بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

١ ـ هيئات الجمل

١ ـ الجمل الناقصة

٢ ـ الجمل الخبرية

ـ اسمية وفعلية ومزدوجة ـ

٣ ـ الجمل الإنشائية

٤ ـ الجملة الشرطية

٢ ـ الهيئات الإفرادية

هيئة الفعل ، هيئة المصدر

هيئة المشتقات. المركبات

المبهمات.

٣ ـ كيفية الوضع في الحروف والهيئات

٤ ـ الثمرات العملية للبحث

٢٦١
٢٦٢

ونريد بالهيئة : التركيب الخاصّ لمفردات معيّنة من حروف أو كلمات بما يشتمل عليه هذا التركيب من خصوصيات.

والهيئات على قسمين ، أحدهما : هيئات الجمل. والآخر : الهيئات الإفرادية. وسنتكلّم عن القسمين تباعاً.

١ ـ هيئات الجمل

ونريد بهيئة الجملة : الهيئة القائمة بمجموع كلمتين أو أكثر على نحو يكون للمجموع مدلول لم يكن ثابتاً لتلك المفردات في حال تفرّقها.

وتنقسم الجملة إلى جملة ناقصة وجملة تامة خبرية وجملة تامة إنشائية وفيما يلي تحقيق هيئات هذه الأصناف الثلاثة على الترتيب.

١ ـ الجمل الناقصة

وهي الجمل التي لا يصحّ السكوت عليها ، كما قال علماء العربية ، كجملة الوصف والموصوف والمضاف والمضاف إليه.

٢٦٣

وهناك اتجاهان في تفسير مفاد هذه الجمل.

١ ـ ما ذهب إليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من وضع هيئات الجمل الناقصة للتخصيص ، كما تقدّم منه في الحروف. وقد عرفت أن التحصيص لا يكون إلا في طول نسبة بين المفهومين فلا بدَّ من دال عليها وليس غير الهيئة في الجملة الناقصة ما يمكن ان يفترض دالاً عليها.

٢ ـ ما ذهب إليه المشهور من وضع الجملة الناقصة بإزاء النسبة الناقصة.

والصحيح : أن الجمل الناقصة كقولنا ( ضرب زيد ) من قبيل القسم الأول من الحروف موضوعة للنسب التحليلية ، بمعنى أن ما بإزائها وجود ذهني واحد والنسبة جزء تحليلي للمركّب التحليلي الموجود بذلك الوجود ، ويستحيل فرض نسبة واقعية في هذا المجال ، لأنَّها تستدعي فرض صورتين متغايرتين ، إحداهما صورة زيد ، والأخرى صورة الضرب ، ومع فرض ذلك يتعذّر الربط بينهما بنحو يمكن الحكاية عن ضرب زيد الخارجي ، لأن إيجاد الربط بينهما إمَّا أن يكون بمفهوم النسبة الصدورية مثلاً ، أو بإيجاد واقع النسبة الصدورية ، أو بإيجاد نسبة واقعية أخرى غير النسبة الصدورية ، والكل باطل كما تقدّم نظيره في الحروف ، أمَّا الأول فلأنَّه مفهوم اسمي ولا يحصل به الربط ؛ وامَّا الثاني فلاستحالة قيام نسبة صدورية ونحوها بالحمل الشائع بين الصور الذهنية ، لأن إحداهما لم تصدر عن الأخرى وليست من أعراضها بل كلتا هما من عوارض النّفس وصادرتان عنهما ، وأمَّا الثالث فلاستحالة الحكاية عن سنخ نسبة بسنخ نسبة أخرى. فلا بدَّ إذن من فرض وجود ذهني وحداني وهذا الوجود وجود لمركّب تحليلي أحد أجزائه النسبة ، وما هو نفس الحقيقة بالنظر التصوري وغيرها بالنظر التصديقي انَّما هو نفس ذلك الوجود الوحدانيّ على النحو الّذي أوضحناه في الحروف ، وسيأتي مزيد توضيح لمفاد الجملة الناقصة في الفرق بينها وبين الجمل التامة.

هذا على العموم ، وبالتدقيق يتّضح أن الجمل الناقصة التي تشتمل على نسب ناقصة تتواجد في مواردها نسبة حقيقية من نحوين : أحدهما : نسب حقيقية خارجية ، كما في النسبة القائمة بين الضرب وزيد في جملة الإضافة ( ضرب زيد ). والآخر : نسب حقيقية قائمة في صقع الذهن لما تقدّم من أنَّ النسب الثانوية نسب قائمة في صقع

٢٦٤

الذهن بما هي نسب حقيقة ، كما في النسبة القائمة بين الوصف والموصوف في الجملة الوصفية في قولنا ( الرّجل العالم ) إذ ليس بين الرّجل والعالم نسبة حقيقية خارجية لاتّحاد هما في الخارج ، والنسبة في صقع وجودها تتطلب طرفين متغايرين ، وانَّما النسبة الخارجية قائمة بين الرّجل والعلم ، وأمَّا بين الرّجل والعالم فهناك نسبة تصادقية تامة في الذهن ، وهي من النسب الثانوية التي موطنها الأصلي الذهن ، وسيأتي أن مفاد الجملة التامة هو هذه النسبة التصادقية ، وكما انَّ النسبة الحقيقية الخارجية بين الضرب وزيد يمكن للذهن في مجال تصور الواقعة تحويلها بطرفيها إلى مفهوم واحد مركّب تركباً تحليليّاً بحيث تكون النسبة المذكورة تحليلية في هذا المفهوم ، كذلك النسبة الحقيقية الذهنية التصادقيّة بين « الرّجل والعالم » ، فانَّها إذا أريد التعبير عنها وعن طرفيها بما هي واقعة أمكن للذهن تحويلها بمجموعها إلى مفهوم واحد مركّب تركّباً تحليليّاً بحيث تكون النسبة التصادقية تحليلية في هذا المفهوم ويعبر حينئذ بالجملة الناقصة ، وسيتّضح هذا المطلب أكثر في أعقاب شرح مفاد الجملة التامة.

٢ ـ الجمل التامة الخبرية

والمشهور أنَّها موضوعة للنسب ، ولكن النسبة المفاد عليها بالجملة التامة نسبة تامة يصحّ السكوت عليها بخلاف النسبة المفاد عليها بالجملة الناقصة أو الحروف.

وخالف في ذلك أيضا السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ وادّعى : أنَّها موضوعة لإبراز أمر نفساني كقصد الحكاية في الجملة التامة الخبرية وقصد الإنشاء في الجملة التامة الإنشائية.

وقد أفاد بهذا الصدد اعتراضات عديدة في محاولة لإبطال ما ذهب إليه المشهور (١) نذكرها جميعاً مع التعليق عليها بما يثبت في النهاية صحة مسلك المشهور.

الاعتراض الأول : النقض بموارد لا يعقل فيها وجود النسبة خارجاً بين الموضوع والمحمول ، كقولنا العنقاء ممكن وشريك الباري ممتنع ، لأنَّ ثبوت النسبة فرع ثبوت

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٩٠ ـ ٩٣

٢٦٥

المنتسبين خارجاً فمع عدمهما لا يعقل ثبوتها ، فلا بدَّ وأن يكون معنى الجملة الخبرية سنخ معنى محفوظ حتى في هذه الموارد ، وليس هو إلا قصد الحكاية.

وواضح أن هذا الاعتراض مبنيّ على افتراض أخذ النسبة الخارجية في مفاد الجملة الخبرية ، والواقع انَّ هذا الاعتراض منه ـ دام ظلّه ـ انسياق مع فهمه لمسلك المشهور في المقام السابق ، حيث رأينا كيف حمل كلام المحقق الأصفهاني ( قده ) على إرادة الوجود الرابط الخارجي. وقد عرفت انَّ نظر المشهور إلى النسبة الذهنية بين المفهومين ، وهي محفوظة في كلّ مورد يفترض فيه وجود مفهومين في الذهن ولو فرض استحالة وجود هما خارجاً. فلو كان مقصوده عدم تصوّر النسبة في موارد النقض بين المفهومين في صقع الوجود الذهني فهو غير صحيح ، وإن كان مراده عدم النسبة الخارجية لتوقّفها على وجود الطرفين في الخارج فيرد عليه :

أوَّلا : انَّ النسبة المدعى وضع الجملة لها ليست هي الخارجية كما عرفت. وليست نسبة ذلك إلى المشهور إلا كنسبة وضع الحروف للوجود الرابط الخارجي إلى المحقق الأصفهاني ( قده ).

ثانياً : انَّ الملحوظ لو كان هو النسبة الخارجية فلا موجب لتخصيص النقض بمثل شريك الباري ممتنع ، لأنَّ النسبة الخارجية غير محفوظة في جميع القضايا الحملية حتى مثل « زيد عالم » لأنَّ الحمل مبني على الهوهويّة وكون زيد وعالم موجودين بوجود واحد ، ومع وحدة الوجود في الخارج لا يمكن افتراض نسبة خارجية ، لأنَّ النسبة في كلّ صقع تحتاج إلى طرفين في ذلك الصقع فمع عدم التعدد في صقع لا نسبة أيضا.

الاعتراض الثاني : إن حقيقة الوضع بعد أن كانت عبارة عن التعهّد عند الأستاذ ـ دام ظلّه ـ فلا محالة يتعلّق بأمر اختياري ، وما هو اختياري انَّما هو قصد الحكاية أو الإنشاء لا ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها.

ويرد عليه : انَّ وضع الجملة للنسبة لا يراد به إلا نفس ما يراد حين يقال مثلاً ان « من » موضوعة للتخصيص أو ان « نار » موضوعة للجسم المحرق. فلما ذا لا يعترض هناك ويقال : انَّ التحصيص أو الجسم المحرق لا معنى للتعهد به كما لا معنى للتعهد بالنسبة؟.

٢٦٦

وحلّ المغالطة : أنه بناء على التعهد يكون المعنى الموضوع له حقيقة أمراً نفسانيّاً دائماً حتى في الكلمات الإفرادية والحروف وهو قصد إخطار المعنى تصوّراً في ذهن السامع ، فقصد إخطار التحصيص مثلاً هو معنى « من » بناء على مسلك التحصيص في الحروف ، وقصد إخطار صورة الجسم المحرق هو معنى كلمة « نار » وهكذا ... وبناء على هذا يعود النزاع بين المسلكين في باب الجملة التامة بعد الفراغ عن كونها موضوعة لأمر نفساني إلى الخلاف في تعيين هذا الأمر النفسانيّ ، فهل هو قصد إخطار النسبة تصوراً أو قصد الحكاية عنها؟ فالأوّل هو المدّعى في مسلك المشهور بعد افتراض عدم بطلان التعهد ، والثاني هو المدّعى في مسلك السيد الأستاذ وهكذا يتّضح : أن كون الوضع هو التعهّد لا يعين أحد القولين في المقام.

الاعتراض الثالث : وهو مبني على أنَّ مثل جملة « زيد عالم » له دلالة تصديقية على معناه ، إذ يقال علي هذا الأساس : انَّ معنى جملة « زيد عالم » يجب أن يكون سنخ معنى تقتضي الجملة التصديق به ، ومن الواضح انَّ الجملة بما هي لا تقتضي التصديق بالنسبة ولو ظنّاً بل بقصد الحكاية ، فيتعيّن أن يكون قصد الحكاية هو مدلول الجملة.

والتحقيق ، أنَّنا تارة : نتكلّم على مبنى كون الوضع غير التعهد ، وأخرى : على مبنى انَّ الوضع هو التعهد.

فعلى الأول تكون الدلالة الوضعيّة دائماً تصورية ، إذ لا يعقل نشوء أكثر من ذلك من الوضع بناء على عدم إرجاعه إلى التعهد ، فجملة « زيد عالم » دلالتها الوضعيّة تصورية أيضا. وامَّا دلالتها التصديقية على قصد الحكاية فليست وضعية ، بل بملاك الظهورات الحالية والسياقية.

وأمَّا على الثاني فالدلالة الوضعيّة تصديقية دائماً حتى في الكلمات الإفرادية ، حيث أنَّها تدلّ دلالة تصديقية على قصد إخطار المعنى ، وتكون الجملة التامة مثل « زيد عالم » ذات دلالة وضعية تصديقية على المسلكين معاً. غاية الأمر : أنَّ مدلولها الوضعي التصديقي على مسلك السيد الأستاذ هو قصد الحكاية ، وعلى مسلك المشهور هو قصد إخطار النسبة في الذهن وأمَّا قصد الحكاية فلا يكون على مسلك المشهور مدلولاً وضعياً ، بل مدلولاً تصديقيّاً سياقيّاً ينشأ من قرائن الحال والسياق ، على ما تقدّم

٢٦٧

في مبحث تبعية الدلالة للإرادة.

الاعتراض الرابع : عدم تعقّل الفرق بين الجمل التامة والجمل الناقصة فيما إذا فرض انَّهما معاً موضوعان للنسبة ، إذ ليست النسبة من الأمور القابلة للقلة والكثرة أو التمامية والنقصان ، فلا بدَّ وأن يكون منشأ الفرق الّذي نجده بينهما أن تكون الجمل التامة موضوعة لقصد الحكاية عن وقوع تلك النسبة ليكون مطلباً تصديقيّاً يصحّ السكوت عليه.

وهذا الاعتراض هو أوجه الاعتراضات التي وجهها السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ على مسلك المشهور ، إلا انَّه مع ذلك ممَّا لا يمكن المساعدة عليه لأنَّ الفارق بين الجمل التامة والجمل الناقصة لا بدَّ وأن نفتّش عنه بلحاظ مدلوليهما التصوريين ولا يكفي إدخال المدلول التصديقي في مفاد الجملة التامة لإبراز ذلك بدليل انحفاظ الفرق بينهما حتى إذا ما انسلخت الجملة عن قصد الحكاية ، كما إذا دخل عليها الاستفهام فقيل « هل زيد عالم » وهو ينافي قصد الحكاية عن النسبة ، فلو كان مدلولها التصوري عين المدلول التصوري في الجملة الناقصة وهي « زيد العالم » لصحّ أن يقال « هل زيد العالم » بدلاً عن « هل زيد عالم » مع وضوح عدم صحّته ، وليس ذلك إلا من جهة الفرق التصوري بين مدلول الجملتين ، وأن النسبة نفسها على قسمين تامة وناقصة.

كيف تكون النسبة ناقصة أو تامة؟

والواقع ، أن بيان حقيقة الفرق بين الجملتين التي تستوجب تمامية إحداهما وصحة السكوت عليها ونقصان الأخرى من أهم وأدقّ مراحل هذا البحث ، والغريب انَّ أكثر المحققين لم يعالجوا هذه المشكلة في حدود ما اطلعت عليه من كلماتهم.

والّذي ينبغي أن يقال بهذا الصدد : أن النسبة إذا كانت تحليلية في صقع الذهن بالمعنى المتقدّم شرحه في القسم الأول من الحروف كانت ناقصة ، وإذا كانت واقعية في صقع الذهن كانت تامة. فالتمامية والنقصان تنشأ من تحليلية النسبة وواقعيتها ، لأنَّ النسبة إذا كانت تحليلية فمعناه أنَّه لا يوجب في الذهن إلا مفهوماً إفراديّاً ينتظر في حقّه أن يقع طرفاً للارتباط بحكم معيّن ، فلا يصحّ السكوت عليه. وامَّا إذا كانت

٢٦٨

واقعية فمعناه احتواء الذهن كلا من النسبة والمنتسبين ، فلا حالة منتظرة فتكون تامة. وأمَّا تشخيص ما يكون من النسب الذهنية تحليلاً وما يكون منها واقعيّاً فضابطه العام أن كلّ نسبة يكون موطنها الأصلي هو الخارج ، أي نسبة خارجية فهي نسبة تحليلة في الذهن بالبرهان المتقدّم في الحروف والجمل الناقصة وكلَّ نسبة يكون موطنها الأصلي الذهن فهي نسبة ذهنية واقعية.

لا يقال ـ على هذا الأساس ينبغي أن يكون المدلول في القسم الثاني من الحروف كحروف العطف والإضراب مدلولاً تاماً يصحّ السكوت عليه كالجمل التامة ، لأنَّها تدلّ على النسب الثانوية التي موطنها الأصلي هو الذهن لا الخارج.

فانَّه يقال ـ لا شك في دلالة هذا القسم من الحروف أو الهيئات على النسب التامة ، إلا انَّ هذا لا يعني صحة السكوت عليها بمفردها ، بل لا بدَّ من الإتيان بأطراف النسبة التامة المفادة بها أيضا لكي يتمّ المعنى في الذهن ويصحّ السكوت عليه ، وهذا واضح.

الجمل الخبرية الاسمية

وفي ضوء هذا التحليل نستطيع أن نفهم النسب المفاد عليها في الجملة الخبرية الاسمية ـ الحملية ـ فانَّها موضوعة للنسبة التصادقية وهي الربط بين المفهومين ـ الموضوع والمحمول ـ بنحو يرى أحدهما الآخر ويصدق عليه في الخارج ، فانَّ الذهن البشري قادر على استحضار مفهومين وإنفائهما في واقع خارجي معيّن ، فتكون بينهما نسبة التصادق والإراءة لمعنون واحد.

وهذه نسبة ذهنية وليست خارجية ، بل يستحيل أن تكون خارجية إذ ليس في الخارج وجودان ليكون بينهما نسبة خارجية ، بل وجود واحد مصداق للمحمول والموضوع في الجملة الخبرية.

وفي كلّ صقع تكون النسبة موجودة فيه لا بدَّ أن يكون لطرفيها وجودان متغايران ، فحينما نقول « الرّجل عالم » يكون الكلام دالاً على هذه النسبة ، وباعتبارها نسبة واقعية استوفت أطرافها تكون تامة وتكون الجملة جملة تامة بخلاف قولنا « علم

٢٦٩

الرّجل أو « الرّجل العالم ».

أمَّا الأول ، فلأن النسبة هنا تحليلية ، ببرهان أنَّها من النسب التي موطنها الأصلي الخارج فيستحيل تصوّر الذهن لها إلا عن طريق مفهوم ذهني واحد مركّب تحليلاً ، كما برهنا عليه سابقاً.

وأمَّا الثاني ، فلأن النسبة هنا تحليلية أيضا ، لا لأنَّ موطنها الأصلي الخارج فان مرد النسبة في الجملة الوصفية « الرّجل العالم » إلى النسبة التصادقية لا إلى نسبة خارجية ، لعدم وجود نسبة في الخارج بين الرّجل والعالم ، لاتحاد هما في وعاء الخارج وفي وعاء اتحاد الطرفين يستحيل قيام النسبة بينهما ، وإنَّما تقوم بينهما في وعاء المغايرة وهو الذهن ، فالنسبة الممكنة بين الرّجل والعالم انَّما هي النسبة التامة التصادقيّة ، غير أنَّ هذه النسبة إذا أريد الحكاية عنها تصوّراً على حدّ حكاية الذهن تصوّراً عن النسب الخارجية كان من الضروري تحويلها إلى نسبة تحليلية أيضا بحيث يوجد في الذهن مفهوم وحداني مركّب لو حلل لانحل إلى نسبة تصادقيّة وطرفين ، وذلك إذ بدون هذا ومع قيام النسبة التصادقيّة في الذهن حقيقة لا يكون ذلك مفهوماً ذهنيّاً حاكياً عن النسبة التصادقيّة بل إيجاداً حقيقيّاً لها ، فالذهن بعد فرض قدرته على الحكاية مفهوماً وتصوّراً عن النسب الواقعية سواءً كانت أوليّة خارجية أو ثانوية ذهنية على حدّ قدرته على الحكاية عن غير النسب من الأمر والواقعية فلا بدَّ أن تكون حكايته عن تلك النسب بالطريقة التي برهنا عليها ، وبهذا قد يتّضح سر الكلام المعروف وهو أن الأوصاف قبل العلم بها اخبار ، وانَّ الجملة الوصفية متأخرة رتبة عن الجملة التامة ، فانَّه من تأخر الحاكي عن المحكي ، فانَّ نسبة مفاد الجملة الوصفية إلى مفاد الجملة التامة نسبة مفاد جملة الإضافة « علم الرّجل إلى الواقعة الخارجية التي تمثّل قيام هذا العرض بموضوعه.

قد يقال انَّ النسبة التصادقية إن كانت خصوصية لحاظية فلا بدَّ فيها من ملحوظ بالذات وملحوظ بالعرض من زاوية اللاحظ مع انَّ المفروض انَّها ليس لها ما يطابقها في الخارج ، وإن كانت خصوصية واقعية قائمة باللحاظ فهي ليست ملحوظة ومتوجهاً إليها إلا بلحاظ آخر يكون ناظراً إلى الربط المخصوص بين التصورين الأوليين مع

٢٧٠

وضوح انَّنا في الجملة التامة لا نستعين بلحاظ آخر طولي نرى به الربط بما هو خصوصية واقعية قائمة باللحاظ الأول ، والتحقيق : انَّ الخصوصيات التي تفترض في اللحاظ على ثلاثة أقسام ، الأول : الخصوصية اللحاظية ومرجعها إلى لحاظ زائد يؤخذ قيداً في اللحاظ الأول كلحاظ العلم في الإنسان ، فانَّه لحاظ ضمني زائد على لحاظ أصل الإنسان ، وهذا اللحاظ الضمني له ملحوظ بالذات وملحوظ بالعرض بمقدار صلاحيته للفناء والحكاية عن الخارج تصوّراً.

الثاني : الخصوصية الواقعية القائمة باللحاظ بما هو موجود من الموجودات كخصوصية كونه معلولاً للحاظ الفلاني ومتأخراً رتبة عن علّته ونحو ذلك ، وهذه الخصوصيات ليست تحت نظر الذهن بنفس منظورية ذلك اللحاظ ولا حاضرة لديه بنفس حضور ذلك اللحاظ ، بل حضورها لدى الذهن يحتاج إلى ملاحظة ثانوية تنتزع بها أمثال تلك العناوين من تلك الخصوصيات الواقعية.

الثالث : الخصوصية الواقعية القائمة باللحاظ ، لكن لا بما هو موجود بل بحيثية إراءته وإنارته ، ومثالها خصوصية الإفناء وملاحظة المفهوم فانياً في الواقع ، فانَّ هذا الإفناء ليس خصوصية لحاظية كما في القسم الأول بمعنى انَّا نضيف خصوصية مفهومية إلى المفهوم الملحوظ ، فيكون فانياً كما نضيف قيد العالم إلى الإنسان ، وذلك ببرهان انَّ أيَّ إضافة مفهومية يبقى المفهوم بعدها ملائماً للإفناء وعدمه ، وهذا معناه انَّ الإفناء خصوصية في نفس اللحاظ وفي كيفية إراءته لملحوظه وليست تطعيماً للملحوظ بعنصر جديد ، إلا انَّ هذه الخصوصية حيث إنَّها قائمة بنفس إراءة اللحاظ فهي حاضرة لدى الذهن بنفس حضور هذه الإراءة لا محالة ، ولا يحتاج حضورها إلى لحاظ طولي ، ومن هذا القبيل خصوصية تصادق الإراءتين في لحاظ الموضوع ولحاظ المحمول ، بحيث يكون ما يرى بالمحمول من الملحوظ بالعرض من زاوية اللاحظ نفس ما يرى كذلك بالموضوع ، وهذه خصوصية في كيفية إفناء المحمول في ملحوظه بالعرض ، وهي قائمة بحيثية إراءة اللحاظ ، ولهذا ترى بنفس رؤية الذهن للحاظين فكما انَّ رؤية اللحاظ فانياً لا يحتاج إلى لحاظ آخر من الذهن كذلك رؤية اللحاظين متصادقين في مقام الفناء ، وكما انَّ خصوصية إفناء اللحاظ في الخارج ليس لها ملحوظ بالذات ولكنَّها دخيلة في رؤية

٢٧١

الملحوظ بالعرض باللحاظ الفاني من زاوية اللاحظ كذلك خصوصية تصادق اللحاظين في مقام الإفناء على مصب واحد لا يضيف إلى ملحوظ بالذات خصوصية مفهومية لأنَّ هذا التصادق معنى حرفي قائم بين اللحاظين نفسهما ، ولا يدخل كقيد في الملحوظ بالذات ولكنه دخيل في رؤية الملحوظ بالعرض للحاظين معه بنحو الوحدة فبدلاً عن أن يفنى كل من اللحاظين بصورة منعزلة عن الآخر يفنيان معاً في مصبّ واحد.

الجملة الخبرية الفعلية

والنسبة التصادقيّة التي هي النسبة التامة المداولة للجملة الخبرية كما تتصوّر في الجمل الخبرية الاسمية كما في قولنا « الرّجل ضارب » كذلك تتصور في الجمل الخبرية الفعلية كما في قولنا « ضرب الرّجل غاية الأمر أنَّهما نحوان من التصادق ، فانَّ التصادق في الأول هو بالمعنى الّذي عرفناه الّذي يرجع إلى انطباقهما على واقع واحد ، والتصادق في الثاني بمعنى انطباقهما على مركز واحد مركّب من العرض ومحله ، فالضرب والرّجل مفهومان وهذان المفهومان قد يلحظ مفهوم الضرب منهما فانياً في حادثة ومفهوم الرّجل فانياً في ذات غير واقعة طرفاً لتلك الحادثة ، وفي مثل ذلك لا ربط ولا تصادق بين المفهومين. وقد يلحظ مفهوم الضرب فانياً في حادثة معيّنة ومفهوم الرّجل فانياً في طرف تلك الحادثة ، فيكون بينهما علاقة وارتباط وتصادق على واقعة مركّبة واحدة في الخارج ، وهذا هو مفاد الجملة الفعلية. فالتصادق دائماً يكون بلحاظ أخذ العنوانين بما هما مشيران إلى الخارج مع افتراض نحو وحدة في المشار نحوه بهما معاً ، فان كانت هذه الوحدة ذاتية كان من باب الحمل ، كما هو الحال في الجمل الخبرية الاسمية ، وإن كانت وحدة في الواقعة كان من باب الإسناد كما هو الحال في الجمل الخبرية الفعلية.

٢٧٢

الجملة الخبرية المزدوجة

وهناك قسم ثالث من الجمل الخبرية تعتبر مزدوجة مركّبة من جملة اسمية وفعلية وهي الجملة الاسمية التي يكون الخبر فيها فعلاً ، كقولك « البدر طلع » والبحث عن هذا النوع من الجمل يقع في مقامين :

الأول : تشخيص كونها مركّبة من جملتين أي جملة كبرى بحسب مصطلح النحاة أو جملة واحدة فعلية تقدّم فيها الفاعل على الفعل.

الثاني : في كيفية تصوير النسبة التصادقية في الجمل المركّبة ـ الجمل الكبرى ـ.

أمَّا المقام الأول : فالمعروف المشهور بل المتّفق عليه عند علماء العربية اعتبار أمثال هذه الجملة مركّبة من جملتين جملة صغرى تقع محمولاً داخل الجملة الكبرى على حدّ قولنا « زيد أبوه قائم » وذلك باعتبار أن الفاعل لا بدَّ وأن يتأخّر عن الفعل فيذكر بعده امَّا صريحاً أو بضمير يرجع إلى ما قبله « فالبدر طلع » يعني « البدر طلع هو » فيكون الخبر جملة فعلية لا محالة وفي قبال ذلك هنالك اتّجاه حديث من قبل بعض الباحثين يقضي باعتبار الجملة المزدوجة جملة واحدة فعلية تقدّم فيها الفاعل على الفعل فجملة « البدر طلع » هو نفس جملة « طلع البدر » وذلك لأنَّه لا يطرأ بتقديم الفاعل فيها على الفعل أي جديد إلا تقديم المسند إليه وهو لا يغيّر من طبيعة الجملة ولا من معناها وأمَّا قصة تأخّر الفاعل عن الفعل رتبة فهي تعسفات وتفلسفات ألزم بها النحاة أنفسهم وقد أوقعتهم في كثير من المشكلات على حدّ تعبيره (١).

ونحن وإن كنَّا قد نتّفق مع الباحث المذكور في وقوع شيء من التكلّف والتفلسف غير المنسجم مع طبيعة البحوث اللغوية ووظيفتها أحياناً في كلمات النحاة حين حاولوا تعليل القواعد العربية وصياغتها في قوالب الفلسفة الإغريقية. ولكنا مع ذلك نرى انَّ هذه المحاولات أو جملة منها على الأقل لم تكن أكثر من مجاراة مع روح العصر وثقافته ولغته العلمية آنذاك لإعطاء ضوابط فنيّة ومدرسيّة عمَّا كانوا يدركونه مسبقاً

__________________

(١) راجع « في النحو العربي » ص ٣٩ ـ ٤٠

٢٧٣

بوجداناتهم اللغوية الأصيلة وهذا يعني انَّا إذا شئنا تجاوز تلك الصياغات والمصطلحات وأردنا تأسيس منهج آخر قد يكون أنسب وأقرب إلى روح البحوث اللغوية والنحوية فلا بدَّ وأن لا نتخبط في إنكار وجدانات لغوية أصيلة قد تكون مستترة من وراء تلك الصياغات.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعلّق في المقام بما يلي :

انَّ القول بأنَّ جملة « البدر طلع » فعلية يجعلنا أمام مفارقات لا يمكن حلّها وتفسيرها. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.

١ ـ كيف نفسّر صحة قولنا « ذهب الناس » وعدم صحة « الناس ذهب » وانَّما الصحيح « الناس ذهبوا ».

٢ ـ صحة قولنا « قام محمد وعلي » وعدم صحة « محمد وعلي قام » بل الصحيح « محمد وعلي قاما ».

٣ ـ صحة قولنا « طلع الشمس » وعدم صحة « الشمس طلع » بل الصحيح « الشمس طلعت ».

٤ ـ صحة قولنا « جاء رجل وعدم صحة « رجل جاء ».

ومرجع الثلاثة الأولى إلى اشتراط التطابق بين المبتدأ وخبره في الأفراد والتثنية والجمع والتأنيث والتذكير فإذا قلنا : ان « رجل و « الناس » و « محمد » و « علي » فاعل ويرتبط به الفعل مباشرة ، سواءً تقدّم على الفعل أو تأخّر عنه فلا نستطيع أن نفسّر هذه الفوارق بين حالة تقدّم الفعل وحالة تأخره ما دام جوهر العلاقة المعنوية واحداً ، بل تكون مجرّد فوارق تعبّدية بحتة ، بخلاف ما إذا افترضنا انَّ جوهر العلاقة المعنوية مختلف وانَّ العلاقة بين جزئي الجملة في حالة تقدّم الفعل هي علاقة إسنادية ، أي علاقة فعل بفاعل ، وأنَّها في حالة تأخر الفعل علاقة حملية أي علاقة خبر بمبتدإ ، وهو ما يعنيه النحاة بقولهم انَّ الجملة في هذه الحالة تعتبر اسمية. فان بإمكاننا أن نفسّر الفوارق المذكورة حينئذ باعتبار أنَّ فاعل الفعل ليس هو الاسم المتقدّم عليه ليقال : كيف ساغ أن يكون الفعل بصيغة المفرد أو التذكير حينما يتأخّر عنها ولا يسوغ ذلك حينما يتقدّم عليها. بل الفاعل ضمير يمثّل مدلول الاسم المتقدّم ، ولما كان الضمير ممثلاً

٢٧٤

لمرجعه فلا بدَّ أن يتطابق معه في الأفراد والجمع والتأنيث ، وهذا يبرهن على انَّ الجملة اسمية والاسم المتقدّم ليس فاعلاً بل موضوعاً للحكم عليه بجملة فعلية ، وهذه هي العلاقة الحملية التي نجدها في الجملة الاسمية حينما يكون الخبر فيها مفرداً ، وحينما يكون الخبر فيها جملة اسمية كما في « زيد أبوه عالم ».

ومرجع الفرق الأخير إلى اشتراط تعريف المبتدأ وعدم جواز الابتداء بالنكرة. وهذا يبدو شرطاً تعبّديّاً بناء على افتراض انَّ الفاعل يبقى على فاعليته مع تأخّر الفعل أيضا ، إذ لا يعرف وجه لاشتراط كون الفاعل معرفة في حال تقدمه ورفع اليد عن هذا الشرط في حال تأخره. بخلاف ما إذا افترض تغير جوهر العلاقة في حالتي تأخّر الفاعل وتقدّمه وأنَّ الجملة في الحالة الأولى فعلية والعلاقة فيها إسنادية لا يحتاج فيها إلى معرفية الفاعل والجملة في الحالة الثانية اسمية والعلاقة فيها حملية ، والنسبة الحملية باعتبار كونها تطبيقاً للمحمول على الموضوع بنحو يرى تصادقهما على مركز واحد هو الموضوع كان للموضوع أهمية ومركزية فيها بحيث اشترط أن يكون معرفة متعيّناً بأحد أنحاء التعين.

وهكذا تلجؤنا الوجدانات اللغوية إلى اعتبار الجملة المزدوجة جملة مركبة من جملة فعلية صغرى وجملة اسمية كبرى.

وأمَّا المقام الثاني : فقد يستشكل على تطبيق النسبة التصادقية على الجمل الكبرى بأنَّ الجملة الحملية يحمل فيها الخبر على المبتدأ ويطبق عليه على نحو يرى تصادقهما معاً على مركز واحد ، وهذا لا يمكن تعقّله في حمل الفعل على المبتدأ فانَّ الفعل بما هو فعل لا يمكن تطبيقه وصدقه على المبتدأ وكذلك لا يتعقّل حمل جملة « أبوه عالم » على زيد فانَّ زيداً ليس هو عين « أبوه عالم ».

والجواب عن هذا الإشكال يمكن أن يكون بأحد وجهين :

١ ـ انَّ المحمول على الموضوع في الجمل الكبرى ليس هو الفعل أو الجملة الكبرى بل هو المعنى المتحصل من الجملة الصغرى بحيث ننتزع منها معنى إفراديّاً يكون هو المحمول « فزيد أبوه عالم » يعني « زيد ذو أب عالم ». إلا انَّ هذا الوجه غير تام ، لأنَّ تحويل الجملة الصغرى التي هي ذات مفهوم تركيبي إلى مفهوم افرادي منتزع منها

٢٧٥

عناية زائدة ومئونة على خلاف طبع هذه الجمل.

٢ ـ انَّ الحمل لا يراد به اتحاد مفهومين في مصداق واحد خارجاً فحسب ليقال أن هذا مستحيل في المقام ، بل المراد صدق المحمول على الموضوع وكونه واقعاً فيه حينما ينظر إليه. ومن الواضح انَّ مفهوم « أبوه عالم » أو « اجتهد » صادق في حقّ زيد حقيقة على تقدير كونه كذلك. فالجملة الحملية موضوعة لإفادة النسبة التصادقية بمعنى أنَّه كلَّما لاحظت الموضوع وجدت المحمول صادقاً في حقّه تصوّراً ، وهذا كما يعقل في المحمول الأفرادي كذلك يتعقل في الجملة.

تحديد الدال على النسبة الخبرية

وبعد أن اتّضح ما هو مفاد الجملة الخبرية التامة ـ اسمية أو فعلية ـ تبقى نقطة وهي : أن هذا المفاد الّذي يتمثّل في نسبة تامة تصادقيّة هل هو مدلول نفس هيئة الجملة ، كما افترضنا من خلال الحديث وهو المشهور ، أو مدلول لجزء من الجملة ، كما قد يدّعى ذلك في الجملة الاسمية تارة وفي الجملة الفعلية أخرى؟

امَّا في الجملة الاسمية ، فقد يدّعى أن الربط فيها بين المحمول والموضوع مفاد ضمير مقدر ، وتعود جملة « زيد عالم » إلى قولنا « زيد هو عالم ».

ويرد عليه : أن ضمير ( هو ) له مفهوم اسمي استقلالي فلا يعقل أن يتحقّق به ربط بنحو من أنحاء النسبة بين الموضوع والمحمول ، ولو كان الضمير دالاً على معنى حرفي نسبي لما صحّ أن يقع موضوعاً في الجملة مع وضوح ان الضمير في سائر الموارد بمعنى واحد.

وأمَّا في الجمل الخبرية الفعلية. فهل النسبة التصادقيّة الإسنادية مدلول الهيئة القائمة بالجملة الطارئة على هيئة الفعل ، أو مدلول هيئة الفعل ولو مع قيد؟ في ذلك بحث. فإن بني على الأول لزم أن يكون لهيئة الفعل مدلول نسبي يدخل في أحد طرفي النسبة التصادقية التامة ولا بدَّ أن يكون نسبة ناقصة ، وان بني على الثاني فلا موجب لافتراض دلالة هيئة الفعل على النسبة الناقصة ، وسيأتي تحقيق ذلك عند الكلام حول الهيئات الإفرادية.

٢٧٦

أنحاء النسب الناقصة

قد عرفت على ضوء ما تقدّم انَّ النسب الناقصة انَّما تكون ناقصة لكونها نسباً تحليلية في الذهن وإن كانت واقعية في الخارج ، وبذلك تمتاز عن النسب التامة التي تكون واقعية في الذهن.

والمقصود هنا البحث عن أنحاء هذه النسب الناقصة وما بينها من الفوارق.

وموضوع بحثنا فعلاً النسبة التوصيفية والإضافة وحروف الجر. وأمَّا النسب الناقصة المستبطنة في المشتقات والهيئات الإفرادية فسوف يأتي الحديث عنها فيما بعد ، وعلى هذا الأساس نقول :

أمَّا النسبة الوصفية فقد يتوهّم أنَّها مع النسبة الإضافية موضوعتان لمعنى واحد وهو التحصيص وربط مفهوم بمفهوم آخر بنحو التقييد. ولكن قد عرفت أنهما وإن كانتا معاً تدلان على التحصيص إلا أن التحصيص في النسبة الوصفية انَّما هو بلحاظ مفاد النسبة التامة الخبرية لا بلحاظ الخارج ابتداءً خلافاً للنسبة الإضافية ، فاعتبار هما معاً من واد واحد غير فنّي.

وأمَّا مدلول الإضافة مع مفاد حروف الجرّ فقد يحاول إرجاع أحدهما إلى الآخر كما ذهب إليه بعض النحاة المحدّثين فادّعى : انَّ حرف الجرّ يقوم بدور الوسيط لتسهيل الإضافة حيث لا يمكن الإضافة المباشرة ففي قولنا « سافرت من البصرة » تكون البصرة مضافاً إليه لكن حيث انَّ « سافرت » ببنائها ممَّا لا يضاف أبداً فاستعين بـ ( من ) لتحقيق هذه الإضافة. كما احتمل أن تكون حروف الجرّ قد استعمل في البداية كأسماء وأفعال دالة على معان مستقلة ثمَّ أفرغت من معناها وتحولت إلى مجرد رموز (١).

والتحقيق : إنَّ إرجاع حروف الجرّ إلى الإضافة بالنحو المذكور غير وجيه. ويتّضح ذلك بمراجعة الوجدان اللغوي في عدة نقاط نقارن فيها بين موارد استعمال الحروف وموارد الإضافة فنجد فيما بينهما فوارق واضحة بحيث لا يقبل الحسّ اللغوي اعتبار هما

__________________

(١) لاحظ المخزومي في كتابه « في النحو العربي » ص ٧٧ ـ ٧٩

٢٧٧

من واد واحد. وذلك كما يلي :

١ ـ انَّه في كثير من الموارد نجد إمكان الإضافة المباشرة لما يدّعى انَّ حرف الجر يقوم بدور إضافته إلى المجرور ومع ذلك لا يمكن الاستغناء فيها عن الحرف ، كما في قولك « سفرك أطول من سفري » أو قولك « زيد قائم في الدار » فان كلاَّ من « أطول » و « قائم » اسم قابل للإضافة ومع ذلك لا يصحّ أن نستغني في المثالين عن الحرف بإضافتهما إلى المجرور.

٢ ـ انَّ هذه النظرية لئن أمكن تطبيقها على مثل حرف « من » في المثال فهي لا تنطبق على أكثر حروف الجرّ كالكاف وحاشا وربّ وغيرها. فقولنا « زيد كعمرو » لا يمكن أن يكون كاف الجر فيها من أجل إضافة ما قبلها إلى ما بعدها. إذ لا يعقل إضافة زيد إلى عمرو ولا إضافة « كائن » أو « مستقرّ » إليه ـ بناء على تقديره في أمثال المقام كما يقوله النحويّون وإن كان لا يوافق عليه الباحث المذكور ـ بل حرف « حاشا » يعطي معنى السلب والاستثناء وهو على العكس من الإضافة تماماً يقتضي تخصيص الحكم بغير المجرور.

ودعوى : إرجاع مثل هذه الحروف إلى الأسماء فالكاف بمعنى « مثل » وحاشا بمعنى « غير » مضافاً إلى عدم التزام الباحث المذكور به. مندفعة : بأن أي حرف بالإمكان اقتناص مفهوم اسمي منتزع عنه كما تنتزع الظرفية من « في » والابتداء لـ « من » وهكذا. ولكن مثل هذه المفاهيم الاسمية المنتزعة ليست هي معاني الحروف بل منتزعة عمَّا هو معناها.

٣ ـ من جملة الفوارق بين حروف الجرّ والإضافة انَّ الحروف يمكن استعمالها بين أطراف جزئية مشخصة فتقول مثلاً « زيد في هذه الدار » ولكن الإضافة لا يمكن أن تكون بين طرفين مشخصين بل يشترط في المضاف دائماً أن يكون مفهوما كليّاً وهذا تعبير آخر عمَّا يقوله النحاة من اشتراط أن يكون المضاف نكرة ولا يشترط ذلك فيما يتعلّق به حرف الجر.

٤ ـ وأخيراً حكم الوجدان لمن يقارن بين موارد الإضافة وموارد استعمالات حروف الجرّ بأن الإضافة لا تفيد من ناحيتها نوع النسبة والعلاقة بين المضاف

٢٧٨

والمضاف إليه وانَّما تفيد أصل العلاقة الملائمة مع أنحاء مختلفة منها خلافاً للحروف فانَّ كلّ واحد منها يتضمّن مدلولاً خاصاً به زائداً على أصل الارتباط والنسبة إلى المجرور ، فأنت تقول مثلاً « الضرب من زيد » فيفيد صدوره منه و « الضرب على زيد » فيفيد ووقوعه عليه وتقول « ضرب زيد » فيلائم كلا الأمرين.

وهكذا يتبرهن : انَّه لا يمكن إرجاع حروف الجرّ إلى الإضافة واعتبارها تقوم بدور الوسيط لتسهيل عملية الإضافة حيث لا يمكن الإضافة المباشرة. نعم هناك في رأينا معنى آخر دقيق لاكتشاف الدور المشترك لحرف الجرّ والإضافة مع عدم طمس معالم الفرق بينهما سوف نتعرّض له فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وحيث ثبت من خلال النقاط المتقدمة وجود فارق في المدلول بين مفاد الإضافة ومفاد الحروف الجارة فسوف نواجه السؤال عن جوهر هذا الفرق وتحديد ما هو المعنى الموضوع بإزائه كلّ منهما. وفي مقام علاج هذه النقطة يمكن أن نطرح عدّة فرضيات نحاول في كلّ منها تفسير وتشخيص جوهر الفرق بين مفاد الإضافة والحروف.

لنرى أنَّ أيّاً منها تستطيع أن تفسّر الفرق بنحو لا نتنازل معه عن شيء من وجداناتنا اللغوية التي أبرزناها من خلال النقاط الأربع المتقدّمة فتكون هي النظرية الصحيحة لتشخيص مدلول الحروف والإضافة على ضوئها.

١ ـ انَّ الإضافة موضوعة للدلالة على التحصيص وتضييق دائرة صدق الاسم المضاف ، فكلمة « ماء » مثلاً مفهوم عام ينطبق على كلّ من ماء النهر والكوز والإناء ولكن بسبب إضافته إلى الكوز مثلاً يتحصص مفهومه وتتحدد دائرة صدقه بخصوص ماء الكوز ، ومن هنا كان المضاف والمضاف إليه في قوّة مفهوم واحد هو مفهوم الحصة الخاصة.

وامَّا الحروف فتدلّ على نسبة معيّنة خارجية بين طرفين أو أكثر ولهذا كانت تفيد نوعية العلاقة والنسبة بين أطرافها.

وهذا الوجه يمكن أن يفسّر لنا وجداناتنا المتقدمة فانَّه إذا افترض أن الإضافة لمجرَّد تحصيص المعنى العام وتقييده والحروف للدلالة على النسب الخارجية فاستفادة تلك النسب من الحرف دون الإضافة أمر منسجم حينئذ كما أنَّ عدم إمكان تبديل الحرف

٢٧٩

بالإضافة في النقاط المتقدمة قابل لأن يفسر على أساس هذه التفرقة.

ولكن يبقى التساؤل عن المقصود بالتحصيص الموضوع له الإضافة فانَّه إذا أريد مفهوم التحصيص والتقييد فهذا مفهوم اسمي مستقل بضمه إلى مفهوم اسمي آخر لا يتحقق تحصيص وضيق فيه. وإن أريد واقع التحصيص والضيق فهذا لا يعقل إلا بأخذ نسبة من تلك النسب الخارجية بين المفهوم المتحصص والمفهوم المتحصص به حتى يكون المركّب منهما لا يصدق على غير الحصّة الخاصة ومن دون ذلك يستحيل أن لا يصدق مفهوم على ما هو مصداقه بالذات.

وإذا أخذت النسبة الخارجية بين المفهومين في مدلول الإضافة ـ سواءً احتفظ فيها بنوع النسبة وخصوصية كونها ظرفية أو صدورية أو وقوعية أم لم يحتفظ به بل أخذ أصل الربط والنسبة ـ اتّجه النقض بالموارد السابقة لا محالة. فان هذه النسبة الخارجية كما هي ثابتة بين الماء والكوز في قولنا « الماء في الكوز » المصحح لإضافة الماء إلى الكوز وتحصيصه به كذلك بنفسها ثابتة بين القائم والدار في قولنا زيد قائم في الدار من دون أن تصحّ إضافته إليه.

وكذلك الحال في « زيد في الدار » ممَّا يعني انَّ هذا المقدار المبرز في هذه الفرضية من الفرق لا يكفي لعلاج المفارقات المتقدمة جميعاً.

٢ ـ انَّ الذهن في موارد الحروف يلحظ ثلاثة أمور الطرفان والنسبة الخاصة بينهما. وأمَّا الإضافة فاللحاظ فيها ينصب على مفهوم واحد هو المفهوم المضاف بما هو مضاف ومنسوب إلى المضاف إليه فالنسبة الخارجية تخلع على المضاف حالة الانتساب والتحصص وهذه الحالة كالنسبة معنى حرفي على ما سيأتي لدى البحث عن مدلول هيئة المصدر والفعل ، ولكنَّها ليست نسبة متقومة بطرفين بل حالة صالحة للقيام بطرف واحد ولهذا نجد وحدة المفهوم في موارد الإضافة وتعدده في موارد الحروف.

وهذه الفرضية غير تامة أيضا. وذلك.

أولا : لأنَّه لو أريد من وحدة اللحاظ في موارد الإضافة وتعدده في الحروف الوحدة الواقعية في صقع الوجود الذهني. فقد عرفت بأن مفاد الحروف بل كلّ النسب الناقصة الأوليّة يكون كذلك لأنَّها وإن كانت متضمنة للنسبة وهي متقوّمة بطرفين أو أكثر إلا

٢٨٠