين المفهومين ذاتاً. فالمصدر موضوع للحدث وهو مغاير مع الذات مفهوماً ووجوداً وبذلك يكون بشرط لا عن الحمل ، والمشتق موضوع لعنوان بسيط ينتزع عن الذات في حال تلبسها بالمبدإ ، وبما انَّ العناوين الانتزاعية متحدة مع مناشئها كان المشتق لا بشرط من الحمل. ونستعرض

٣٢٦

لإثبات بساطة المشتق بالمعنى المذكور المحاذير التي أوردها المحقق الشريف على القول بالتركيب. ويرجع هذا القول في ضوء هذا التفسير إلى القول الثاني الّذي نسبناه إلى صاحب الكفاية ( قده ). وبذلك نكون قد شرعنا في معالجة الثاني فنقول :

القول الثاني ومناقشته

هنالك عدة مواضع للنظر في هذه الدعوى :

فأولاً : إن أريد من الانتزاع معنى يساوق الإدراك كما هو الحال في جميع الأمور الانتزاعية التي لها واقعية ونحو تقرّر في لوح الواقع بقطع النّظر عن الذهن ، كالإمكان والزوجية ، ويكون نظر الذهن طريقاً إليها فواضح انَّه في المقام لا نجد شيئاً زائداً على الذات والمبدأ والنسبة ليكون هو مدلول المشتق ، وإن أريد من الانتزاع معنى يساوق الجعل من قبل الذهن وإنشاء مفهوم ذهني لكي يطبق على الذات المتلبسة فهذا معناه انَّ مداليل عالم وقائم وغيرهما يكون من المنشآت الذهنية المطبقة على الخارج بتعمل الذهن وليس من مستوردات الذهن التي يرى لها واقع محفوظ في نفسه ، وذلك خلاف الوجدان.

وثانياً : انَّ محاذير المحقق الشريف لا يتخلص عنها بهذا القول طالما افترض تقوم المشتق مطلقاً بأمر انتزاعي غير ذاتي.

وثالثاً : انَّ مجرَّد فرض معنى المشتق أمراً انتزاعيّاً لا يكفي لإثبات بساطته أو الفرق بينه وبين معنى المصدر في ضمن الحمل على الذات ، بدليل وجود مصادر انتزاعية أيضا للإمكان والزوجية فلما ذا لا يصحّ حملها على الذات ويصحّ حمل الممكن أو الزوج عليها.

القول الثالث ومناقشته

وامَّا القول الثالث الّذي اختاره المحقق العراقي من دلالة المشتق بمادته على الحدث وبهيئته على النسبة فقد استند فيه إلى استقراء وضع الهيئات في اللغة فانَّها جميعاً موضوعة بإزاء معانٍ حرفيّة نسبيّة فيما نعرف فلا تكون هيئة المشتق بدعاً عنها.

٣٢٧

وبما أن المعنى النسبي بحاجة إلى طرف آخر غير المبدأ وهو الذات ومن دون أخذها في المشتق لا يصحّ الحمل فيه اضطرَّ المحقق العراقي ( قده ) إلى علاج هذه النقطة. ولكن عبائر تقرير بحثه لا تخلو عن غموض وتشويش يمكننا أن نستخلص منها سنخين من العلاج.

١ ـ ان يدعى دلالة المشتق على طرف النسبة بالالتزام وتكون صحّة الحمل بملاحظة هذا المدلول الالتزامي.

وفيه :

أولا : انَّه تعسّف واضح ، فانَّ الظاهر من حمل المشتق على ذات أو على مشتق آخر كقولنا الناطق ضاحك ، الربط بين المدلولين المطابقيين لهما.

وثانياً : انَّ هذه الدلالة لا تعين أخذ الذات طرفاً للنسبة بنحو المقيد أعني ذات لها المبدأ ، لا بنحو القيد أعني مبدأ لذات. والّذي يجدي في صحة حمل المشتق ويكون مستفاداً منه لغة هو الأول لا الثاني.

وثالثاً : النقض بالمصدر بناء على المسلك المشهور من دلالة هيئته على النسبة فلو كانت الدلالة الالتزامية على طرف النسبة كافية لتصحيح الحمل لما بقي فرق بينه وبين المشتق.

٢ ـ انَّ هيئة المشتق موضوعة للنسبة الاتحادية بين الذات والمبدأ فلا مغايرة بين الطرفين كي لا يصحّ الحمل.

والواقع انَّ هذا البيان ممَّا لم نفهم له معنى ، إذ ليس البحث عن الدال على النسبة الاتحادية أو الحملية وانَّما الإشكال في التغاير بين المشتق وما يحمل عليه إذا لم تؤخذ الذات فيه وهو تغاير مناف لصحة الحمل. ثمَّ انَّه يرد على هذا القول : ما تقدّم في التعليق على القول الأول من أنَّ دلالة المشتق على المبدأ والنسبة فقط يلزم منه تقوم النسبة بطرف واحد في مقام التصور وهو يؤدّي إلى أن يكون المشتق ناقصاً من حيث المفهوم محتاجاً إلى متمم تصوّري كالحروف ، ومجرّد لزوم تقوّم النسبة بطرفين لا يكفي لإيجاد مدلول التزامي عليهما فانَّ الدلالة الالتزامية التصورية فرع تمامية تصوّر الملزوم مسبقاً ، ومن دون تصور طرفي النسبة لا تصوّر للنسبة بعد لما تقدّم في بحث المعنى الحرفي

٣٢٨

من أنَّ النسب الخارجية تحليلية لا توجد ذهناً إلا ضمن صورة واحدة تنحلّ إلى طرفين ونسبة.

القول الرابع وأدلّته

وأمَّا القول الرابع الّذي اختاره المحقق الأصفهاني ( قده ) والسيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من تركّب المشتق من ذات له المبدأ فالبحث عنه يقع أولا : فيما يمكن أن يساق دليلاً عليه. وثانياً : في دفع المفارقات التي ذكرت أو يمكن أن تذكر بشأنه.

امَّا الأدلة ، فقد ذكروا انَّ المشتق لا بدَّ وأن يكون مغايراً مع المصدر مفهوماً ببرهان صحّة حمله على الذات وعدم صحة حمل المصدر عليها وهو دليل تغاير المفهومين ، إذ المفهوم الواحد لا يعقل أن يكون متحداً مع الذات ومبايناً معها. ولا يعقل التغاير بينهما إلا على أساس أخذ مفهوم الذات المبهمة في المشتق بنحو المقيد لا القيد إذ لا يصح الحمل من دون ذلك (١).

والواقع ، انَّ هذا البيان إن قصد منه البرهنة الحديّة على القول بتركيب معنى المشتق أمكن النقاش فيه بما تقدّم منَّا في تفسير كلام المحقق النائيني ( قده ) من أنَّا لو جارينا الدقة الفلسفية فلا برهان يقتضي تركّب الموجود الخارجي من موضوع وعرض ، إلا أن الإلهامات الفطرية والعرفية التي عليها المعول في تشخيص الأوضاع اللغوية قد تساعد على دعوى التركيب وإن شئت مزيداً من توضيح له قلنا : انَّ المحمولات على أقسام ثلاثة :

١ ـ ما يكون ذاتيّاً للموضوع بالمعنى المذكور في كتاب الكليّات الخمس ، كقولنا زيد إنسان.

٢ ـ ما يكون ذاتيّاً في كتاب البرهان ، كقولنا الأربعة زوج أو زيد شيء.

٣ ـ ما يكون عرضاً خارجيّاً ، كقولنا الإنسان أبيض.

وملاحظة هذه المحمولات بالنظرة الفلسفية الدقيقة تقضي بإمكان ملاحظتها في

__________________

(١) يراجع نهاية الدراية ج ١ ص ١٢٩ ومحاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢٩٧

٣٢٩

عالم التصوّر والإدراك تارة : بنحو وحداني بسيط كما هو طبع وجوده الخارجي. وأخرى : بنحو التحليل والتجزئة إلى ذات وإنسانية أو شيئية أو بياض. ولكن الفهم العرفي الفطري للإنسان يجد فرقاً بين القسمين الأولين والقسم الأخير ، لأنَّ إنسانية الإنسان أو شيئيّة الشيء ليست وجودات زائدة على موضوعاتها ، ولذلك يعتبرها مصادر جعلية انتزعت بالتجريد وإعمال العناية العقلية التحليلية ، وهذا بخلاف بياض الجسم مثلاً أو قيام زيد فانَّ مثل هذه الأعراض تعتبر بحسب الفهم الفطري وجودات مستقلة طارئة على الذوات ، ولذلك لم يصح حملها عليها ، فإذا أريد حملها على موضوع اضطرَّ إلى تركيب معنى يمكن أن ينطبق عليه وذلك بأخذ عنوان الذات ـ الّذي هو من الذاتي في كتاب البرهان ـ أو واقع الذات كالإنسان مثلاً ـ وهو الذاتي في كتاب الكليّات ـ في المعنى. وقد وضعت المشتقات بحسب النوع بإزاء هذا المعنى التركيبي ، وإن كانت قد تدخل على ما يكون ذاتياً بحسب الدقّة كالممكن مثلاً. ولعلَّه باعتبار عرضيته بحسب الفهم العرفي.

المناقشات على القول بتركب المشتق

وأمَّا المفارقات والاعتراضات التي أخذت على هذا القول ، فبعضها توجه على افتراض تركّب المشتق من مفهوم الشيء أو الذات والمبدأ والنسبة وبعضها توجه على افتراض تركّبه من واقع الشيء المعروض للمبدإ كالإنسان في ضاحك مثلاً. فالبحث يقع عن فرضين.

أمَّا فرض التركّب من مفهوم الشيء ، فقد استظهر من بعض كلمات المحقق الشريف في حاشيته على شرح المطالع في المنطق انَّه يعترض عليه بلزوم دخول العرض العام ـ وهو الشيء ـ في الذاتي ـ كالناطق الفصل ـ وهو مستحيل.

والمحقق النائيني ( قده ) عدل من صياغة المفارقة بعد الاعتراف بصحتها بأن اللازم دخول الجنس في الفصل لأنَّ الشيء جنس الأجناس وليس عرضاً عاماً.

وكلتا الصياغتين ممَّا لا نساعد عليه.

امَّا صياغة المحقق النائيني ( قده ) فلأنَّ الشيء ليس جنساً أعلى ، لا لما قيل من لزوم

٣٣٠

عدم كون المقولات العشر ـ مقولة الجوهر ومقولات الأعراض التسع ـ أجناساً عالية وهو خلاف ما هو ثابت في محله ، فانَّه حوالة على مفلس ، إذ لم يقم في الفلسفة برهان على استحالة وجود جنس أعلى للمقولات العشر ـ كما اعترف به صاحب الأسفار ـ وانَّما الّذي قام البرهان عليه هو انَّ مثل مفهوم العرض ليس جنساً عالياً للمقولات العرضية وكذلك مفهوم الوجود.

بل لأن مفهوم الشيء لو كان جنساً لزم تركب كلّ مقولة منه ومن فصل يميزه عن المقولات الأخرى.

وذاك الفصل شيء لا محالة وإلا لم يكن جزءاً زائداً ، فان كان تمام حقيقته الشيئية لزم اتحاد الجنس والفصل وإن كانت جزءه لزم تركبه من جزءين ، فننقل الكلام إلى جزئه الثاني الّذي هو شيء لا محالة ، فإما نرجع إلى الشيئية في النهاية أو نتسلسل إلى ما لا نهاية دون أن نصل إلى ما يميّز المقولات وكلاهما باطل كما هو واضح.

أضف إلى ذلك : عدم الفرق بين القول بتركب المشتق أو بساطته إذا كان مفهوم الشيء جنس الأجناس ، إذ لا إشكال في انتزاعه من المبدأ أيضا ، فمحذور دخول الجنس في الفصل لازم على كلّ حال.

وأمَّا الصياغة المنسوبة إلى المحقق الشريف ، فجوابها : انَّ ما مثل به المناطقة للفصول كالناطق والصاهل لم يرد جعله بتمام مدلوله اللغوي فصلاً كيف والنطق ـ سواءً كان بمعنى التكلّم أو الإدراك ـ من الكيف المسموع أو النفسانيّ وليس ذاتياً فإذا كان لا بدَّ من التصرّف في مادة هذه الأمثلة بحملها على ما يوازي هذه الأعراض من جهات ذاتية فأيّ مانع من أن يكون هناك تصرّف بلحاظ هيئاتها أيضا بأن لا يراد جعل تمام مدلولها فصلاً. بل لو فرض انَّهم جعلوها كذلك فالخطأ في فهمهم للمعاني اللغوية فكان ينبغي أن ينقض عليهم لا أن يجعل ما صنعوه نقضاً على المعنى اللغوي بعد أن لم يكن المنطقي ناظراً إلى المسألة اللغوية.

والواقع انَّ ما ذكره المحقق الشريف أجنبي عن مسألتنا الأصولية بالمرة لأنَّه يذكر كلامه هذا في التعليق على مقالة شارح مطالع الأنوار في دفع شبهة كان يوجه على تعريف الإدراك بأنَّه : ترتيب أمور معلومة يتوصّل به إلى أمر مجهول ، من لزوم خروج

٣٣١

التعريف بالحد الناقص الّذي هو تعريف بالفصل فقط. حيث أجاب عنها : بأنَّ الفصل أيضا مركّب من أمور وليس بسيطاً فالناطق مثلاً عبارة عن شيء له النطق. فعلق عليه المحقق الشريف بلزوم دخول العرض في الذاتي. وواضح انَّ تمام نظره إلى الفصل الحقيقي والتعريف به مع قطع النّظر عن باب الدلالات اللغوية. وانَّ حقيقة الفصل لو كان مركّباً من الشيئية والنطق مثلاً لزم دخول العرض العام في الذاتي وهو محال ، سواءً كان يوجد دال عليهما أو على أحدهما فقط وهذا لا ربط له بمسألتنا اللغوية.

وأمَّا فرض تركّب المشتق من واقع الشيء والمبدأ والنسبة ، فقد أورد عليه : بلزوم انقلاب القضية الممكنة إلى ضرورية ، فقولنا « الإنسان كاتب » يؤول إلى قولنا « الإنسان له الكتابة » فتكون ضرورية.

وأجيب عنه حلاًّ : بأن الضروري ثبوت مطلق الإنسانية للإنسان لا المقيدة بقيد إمكاني فانَّ ثبوته إمكاني أيضا.

ونقضاً : بلزومه على القول بدخول مفهوم الشيء لأن ثبوت الشيء للإنسان ضروري أيضا لكونه ذاتياً في كتاب البرهان.

وهناك عدّة محاولات لتوجيه الاعتراض بنحو يسلم عن هذا الجواب. نذكر بعضها فيما يلي :

١ ـ تغيير مورد الإشكال من مثال « الإنسان كاتب » إلى « زيد كاتب » فلو كان المأخوذ واقع الشيء في الكاتب رجع إلى قولنا « زيد زيد له الكتابة » والتقييد في هذا المثال غير معقول ، لأن زيداً جزئي لا يقبل التقييد وانَّما هو مجرّد معرف ومشير فتكون القضية ضرورية.

وفيه :

أولا : انَّه قد يراد من واقع الشيء ما يكون معروضاً عادة للمبدإ في الواقع الخارجي ، كالإنسان في مثال الكاتب ، لا ما جعل موضوعاً للقضية. وهو كلّي قابل للتقيّد.

وثانياً : الجزئي الحقيقي كزيد وإن لم يكن يقبل التقييد الأفرادي ولكنه يقبل

٣٣٢

التقييد الأحوالي ، فقولنا « زيد كاتب » يرجع إلى قولنا « زيد زيد في حالة الكتابة » ومن الواضح انَّ الجزئي المقيد بحالة خاصة إمكانيّة بما هو مقيّد بتلك الحالة ثبوته لنفسه إمكاني لا ضروري.

٢ ـ ان القيد الإمكاني إن أريد به المعرفية والمشيرية إلى ذات المقيد كان المحمول نفس الموضوع فتكون القضية ضرورية ، وإن أريد به التقييد والتحصيص فالمقيد بما هو مقيّد وإن كان ثبوته غير ضروري إلا انَّه يستلزم أن يكون الحمل وضعيّاً لا طبعيّاً ، لكونه من حمل الأخص على الأعم بحسب المفهوم ، وهو باطل. وبهذه المحاولة يندفع الحلّ والنقض معاً.

وفيه : انَّا لا نسلّم بطلان حمل الأخص مفهوماً على الأعم سواءً كان الحمل معبراً عن النسبة التصادقية بين مفهومي الموضوع والمحمول في الخارج أو عن افتراض الموضوع مصداقاً للمحمول بجعل مفهوم الموضوع فانياً في معنونه الخارجي لأنَّ اللازم على الأول جعل المفهومين مرآتين عن حقيقة واحدة وعلى الثاني جعل مفهوم كذلك فكأن الملحوظ فيه المصداق ابتداءً ولا تضرّ أعمية الموضوع مفهوماً على كلا التقديرين.

٣ ـ انَّ أخذ واقع الشيء في المشتق يستلزم انحلال القضية الواحدة الممكنة إلى قضيتين : إحداهما : ضرورية وهي « الإنسان إنسان » والأخرى ممكنة هي « الإنسان له الكتابة » مع انَّ « الإنسان كاتب » ليس إلا قضية واحدة عقلاً. وعرفاً. وهذه المحاولة لا تدفع النقض وإن كانت تعالج الحلّ.

وفيه : انَّ الانحلال إلى قضيتين وكون إحداهما ضرورية إن كان بلحاظ انَّ المحمول يصبح بذاته قضية بقاعدة انَّ الأوصاف والقيود قبل العلم بها أخبار فقولنا « زيد شاعر ماهر » يرجع إلى إخبارين اخبار بمطلق شاعريته واخبار بمهارته في الشعر ، فمن الواضح انَّ أحد الإخبارين وهو الأخبار عن ثبوت المطلق مفاد للجملة التزاماً بقانون انَّ ثبوت المقيد يستلزم ثبوت المطلق عقلاً ، ولا ضير في أن تكون جهته ضرورية ، وامَّا ثبوت الحصة الّذي هو المدلول المطابقي للجملة فجهته الإمكان كما في قولنا « الحديد جسم صلب ».

وإن كان الانحلال بدعوى : انَّ اشتمال المحمول على النسبة يؤدّي إلى عروض

٣٣٣

نسبتين على الذات في عرض واحد إحداهما ضرورية والأخرى إمكانية إذ لا موجب لافتراض الموضوع في إحداهما مقيداً بمحموله. فيرد عليه : انَّ النسبة الناقصة ملحوظة في رتبة سابقة عن الحمل فيكون المحمول هو الحصة الخاصة لا الذات المطلقة. وإن شئت قلت : قد تقدّم منَّا في بحث المعاني الحرفية أن النسبة الناقصة ليست إلا صورة ذهنية واحدة لحصة من المقيد والنسبة الملحوظة فيها تحليلية وليست بواقعية فلا تشتمل القضية الحملية على أكثر من نسبة واحدة وهي إمكانية.

وهكذا يتبرهن عدم صحة المحاولات الثلاث في إبطال الجواب على مفارقة انقلاب الممكنة ضرورية لو أخذ مصداق الشيء في المشتق.

الصحيح والمختار من الأقوال

إلا انَّ الصحيح مع ذلك عدم أخذ مصداق الشيء في المشتق على القول بالتركيب ؛ إذ لو أريد به ما جعل موضوعاً للقضية فمن الواضح انَّ المشتقات لا تكون محمولات دائماً كما في قولنا « أكرم الكاتب ».

وإن أريد أخذ الطبيعة التي من شأنها الاتصاف بالمبدإ كالإنسان فهو ينافي ما نحسّه وجداناً من صحّة استعمال الكاتب مثلاً في غير الإنسان وإن كانت القضية كاذبة ، فيتعيّن أن يكون المشتق مركباً من مفهوم الشيء والمبدأ والنسبة.

إلا انَّ هذا الكلام إنَّما نقوله في المشتقات الموضوعة بوضع نوعي ، أي الأوصاف الاشتقاقيّة بحسب مصطلح النحاة لا مثل السيف والصارم والسرير ونحوها ، فانَّ المأخوذ فيها واقع الشيء بمعنى الطبيعي الّذي يكون معروضاً لمبادئها ولذلك لا يصدق على غيره كما يظهر بمراجعة العرف واللغة.

نحو التلبّس المأخوذ في المشتق

بعد افتراض أخذ نسبة تلبسيّة بنحو من أنحاء التلبّس في مدلول هيئة المشتق ـ سواءً قيل بأخذ الذات فيه أو لا ـ يقع الكلام في انَّ هذا التلبس هل يستدعي المغايرة ذاتاً ووجوداً بين الذات والمبدأ فلا يمكن تطبيق مدلول المشتق على ما يكون متحداً مع

٣٣٤

المبدأ إذ لا يعقل التلبس حينئذ بين الشيء ونفسه ، أو يكفي في تعقله المغايرة مفهوماً وان اتحدت الذات والمبدأ وجوداً كما في إطلاق صفات الذات على الله سبحانه وتعالى بناء على الحق من عينيّة مبادئ تلك الصفات لذاته أو لا يحتاج حتى إلى المغايرة مفهوماً فيصح قولنا البياض أبيض والضوء مضيء وهكذا.

ذهب المحقق الخراسانيّ ( قده ) إلى الوسط من هذه الوجوه قائلاً بأن المأخوذ في المدلول التلبس بنحو من الأنحاء ، وهو كما يصدق على التلبس الحلولي والصدوري كذلك يصدق على التلبس الاتحادي ، ومرجعه إلى قيام المبدأ بالذات على نحو العينية وبهذا صحّ إطلاق عالم على الله سبحانه بلا حاجة إلى عناية.

والتحقيق : انّ أنحاء التلبس هي أنحاء من النسب ولا يعقل الجامع الذاتي بينها ، فدعوى : انّ المأخوذ هو التلبس بجامعه غير صحيح. لأنّ المقصود بالتلبس إن كان المعنى الاسمي له فمن الواضح انّه لا ينسبق إلى الذهن من الكلمة ، وإن كان المعنى الحرفي له فلا يتصوّر الجامع بين الحلول والصدور والعينيّة بل يتعيّن أن تكون الكلمة موضوعة لأحد هذه الأنحاء وتستعمل في الباقي بنحو من العناية أو موضوعة لكلّ واحد من تلك الأنحاء على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ على نحو لا تكون الكلمة من متحد المعنى.

وضع المجموع الكلي للمركّب

عرفنا سابقاً أن المركّب يشتمل على مواد لمفرداته وهيئات إفرادية وهيئة حاصلة من ضمّ هذه المفردات بعضها إلى بعض. وبعد أن فرغوا عن أنّ كلّ واحد من هذه العناصر موضوع لمعناه ومساهم في تكوين المعنى الجملي المجموعي للكلام وقع البحث في انّه هل يكون للمجموع من هذه العناصر المشتمل حتى على هيئة الجملة وضع خاص للمجموع من المعاني المتحصلة من تلك العناصر أو لا. والمعروف بين المحققين عدم وجود وضع من هذا القبيل وقد استدلّ لذلك بوجوه :

الأول : انّه لو ثبت هذا الوضع لزم استفادة المعنى والانتقال إليه مرّتين : مرة على سبيل التفصيل جزءاً جزءاً من ناحية وضع أجزاء الجملة وأخرى على سبيل الإجمال

٣٣٥

واللف من ناحية وضع المركب للمجموع المتحصّل من معاني أجزائه وهو خلاف الوجدان بل الّذي يلزم في الحقيقة الانتقال إلى المعنى الجملي الإجمالي مرّتين لأنّ معاني الأجزاء باعتبار اشتمالها على المعنى الحرفي الرابط لا تأتي إلى الذهن متفاصلة بل مترابطة.

ويرد عليه : انّ تعدد الانتقال بسبب تعدد الدال لا تعدد الوضع فان الوضع كما تقدّم هو القرن المؤكد بين اللفظ والمعنى فهو حيثية تعليلية للانتقال من اللفظ إلى المعنى ، وامّا السبب الباعث على تصوّر المعنى فهو نفس اللفظ فإذا كانت جملة واحدة طرفا لقرنين مؤكدين ، مجملة تارة ، ومفصلة أخرى ، فليس هناك في الذهن إلاّ سبب واحد لإثارة المعنى لأن الجملة بإجمالها وتفصيلها موجودة بوجود واحد. وإن شئت قلت : انّ التعدد التحليلي للدال لا يوجب تعدد الوجود الذهني للمعنى حقيقة.

الثاني : انّ لازم ذلك اجتماع لحاظين في آن واحد من قبل النّفس أحدهما متعلّق بالمعنى الإجمالي ، والآخر متعلّق بالمعنى التفصيليّ وهو محال. وهذا الوجه واضح البطلان كبرى وصغرى.

الثالث : انّ وضع مواد المركّب وهيئاته لأنحاء النسب والربط يجدي لتحصيل المقصود فتكون إضافة وضع آخر للمركّب على تلك الأوضاع لغواً صرفاً ، والتحقيق :

انّ هذا يتمّ إذا افترضنا انّ بالإمكان استقلال الهيئات في كلّ جملة بالوضع لمعانيها الحرفية ، ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى أن الهيئات والحروف الموضوعة للنسب الناقصة يستحيل استقلالها في الوضع بل لا بدّ أن تكون موضوعة تبعاً لوضع الجملة ككل ، ومعه لا لغوية في وضع المجموع للمجموع. ويأتي توضيح الحال في ذلك عند الكلام في تشخيص وضع الحروف والهيئات ونوعه.

الأسماء المبهمة

وقد شمل بحث الأصوليين وتحليلهم المبهمات من الأسماء ، كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات ، لشباهتها بالحروف في عدم تحدد معناها بصورة مستقلة عن غيرها ، وإن كانت تختلف عنها في إمكان وقوعها محكوماً به وحملها على الذات.

٣٣٦

ولنأخذ اسم الإشارة « هذا » محوراً للحديث وعلى ضوئه يفهم الحال في سائر المبهمات وقد ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) أن « هذا » تدلّ على نفس ما تدلّ عليه كلمة المفرد المذكر ، غاية الأمر : أنّها وضعت ليشار بها إلى المعنى ومن أجل ذلك يكون استعمالها مساوقاً لتشخيص المعنى بسبب الإشارة من دون أن تؤخذ الإشارة قيداً في المعنى الموضوع له.

واعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ : بأنّا لو سلّمنا اتحاد المعنى الحرفي والاسمي ذاتاً واختلافهما باللحاظ لم نسلم ما أفاده في المقام ، وذلك لأن لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال أمر ضروري فلا يلزم على الواضع أن يجعل لحاظ المعنى آلياً كان أو استقلاليّاً قيداً للموضوع له بل هو لغو بعد ضرورة وجوده ، وهذا بخلاف أسماء الإشارة ونحوها فان الإشارة إلى المعنى ليست ممّا لا بدّ منه في مرحلة الاستعمال فلا بدّ من أخذه قيداً في المعنى الموضوع له ، وذلك بأن يقال انّ اسم الإشارة « هذا » وضع للدلالة على قصد تفهيم المفرد المذكر في حالة الإشارة إليه وليس المراد بذلك وضعه لمفهوم المفرد المذكر بل لواقعه على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

وكلّ من اعتراض السيد الأستاذ على صاحب الكفاية ومختاره ومدعى صاحب الكفاية محل نظر ، أمّا الأول فلأنّ عدم أخذ الإشارة قيداً في الموضوع له ليس معناه إطلاق الوضع من ناحيتها بل أخذها قيداً في نفس العلقة الوضعيّة بناء على التصورات المشهورة القائلة بإمكان ذلك ، ولو لا هذا لما تمّ مدعى صاحب الكفاية في باب الحروف أيضا فان تصحيحه يتوقّف على أخذ اللحاظ الآلي قيداً في العلقة الوضعيّة. ودعوى : الفرق بين البابين كما أفيد لأنّ اللحاظ ضروري والإشارة غير ضرورية. مدفوعة بأن ما هو ضروري أصل اللحاظ لا آليته بالخصوص فآلية اللحاظ كالإشارة أمر غير ضروري ولا يمكن فرض تقوم الاستعمال به بالخصوص وإبائه عن الاستقلالية إلاّ بأخذه قيداً في الوضع بوجه من الوجوه.

وامّا الثاني : فانّه يرد عليه : أولا ـ ان لازم كون كلمة هذا موضوعة للمفرد المذكر على نحو الوضع العام والموضوع له العام الترادف بين هذا والمفرد المذكر مع انّه خلاف الوجدان ، وثانياً : ما تقدّم منا من ان تقييد العلقة الوضعيّة لا معنى له.

٣٣٧

وأما الثالث : فلأن أخذ واقع الإشارة في المدلول معناه كون الدلالة تصديقية ، وهذا يناسب مسلك التعهد ولكنه لا يناسب ما هو التحقيق من أن الدلالة الوضعيّة تصورية بحتة محفوظة حتى عند النطق بالكلمة بدون قصد وشعور. فالصحيح انّ كلمة هذا تستبطن الإشارة بوجه من الوجوه بشهادة الوجدان اللغوي ، ولكن استبطانها لذلك ليس بوضعها لمفهوم الإشارة لوضوح التغاير بين هذا والإشارة على حدّ التغاير بين من ومفهوم النسبة الابتدائية ، فانّ مفهوم الإشارة ليس إشارة كما انّ مفهوم النسبة ليس نسبة وليس أيضا بوضعها لواقع الإشارة الّذي هو فعل من النّفس ونحو توجه خاص لأن هذا يعني كون الكلمة ذات مدلول تصديقي بحسب وضعها وهو خلف المبنى ، وليس أيضا بوضعها للمقيد بهذا الواقع ، لا على نحو دخول القيد والتقيد معاً ، ولا على نحو خروج القيد مع دخول التقيد لنفس المحذور بل توضيح هذا الاستبطان : انّ الإشارة نحو نسبة وربط مخصوص بين المشير والمشار إليه والنسبة الإشارية مع مفهوم الإشارة كالنسبة الابتدائية مع مفهوم الابتدائية ، وكما أن النسبة الابتدائية لها صورة ذهنية في مرحلة المدلول التصوري كذلك تلك النسبة الإشارية ، ولفظة هذا موضوعة لكلّ مفهوم مفرد مذكر واقع طرفاً لهذه النسبة الإشارية لا بمعنى انّ الواقع الخارجي للإشارة مأخوذ ليلزم انقلاب الدلالة الوضعيّة إلى تصديقية ، بل الإشارة بما هي أمر نسبي تصوري مأخوذة على حدّ سائر النسب الحرفية في مرحلة المدلول التصوري. ونفس الشيء يقال في التخاطب أيضا فانّه يحقق نسبة معيّنة تخاطبية على الوجه المذكور وهكذا. وعلى هذا الأساس يكون الوضع في المبهمات من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

٣ ـ كيفية الوضع في الحروف والهيئات

بعد ان فرغنا من تحديد معاني الحروف والهيئات من زاوية تمييزها عن المعاني الاسمية واستكشاف خصائصها العامة المشتركة يقع الكلام في تشخيص كيفية وضع الحروف والهيئات وذلك من ناحيتين :

الأولى : من ناحية المعنى الموضوع له فيبحث انّ وضعها هل هو من الوضع العام

٣٣٨

والموضوع له العام كما في أسماء الأجناس أو من الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

والثانية : من ناحية اللفظ الموضوع فيبحث انّ وضعها هل هو وضع شخصي أو نوعي.

١ ـ من ناحية المعنى الموضوع له

أمّا من الناحية الأولى : فالكلام فيها يشمل كلّ الحروف والهيئات التي تدلّ على معنى حرفي ، وامّا ما كان منها موضوعاً لمفهوم اسمي كالمشتق بناء على التركب بالنحو المتقدم فهو خارج عن محل البحث لأنّ حاله حال سائر أسماء الأجناس في كونها موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام.

وتحقيق الحال في هذه الناحية : انّ المعاني الحرفية ، تارة : تكون نسباً واقعية وهي مداليل الجمل التامة. وأخرى : نسباً تحليلية ناقصة وهي مداليل الحروف وهيئات الجمل الناقصة.

امّا النسب الواقعية فالصحيح انّ الوضع فيها عام والموضوع له خاص إلاّ أن العمومية والخصوصية لا يراد منهما العمومية والخصوصية بلحاظ الصدق الخارجي لوضوح انّ هذه النسبة الواقعية ذهنية وليست خارجية ، بل لا يعقل تحقق النسبة التصادقية والإضرابية في الخارج على ما برهنا عليه فيما سبق. كما أنّ ما جاء في تعبير المحقق النائيني قدس‌سره في تفسير العمومية والخصوصية من انّ الخصوصية تعني دخول تقيد المعنى الحرفي بطرفيه في المعنى الموضوع له وان خرج عنه ذات الطرفين والعمومية تعني خروج التقيد بالأطراف أيضا عن المعنى الموضوع له ليس بصحيح ، إذ ليس لنا في المعاني الحرفية النسبية زائداً على نفس النسبة التي هي التقيد أمران قيد وتقيد أو طرف وتقيد آخر بينه وبين النسبة لكي يبحث عن خروج التقييد عن حريم المعنى الموضوع له ودخوله فيه ، فان امتياز المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي في انّه بذاته تقيد وربط فلا يحتاج إلى تقيد آخر يربطه بطرف وإلاّ لاحتاج ذلك الربط إلى ربط آخر وهكذا.

وانّما المقصود العمومية والخصوصية بلحاظ عالم الذهن نفسه ، أي انّ أفراد هذه

٣٣٩

النسب الواقعية في الذهن هل يكون فيما بينها جامع حقيقي تكون نسبته إليها نسبة الكلّي إلى مصاديقه في نفس هذا العالم لكي يعقل وضع الجملة بإزاء ذلك الجامع أولا يوجد ثمة جامع ذاتي بين النسب فلا بدّ من وضع الجملة بإزاء مصاديق النسب الموجودة في صقع الذهن. فعلى الأول يكون الموضوع له عاماً وعلى الثاني يكون خاصاً ، وقد تقدّم فيما سبق البرهان على استحالة وجود جامع حقيقي بين النسب الواقعية. فيتعين أن يكون الموضوع له خاصاً في الجمل الموضوعة بإزاء النسب الواقعية.

وامّا النسب الناقصة ، والتي هي نسب أوليّة موطنها الأصلي هو الخارج لا الذهن ولذلك كانت تحليلية ـ على ما تقدّم ـ فالبحث عنها يكون من حيث الوضع والموضوع له معاً فان ما يوضع بإزاء هذه النسب كما يكون مدلوله ضمنيّاً تحليليّاً كذلك يكون وضعه ضمنيّاً ، لأنّ وحدة الوجود الذهني المدلول عليه بجملة « نار في الموقد » يستدعي أن لا تكون هناك دلالات وانتقالات ذهنية ثلاثة للجملة بنحو تعدد الدال والمدلول بل ليس هناك إلاّ مدلول واحد ودال واحد وذلك لأن الوضع ليس إلاّ القرن الموجب للدلالة. وليست الدلالة إلاّ السببيّة في عالم التصوّر واللحاظ بين اللفظ والمعنى ، والسبب دائماً هو الوجود الفعلي ولا يعقل أن يستقل جزؤه التحليلي بالسببيّة فما لا استقلال له في الوجود لا استقلال له في السببيّة والموجدية. فهناك إذن وجود واحد وموجدية واحدة وبالتالي وضع واحد وهذا يعني انّ الوضع في الحروف والجمل الناقصة وضع ضمني كما انّ مدلولها ضمني تحليلي ، بمعنى انّ الواضع قد وضع كلمة « نار » لمعناها الاسمي المستقل وكلمة « موقد » لمعناها الاسمي أيضا ثمّ وضع جملة « نار في الموقد » ـ ولو بنحو الوضع النوعيّ المشار به إليهما إجمالاً ـ للمعنى الوحدانيّ المتضمّن بالتحليل لأجزاء ثلاثة.

ومن الواضح انّ الموضوع له في الحروف ونحوها خاص أيضا لأنّ الواضع قد وضعها لواقع تلك الحصص والصور الوحدانية المحتوية على النسبة التحليلية ولم يضعها لمفهوم الظرفية الاسمي مثلاً ، لما تقدّم من أنّ هذا المفهوم ليس جامعاً حقيقيّاً ذاتيّاً لتلك النسب والتحصيصات. والمراد من الوضع العام والموضوع له الخاصّ هنا الحصص بمعنى انّ الواضع يتصوّر مفهوم الحصة الخاصة المشتملة على الظرف والمظروف ونسبة

٣٤٠