بحوث في علم الأصول - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١

ملحوظا استقلالا طبيعي اللفظ وطبيعي حكاية عن المعنى وكذلك الأمر إذا جعل الاستعمال كاشفا ومبرزا عن الوضع إذ يكون هناك عملان طوليان : أحدهما : استعمال اللفظ في المعنى ؛ وفي هذا العمل يكون اللفظ ونفس الاستعمال والحكاية ملحوظا باللحاظ الآلي. والآخر كشف الوضع بعملية الاستعمال هذه ، وفي ذلك يكون اللفظ والاستعمال ملحوظا استقلالا. هذا كله على تقدير تسليم المبنى ، والصحيح على المبنى المختار انه لا موجب لاشتراط استقلالية لحاظ اللفظ أساسا ، لأن الوضع لا يكون حقيقة إنشائية اعتبارية لكي يكون بحاجة إلى لحاظ أصلا بل يحصل قهرا وتكوينا على أساس القرن الواقعي المتحقق بين صورة اللفظ والمعنى.

الثاني : ان الاستعمال المذكور ليس حقيقيا ولا مجازيا ، إذ الأول موقوف على الوضع والمفروض ان المعنى لم يكون قد وضع له اللفظ ، والثاني موقوف على العلاقة والمفروض عدم ملاحظتها وعليه فيكون الاستعمال غلطا.

وأجاب عن ذلك المحقق الخراسانيّ ( قده ) : بأن ذلك غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره ، والميزان في صحة الاستعمال موافقة الطبع (١).

وليس المراد بهذا الجواب تصحيح دلالة اللفظ بنفسه على المعنى ، فان ملاك الإشكال المدفوع ليس هو ما حققناه من أن اللفظ في الاستعمال المذكور لا يعقل دلالته بنفسه على المعنى لأنه لا وضع ولا قرينة ، بل ملاك الإشكال هو ان الاستعمال المفروض وإن كان يتعقل تحقق الوضع به إلا انه غلط كالاستعمال. فأجاب برفع الغلطية لموافقته للطبع فان كونه موافقا للطبع وإن كان لا يوجب كون اللفظ دالا بنفسه على المعنى وسببا للانتقال إليه إلا انه يوجب صحة جعله بإزائه في مقام الاستعمال الّذي هو أمر غير قصد تفهيم المعنى به بشهادة وجوده في موارد تعمد الإجمال وعدم التفهيم أصلا.

وعلى هذا الأساس ، فيمكن الجواب على أصل الاعتراض بدعوى : ان الاستعمال حقيقي لأنه مقارن للوضع زمانا وإن كان أسبق منه رتبة لكونه هو الأداة في إيجاده ،

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٣٢ ( ط ـ مشكيني )

١٠١

فان الميزان في كون الاستعمال حقيقيا وجود الوضع في زمان الاستعمال وهذا حاصل.

هذا ، مضافا : إلى ما أشير إليه من أن الغلطية إن أريد بها الخروج عن بابي الحقيقة والمجاز فليس هذا بمحذور. وإن أريد به الاستهجان والقبح فهو غير تام ، إذ يكفي في كون الاستعمال سليما ومقبولا عقلائيا انه يؤدي غرضا مهما وهو إيجاد العلقة الوضعيّة لو سلم إمكان إيجاد الوضع بالاستعمال في نفسه.

الثالث : ما ذكر في تقريرات المحقق العراقي ( قده ) : من ان استعمال اللفظ في معنى للدلالة عليه به يتوقف على كون اللفظ مستعدا لذلك ، واستعداده له يتوقف على الوضع وهو لا يحصل إلا باستعماله فيه فيلزم الدور.

وأجاب عنه : بأن الاستعمال يتوقف على كون اللفظ مستعدا للدلالة على المعنى في ظرف الاستعمال ، وهذا المقدار من الاستعداد حاصل في ظرف الاستعمال في مقام تحصيل الوضع به ، وذلك لأن القرينة تؤهل اللفظ في وقته للدلالة على المعنى (١).

والتحقيق : ان الدور لا مناص عنه في المقام ، ولكن لا بتقريب : توقف الاستعمال على الاستعداد حتى يجاب بأن الاستعداد في ظرف الاستعمال كاف وهو حاصل في المقام بسبب القرينة الدالة على أن المتكلم في مقام وضع اللفظ للمعنى. بل بتقريب : ان كون اللفظ دالا بنفسه على المعنى هو مقوم الوضع المزعوم على المسلك المستظهر من صاحب الكفاية ( قده ) مع أنه موقوف على الوضع كما عرفت مفصلا.

أقسام التقييد في الوضع

يتصور في بادئ الأمر أنحاء من التقييد من قبل الواضع :

أحدها : تقييد المعنى الموضوع له ، ومرجعه إلى وضع اللفظ للمقيد.

الثاني : تقييد اللفظ الموضوع ، ومرجعه إلى وضع اللفظ المقيد كما إذا فرض وضع اللفظ المقيد بالتنوين لمعنى معين.

__________________

(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٣٤

١٠٢

الثالث : تقييد نفس العلقة الوضعيّة ، على نحو تكون العلقة الوضعيّة منوطة ومشروطة بتحقق أمر معين ففي حالة عدم وجوده لا ثبوت للعلقة.

ولا إشكال في تعقل النحوين الأول والثاني من أنحاء التقييد.

وأما النحو الثالث ، فيظهر من المحقق الأصفهاني ( قده ) في توجيه مختار صاحب الكفاية ( قده ) في المعنى الحرفي إمكانه أيضا ، بأن يفترض ان الواضع يقيد العلقة الوضعيّة ويشرطها بشرط معين ففي حالة عدم وجوده لا ثبوت للعلقة الوضعيّة ، بل يكون اللفظ مهملا في تلك الحال.

والتحقيق : أنه بناء على مسلك التعهد في تفسير حقيقة الوضع يعقل تقييد العلقة الوضعيّة وإناطتها بتحقق أمر معين ، لأن العلقة الوضعيّة ـ بناء على هذا المسلك ـ عبارة عن ملازمة تصديقية بين الإتيان باللفظ وقصد تفهيم المعنى ناشئة على أساس التعهد والالتزام العقلائي الّذي قطعه الواضع على نفسه ، فمن المعقول أن ينيط الواضع تعهده والتزامه بحالة دون أخرى فهو يتعهد مثلا بأنه في النهار فقط كلما جاء باللفظ الفلاني يكون قاصدا لمعناه فتثبت العلقة الوضعيّة التعهدية في تلك الحالة فقط. وكذلك الحال بناء على مسلك الاعتبار فيما إذا أريد به قياس الوضع بسائر المجعولات العقلائية الاعتبارية.

وأما على المسلك الصحيح الّذي يرى أن العلقة الوضعيّة أمر واقعي تكويني وهو الملازمة التصورية بين اللفظ والمعنى الناتجة عن الاقتران بينهما خارجا ، وأن الاعتبار أو الجعل إذا مارسه الواضع فهو مجرد حيثية تعليلية لتحقيق ذلك الاقتران بين اللفظ والمعنى ، فتقييد العلقة الوضعيّة غير معقول ، لأن هذه العلقة الناشئة من الوضع معلول تكويني للوضع وليس مجعولا تشريعيا كالوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية ، فلا يعقل للواضع بعد إيجاده لهذه العلقة والملازمة التصورية أن يقيدها بقيد جعلي. وبتعبير آخر : ان العلقة الوضعيّة ليست مجعولا اعتباريا أو منوطة بالمجعول الاعتباري لتكون قابلة للتوسعة والتضييق كما هو الحال في سائر المجعولات الاعتبارية ، وإنما هي علاقة واقعية بسبب القرن المنوط بنفس الجعل لا المجعول وهذا أمر غير قابل للتقييد كما هو واضح. وسيأتي لذلك مزيد تأكيد وتوضيح في بحث تبعية الدلالة للإرادة فلاحظ.

١٠٣

الفصل الرابع

تبعية الدلالة للإرادة

توضيحا لحيثيات هذا البحث التي قد يقع الخلط فيما بينهما نفرد فيما يلي الحديث عن أمور ثلاثة مختلفة مضمونا ، وقد لا يكون الملاك في إثبات بعضها كافيا لإثبات الباقي.

الأول : ان الدلالة اللفظية هل تكون تصورية أو تصديقية.

الثاني : ان الدلالة اللفظية هل تتوقف على وجود الإرادة بحيث لا توجد الدلالة إلا في ظرف فعلية الإرادة أم لا.

الثالث : في تحديد المدلول وأنه ذات المعنى أو المعنى المقيد بالإرادة.

هل الدلالة الوضعيّة تصورية أو تصديقية؟

أما الموضوع الأول ، فهو بحسب الحقيقة بحث عن جوهر الدلالة اللفظية الناشئة من الوضع من حيث كونها تصورية بمعنى كون اللفظ سببا لإخطار صورة المعنى في الذهن أو تصديقية بمعنى كونه كاشفا عن أمر خارجي وهو وجود الإرادة في نفس المتكلم.

والصحيح ـ على ما تقدمت الإشارة إليه ـ ان الدلالة الوضعيّة تصورية إذ لا يمكن أن تكون تصديقية إلا على مسلك التعهد في تفسير الوضع ، ومسلك التعهد باطل. أما بطلان هذا المسلك فقد تقدم توضيحه. واما كون الدلالة الوضعيّة تصديقية بناء عليه وتصورية بناء على المختار في تفسير الوضع فلأن الدلالة عبارة عن الانتقال من شيء وهو فرع الملازمة بينهما ، فإذا كانت الملازمة بين وجودين كان الانتقال تصديقيا ـ كالانتقال من النار إلى الحرارة أو من السحاب إلى المطر ـ وإن كانت الملازمة بين تصورين كان الانتقال تصوريا ـ كالانتقال من تصور السكوني في علم الرّجال إلى تصور النوفلي للتلازم بين ذكرهما ـ والتعهد مرجعه إلى إيجاد الملازمة بين وجودين هما وجود اللفظ وإرادة تفهيم المعنى بالالتزام بإرادة المعنى حين الإتيان باللفظ دائما فيكون الانتقال الناشئ منه تصديقيا وهو معنى كون الدلالة الوضعيّة تصديقية. واما الوضع بمعنى قرن اللفظ بالمعنى فهو يوجد الملازمة بين صورتين قرن الواضع إحداهما

١٠٤

بالأخرى ، ولا يعقل للقرن بين الصورتين ان يوجد شيئا سوى التلازم الذهني بينهما فيكون الانتقال تصوريا وهو معنى كون الدلالة الوضعيّة تصورية.

وقد يتخيل : إمكان صيرورة الدلالة الوضعيّة تصديقية على غير مسلك التعهد أيضا بأخذ الإرادة قيدا في المعنى الموضوع له.

ولكن التحقيق : أنه إن أريد أخذ مفهوم الإرادة الكلية أو مفهوم الإرادة الجزئية المضافة إلى شخص المتكلم فمن الواضح أن هذا لا يغير من جوهر الدلالة الوضعيّة شيئا وإنما يجعل اللفظ دالا بالدلالة التصورية على تصور الإرادة على حد دلالته على مفهوم الماء ، وكما أن دلالته على مفهوم الماء لا تعني الكشف عن وجوده كذلك دلالته على مفهوم الإرادة. وإن أريد أخذ واقع الإرادة ووجودها الخارجي القائم في نفس المتكلم قيدا في المعنى فهو غير معقول ، لأن الملازمة التي يراد إيجادها بالوضع إن كانت قائمة بين وجود الإرادة خارجا وصدور اللفظ فمثل هذه الملازمة لا يمكن إيجادها إلا بالتعهد وهذا رجوع إلى مسلك التعهد وهو خلف ، وإن كانت قائمة بين الوجود الخارجي للإرادة وتصور اللفظ ذهنا فهو غير معقول لاستحالة قيام الملازمة ابتداء بين تصور اللفظ ووجود الإرادة خارجا ، لأن الاقتران المتكرر اما أن يكون بين وجودين فيبرهن على الملازمة بين الوجودين وإما بين تصورين فيؤدي إلى الملازمة بين التصورين ، ولا يتعقل الاقتران المتكرر بين تصور اللفظ ووجود الإرادة خارجا لتقوم الملازمة بينهما بنحو ينتقل من تصور اللفظ إلى التصديق بوجود الإرادة.

فاتضح أن الدلالة الوضعيّة بناء على المسلك المختار في تفسير الوضع لا تكون إلا تصورية ، واما الدلالة التصديقية للكلام فهي غير وضعية بل سياقية قائمة على أساس أمارة نوعية وهي الغلبة ، فان الغالب في حال العاقل الملتفت أن لا يأتي باللفظ على سبيل لقلقة لسان وانه يقصد به أقوى المعاني ارتباطا به في عالم التصور ، ومثل هذه الغلبة لما كانت ارتكازية فهي من قبيل القرائن اللبية الارتكازية التي يوجب احتفافها بالكلام ظهورا تصديقيا للكلام على طبقها.

١٠٥

عدم توقف الدلالة على الإرادة

وأما الموضوع الثاني ـ وهو توقف الدلالة على وجود الإرادة وقصد التفهم ـ فالصحيح أنه بناء على مسلك التعهد لا يعقل كون الدلالة الوضعيّة مشروطة بالإرادة ، ولأن الدلالة الوضعيّة على هذا المسلك هي الدلالة التصديقية الحاصلة من تعهد المتكلم بأن يقصد المعنى حين يأتي باللفظ. وهذا التعهد الّذي هو ملاك تلك الدلالة لا يعقل ان يكون مشروطا بإرادة المعنى إذ لا محصل للتعهد بأنه عند الإتيان باللفظ يكون قاصدا للمعنى بشرط أن يكون قاصدا للمعنى فان قصد المعنى بنفسه متعلق للتعهد فلا يمكن أخذه شرطا له ، فإذا استحال تقييد التعهد بذلك استحال تقيد الدلالة التصديقية المتحصلة من التعهد بذلك. بل دلالة اللفظ بنفسها تكون كاشفة عن الإرادة لا أنها متوقفة على وجودها وإحرازها من الخارج.

نعم ، يعقل أن يكون التعهد مشروطا بطبيعي القصد ويكون المتعهد به وكون القصد للمعنى المعين لا معنى آخر فتكون الدلالة التصديقية للفظ تابعة للإرادة بمعنى انه لا بد من إحراز طبيعي القصد ـ قصد الإفهام ـ من الخارج وفي طول ذلك يكون اللفظ كاشفا عن تعيين متعلق ذلك القصد وفي مثل هذا الفرض لا يعقل أن تكون للفظ دلالة وضعية على أصل القصد بل لا بد لمن يلتزم بمثل هذا التعهد أن يعترف بأن دلالة اللفظ على أصل القصد دلالة سياقية غير وضعية ، وهو إذا اعترف بتعقل الدلالات السياقية وكونها منشأ للكشف عن أمر نفساني فهو يعني اعترافه بإمكان الاستغناء عن التعهد رأسا وذلك بتفسير الدلالة التي يراد تحصيلها بالتعهد على أساس السياق بالنحو الّذي شرحناه وهو خلف مسلك التعهد.

وأما بناء على غير مسلك التعهد في تفسير الوضع ، فقد يقال بتصوير تبعية الدلالة للإرادة والبرهنة عليه بتقريب : ان الغرض من إيجاد العلقة الوضعيّة إنما هو الانتقال من تصور اللفظ إلى تصور المعنى في موارد قصد التفهيم ، واما الانتقال في غير هذه الموارد فليس داخلا في الغرض العقلائي ومعه لا بد من افتراض تقيد العلقة الوضعيّة المجعولة بموارد قصد التفهيم ، لأن إطلاقهما لغير تلك الموارد مع اختصاص الغرض بها يكون لغوا ،

١٠٦

فتكون الدلالة الناشئة من الوضع مقيدة أيضا بقصد التفهيم وتابعة له فحيث لا يقصد التفهيم لا وضع وبالتالي لا دلالة (١).

ويرد على هذا التقريب :

أولا : إن لغوية الإطلاق مع فرض اختصاص الغرض فرع أن يكون في الإطلاق مئونة لحاظية زائدة ، وأما بناء على ما هو المختار من أن الإطلاق مجرد عدم التقييد فجعل العلقة الوضعيّة المطلقة يفي بالغرض وليس فيه مئونة زائدة على جعل العلقة المقيدة ليلزم إشكال اللغوية.

وثانيا : ان الإرادة اما ان يدعى كونها قيدا في نفس الوضع أو في المعنى الموضوع له أو في اللفظ الموضوع؟

أما الأول ، فهو غير معقول ، لأن تصور تقييد الوضع بالنحو الّذي أفيد في التقريب مبني على تخيل ان الوضع مجعول اعتباري من قبيل الوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية فكما تقبل هذه المجعولات التشريعية التقييد كذلك العلقة الوضعيّة. وهذا تخيل باطل لأن جوهر الوضع ليس إلا قرن اللفظ بالمعنى الّذي هو المنشأ للملازمة بين تصور اللفظ وتصور المعنى ، والاعتبار إذا مارسه الواضع فانما يمارسه بوصفه مقدمة إعدادية لذلك القرن بين اللفظ والمعنى. فهناك إذن عمل تكويني وهو جعل اللفظ يقترن بالمعنى في الذهن اقترانا أكيدا ، وهناك معلول تكويني لهذا الاقتران هو الملازمة بين تصور اللفظ وتصور المعنى وكلاهما لا يقبل التقييد. أما الأول فلأنه فعل خارجي لا يقبل الإطلاق والتقييد وأما الثاني ، فلأن الاقتران منشأ حتمي للملازمة فلا يعقل للواضع بعد إيجاده أن يقيد الملازمة بقيد جعلي.

وأما الثاني : وهو أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له ـ فان أريد به أخذ مفهوم الإرادة فلا يقتضي ذلك توقف الدلالة على وجود الإرادة ، لكون دلالة اللفظ على معناه تصورية بحسب الفرض فكما ان دلالته على ذات المعنى لا تتوقف على وجود مصداقه خارجا كذلك دلالته على مفهوم الإرادة لا تتوقف على أن يكون لهذا المفهوم مصداق

__________________

(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ١١١

١٠٧

في الخارج. وإن أريد به أخذ واقع الإرادة ووجودها الخارجي قيدا المعنى الموضوع له فيرد عليه : مضافا إلى ما عرفت في الموضوع الأول من عدم معقولية ذلك ، أنا لو تصورنا الانتقال من تصور اللفظ إلى واقع الإرادة فهذا لا يجعل دلالة اللفظ متوقفة على الإرادة بحيث لا بد من إحرازها من خارج لكي تثبت دلالة اللفظ بل تكون الإرادة مدلولا للفظ بمعنى كون تصور اللفظ منشأ للتصديق بوجود الإرادة ؛ فإحراز وجود الإرادة يكون ببركة الدلالة الوضعيّة وتابعا لها لا أن الدلالة الوضعيّة تابعة لإحراز وجود الإرادة.

وأما الثالث : وهو أخذ الإرادة في اللفظ ـ فقد يقال : انه يصور تبعية الدلالة للإرادة ، لأن الموضوع إذا كان حصة خاصة من اللفظ وهي المقرونة بالإرادة فحيث لا إرادة لا يكون اللفظ مشمولا للوضع بل مهملا فلا تكون له دلالة. ولكن أخذ الإرادة الخارجية قيدا في اللفظ الموضوع غير معقول أيضا فان تقييد أحد طرفي الاقتران وهو اللفظ أو المعنى وإن كان معقولا ، بأن يقيد اللفظ بالتنوين مثلا أو يقيد المعنى بكونه طويلا أو قصيرا مثلا ، إلا أن المعقول هو القيد التصوري في اللفظ أو المعنى لا القيد الخارجي التصديقي ، فلفظ زيد حينما يراد قرنه بمعناه قد يقيد بالتنوين مثلا ، بمعنى أخذ صورة اللفظ المنون وجعلها تقترن بصورة معنى خاص واما تقييد اللفظ بالإرادة الخارجية وجعل صورة اللفظ المقترنة بالإرادة الخارجية مقرونة بصورة المعنى فلا معنى له ، لأن المقصود إن كان جعل وجود الإرادة الخارجية واقعا قيدا في الدلالة بحيث تكون دخيلة في الانتقال إلى صورة المعنى فهو غير معقول ، لأن الإرادة بوجودها الخارجي في نفس المتكلم لا يعقل أن تكون مؤثرة في تصور السامع للمعنى. وإن كان المقصود جعل التصديق بالإرادة الخارجية قيدا في اللفظ بحيث يكون الانتقال إلى صورة المعنى مسببا عن تصور اللفظ المنضم إلى التصديق بالإرادة الخارجية فهو غير معقول أيضا ، لأن الانتقال من شيء إلى شيء فرع الملازمة إذا كانت بلحاظ الاقتران المتكرر بين وجودين فيكون الانتقال من تصديق إلى تصديق وإذا كانت بلحاظ الاقتران المتكرر بين تصورين فالانتقال تصوري من تصور إلى تصور ، ولا معنى للاقتران المتكرر بين التصديق والتصور بما هما تصديق وتصور. وإن كان المقصود جعل تصور الإرادة

١٠٨

قيدا في اللفظ بحيث يكون الانتقال إلى صورة المعنى مسببا عن تصور اللفظ وتصور الإرادة ، أي تصور اللفظ بما هو مراد معناه ، فهو خروج عن فرض أخذ الإرادة الخارجية قيدا للفظ واعتراف بعدم إمكان تصوير تبعية الدلالة للإرادة.

عدم أخذ الإرادة قيدا في المدلول الوضعي

وأما الموضوع الثالث ـ وهو تحديد المدلول الوضعي ـ فالصحيح أن المدلول الوضعي هو ذات المعنى لا المعنى بقيد الإرادة ؛ إذ لو أريد أخذ مفهوم الإرادة بنحو كلي أو جزئي فيه فهو وإن لم يكن ذا محذور ثبوتي ولكنه خلاف الوجدان اللغوي. وإن أريد أخذ واقع الإرادة بوجودها الحقيقي قيدا في المعنى الموضوع له ، فالإشكال فيه : انه إذا قيل بمسلك التعهد الّذي يؤدي إلى كون الدلالة الوضعيّة تصديقية فالموضوع له هو الإرادة والإرادة هي تمام الموضوع له ؛ لأن المدلول التصديقي هو الموضوع له والمدلول التصديقي ليس إلا الإرادة لا أن الإرادة قيد فيه. وإذا قيل بالمسلك المشهور وهو مسلك الجعل سواء أريد به الجعل التكويني أو الاعتباري فيستحيل أو تكون الإرادة الواقعية مأخوذة قيدا في المعنى الموضوع له إذ لا معنى لهذه القيدية إلا الانتقال من اللفظ إلى المعنى مع قيده ، والانتقال إلى واقع الإرادة من اللفظ تصديقي بحسب الحقيقة لا تصوري والمفروض على غير مسلك التعهد ان الانتقال الّذي يحصل بالوضع تصوري ولا يمكن أن يكون تصديقيا.

وقد يستشكل في أخذ الإرادة قيدا في المعنى الموضوع له تارة : بأن لازم ذلك عدم انطباق المعنى على الخارج باعتبار تقيده بأمر لا يوجد إلا في وعاء الذهن. وأخرى : بأن الإرادة من مقومات الاستعمال ومتأخرة عنه طبعا تأخر الإرادة عن المراد فلا يمكن أخذها في المعنى المستعمل فيه ، للزوم الدور على تقريب مشهور أو الخلف حسب تقريبات المحقق الأصفهاني في أمثال المقام.

وكلا هذين الاعتراضين غير متجه. أما الأول ، فلأن الإرادة لها مراد بالذات ، وهو نفس الوجود الإرادي للمراد فان الإرادة نحو وجود للمراد كما ان التصديق وجود تصديقي للمعلوم والتصور وجود تصوري للمتصور وهكذا ، وللإرادة مراد بالعرض وهو

١٠٩

ذات المفهوم. فلو كان المقصود من وضع اللفظ للمعنى المراد وضعه لما هو المراد بالذات لكان مرجعه إلى الوضع للوجود الإرادي القائم في النّفس ، واما إذا كان المقصود من ذلك وضع اللفظ لذات المفهوم مع أخذ نسبة بينه وبين الإرادة في المعنى الموضوع له على أساس ان المفهوم مراد بالعرض والإرادة لها نسبة إلى المراد بالعرض فيعقل تقييد المفهوم بهذه النسبة ، فلا يخرج بذلك عن قابلية الانطباق على الخارجيات.

والحاصل : ان هناك نسبة وتحصيص تنتزع بلحاظ المراد بالذات ونسبة تنتزع بلحاظ المراد بالعرض ، وتقييد المعنى الموضوع له بالإرادة لا ينحصر بأخذ النسبة الأولى بل يمكن تصويره بأخذ النسبة الثانية.

واما الثاني ، فيندفع : بأن الإرادة التفهيمية لشيء في طول ذلك الشيء والمدعى في المقام ليس هو أخذ الإرادة التفهيمية لشيء في نفس ذلك بل أخذها جزءا آخر للمعنى المركب من ذلك الشيء ومن إرادته التفهيمية. وكأن هذا الاعتراض نشأ من تخيل أن ما يدعى أخذه في المعنى هو الإرادة التفهيمية لتمام المعنى مع ان المدعى أن الإرادة التفهيمية لجزء المعنى هي بنفسها الجزء الآخر لذلك المعنى فلا يلزم من ذلك أخذ الإرادة في المراد.

ولو فرض أن الاعتراض المذكور متجه فلا يبرهن إلا على استحالة أخذ الإرادة في مرتبة موضوع شخص تلك الإرادة لا أخذها في مرتبة موضوع إرادة من سنخ آخر ، حيث سيأتي في نظرية الاستعمال تصوير ثلاث إرادات ـ وهي الإرادة الاستعمالية والإرادة التفهيمية والإرادة الجدية ـ فلا يثبت بمحذور الدور أو الخلف امتناع أخذ الإرادة الجدية في موضوع الإرادة التفهيمية أو الاستعمالية.

فالمهم في الاعتراض على أخذ الإرادة ما قلناه آنفا من استحالة تقيد المدلول التصوري بأمر تصديقي.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض : بالالتزام بالوضع لذات الحصة التوأم مع الإرادة على نحو مساوق لخروج القيد والتقيد معا.

ويندفع ذلك. أولا : بأن الحصة بهذا المعنى انما يعقل في الأفراد الخارجية لأن لكل فرد تعينا في مقابل غيره بقطع النّظر عن تقيده بخصوصياته العرضية ، ولا يعقل في

١١٠

الحصص المفهومية لأن صيرورة الحصة حصة في عالم المفهوم إنما هو بالتقييد. فإذا جردت عن التقييد في مقام تعليق شيء عليها كان معلقا على الجامع لا محالة.

وثانيا : بأن تعلق الإرادة الاستعمالية بذات تلك الحصة فرع افتراض القيد في المرتبة السابقة ، لأنه إنما يراد استعمال اللفظ فيما وضع له وهو الحصة ، وحيث أن القيد نفس الإرادة فافتراضه في المرتبة السابقة خلف.

الفصل الخامس

اشتراك علاقتين في طرف

إذا افترضنا علاقتين وضعيتين ، فقد تكونان متباينتين لفظا ومعنى ، وهذا لا كلام فيه. وقد تكونان مشتركتين في لفظ واحد بأن يكون لفظ واحد موضوعا لمعنيين ، أو في معنى واحد بأن يكون لفظان موضعين لمعنى واحد ، وتسمى الحالة الأولى بالاشتراك والحالة الثانية بالترادف.

والكلام هنا يقع في ثلاث جهات :

الأولى : في الضرورة اللغوية للاشتراك. وهذا البحث يختص في كلامهم بالاشتراك بالمعنى المقابل للترادف ، إذ لم يتوهم كون الترادف ضروريا. وسيأتي إمكان دعوى كونهما معا ضروريين بمعنى من المعاني.

الثانية : في منافاته الحكمة الوضع. وهذا البحث يختص أيضا بالاشتراك ولا يشمل الترادف ، لعدم توهم منافاته للحكمة المذكورة.

الثالثة : في إمكانه النظريّ ذات. وهذا بحث يشمل الاشتراك والترادف معا ، إذ يتوهم عدم الإمكان النظريّ في ذاك تارة وفي هذا أخرى.

مدى الحاجة إلى الاشتراك

أما الحديث في الجهة الأولى ، فقد يدعى ضرورة الاشتراك ببرهان كثرة المعاني وعدم تناهيها مع كون الألفاظ محدودة ومتناهية فلو فرض اختصاص كل لفظ بمعنى واحد لزم تطابق المتناهي مع اللامتناهي وهو محال.

١١١

والتحقيق : انه إذا أريد بضرورة الاشتراك ما يعم الاشتراك الناتج من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، نظرا إلى أنه يؤدي إلى كون اللفظ الواحد مشتركا بين معنيين أو معان ولو بوضع واحد ، فالصحيح هو ان الاشتراك بهذا المعنى ضروري ، إذ بدونه لا بد أن نفترض لكل ربط ونسبة لفظا دالا عليه ولما كان كل ربط مغايرا ذاتا وماهية لأي ربط آخر ولا جامع بين الربطين ولو كان طرفا الربطين فردين من جامع واحد ـ على ما يأتي في المعاني الحرفية ـ فهناك إذن أنحاء من الربط غير متناهية لعدم تناهي الأفراد والجزئيات ، ولا يتوفر من الألفاظ ما يوازيها عددا ليكون لكل معنى لفظ يختص به.

وإن أريد بضرورة الاشتراك ضرورة تعدد وضع لفظ واحد لمعنيين أو أكثر من أجل عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ ـ كما هو المقصود بالاشتراك عند إطلاقه عادة ـ فيرد عليه :

أولا : ان جعل لفظ يدل على كل معنى من المعاني الاسمية أو الحرفية لا ينحصر طريقه بالاشتراك بهذا المعنى المساوق لتعدد الوضع بعدد الدلالات الوضعيّة ، بل يمكن أن يحصل عن طريق الوضع العام والموضوع له الخاصّ فالاشتراك بالمعنى المساوق لتعدد الوضع غير ضروري ولو سلمنا عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ.

وثانيا : ان الحاجة إلى الاستعمال في حياة الإنسان لا يمكن أن تتعلق إلا بمقدار محدد من تلك المعاني غير المتناهية لأنها فرع تصور الإنسان للمعنى لوضوح ان ما لا يتصور فعلا لا يحتاج إلى استعمال اللفظ فيه. فالأوضاع إذن لا يمكن أن تزيد عن المجموع الكلي للمعاني التي تصورها الإنسان في حياته ، وحيث ان هذا المجموع محدود ومتناه فلا يتطلب إلا أوضاعا متناهية وبالتالي ألفاظا متناهية. ولا فرق في ذلك بين أن يقال ان الواضع هو نفس المستعمل أو هو الله سبحانه وتعالى ، فان الّذي يدعو إلى الوضع دائما إنما هو حاجة المستعمل والحاجة إلى الاستعمال في معنى فرع تصوره ، ولما كان التصور محدودا كان الوضع محدودا لا محالة.

وثالثا : ان الاشتراك إذا كان قد وقع ضرورة بسبب زيادة المعاني على الألفاظ لكان من الطبيعي ان لا نجد لفظا مهملا مع ان الألفاظ المهملة في اللغة كثيرة

١١٢

وقد لا تقل عن عدد الألفاظ المشتركة ، وهذا يعني ان الاشتراك لم يحصل نتيجة استيفاء الألفاظ وزيادة المعاني عليها لعدم تناهيها ، فمثلا جل الكلمات اللغوية في سائر اللغات تعتبر مهملة في اللغة العربية فكيف يصح أن نفسر الاشتراك فيها على أساس الضرورة المذكورة.

ورابعا : ان تفهيم المعنى الكلي لا يتوقف دائما على أن يوضع له لفظ خاص لكي يدل عليه بالخصوص ، بل قد يحصل تفهيمية على نحو تعدد الدال والمدلول أو بنحو الإشارية ـ كما في تفهيم الجزئيات ـ فإذا أردت أن تفهم معنى « البغل » فقد لا تستعمل كلمة « البغل » بل تقول الكائن المتولد من حصان وحمار ، وبذلك تحصل نتيجة الوضع بدون التزام بأوضاع متعددة بعدد المعاني ليتوهم ضرورة الاشتراك. بل قد يحصل تفهيم جملة من المعاني بلا استعانة بدلالة وضعية أصلا ، كما في موارد الإطلاق الإيجادي والإحضار الحسي للمعنى ، كما في قولك زيد اسم ـ على ما يأتي من أن الإطلاق الإيجادي لا يتوقف على الوضع أصلا ـ.

هذا ، وأما إذا قطع النّظر عن هذه الاعتراضات ، فلا يمكن الاعتراض تارة : بأن المعاني الكلية متناهية فلا تزيد على عدد الألفاظ والوضع إنما يكون للمعاني الكلية (١) وأخرى : بأن التركيبات اللفظية غير متناهية فلا تقل عن عدد المعاني (٢) وثالثة : بأنه يمكن التعويض عن الاشتراك بالاستعمال المجازي (٣).

أما الأول ، فلأنه يرد عليه : أنا لو أدخلنا في الحساب المعاني الاعتبارية فلا برهان على تناهي المعاني الكلية ، بل البرهان على الخلاف ، إذ المعاني منها ما يكون بسيطا كمفهوم الوجود والعدم ، ومنها ما يكون مركبا حقيقيا كمفهوم الإنسان ، ومنها ما يكون مركبا اعتباريا كمفهوم الدار والمدينة فلو فرض تناهي القسمين الأولين فالقسم الثالث لا تناهي له لكونه منتزعا من ملاحظة مجموع أمرين أو أكثر بعد إلباسهما ثوب الوحدة الاعتبارية ، وهذا الانتزاع أمر غير قابل للتناهي إذ أي مفهوم اعتباري يفترض

__________________

(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٥٣ ( ط ـ مشكيني )

(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢١١

(٣) كفاية الأصول ج ١ ص ٥٤ ( ط ـ مشكيني )

١١٣

يمكن أن ينتزع منه ومن مفهوم آخر عنوان اعتباري آخر وهكذا ..

أضف إلى ذلك : أن الالتزام بعدم تناهي مجموع المعاني الكلية والجزئية كاف لإثبات مدعى القائل بضرورة الاشتراك ولو بلحاظ المعاني الجزئية التي لا إشكال أيضا في تعلق الأغراض الاستعمالية بها كثيرا ما لم نرجع إلى جواب آخر عن الشبهة.

وأما الثاني ، فيرد عليه : أن الألفاظ مهما كان لها صور فانها تظل دائما أقل من المعاني ببرهان أن أي تركيب لفظي كما يحقق لفظا جديدا كذلك يحقق معنى جديدا قد يراد التعبير عنه نفسه كما هو واضح.

وأما الثالث ، فيرد عليه : بأن المعاني الحقيقة اما أن تكون غير متناهية أو متناهية ، وعلى الأول يجري برهان الاشتراك ، لزيادتها حينئذ على الألفاظ. وعلى الثاني يلزم ان تكون المعاني الأخرى كلها مجازية وهي غير متناهية ، وهذا يفترض علاقات غير متناهية بينها وبين المعاني الحقيقية وكل علاقة تمثل حيثية في المعنى الحقيقي ويؤدي ذلك إلى اشتمال المعاني الحقيقة على حيثيات غير متناهية وكل منها بحاجة إلى لفظ دال عليه فيعود المحذور.

وإن أريد بضرورة الاشتراك كونه ظاهرة طبيعية في اللغة فهذا أمر بالإمكان تفسيره وقبوله إلى حد ما ، لأن كل لغة لا تمثل مجتمعا واحدا بل مجتمعات صغيرة بعدد الوحدات البدائية التي تنتمي إليها من قبائل ومجاميع والحاجات اللغوية في كل واحد منها تتجدد وتزداد باستمرار وتتخذ كل مجموعة طريقة في إشباع تلك الحاجات ، ولما كانت مقررات اللغة المشتركة بين تلك القبائل محدودة نسبيا وكانت الصلة اللغوية الكاملة مفقودة بين كل مجموعة والأخرى كان من الطبيعي بحساب الاحتمالات أن يقع اختيار هذه المجموعة على لفظ معين للدلالة على معنى ويقع اختيار المجموعة الأخرى على نفس اللفظ للدلالة على معنى اخر ، وعند ما انصهرت هذه المجاميع في لغة واحدة واندمجت حياة بعضهم ببعض ظهر الاشتراك بسبب ذلك.

والشيء نفسه يمكن أن نقوله بالنسبة إلى الترادف ، فان حساب الاحتمالات يقتضي أيضا استبعاد أن يتطابق عفويا اختيار مجموعتين منتميتين إلى إطار لغوي

١١٤

واحد بصورة مستمرة ، بل قد يجعل هؤلاء لفظا دالا على معنى ويجعل أولئك لفظا آخر لنفس المعنى.

ولكن ، هذا لا يعني حصر الاشتراك ضمن هذا النطاق بل يمكن افتراضه من بداية الأمر على صعيد لغوي واحد ، فكما يتصور الاشتراك في الأعلام الشخصية في بيئة واحدة وعائلة واحدة كذلك لا مانع من افتراضه على هذا النحو في أسماء الأجناس ونحوها.

الاشتراك لا ينافي حكمة الوضع

وأما الحديث في الجهة الثانية ـ فقد يدعى ـ على عكس ما ادعي في الجهة السابقة ـ امتناع الاشتراك في اللغة لكونه لغوا ، إذا الحكمة والغرض المطلوب من الأوضاع اللغوية إفهام المعنى الموضوع بإزائه اللفظ بذلك اللفظ وهذا فرع أن يكون ما وضع بإزائه اللفظ متعينا لا مرددا بين معان متعددة كما في المشترك.

وهذه النكتة لا تجري في الترادف ، لوضوح ان تكثر الألفاظ الدالة على معنى واحد لا يدخل إجمالا على دلالة أي واحد منها.

إلا أن هذه الدعوى غير صحيحة ، فانه يكفي في إشباع الحاجة اللغوية من الوضع أن يكون جزء العلة في افهام المعنى الموضوع له. وإن شئت قلت : ان الإفهام الإجمالي بمعنى صلاحية اللفظ لأن يكون دالا على المعنى الحاصل من الوضع محفوظ في المشترك أيضا ، وإن كان يحتاج في تعيين إرادة أحد المعاني الموضوع بإزائها اللفظ إلى قرينة معينة.

هذا ، إذا لم نفترض تعدد الواضعين للألفاظ المشتركة حسب تعدد القبائل أو المجاميع اللغوية البدائية المؤدي إلى تحقق اقترانات عديدة للفظ معين مع معان عديدة وإلا فالشبهة أوضح اندفاعا.

١١٥

مدى إمكان اشتراك علاقتين في طرف

وأما الجهة الثالثة ، فلا شك في إمكان الاشتراك والترادف نظريا بناء على المسلك المختار في تفسير العلاقة الوضعيّة ، وكذلك بناء على تفسيرها بالاعتبار. واما بناء على مسلك التعهد فقد يصعب تصوير الاشتراك أو الترادف ثبوتا ، وذلك : لأن التعهد إذا كان بصيغة انه كلما جاء باللفظ قصد معناه الموضوع له بطل الاشتراك للزوم فعلية كلا التعهدين في مورد ذكر المشترك لوقوعه شرطا في التعهدين معا ، وإذا كان بصيغة انه كلما قصد المعنى جاء باللفظ الدال عليه بطل الترادف للزوم فعلية كلا التعهدين في مورد إرادة قصد المعنى المستوجبة للإتيان بكلا اللفظين معا.

ويمكن لأصحاب هذا المسلك التغلب على هذا الإشكال إما بافتراض ان المتعهد به هو قصد أحد المعنيين أو إتيان أحد اللفظين ، وإما بتقييد كل من التعهدين بعدم قصد المعنى المأخوذ في التعهد الآخر ، أو عدم الإتيان باللفظ المأخوذ فيه ، أو غير ذلك من أنحاء التقييد المتقدمة في شرح ذلك المسلك.

١١٦

٢ ـ نظرية الدلالة على المعنى المجازي

الدلالة على المعنى المجازي هي دلالة اللفظ على معنى لم يكن مدلولا له بحسب القانون اللغوي الأولي العام لعلاقة بينه وبين ما هو مدلوله اللغوية الأولي. ومن هنا تعتبر هذه الدلالة ثانوية ومتفرعة على عدم إرادة المعنى الحقيقي.

والحديث عن المجاز يقع تارة : في تشخيص حقيقته من حيث كونه مدلولا للفظ أو لمرحلة عقلية وراء مرحلة مدلول اللفظ. وأخرى : في مدى حاجة الاستعمال المجازي إلى الوضع.

١ ـ حقيقة المدلول المجازي

والبحث من الناحية الأولى هو البحث المعروف الّذي أثارته مدرسة السكاكي في باب المجاز ، حيث أنكرت هذه المدرسة أن يكون المجاز استعمالا للفظ في غير ما وضع له من المعنى بحسب القانون اللغوي بل اعتبرته من باب الاستعمال في المعنى الحقيقي وإنما العناية والتجوز في تطبيق ذلك المعنى على غير واقعه في الخارج ادعاء ، ومن هنا كان المدلول المجازي بناء على هذا الاتجاه مدلولا عقليا ادعائيا. ولكن جمهور المشهور على أن المجاز مدلول لفظي مباشر لأنه من استعمال اللفظ في ذلك المعنى على حد استعماله

١١٧

في المعنى الحقيقي إلا أنه لا بد في افهامه من الاعتماد على قرينة دالة عليه.

والتحقيق : أن الادعاء المفترض لتفسير الاستعمال المجازي من قبل السكاكي إما أن يكون مرجعه إلى ادعاء ان المفهوم الّذي لم يوضع له اللفظ « المعنى المجازي » هو نفس المفهوم الّذي وضع له اللفظ بالحمل الأولي فيعتبر ويدعي ان مفهوم « الرّجل الشجاع » هو نفس مفهوم « الحيوان المفترس » ويستعمل اللفظ فيه على أساس هذه العينية المدعاة ، أو يرجع إلى ادعاء أن غير ما وضع له اللفظ ـ سواء كان مفهوما كليا أو فردا خارجيا كهذا الرّجل الشجاع ـ مصداق لما وضع له اللفظ على نحو يحمل عليه المعنى الموضوع له بالحمل الشائع ، فيستعمل اللفظ في المعنى الموضوع له ولكنه يطبق على فرد عنائي ادعائي.

أما الأول ، فلا يحقق مقصود السكاكي ـ وهو كون التجوز تصرفا في أمر عقلي بحث لا في اللفظ ـ بل هو يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له بادعاء انه نفس الموضوع له ، فالعناية مأخوذة إذن في مرحلة الاستعمال ويرد عليه : ان هذه العناية لا دخل لها في تصحيح الاستعمال وتكوين الدلالة على المعنى المجازي ، لأن المعنى المدعى بالعناية انه الموضوع له إن كانت له علاقة ومشابهة مع المعنى الحقيقي كفى ذلك في تصحيح الاستعمال وتكوين الدلالة بدون حاجة إلى العناية المذكورة ـ على ما يأتي ـ وإن لم تكن بين المعنيين علاقة فلا تحصل الدلالة ولا يصح الاستعمال بمجرد الادعاء المذكور ولا يتوهم : ان الادعاء المذكور يوجب توسعة العلقة الوضعيّة حكما ، كما هو الحال في سائر ألسنة الادعاء والتنزيل ، فان الادعاء المذكور إن رجع إلى وضع جديد فهو خلف لأن لازمه كون اللفظ مستعملا فيما وضع له ؛ وإلا فلا يمكن أن تسري أحكام العلقة الوضعيّة من الدلالة وصحة الاستعمال بمجرد الادعاء والتنزيل لأنها آثار واقعية تكوينية للعلقة الوضعيّة ، وبالادعاء والتنزيل إنما تسري الآثار المجعولة من قبل ذلك المنزل لا ما كان أثرا تكوينيا.

وأما الثاني ، فهو يفي بمقصد السكاكي ، لأنه يفترض عدم التصرف في مرحلة الاستعمال وإنما التصرف في مرحلة تطبيق المراد الاستعمالي على مصداقه. وهذا يرجع في الحقيقة إلى أن العناية في تطبيق المراد الاستعمالي على المراد الجدي ، فحين تقول

١١٨

« جئني بأسد » يكون مرادك الاستعمالي المطالبة بحيوان مفترس ومرادك الجدي المطالبة برجل شجاع ، والعناية التي يدعى فيها كون الرّجل الشجاع حيوانا مفترسا بالحمل الشائع هي التي تربط عرفا ذاك المراد الاستعمالي بهذا المراد الجدي على الرغم من تغايرهما.

ويرد عليه :

أولا : ان التجوز لا ينحصر بموارد احتواء الكلام على المراد الجدي بل يتصور في موارد الهزل أيضا وتمحض الكلام في المراد الاستعمالي ؛ فان كان المجاز مرادا هنا في مرحلة المدلول الاستعمالي فهو خلف المدعى ، وإن كان مرادا في مرحلة المدلول الجدي فهو خلف هزلية الكلام.

وثانيا : ان افتراض كون هذا الفرد فردا من المعنى الحقيقي انما يناسب كلية المعنى الحقيقي ولا يتأتى حيث يكون جزئيا ؛ فلو قيل بأن لفظتي الشمس والقمر مثلا موضوعتان لهذين النيرين الخاصّين فكيف نفسر على أساس العناية المذكورة قولنا « هؤلاء أقمار أو شموس » مع أن المدلول جزئي ، وهذا بخلافه على المسلك الآخر فانه لا مانع بموجبة من أن يكون المعنى الحقيقي جزئيا والمعنى المجازي كليا.

هذا ، مضافا : إلى الوجدان القاضي بأن إسباغ صفات المعنى الحقيقي ادعاء على شيء قد يؤدي عكس المقصود للمتجوز ، فمن يريد أن يبالغ في جمال يوسف فيقول انه « بدل » ليس في ذهنه إطلاقا ادعاء ان يوسف مستدير كالبدر ، وإلا لفقد جماله كإنسان ، لأن صفات البدر انما تكون سببا للجمال في البدر بالذات لا في شيء آخر.

وعلى هذا الأساس ، فما ذكره السكاكي لا يصلح أن يكون تفسيرا عاما للتجوز.

والصحيح ما عليه المشهور من أن الأصل في التجوز كونه راجعا إلى المدلول الاستعمالي ومرحلة اللفظ.

وقد يتوهم : ان ذلك يؤدي إلى أن يكون قولنا « زيد أسد » مرادفا لقولنا « زيد

١١٩

رجل شجاع » مع ان الوجدان قاض بأن استفادة معنى الشجاعة من الأول أبلغ وآكد ، وهذا يكشف لا محالة عن أقربية تفسير السكاكي لهذا المجاز.

ويندفع ذلك : بأن كون ذلك أبلغ وآكد محفوظ حتى على مقالة المشهور ، لأن كلمة « أسد » ليست مرادفة في مدلولها الاستعمالي المجازي لكلمة الرّجل الشجاع بل تزيد عليه غالبا بملاحظة الرّجل الشجاع بما هو شبيه بالحيوان المفترس ومناظر له في الشجاعة فكأن الكلام يستبطن تشبيها أيضا.

٢ ـ مدى حاجة المجاز إلى الوضع

بعد افتراض ان التجوز يرجع إلى مرحلة الاستعمال يقع الكلام في نقاط.

منشأ الدلالة على المجاز

النقطة الأولى : انه من أين نشأت دلالة اللفظ على المعنى المجازي مع عدم الوضع ومعلومية ان الدلالة اللفظية التصورية ليست ذاتية.

وقد يتوهم الجواب على هذا التساؤل : بأن الدلالة نشأت من القرينة على المجاز. وهذا التوهم غير صحيح ، لأننا نتكلم فيما يناظر الدلالة الوضعيّة وهو الدلالة التصورية للفظ على المعنى المجازي وهذه الدلالة بوجودها الشأني ليست مستندة إلى القرينة وذلك.

أولا : لأن اللفظ بحد ذاته فيه صلاحية إخطار المعنى المجازي وإن كان بدرجة أضعف من اقتضائه لإخطار المعنى الحقيقي ، ولو لا ذلك لما صح استعمال اللفظ في المعنى المجازي بلا قرينة.

وثانيا : ان القرينة غالبا لا تصلح لإخطار المعنى المجازي وإنما تصلح لصرف الذهن عن المعنى الحقيقي ، ففي قولنا « أسد يرمي » ليس في كلمة « يرمي » دلالة تصورية ولو التزاما على الرّجل الشجاع ، بل فيها دلالة على إنسانية الأسد فقط بقرينة الرماية واما كونه رجلا شجاعا فهو بدلالة نفس لفظ « الأسد » وعليه فلا بد من تفسير لدلالة اللفظ على المعنى المجازي.

١٢٠