بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

وهنا تفسيران رئيسيان : أحدهما : تفسيره على أساس نفس الوضع الأول للفظ بإزاء معناه الحقيقي. والآخر : تفسيره على أساس وضع آخر.

أما التفسير الأول ، فتوضيحه : أن اللفظ يكتسب بسبب وضعه للمعنى الحقيقي صلاحية الدلالة على كل معنى مقترن بالمعنى الحقيقي اقترانا خاصا غير أنها صلاحية بدرجة أضعف لأنها تقوم على أساس مجموع اقترانين ومع اقتران اللفظ بالقرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي تصبح هذه الصلاحية فعلية ويكون اللفظ دالا فعلا على المعنى المجازي ، فالدلالة اللفظية التصورية على المعنى المجازي كالدلالة اللفظية التصورية على المعنى الحقيقي كلتاهما تستندان إلى الوضع ولكن على اختلاف في الشدة والضعف.

وهذه الدلالة على المعنى المجازي من لوازم الوضع الحقيقي وليست بحاجة إلى وضع جديد ما دام قانون الاقتران كما يعمل ضمن الاقتران البسيط كذلك يعمل ضمن الاقترانات المركبة ، ومحاولة تحصيل هذه الدلالة بوضع جديد محاولة لتحصيل الحاصل. وليس معنى ما ذكرناه من استناد الدلالة على المعنى المجازي إلى مجموع اقترانين ان ذهن السامع لا بد لكي ينتقل إلى المعنى المجازي أن ينتقل أولا من اللفظ إلى المعنى الحقيقي ثم إلى المعنى المجازي ، وذلك : لأن اللفظ بعد قرنه بالمعنى الحقيقي يؤدي نفس دوره في إثارة ما يشيره المعنى الحقيقي فيصبح تصور اللفظ صالحا لإثارة المعنى المجازي في الذهن بسبب قرنه بما هو صالح لهذه الإثارة ، غاية الأمر : أن صلاحية اللفظ لذلك بدرجة أضعف من صلاحيته لإثارة نفس المعنى الحقيقي ، لأنها مكتسبة بالواسطة. فكون اللفظ مثيرا للمعنى الحقيقي حيثية تعليلية لإثارته للمعنى المجازي لا تقييدية على نحو لا بد أن يصل ذهن السامع إلى المجاز مارا بالمعنى الحقيقي.

ونلاحظ على هذا الضوء : أن طريقتنا هذه في تفسير دلالة اللفظ على المعنى المجازي وكيفية نشوئها على أساس مجموع اقترانين تفسر الطولية بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، وكون دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي أقوى ، وكون حمله على الثاني في طول تعذر الأول.

وأما التفسير الثاني. فأول ما يواجهه مشكلة المساواة بين المعنى الحقيقي والمجازي في

١٢١

دلالة اللفظ وحمل الكلام عليه ما دام كل منهما معنى وضعيا للفظ ، فلا بد من تصوير الوضع على نحو يحافظ فيه على الطولية بين المعنيين وأولوية المعنى الحقيقي ، وذلك بأحد وجوه :

الأول : أن يقال : بأن اللفظ موضوع للمعنى المجازي بوضع نوعي على نحو لوحظت فيه الأوضاع الشخصية بأن قيل مثلا ان لفظ الأسد موضوع لما يشابه معناه الموضوع له ، وبذلك تحفظ الطولية.

ويرد عليه : أن مجرد كون الوضع الثاني نوعيا وأخذ المشابهة عنوانا مشيرا إلى المعاني المجازية ، أو حيثيته تقييدية فيها لا يكفي لتفسير الطولية بين العلقتين الوضعيّتين على نحو لا تؤثر إحداهما إلا في فرض عدم تأثير الأخرى.

الثاني : أن يقال : بأن الوضع للمعنى المجازي مقيد بفرض وجود القرينة على المعنى المجازي بأخذها قيدا في الوضع أو اللفظ الموضوع ، فمع عدم القرينة يقدم المعنى الحقيقي إذ لا وضع للمعنى المجازي في هذه الحالة. ولا يتوهم : كون هذا الوضع لغوا ما دام مقيدا بوجود القرينة على المعنى المجازي لأنها تكفي عنه دائما. لاندفاع هذا التوهم : بأن المقصود بالوضع تصحيح دلالة نفس اللفظ على معناه المجازي ، والقرينة إنما تفهم المعنى المجازي على أفضل تقدير ولا تصح دلالة اللفظ عليه.

ويرد عليه : ان لازم تقييد الوضع المصحح للدلالة على المعنى المجازي بنصب القرينة عدم صحة الاستعمال المجازي في حالات عدم نصب القرينة لعدم الدلالة وانتفاء العلاقة في هذه الحالة بحسب الفرض. مع أنه صحيح بلا إشكال بلحاظ شأنية الدلالة في اللفظ ، وهذا يكشف عن أن المصحح للدلالة وبالتالي للاستعمال ليس هو الوضع المقيد المذكور.

الوجه الثالث : أن يقال : بتصوير وضع مقيد للمعنى المجازي غير ان القيد هو مجرد نصب القرينة الصارفة.

ويرد عليه : نفس المحذور أيضا ، لأن الدلالة الشأنية للفظ على المعنى المجازي وبالتالي صحة استعمال اللفظ فيه ثابتة في موارد عدم نصب القرينة الصارفة أيضا.

الوجه الرابع : أن يفترض كون اللفظ موضوعا للمعنى المجازي بوضع مقيد بعدم

١٢٢

إرادة المعنى الحقيقي بأن تقيد العلقة الوضعيّة المجعولة بهذه الحالة ، ولازم ذلك عدم الحمل على المعنى المجازي إلا في حالة عدم إرادة المعنى الحقيقي وبذلك تثبت الطولية.

ويرد عليه : انا لو تعقلنا تقييد العلقة الوضعيّة على هذا النحو فلا يمكن أن نفسر بذلك أقوائية ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي في مرحلة المدلول التصوري على نحو لو سمعنا اللفظ من شخص غير مريد لمعنى أصلا لانسبق الذهن إلى المعنى الحقيقي بدرجة أكبر ، فان دلالة اللفظ على كل من المعنى الحقيقي والمجازي إذا كانت بسبب الوضع فلما ذا يتبادر المعنى الحقيقي في مقابل المعنى المجازي تصورا. فلا بد إذن من تفسير الدلالتين معا على أساس وضع واحد وهو وضع اللفظ للمعنى الحقيقي ، ولما كان المعنى الحقيقي أحق بهذا الوضع من المعنى المجازي كان نصيبه من الدلالة أكبر على ما شرحناه.

الوجه الخامس : أن يقال : بتصوير وضعين أحدهما للمعنى الحقيقي وهو وضع مطلق تعييني. والآخر للمعنى المجازي منوط بالجامع بين نصب القرينة وإرادة معنى على نحو الإجمال من اللفظ ، ويتعين حينئذ تقديم المعنى الحقيقي في حالة عدم القرينة ونفي الإجمال ولو بالأصل وظهور الحال.

ولا يرد على هذا التقريب : النقض بصحة الاستعمال المجازي بلا قرينة ، لأن الاستعمال كذلك مساوق للإجمال ومعه يكون الوضع للمعنى المجازي فعليا. ولا يرد عليه : لزوم فعليه كلا الوضعين في حالة إطلاق اللفظ من غير المريد ، لأن الوضع الثاني غير متحقق في هذه الحالة لعدم القرينة وعدم الإجمال فيتعين انسباق المعنى الحقيقي.

ولكن هذا انما ينسجم على تقدير التعامل مع العلقة الوضعيّة كأمر اعتباري قابل للتقيد بحال دون حال ، وهو غير صحيح على ما مر تحقيقه.

مصحح الاستعمال المجازي

النقطة الثانية : بعد الفراغ عن تفسير دلالة اللفظ على المعنى المجازي على أساس الوضع الأول بالنحو المتقدم يقع الكلام في انه هل يصح استعمال اللفظ في المعنى المجازي ما دام أصبح صالحا للدلالة عليه أو تتوقف صحته على وضع معين أو عناية إضافية؟. ودعوى الاحتياج إلى الوضع هنا لأجل تصحيح الاستعمال وفي النقطة

١٢٣

السابقة لأجل تفسير أصل الدلالة.

والصحيح ، عدم الاحتياج إلى وضع في المجاز لتصحيح الاستعمال ، لأنه ان أريد بصحة الاستعمال حسنه فواضح أن كل لفظ له صلاحية الدلالة على معنى يحسن استعماله فيه وقصد تفهيمه به ، واللفظ له هذه الصلاحية بالنسبة إلى المعنى المجازي ـ كما عرفت ـ فيصح استعماله فيه. وإن أريد بصحة الاستعمال انتسابه إلى اللغة التي يريد المتكلم التكلم بها ، فيكفي في ذلك أن يكون الاستعمال مبنيا على صلاحية في اللفظ للدلالة على المعنى ناشئة من أوضاع تلك اللغة. وإن أريد بصحة الاستعمال جوازه وإنه لا بد من إذن الواضع في الاستعمال ليكون جائزا. فيرد عليه : أن الجواز تارة : وضعي ، وأخرى : تكليفي. فان لوحظ الجواز الوضعي فمرجعه إلى صحة الاستعمال ، وصحة الاستعمال بعنوانها ليست مجعولة إلا بتبع إيجاد علاقة بين اللفظ والمعنى والمفروض وجود هذه العلاقة ـ كما عرفت ـ وإن لوحظ الجواز التكليفي فلا معنى له في المقام ، إذ لا مولوية تكليفية لواضع اللغة بما هو كذلك ، ولا يكون منعه التكليفي ولو كان مولى موجبا لبطلان الاستعمال.

منشأ الدلالة المجازية على مسلك التعهد

النقطة الثالثة : إن ما ذكرناه إنما كان بناء على ما هو الصحيح من ان الوضع لا ينتج إلا الدلالة التصورية ، حيث اتضح في النقطة الأولى ان هذه الدلالة التصورية لا يحتاج ثبوتها بالنسبة للمعنى المجازي إلى وضع آخر وأما بناء على مسلك التعهد القائل بأن الوضع هو أساس الدلالة التصديقية فقد يقال : بالحاجة إلى الوضع في باب المجاز لتكوين الدلالة التصديقية على قصد التفهيم ، وذلك لأن المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي التي شرحناها إنما تكون ملاكا لدلالة اللفظ تصويرا على المعنى المجازي ولا تكون ملاكا للدلالة التصديقية.

ولا بد من تصوير التعهد الوضعي بإرادة المعنى المجازي على نحو يكون محكوما للتعهد الوضعي بإرادة المعنى الحقيقي لتحفظ الأولوية للدلالة التصديقية على المعنى الحقيقي. وذلك بأحد وجوه :

١٢٤

منها ـ أن يفترض كون التعهد الوضعي بإرادة المعنى المجازي مقيدا بفرض عدم إرادة المعنى الحقيقي ، فيكون التعهد الوضعي بإرادة المعنى الحقيقي حاكما على التعهد الآخر ومانعا عن الانتهاء إليه ما لم تقم قرينة خاصة على عدم إرادة المعنى الحقيقي. ومثل ذلك ما إذا فرض أن الوضع الثاني مقيد بنصب القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي مثلا.

ومنها ـ ان يفترض ان الواضع تعهد بإرادة المعنى الحقيقي بالخصوص وتعهد بإرادة أحد المعنيين الحقيقي أو المجازي ، فإذا أطلق اللفظ ولم تكن قرينة حمل على المعنى الحقيقي لأنه مقتضى الوفاء بكلا التعهدين ، وإلا حمل على المجازي وفاء بالتعهد الثاني.

ولكن التحقيق : أن الدلالة التصديقية للفظ على المعنى المجازي لا تتوقف على الوضع حتى لو قلنا بأن الوضع هو التعهد وانه ينتج الدلالة التصديقية. وذلك : لأنه بعد الفراغ عن حصول الدلالة التصورية الشأنية للفظ على المعنى المجازي بمقتضى الطبع وبسبب المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي ، إذا أطلق المتكلم اللفظ المذكور فقال « جئني بأسد » كان المدلول التصديقي في مرحلة المراد الاستعمالي مرددا في بادئ الأمر بين ثلاثة أمور الحيوان المفترس ، والرّجل الشجاع ، ومعنى لا يناسب الحيوان المفترس كالماء مثلا ، والأول ينفي بالقرينة الصارفة ، والثالث ينفي بظهور حال المتكلم العرفي في انه لا يقصد بلفظ تفهيم معنى ليس في اللفظ دلالة تصورية شأنية عليه ، فيتعين الثاني وبذلك تتم الدلالة التصديقية على المعنى المجازي بلا حاجة إلى التعهد الوضعي الخاصّ.

الوضع للمعنى مقيدا بالقرينة

النقطة الرابعة : بعد الفراغ عن عدم الاحتياج إلى وضع في دلالة اللفظ على المعنى المجازي واستعماله فيه نقول : أنه لا إشكال في إمكان وضع اللفظ للمعنى المجازي بنحو يوجب إخراجه من كونه مجازيا ، وإنما الإشكال في إمكان وضع اللفظ المقترن بالقرينة للمعنى المجازي بحيث يكون الموضوع للمعنى المجازي حصة خاصة من اللفظ ـ وهي

١٢٥

الكلمة المتصلة بالقرينة على ذلك المعنى ـ فقد يدعى وقوع مثل هذا الوضع ، ويستظهر أن مثل كلمة « ماء الرمان » ونظائرها موضوعة بما هي مركبة للماء المضاف الخاصّ.

والتحقيق : أن هذا الوضع غير ممكن عقلائيا للغويته ، لأنه إن أريد به افهام المعنى المجازي بلا حاجة إلى قرينة فهو غير معقول ، لأن المفروض ان الموضوع فيه هو اللفظ المقيد بالقرينة وإن أريد إفهام المعنى المجازي في حالة وجود القرينة فهذا حاصل بالقرينة بدون حاجة إلى الوضع وإن أريد بذلك إعفاء المتكلم من ملاحظة العلاقة والمشابهة بين المعنى المجازي والحقيقي فسيأتي في النظرية العامة للاستعمال ان صحة الاستعمال في المعنى المجازي لا تحتاج إلى هذه الملاحظة ، وان العلاقة المذكورة حيثية تعليلية لصحة الاستعمال لا تقييدية وشأنها شأن الوضع في الاستعمال الحقيقي فكما لا تجب ملاحظة الوضع عند استعمال اللفظ في معناه الحقيقي كذلك العلاقة هنا.

تحديد المراد من المعنى المجازي

النقطة الخامسة : اتضح مما ذكرناه في النقطة الأولى ان دلالة اللفظ على المعنى المجازي مستمدة من وضعه للمعنى الحقيقي على أساس التركيب بين اقترانين ـ كما تقدم ـ وهذا هو الأصل الغالب ، غير ان هناك دلالات ذهنية تصورية أحيانا لا تستند إلى وضع أصلا لا بصورة مباشرة ولا بصورة غير مباشرة ، وإنما تستند إلى تناسب ذاتي وطبيعي بين الصورة الذهنية للفظ والصورة الذهنية للمعنى ، وذلك كما في دلالة اللفظ على نوعه في مثل قولنا « ضرب فعل ماض » إذ ينتقل ذهن السامع من الشخص إلى النوع ، وهذا مبني على تناسب طبيعي بين الصورتين على نحو يوجب صلاحية صورة الشخص للإعداد للانتقال إلى صورة النوع ولو مع ضم قرينة على عدم إرادة الخصوصية ، وقد تكون القرينة نفس ورود اللفظ مورد الاستعمال لأن استعمال اللفظ في نفسه بخصوصه غير صحيح ـ على ما يأتي ـ

فإذا أريد بدلالة اللفظ على المعنى المجازي دلالته على كل معنى لا يكون موضوعا له مباشرة شملت هذه الدلالات القائمة على التناسب الطبيعي وإذا أريد بها دلالته على معنى له علاقة بالموضوع له خرجت الدلالات المذكورة عن كونها مجازية وكانت قسما آخر برأسه.

١٢٦

وقد يستشكل في دلالة اللفظ على نوعه : بأنه إن أريد كون اللفظ بخصوصيته دالا على الطبيعي وموجبا للانتقال إليه فيرد عليه : ان خصوصية الفرد مباينة للطبيعي فكيف ينتقل من المباين إلى المباين. وإن أريد كون اللفظ بجامعه دالا على الطبيعي فهذا معناه دلالة الطبيعي على الطبيعي وهو غير معقول ، لأن الدال يجب أن يكون غير المدلول.

والجواب على هذا الاستشكال : أن الدال على الطبيعي والمثير لصورته في الذهن إنما هو الصورة الذهنية لشخص اللفظ ولكن لا بما هي صورة ذهنية للخصوصية بل بما هي صورة ضمنية للجامع المحفوظ في ضمنها ، فالوجود الضمني للطبيعي يثير صورة ذهنية استقلالية للطبيعي باعتبار التناسب الطبيعي بينهما. وسيأتي الكلام مفصلا عن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه ومثله وشخصه عند التكلم عن الاستعمال.

١٢٧
١٢٨

المبحث الثاني

١٢٩
١٣٠

نظرية الاستعمال

علاقة اللفظ اللغوية بالمعنى في مجال الاستخدام اللغوي للألفاظ لها جانبان : أحدهما : جانبها المرتبط بالسامع ، ويعبر عن هذه العلاقة بالدلالة لأن محصل علاقة اللفظ بالمعنى عند السامع ان تصور أحدهما يوجب الانتقال إلى تصور الآخر. والآخر جانبها المرتبط بالمتكلم ؛ ويعبر عن هذه العلاقة بالاستعمال بمعنى ان المتكلم يستعمل اللفظ في المعنى ويتخذه أداة لتفهيمه.

وقد عرفنا فيما سبق منا شيء الدلالة اللغوية وتفسيرها بالنسبة إلى اللفظ مع المعنى الحقيقي ومع المعنى المجازي ، والآن نتكلم عن الاستعمال وحقيقته وشروطه العامة.

حقيقة الاستعمال

يختلف الاستعمال عن عملية الدلالة التصورية ، فان الدلالة التصورية تحصل بمجرد إطلاق اللفظ لو لم يكن قد أريد به شيء أصلا واما الاستعمال فلا يتحقق بمجرد إطلاق اللفظ بل يتقوم بالإرادة وتسمى بالإرادة الاستعمالية. وتفصيل ذلك : أن المتكلم يتصور له ثلاثة أنحاء من الإرادة.

الأولى : الإرادة الاستعمالية ، وهي الإرادة المقومة للاستعمال. وليست هذه

١٣١

الإرادة : هي إرادة تفهيم المعنى وإخطاره باللفظ فعلا ، ولا إرادة إيجاد المعنى باللفظ إيجادا عرضيا ـ كما عن المحقق الأصفهاني ـ (١) ولا إرادة التلفظ باللفظ المنبعثة عن تعهد نفساني يقتضي التلفظ به في ذلك الظرف الخاصّ ـ كما هو مقتضى مسلك التعهد ـ كما لا محصل لتفسير الإرادة الاستعمالية بإرادة استعمال اللفظ في المعنى وإفنائه في مطابقه.

أما الأول ، فلحصول الاستعمال والإرادة في موارد عدم إرادة التفهيم وعدم كون اللفظ كاشفا فعلا عن المعنى ، كما في موارد الإتيان بالألفاظ المشتركة في مقام الاستعمال مع تعمد الإجمال وعدم نصب القرينة ، فان الاستعمال حاصل بلا إشكال مع عدم حصول التفهيم وإرادته.

وأما الثاني ، فلا موجب له إلا تخيل ان الوضع عبارة عن جعل اللفظ وجودا للمعنى وان الاستعمال باعتباره تنفيذا للوضع وجريا على طبقه يكون مرجعه إلى قصد اللفظ بما هو وجود تنزيلي للمعنى ، وقد عرفت حال المبنى سابقا. مضافا : إلى أن أي مبنى يختار في تصوير حقيقة الوضع انما يراد من أجل تبرير الدلالة وتفسيرها ، وبعد فرض قيامها فلا يتعين على الاستعمال أن يكون متطابقا مع ما هو المجعول من قبل الواضع.

وأما الثالث ، فهو مبني على التعهد. على أنه لا يوضح حقيقة تلك الإرادة وانما يبين كونها ناشئة عن التعهد والكلام الآن عن حقيقتها.

وأما الرابع ، فغير مفيد. لأن الكلام في تفسير الاستعمال الّذي هو متعلق الإرادة فتفسير الإرادة الاستعمالية بإرادة الاستعمال ليس مفيدا ، إلا أن يكون المقصود تفسير الإرادة الاستعمالية بإرادة ملاحظة اللفظ آلة للمعنى بحيث تؤخذ آلية اللفظ لحاظا في معنى الإرادة الاستعمالية والاستعمال ومرجع ذلك إلى دعوى تقوم الاستعمال باللحاظ الآلي للفظ ، وسيأتي تحقيق ذلك.

بل الإرادة الاستعمالية : عبارة عن إرادة التلفظ باللفظ ولكن لا بما انه صوت مخصوص بل بما انه دال بحسب طبعه وصالح في ذاته لإيجاد صورة المعنى في الذهن ،

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٣٥ ( المطبعة العلمية ـ قم )

١٣٢

فإرادة الإتيان بما يصلح للدلالة على معنى بما انه يصلح لذلك هي الإرادة الاستعمالية ، والمراد بهذه الإرادة هو نفس الاستعمال. وإن شئت قلت : ان الإتيان باللفظ مقدمة إعدادية للانتقال إلى صورة معنى معين فإرادته بما هو مقدمة إعدادية لذلك إرادة استعمالية ولو فرض عدم توفر المقدمات الأخرى الدخيلة في الدلالة ـ كما في موارد تعمد الإجمال ـ

الثانية : الإرادة التفهيمية ؛ وهي إرادة تفهيم المعنى تصورا باللفظ وإخطاره فعلا. وفرق هذه الإرادة عن الأولى ان متعلق هذه الإرادة التفهيم والإخطار الفعلي ومتعلق تلك الإخطار الشأني ، أي الاعداد للإخطار الملائم مع الفعلية وعدمها.

الثالثة : الإرادة الجدية ، وذلك أن من يريد أن يخطر المعنى تصورا في ذهن السامع قد يكون هازلا ولا تكون في نفسه حالة حقيقة تناسب ذلك المعنى ، من جعل حكم أو قصد حكاية وغير ذلك. وهذه الإرادة الجدية تختص بموارد استعمال الجمل التامة وأما الكلمات الإفرادية والجمل الناقصة فلا يتصور بشأنها إلا الإرادة الاستعمالية والتفهيمية.

وقد اتضح على ضوء ما ذكرناه : ان الاستعمال عملية إرادية متقومة بالإرادة الاستعمالية على النحو المتقدم ، وعلى هذا الأساس لا بد في الاستعمال من لحاظ اللفظ ولحاظ المعنى لأن اللفظ هو المراد صدوره والمعنى هو الحيثية التي بلحاظها أريد إصدار اللفظ.

مقومات الاستعمال وشروطه

وقد يذكر للاستعمال شروط ومقومات أساسية لا يتأتى الاستعمال بدونها وقد تستنبط جميعا من التعريف المتقدم.

الأول : أن يكون في اللفظ صلاحية الدلالة على المعنى فإذا لم يكن فيه صلاحية ذلك فلا يعقل الاستعمال ، لأن الاستعمال ـ كما عرفت ـ قصد تفهيم المعنى باللفظ ولو شأنا وإعدادا فمع عدم شأنية اللفظ لا يعقل قصد ذلك من الملتفت. وهذا الشرط لا إشكال فيه ، وهو مستنبط من نفس التعريف المتقدم للاستعمال بدون حاجة إلى

١٣٣

مصادرة أو حجة إضافية. ولا يفرق في تحقق هذا الشرط بين أن تكون صلاحية الدلالة على المعنى حاصلة بالوضع بصورة مباشرة ، كما في دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ، أو بالوضع بصورة غير مباشرة ، كما في دلالة اللفظ على المعنى المجازي ، أو بالمناسبة الذاتيّة ، كما في دلالة شخص اللفظ على نوعه ـ كما تقدم.

وعلى أساس هذا الشرط قلنا بأن إيجاد الوضع بنفس الاستعمال أمر غير معقول على بعض المباني ـ كما تقدم في بحث الوضع ـ.

الثاني : أن يكون هناك تغاير بين المستعمل والمستعمل فيه فلا يعقل وحدتهما وذلك أيضا مستنبط من نفس نظرية التعريف المتقدمة للاستعمال ، لأن اللفظ المستعمل يقصد جعله دالا والمعنى المستعمل فيه يقصد كونه مدلولا ، والدال والمدلول متضايفان ، والمتضايفان متقابلان فلا يعقل صدقهما على شيء واحد وقد يتوهم : عدم لزوم التغاير الحقيقي بينهما وكفاية التعدد ولو بالاعتبار لأن مجرد كون شيئين متضايفين لا يثبت تنافيها في مقام الصدق حقيقة بل يكفي أن يكون صدق كل منها بلحاظ حيثية مغايرة لحيثية صدق الآخر قضاء لحق التضايف ـ كما هو الحال في العالم والمعلوم ـ فانه يمكن صدقهما على ذات واحدة عالمة بنفسها ولكن باعتبارين. ويندفع التوهم : بأن مجرد التضايف بين مفهومين وإن كان لا يساوق امتناع تصادقهما على واحد حقيقة ولكن قد تتفق نكتة إضافية في المفهومين المتضايفين تبرهن على ذلك ، كما في العلة والمعلول فانها مفهومان متضايفان ويستحيل صدقهما على واحد ولو باعتبارين لاستحالة علية الشيء لنفسه ، والدال والمدلول من صنف العلة والمعلول ، غاية الأمر ان العلية بلحاظ الوجود الذهني للدال والمدلول فيستحيل تصادقهما على واحد لنفس المحذور ، وعليه فهذا الشرط تام. وقد يفرغ على ذلك استحالة استعمال اللفظ في شخصه ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

الثالث : انه بعد الفراغ عن تقوم الاستعمال بلحاظ اللفظ ولحاظ المعنى ـ كما تقدم ـ يقال : بأن المعتبر من اللحاظ في جانب المعنى هو اللحاظ الاستقلالي وفي جانب اللفظ هو اللحاظ الآلي والمراد بالاستقلالية في جانب المعنى الاستقلالية بالنسبة إلى اللفظ وكونه ذا المرآة للفظ فلا ينافي ملاحظة مرآة بالنسبة إلى معنونة مثلا ، والمراد

١٣٤

بالآلية في جانب اللفظ أن يلحظ اللفظ فانيا في المعنى ومرآة له بمعنى ان الاستعمال متقوم باللحاظ الآلي ، وبذلك يختلف عن الانتقال من العلامة إلى ذي العلامة في سائر الموارد فان العلامة هناك تلحظ باللحاظ الاستقلالي بخلاف اللفظ مع المعنى.

المرآتية والعلامية

ولتحقيق هذه الدعوى لا بد من التكلم في أن الاستعمال هل هو من باب المرآتية أو من باب العلامية؟ وهل تختلف أساسا طريقة مواجهة الذهن للفظ والمعنى مع طريقة مواجهة للعلامة وذي العلامة فيكون اللفظ مستعملا بالنظر المرآتي والعلامة مستعملة بالنظر الاستقلالي؟ وما ذا تعني مرآتية اللفظ في مقام الاستعمال والتفاهم؟ وإذا كان الاستعمال عادة من باب المرآتية ، فهل هذا مجرد ظاهرة عامة بالإمكان أن يشذ عنها الاستعمال أو انها من مقوماته ولا يتأتى بدونها؟

وينبغي أن يعلم : أن البحث ليس بحثا في المصطلح ، إذ قد يصطلح بكلمة الاستعمال على الاستخدام الآلي للفظ في مقام إفادة المعنى فيكون تقومه بالآلية داخلا في تعريف معناه المصطلح ولا مضايقة في الاصطلاح ، وإنما البحث في واقع العملية التفهيمية للمعاني بالألفاظ ومدى تقومها باللحاظ الآلي.

وتوضيح الحال في تلك : أن من الملاحظ وجود فارق بين علاقة اللفظ بالمعنى في مرحلة إفادة المدلول الوضعي وعلاقة العلامة بذي العلامة كعلاقة العمود بمقدار المسافة ، فان اللفظ يبدو وكأنه مرآة للمعنى وأداة لإحضارها وليست كذلك العلامة مع ذيها.

وهذه المرآتية وإن كان ما ذكرناه لا يكفي لتحديد معناها وكنهها ، إلا انها لما كانت أمرا مركوزا معلوما على وجه الإجمال أمكن أن نبدأ بالحديث عن تبريرها والكشف عن سببها في باب الألفاظ قبل تدقيق تفسيرها ، وعلى ضوء ذلك يتضح مغزاها ومعناها ومدى دخلها في عملية الاستعمال.

١٣٥

تفسير ظاهرة المرآتية

وما يمكن أن يقال في تفسير ظاهرة المرآتية أحد وجوه :

الأول : ان دلالة اللفظ على المعنى لما كانت بالوضع ، والوضع هو جعل اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ومرآة له ، كان من نتيجة ذلك أن تكون عملية تفهيم المعنى باللفظ متمثلة في لحاظ اللفظ فانيا في المعنى ومرآة له ، لأن عملية التفهيم هذه ليست إلا تطبيقا جزئيا لما جعله الواضع على وجه كلي ، ولما كان مجعول الواضع هو المرآتية ففعلية هذا المجعول يعني فعلية هذه المرآتية.

ولعل السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ لاحظ هذا حين ربط المرآتية في الاستعمال بمسلك الاعتبار ونفاه عن مسلك التعهد (١).

والتحقيق : أن الواضع إذا كان يمارس جعل العلقة الوضعيّة من خلال اعتبار اللفظ مرآة للمعنى أو وجودا له فليس معنى هذا ان المعتبر بهذا الاعتبار يتحقق بنفس هذا الاعتبار بما هو اعتبار ليرقب ثبوت المعتبر على النحو الّذي اعتبره ، فان العلقة بين اللفظ والمعنى أمر واقعي ـ كما تقدم ـ وسببية الاعتبار الصادر من الواضع له ليس من باب إيجاد الاعتبار المعتبرة ، بل من باب انه يحقق تكوينا قرنا مخصوصا بين اللفظ والمعني ، وهذا القرن يوجب التلازم بين تصور اللفظ وتصور المعنى. والسؤال حينئذ لا يزال قائما عن سر المرآتية في هذا الانتقال من اللفظ إلى المعنى.

وستعرف : أن المرآتية بالمعنى المدعى في هذا الوجه المساوق لأن يرى المعنى باللفظ نظير مرآتية العنوان لمعنونه أمر غير معقول في اللفظ بالنسبة إلى المعنى ، لأنه مباين له وليس عينه بوجه من الوجوه واعتبار العينية وجعله تنزيلا نفس المعنى لا يحقق العينية واقعا بل ادعاء ، ورؤية شيء بشيء لا تكون إلا مع العينية بينهما بوجه على حد عينية العنوان مع معنونه.

الثاني : أن اللفظ موضوع للمعنى الكلي ، والمعنى الكلي لا يجيء إلى الذهن إلا في

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢١٩

١٣٦

ضمن هذه الحصة أو تلك ، سواء قلنا بامتناع إدراك الإنسان للكلي أو بإمكانه. أما على الأول ، فواضح. وأما على الثاني ، فلأنه إمكان نظري ، وأما في الحياة العملية فلا يتوفر للإنسان إدراك الكلي بحده عادة ، وإلا فكيف نتصور إنسانا بدون فرض أي طول خاص أو لون خاص أو جهة خاصة؟ وهل يبقى بعد إسقاط كل هذا من الحساب إلا نفس لفظ الإنسان؟ ولما كان لفظ الإنسان رمزا صالحا لأن يعبر عن أي فرد من أفراد الإنسان فقد اعتاد الذهن على أن ينظر إليه بوصفه التجسيد للكلي ونحو تحقق الكلي في الذهن ؛ ومن هنا كان النّظر إلى اللفظ نظرا مرآتيا وهذا على خلاف العلامات ودلالاتها لأنها انما تدل على أشياء جزئية محددة قابلة للتصور بحدها وبصورة مستقلة عن تصور العلامة.

وهذا أيضا لا يصلح لتفسير ظاهرة المرآتية في باب التفهيم اللفظي حتى ولو سلم ما افترض له من أصل موضوعي ينكر تصور الكلي بحده ، وذلك لأن هذه المرآتية لا تختص بالألفاظ الموضوعة للمعاني الكلية عند إرادة تفهيم المعنى الكلي بها بل هي محفوظة حتى فيما إذا أريد بها الفرد الجزئي ، وكذلك في مثل الأعلام الشخصية الموضوعة للمعاني الجزئية التي تأتي إلى الذهن بحدها بلا إشكال ، فهذه المرآتية لا ربط لها بعدم إمكان تصور الكلي.

الثالث : أن الدال على شيء تارة : يكون مما يترقب تعلق غرض نفسي بالالتفات إليه بمعناه بما هو ، وأخرى : لا يترقب ذلك عادة وإنما ينحصر الغرض منه بالغرض المقدمي ، فما كان من قبيل الأول يلحظ باللحاظ ، الاستقلالي في مقام استخدامه لتفهيم مدلوله ـ ومنه العلامات ـ وما كان من قبيل الثاني يلحظ باللحاظ الآلي المرآتي لغلبة جانب المقدمية عليه ـ ومنه الألفاظ ـ.

وهذا التفسير غير واضح أيضا ، إذ لم يعلم ان كل علامة تختلف عن كل صوت لفظي أو نقش لفظي في هذه الناحية ، بل قد يجعل نقش لفظي معين علامة على رأس الفرسخ مثلا ، وهذا معناه ان المرآتية وعدمها ليست من شئون تشخيص سنخ الدال وكونه من سنخ الألفاظ والأصوات أو من سنخ العمود.

الرابع : أن العلقة الوضعيّة تقوم على أساس الأشراط والاقتران الأكيد بين

١٣٧

التصورين ـ كما تقدم ـ وكلما حصل قرن وأشراط بين تصورين لشيئين على نحو أصبح أحدهما سببا للآخر ترتب على ذلك قيام نفس العلقة بين الإحساس بذلك الشيء وتصور الشيء الآخر على نحو يكون الإحسان بنفسه سببا كافيا لتوليد تصور الشيء الآخر ، لما بين الإحساس بشيء وتصور ذلك الشيء من ارتباط يجعل ما أشرط بتصوره مشروطا بإحساسه أيضا ، وهذا معناه أن الإحساس باللفظ سمعيا أو بصيرا يولد على أساس بالإشراط تصور المعنى مباشرة فيكون هذا الإحساس بنفسه مثلا للدور الّذي ثبت بالوضع لتصور اللفظ ، ويترتب على ذلك أن تصور اللفظ يكون دائما تحت الشعاع ويكون البارز هو الانتقال مباشرة من الإحساس باللفظ إلى تصور المعنى وبذلك يصح أن يقال : بان اللفظ مغفول عنه ومرآة ونحو ذلك من التعابير.

وهذا التفسير صحيح في أساسه القائل بان علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى تمتد إلى نفس الإحساس باللفظ على أساس ما بين الإحساس به وتصوره من ربط فتقوم السببية بين الإحساس باللفظ وتصور المعنى مباشرة ، ويصلح هذا التفسير لتبرير الفرق بين الدلالة الآلية للفظ على المعنى ودلالة العلامة على ذي العلامة ، حيث ان تلك تصورية تقوم على أساس التلازم بين تصورين بسبب الأشراط فينسحب الأشراط من تصور المعنى على الإحساس به فيكون الإحساس باللفظ كافيا للانتقال التصوري إلى المعنى ، واما دلالة العلامة على ذيها فتصديقية فلا يكفي مجرد الإحساس بالعمود للتصديق ببلوغ رأس فرسخ ما لم يتحول هذا الإحساس إلى التصديق بأحد طرفي الملازمة المستبطن لتصوره.

ولكن ، هذا التفسير لا يشمل كل الحالات ، إذ في بعض الحالات لا يوجد هناك إحساس سمعي ولا بصري باللفظ ، كما هي الحال فيما إذا لاحظنا الشخص الّذي يتصور الكلام في ذهنه لا السامع ولا القارئ ، فانه ينطلق من تصور اللفظ إلى تصور المعنى لا من الإحساس باللفظ إلى تصور المعنى ، فكيف نفسر المرآتية في هذه الحالة؟

الخامس : ويمكن أن يعتبر بوجه تكميلا للوجه الرابع وتحقيقه : أن الانتقال الذهني إلى المعنى المدلول للفظ على نحوين :

أحدهما : الانتقال الناشئ من تصور اللفظ وإدراكه بوجه من الوجوه وهذا هو

١٣٨

انتقال السامع أو القارئ. والآخر : الانتقال السابق على تصور اللفظ والّذي ينشأ منه الانتقال إلى اللفظ ، وهذا هو انتقال المتكلم ، فانه ينقدح في نفسه أولا المعنى ويقصد تفهيمه ثم ينتقل إلى اللفظ. ولهذا فان المتكلم المطلع على لغتين بصورة متكافئة بعد أن يقصد التفهيم قد يفكر في اختيار إحدى اللغتين ، وقد يبقي يفتش عن اللفظة المناسبة لما يقصده من معنى حتى يجدها ، وهذا يعني ان انتقاله إلى اللفظ في طول انتقاله إلى المعنى.

أما في الانتقال الأول فمرآتية اللفظ مرجعها إلى كونه مغفولا عنه من قبل النّفس وإن كانت صورته موجودة في الذهن ، وذلك : إما لأن الانتقال إلى المعنى كان استجابة للإدراك الحسي للفظ مباشرة بدون توسيط الصورة الذهنية للفظ ـ على ما بيناه في الوجه الرابع ـ واما لأن الانتقال إلى المعنى كان في طول تصور اللفظ واستجابة له ، ولكن اللفظ مع هذا مغفول عنه وتمام توجه النّفس إلى المعنى. ولا يتوهم : أن الصورة الذهنية للفظ موجودة على أي حال وهي حاضرة للنفس بذاتها فما معنى كونها مغفولا عنها؟ فإنه يقال : إن وجود شيء في صقع من صقاع النّفس شيء وتوجه النّفس إليه شيء آخر ، وبهذا يفرق بين العلم الارتكازي والعلم الفعلي. ولا يتوهم : ان الصورة الذهنية للفظ إذا كانت مغفولا عنها وغير متوجه نحوها فكيف ينتقل منها إلى المعنى؟ فانه يقال : ان هذا الانتقال نتيجة الأشراط والاقتران الأكيد ، وهذا يؤدي إلى كون الصورة الذهنية للفظ بوجودها في صقع الذهن مستدعية للصورة الذهنية للمعنى لا بالالتفات إليها والتوجه نحوها ، فما هو طرف الإشراط وبالتالي طرف السببية تكوينا الوجود الذهني للفظ وبعد استتباعه لوجود المعنى ذهنا يمكن للنفس أن تتوجه إلى المعنى ابتداء ، وهذا ما يقع عادة فيقال حينئذ أن اللفظ يلحظ مرآة ؛ أي كما ان الناظر في المرآة على الرغم من أنه يرى المرآة ويرى الصورة معا يغفل عن رؤيته للمرأة ويتوجه إلى رؤيته للصورة ، فكذلك السامع فانه على الرغم من تصوره للفظ والمعنى معا لا يتوجه إلا إلى المعنى ويغفل عن تصوره للفظ ، فالسامع يتراءى له حسب وعليه التفصيليّ وتوجهه الفعلي كأنه لا يواجه إلا المعنى. هذا هو محصل الآلية والانتقال الأول.

١٣٩

وأما في الانتقال الثاني ، أي انتقال المتكلم إلى المعنى الّذي يستتبع الانتقال إلى اللفظ ، فاللفظ مرآتيته هنا أيضا بمعنى كونه مغفولا عنه وكون توجه المتكلم منصبا على المعنى وقصد تفهيمه ، وأما أداة التفهيم التي هي اللفظ فلا يتوجه إليها إلا تبعا ، كما هو الشأن في كل أداة نشأت العادة على استعمالها لأغراض معينة على نحو أصبح استعمالها شبه عمل آلي يمارسه الإنسان شبه ممارسة تلقائية ، فمن اعتاد أن يكتب بالقلم متى قصد الكتابة ـ إذا أراد أن يكتب في وقت ما ـ مد يده إلى القلم وكتب به بدون توجه تفصيلي إلى الأداة وإنما توجهه منصب على ما يكتب وليست الأداة ملتفتا إليها إلا تبعا ، وهذا نحو من الآلية ملحوظ في كل أداة من هذا القبيل.

وعلى هذا الأساس تتضح أمور :

الأول : ان الآلية بالمعنى الّذي ذكرناه في كلا الانتقالين أمر يقتضيه طبع المطلب ولكنها ليست من مقومات عملية تفهيم المعنى باللفظ أو افهام المعنى من اللفظ ، إذ يمكن لكل من المتكلم والسامع أن يتوجه إلى اللفظ وإلى المعنى توجها مستقلا. وتوهم : أن النّفس لبساطتها لا يعقل أن تتوجه إلى شيئين استقلالا في عرض واحد. مدفوع : بأن بساطتها بمعنى لا ينافي ذلك ، ولهذا كانت النّفس تتوجه إلى الموضوع والمحمول استقلالا في مقام عقد القضية في وقت واحد.

الثاني : أن انتقال السامع من اللفظ إلى المعنى يختلف عن انتقال الشخص من ملاحظة العمود إلى معرفة المسافة في أن اللفظ في الانتقال الأول يكون مغفولا عنه عادة بخلاف العمود في الانتقال الثاني ، وذلك لأن الانتقال الأول انتقال تصوري ويمثل التلازم بين تصورين على أساس الأشراط والاقتران المؤكد ، وقانون الاقتران يقتضي أن يكون أحد التصورين بوجوده الذهني سببا للتصور الآخر ، سواء التفت إليه من قبل النّفس بتوجه تفصيلي أو لا ، ويقتضي أن يكون الإحساس المثير لأحد التصورين صالحا لإثارة التصور الآخر مباشرة. وأما الانتقال الثاني فهو انتقال تصديقي ودلالة العلامة على ذيها دلالة تصديقية ، ولهذا لا يكفي الإحساس بها للتصديق بذيها ، فان التصديق بأحد المتلازمين يتوقف على التصديق بالآخر فما لم يتحول الإحساس بالعلامة إلى التصديق بوجودها المساوق حدوثا للالتفات إليها لا يحصل

١٤٠