جواهر الكلام - ج ١٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ومقتضاه الجواز معه ، والانصاف أنهما معتبران مشهوران ، وقد اعترف غير واحد بعدم العثور لهما على نص ، قلت : فالمتجه حينئذ الثاني ، للأصل والاستصحاب السابقين وإطلاق الأدلة وغير ذلك مما لا ينبغي الخروج عنه إلا في موضع الدليل ، مضافا إلى خبر (١) قرب الاسناد وكتاب المسائل وخبر الدعائم (٢) وخبر الذكرى (٣) في أقوى الوجهين ، بل يمكن استفادته من صحيح الثلاثة (٤) والمرسل عن فقه الرضا عليه‌السلام (٥) بناء على اعتبار الشرط المزبور في حالي العمد والنسيان بمعنى تعين الخطاب بالسورة في إتمامها مع فرض بلوغ النصف ، فلا يجزي قراءة غيرها عمدا أو نسيانا إذا ذكر قبل الركوع ، لظهور النهي في المقام ونحوه في إفادة حكمين تكليفي ووضعي غير مقيد بالتكليفي ، فحينئذ نفي الضرر في الصحيح المزبور وإن ذكر قبل الركوع دليل على جواز العدول مع بلوغ النصف ، وإلا لم يجتز به وإن كان لا إثم من جهة النسيان ، واحتمال قصر الحكم عليه خاصة دون العمد كما ترى إن لم نقل إنه خرق للإجماع المركب ، ولعله إلى ذلك أومأ الشيخ في استدلاله به للمفيد الذي اعتبر عدم مجاوزة النصف لا بلوغه ، فتأمل هذا.

مع أنا لم نعثر على ما يدل على الأول سوى ما عساه يظهر من قوله : « بعد ما قرأت نصف سورة » في الرضوي المتقدم الذي هو ليس بحجة عندنا ، واحتمال أن قوله فيه : « وتقرأ » إلى آخره من مقول العالم فتكون رواية مرسلة خلاف الظاهر بل المقطوع به عند التأمل ، وسوى إشعار « إن » الوصلية في خبر الذكرى على أحد الوجهين بمعلومية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٣.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٤.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

٦١

التحديد بالنصف في غير مفروض السؤال ، وأنه هو يزيد بالرجوع وإن بلغ النصف ، لكن مقتضى ذلك التفصيل بين السورة التي أريد غيرها والتي لم يرد غيرها ، ولم يعهد من الخصم القول بذلك ، نعم قال في الذكرى بعد الخبر المزبور : وهذا حسن ، ويحمل كلام الأصحاب والروايات على من لم يكن مريدا غير هذه السورة ، لأنه إذا قرأ غير ما أراده لم يعتد به ، ولهذا قال : يرجع ، وظاهره تعين الرجوع ، وفيه أنه لا وجه حينئذ للترقي ببلوغ النصف الظاهر في عدم جواز غيره وإن لم تكن السورة مرادة ، على أن مورد غيره من النصوص كمورده ، وقد اشتمل على النهي عن الرجوع عن السورتين الجحد والإخلاص ، وهو يقضي باعتبار الدخول وإن فرض سبق الإرادة ، بل هو نفسه قبل هذا بيسير قد استدل على إجزاء جريان اللسان ببسملة وسورة من غير قصد بخبر أبي بصير (١) المشتمل على إرادة الغير ، بل المستفاد من التأمل في النصوص والعمل بإطلاقها أنه لا فرق في جواز العدول بين أن يكون الدخول في السورة المعدول عنها بقصد أو غيره ، ولا بين أن يكون عدوله عنها إلى غيرها مقصودا لذاته بأن يبدو له العدول فيعدل أو لنسيانها فتمادى به إلى أن دخل في غيرها من دون قصد ، ولا بين أن يكون السورة المعدول إليها مما سبق قصدها أم لا ، ومن هنا قلنا سابقا إن هذه النصوص ظاهرة في عدم اشتراط التعيين بالبسملة ، بل ربما استظهر من إطلاق بعضها عدم اعتبار قصد الخلاف أيضا ، فلاحظ وتأمل.

وعلى كل حال فقد بان لك أن الأقوى اعتبار مجاوزة النصف في امتناع العدول ومن الغريب أنه في الذكرى مال إلى اعتبار النصف بعد أن حكاه عن الأكثر واحتمل إرجاع التعبير بالمجاوزة التي حكاها عن الشيخ خاصة إلى النصف ، إذ فيه ما لا يخفى من وجوه ، مع أن احتمال العكس أولى كما اعترف به في كشف اللثام.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٤.

٦٢

ثم الظاهر إرادة النصف بالنسبة إلى الحروف لا الآيات والكلمات ، نعم لا يبعد اعتبار التخمين في ذلك ، لتعذر العلم واليقين في هذا الحال أو تعسرها مع ظهور التحديد به في النصوص في تفسيره ( تيسيره خ ل ) بل لا يبعد أيضا عدم تحقق التجاوز بمثل الحرف والحرفين ونحوهما ، ولعل تعبير بعض الأصحاب بالنصف وآخر بتجاوزه مبني على التسامح لا أنه خلاف في المسألة.

وكذا لا يخفى أيضا ظهور النصوص في حرمة الرجوع عن سورتي الجحد والإخلاص ووجوب المضي فيهما لغير الجمعة والمنافقين في المحل الذي يأتي بمجرد الشروع فيهما وإن كانت بسملة مع قصدها بناء على التعين بالقصد ، بل إن لم يمكن تحصيل الإجماع على الحرمة فقد حكاه المرتضى فيما حكي من انتصاره لكن بالنسبة إلى الثانية ، بل الظاهر بمقتضى إطلاق النصوص والفتاوى عدم الفرق بين الصلاة التي يستحبان فيها وبين غيرها ، وبين الركعة الأولى والثانية لكل منهما ، وإن كان لولا ذلك لأمكن المناقشة فيه في الجملة.

وعلى كل حال فخلاف المصنف حينئذ فيه وأنه مكروه لا محرم وربما تبعه بعض متأخري المتأخرين في غاية الضعف ، واستدلاله على ذلك بإطلاق قوله تعالى (١) : ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ ) أضعف من دعواه ، كاستدلال من وافقه بعدم حمل الأمر والنهي في النصوص على الوجوب والحرمة ، ونحوه خلافه أيضا في الكتاب فيما يأتي بالنسبة إلى جواز الرجوع منهما إلى الجمعة والمنافقين الذي هو متفق عليه بحسب الظاهر وإن أطلق المنع بعض القدماء ، والنصوص صريحة فيه في الثانية التي يستفاد بسبب أولويتها الظاهرة من ( ان ) الوصلية وغيرها حكمه في الأولى ، مضافا إلى دعوى الإجماع المركب ، بل‌

__________________

(١) سورة المزمل ـ الآية ٢٠.

٦٣

قد يستفاد أيضا من التشبيه في‌ قوله عليه‌السلام (١) : « وكذا قل يا أيها » إلى آخره خصوصا وقد علم أن المراد بالغير المذكور في حكم المشبه به ولو من خارج ما عدا الجمعة والمنافقين ، فيثبت حينئذ في المشبه بشهادة فهم العرف ، لكن قد يمنع بل يدعى إرادة الظاهر في المشبه ، فيكون كالعام الذي خص في البعض ، ولئن تنزلنا فلا أقل من ثبوت حكم ما بقي من المشبه به في المشبه خاصة ، فتختص التخصيصية بالمشبه به والخصوصية بالمشبه ، وعلى كل حال فتمسك المصنف حينئذ في المنع عن الرجوع منهما بالإطلاق كما ترى ، وإن حكي عن المرتضى وابن الجنيد ما يوافقه أيضا حيث أطلقا المنع كالنصوص بل هو معقد إجماع أولهما ، لكن الأقوى الأول لما عرفت ، نعم قد يستفاد من الأمر بقطعهما لهذين السورتين دون غيرهما حرمة العدول من السورتين إلى غيرهما ، ضرورة أولويتهما من سورتي الجحد والإخلاص اللتين حرم العدول منهما إلى ما عداهما أو مساواتهما لهما في المصلحة ، مضافا إلى التصريح به في خبر الدعائم (٢) بل لعل الأمر بالعدول منهما إليهما يعين الأول ، ومقتضاه عدم العدول منهما إليهما فضلا عن غيرهما ، وإن كان هو بحيث يصل إلى حد الحرمة بالنسبة إلى خصوص سورتي الجحد والإخلاص لا يخلو من نظر ، إذ الأولوية أعم من ذلك ، كما أنه لا يخلو منه أيضا بالنسبة إلى غيرهما لإمكان منع الأولوية التي لا تندرج في القياس المحرم ، ولخلو النصوص والفتاوى عن ذلك ، بل ربما كان ظاهر الاقتصار في الاستثناء على السورتين خلافه ، واحتمال الاتكال في بيان ذلك على الأمر بالعدول من السورتين اللتين قد حرم العدول منهما إلى غيرهما إليهما للأولوية أو للتشبيه يمكن المناقشة فيه ، فتأمل جيدا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

٦٤

وكيف كان فقد أطلق الشيخ والفاضل الرجوع من السورتين إلى السورتين من غير تقييد ببلوغ النصف أو تجاوزه ، بل هو صريح بعض متأخري المتأخرين ، لإطلاق الأمر به في النصوص السالم عن المعارض ، ولذا قال في مجمع البرهان : « لا أرى دليلا على عدم جواز الرجوع مع تجاوز النصف » قلت : وحينئذ يجوز الرجوع من غيرهما أيضا إليهما ، ضرورة أولويته منهما بذلك ، مضافا إلى إطلاق بعض النصوص أيضا ، إلا أنه أطلق الأصحاب هناك حتى حكموا الإجماع على عدم جواز العدول بعد تجاوز النصف كما عرفت ، وتقييده بما إذا لم يكن إلى سورتي الجمعة والمنافقين تمسكا بثبوته في التوحيد والجحد فيثبت في غيرهما بطريق أولى ليس بأولى من أن يبقى ذلك الإطلاق على حاله ، ويقيد جوازه في التوحيد والجحد بما إذا لم يبلغ النصف أو يتجاوزه ، تمسكا بأن ثبوت المنع في الأضعف يقتضي أولويته في الأقوى ، ولعله بذلك يرجح كونه وجها للجمع بين‌ قول الصادق عليه‌السلام (١) حين سئل عن رجل أراد أن يصلي الجمعة فقرأ قل هو الله أحد : « يتمها ركعتين ثم يستأنف » وبين إطلاق ما دل على جواز العدول بحمل الأولى على ما إذا بلغ النصف أو تجاوزه ، والثانية على ما ليس كذلك على غيره من الوجوه كالتخيير ونحوه ، خصوصا مع ملاحظة الرضوي بناء على اعتباره ومع معلومية عدم جواز العدول من الفريضة إلى النافلة بغير ضرورة ، فيجعل حينئذ ذلك منها ، خصوصا إذا كان قراءته للتوحيد مثلا ناسيا ، فان الفاضل في المحكي عن مختلفة نقل عن أكثر العلماء جواز الرجوع بالنية ، كما أنه نقل عن الفقيه والمقنع والإصباح وجامع الشرائع ذلك أيضا إذا قرأ نصف سورة ، فما عن العجلي من المنع للنهي عن إبطال العمل ضعيف كدليله ، بل قد يدعى أن المعلوم من جميع النصوص والفتاوى أن التحديد بالنصف مثلا للرجوع حيث يجوز ولو في مقام خاص من غير تخصيص بسورة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

٦٥

وكأنه لذلك كله قيد بعضهم العدول منهما بالنصف ، بل في الحدائق أنه المشهور ، وآخر بما إذا تجاوز النصف ، بل عن البحار نسبته إلى الأكثر على حسب ما تقدم في الانتقال من غيرهما ، والانصاف بعد ذلك كله ان المقام مقام تأمل كما أنه كذلك بالنسبة إلى اشتراط جواز العدول من السورتين بما إذا دخل فيهما ناسيا وعدمه ، من إطلاق خبر قرب الاسناد وكتاب المسائل (١) بل وغيره من النصوص وإن كان هو أسبق إلى الذهن من العامد فيها ، لكن ليس سبق تقييد واختصاص ، مضافا إلى إطلاق الفتاوى وأصالة جواز العدول وغيرها ، ومن إطلاق دليل المنع عن العدول الذي يجب الاقتصار فيه على المتيقن ، وليس إلا الناسي الذي هو مورد النصوص ، ولذا خصه به المحقق الثاني وبعض من تأخر عنه.

كما أنه يجب الاقتصار في العدول من السورتين إلى الجمعة والمنافقين على المتيقن وهو سورة الجمعة في أولى صلاة الجمعة ، والمنافقين في ثانيتها ، لإطلاق المنع عن العدول منهما ، ومن هنا اختاره في الحدائق منكرا على ما عند الأصحاب لكن لم أجد من وافقه عليه ، إذ المحكي عن الصدوق والشيخ وابن إدريس ويحيى بن سعيد والفاضل وغيرهم أن محل ذلك ظهر يوم الجمعة ، واحتمال إرادتهم صلاة الجمعة خاصة في غاية البعد نعم يستفاد الحكم فيها بالأولوية أو يراد منه ما يشملها ، فيكون المحل حينئذ الظهر وصلاة الجمعة كما اختاره المحقق الثاني وغيره ، بل عن البحار الظاهر اشتراك الحكم عندهم بين الظهر والجمعة بلا خلاف في عدم الفرق بينهما ، ثم قال : « والأخبار انما وردت بلفظ الجمعة ، والظاهر انها تطلق على ظهر يوم الجمعة مجازا ، أو هي مشتركة بين الجمعة والظهر اشتراكا معنويا » قلت : قد سمعت ما في صحيح الحلبي (٢) من التعبير بيوم الجمعة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٩ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

٦٦

الشامل لهما ، ومن العجيب ما في الحدائق من وجوب حمله على صلاة الجمعة تحكيما للمقيد على المطلق ، إذ ذاك يجب مع التعارض لا مع عدمه كما في المقام ، بل لو لا انسياق إرادة خصوص الصلاتين من إطلاقه إلى الذهن لاتجه تعميم الحكم للعصر أيضا كما في جامع المقاصد وعن التذكرة وظاهر الموجز والروض أو صريحهما ، بل وللصبح أيضا وإن لم أجد به قائلا ، نعم عن الجعفي أنه جعل المحل فيه وفي صلاة الجمعة والعشاء ليلتها ، ولم أقف له على ما يدل على خصوص الجمع مع نفي غيره ، اللهم إلا أن يجعل المدار في العدول على استحباب هاتين السورتين ، ولعله يرى استحبابهما في ذلك خاصة ، لكنه كما ترى ضرورة كون المتبع الدليل في تقييد إطلاق المنع عن العدول ، وليس استحبابهما صالحا بعد إمكان دعوى ظهوره في الابتداء ، أو ما لم يحصل مانع كتجاوز نصف السورة مثلا في غير السورتين والشروع فيهما ، وإلا لجاز العدول أيضا إلى غيرهما من السور المستحبة بالخصوص في بعض الصلوات وإن تجاوز النصف مثلا ، مع أنه معلوم العدم ، ولو سلم تعارضهما فلا ريب في رجحان ذلك ، ضرورة تسلطه على المنع من العدول ، بخلاف دليل الاستحباب فإنه غير مسلط على حكم العدول كما هو واضح بأدنى تأمل ، فلا ريب في أن الأحوط عدم العدول في غير الصلاتين إن لم يكن الأقوى.

وكيف كان فقد ذكر غير واحد من الأصحاب في مسألة العدول منهم العلامة في الإرشاد أنه يعيد البسملة إذا عدل ، كما أنه يعيدها إذا لم يقصد سورة بعد القصد ، وهو مبني على المسألة السابقة من عدم تعينها بغير النية سيما إذا قصد العدم ، وقد تقدم تحقيق الحال فيها ، لكن قال في الروض هنا بعد أن ذكر جملة من الكلام : بقي في المسألة إشكال ، وهو أن حكمه بإعادة البسملة لو قرأ من غير قصد بعد القصد إن كان مع قراءتها أولا عمدا لم يتجه القول بالإعادة ، بل ينبغي القول ببطلان الصلاة للنهي عن قراءتها من غير قصد ، وهو يقتضي الفساد ، وإن كان قرأها ناسيا فقد تقدم القول بأن‌

٦٧

القراءة خلالها نسيانا موجب لإعادة القراءة من رأس ، فالقول بإعادة البسملة وما بعدها لا غير لا يتم على تقديري العمد والنسيان ، والذي ينبغي القطع بفساد القراءة على تقدير العمد ، للنهي ، وهو الذي اختاره الشهيد في البيان ، وحمل الإعادة هنا على قراءتها ناسيا ، وقد تكلف لدفعه بأن المصلي لما كان من نيته أن ذلك من قراءة الصلاة لم يكن من غيرها فلم يقدح في الموالاة ، ويؤيده رواية البزنطي عن أبي العباس (١) لكنها مقطوعة ، ومادة الإشكال غير منحسمة ، وقد أنكر عليه الأردبيلي حتى قال : إني لا أفهم هذا الاشكال ، وعلى تقديره لا أفهم رفعه ، وتبعه في الحدائق وغيره حتى حملوا كلامه في الشق الثاني من الترديد على الغفلة ، لعدم المدخلية لما نحن فيه في مسألة الموالاة قلت : لعله يعتبر الموالاة في تمام القراءة لا خصوص قراءة الحمد والسورة ، فيتجه حينئذ جميع ما ذكره ، نعم ينبغي إبدال الصلاة عوضا عن القراءة في قوله : « والذي ينبغي القطع » إلى آخره ، ووجه البطلان حينئذ ما ذكروه غير مرة من التشريع في الجزء ، والمناقشة تلحقهم في كل ما كان من هذا القبيل لا خصوص ذلك ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى أن تحديد العدول بالنصف أو الشروع بالسورتين إنما هو إذا لم يعرض ما يوجبه من نسيان بعض السورة أو ضيق الوقت أو نزول ضرر معتد به أو غير ذلك ، فإنه يجب العدول حينئذ وإن تجاوز النصف أو كانت السورتين ، وصحيح زرارة (٢) الدال على أن له أن يدع المكان الذي غلط فيه ويمضي في قراءته وأنه إن قرأ آية وشاء أن يركع ركع لا تعلق له بما نحن فيه ، لأنه في النوافل أو التقية أو غير ذلك ، ضرورة ابتناء الكلام على وجوب سورة كاملة ، نعم إن تمكن من القراءة في المصحف أو اتباع قار أو نحوهما مما هو غير جائز مع الاختيار فقد يقال بالوجوب ، مع أن الأقوى أيضا خلافه ، بل الظاهر عدم الاجزاء فضلا عن الوجوب ، لانسياق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

٦٨

غير الفرض من المنع عن العدول إلى الذهن ، فلا ضرورة حينئذ يسوغ لأجلها ذلك بناء على حرمته مع الاختيار ، فتأمل جيدا ، ويتخير في السورة المعدول إليها بين التوحيد وغيرها ، للأصل وغيره ، والأمر بها في بعض النصوص (١) محمول على الندب كما صرح به العلامة الطباطبائي في منظومته ، لكن الأحوط قراءتها تخلصا من احتمال الوجوب ، والله أعلم.

( الخامس )

من أفعال الصلاة

( الركوع )

( وهو واجب ) فيها في الجملة بالضرورة من الدين كما اعترف به بعض الأساطين فضلا عن السنة المتواترة والكتاب المبين ، والمراد وجوبه في كل ركعة منها لتوقف صدق الركعة عليه ، فوجوب الأعداد يغني حينئذ عن بيان وجوبه ، نعم انما يجب مرة واحدة لحصول الامتثال إلا في الكسوف والآيات فإنه يجب في كل ركعة خمس ركوعات كما ستعرفه مفصلا إن شاء الله وهو ركن في الصلاة بمعنى أنه تبطل بالإخلال به عمدا وسهوا لكن على تفصيل هو الدخول في ركن وعدمه سيأتي ذكره في أحكام الخلل ، كما أنه يأتي أيضا خلاف الشيخ وغيره في ذلك ، وقد أشبعنا الكلام فيه هناك ، لأنه كان مقدما على المقام في التصنيف‌ والواجب فيه إما لتوقف حصول مسماه عليه أو للأمر به شرعا فيه خمسة أشياء :

الأول أن ينحني بقدر ما يمكن وضع يديه على ركبتيه إجماعا كما في جامع المقاصد والمفاتيح ، وفي المنتهى بحيث تبلغ يداه ركبتيه ، وهو قول أهل العلم كافة إلا‌

__________________

(١) التهذيب ج ٢ ص ٢٩٥ من طبعة النجف.

٦٩

أبا حنيفة ، فإنه أوجب مطلق الانحناء نحو ما عن المعتبر وإن أبدل اليد فيه بالكف ، ضرورة كونه المراد منها ، بل والتذكرة وإن أبدلها بالراحة ، إذ لعل المراد بها الكف كما عن ديوان اللغة ، أو المراد ما ستعرفه من وضع بعض الكف ولو الأصابع بحيث يبلغ أول جزء من الراحة أول جزء من الركبة ، وفي الذكرى لا يتحقق مسمى الركوع شرعا إلا بانحناء الظهر إلى أن تبلغ اليدان عيني الركبتين إجماعا.

ولعل مراد الجميع عدا الذكرى عند التأمل بشهادة القرائن الكثيرة واحد هو الانحناء بحيث تصل اليد إلى الركبة وصولا لو أراد وضع شي‌ء منها عليها لوضعه ولو مجموع أطراف الأصابع حتى الإبهام ، وكأنه هو المراد من‌ قوله عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) : « وبلغ بأطراف أصابعك عين الركبة ، وفرج أصابعك إذا وضعتها على ركبتيك ، فان وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحب إلى أن تمكن كفيك من ركبتيك فتجعل أصابعك في عين الركبة » ومن‌ المروي في المنتهى وعن المعتبر عن معاوية بن عمار وابن مسلم والحلبي (٢) قالوا : « وبلغ بأطراف أصابعك عين الركبة ، فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحب أن تمكن كفيك من ركبتيك » ضرورة لزوم وصول أطراف مجموع الأصابع حتى الإبهام مثلا ، لإمكان الوضع على الركبة ، نعم لا يكون الكف متمكنا منها حينئذ ، لبقاء الراحة خارجة عن الركبة ، ولذا ندبه إلى التمكن بأن يضع الراحة على الركبة ، ويبلغ بأطراف أصابعه العين حتى يكون قد ملأ كفيه من ركبتيه كما عن السيد التعبير به في جملة « وألقمهما كفيه » كما عن الشيخ التعبير به في مصباحه ، وليس المراد من وصول أطراف الأصابع مساواة الخط الأخير من رؤوسها الخط الأول من الركبة‌

__________________

(١) التهذيب ج ٢ ـ ص ٨٣ من طبعة النجف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الركوع ـ الحديث ٢.

٧٠

بحيث لا يتمكن من وضع شي‌ء منها عليهما لو أراد ، نعم قد ينافي ذلك عبارة الذكرى حيث اعتبر بلوغ اليد إلى العين الذي قد عرفت ظهور الرواية في استحبابه ، بل في المنتهى أنه « يستحب وضع الكفين على عيني الركبتين مفرجات الأصابع ، وهو مذهب جميع العلماء إلا ما روي عن ابن مسعود » وقد يريد بالعين في الذكرى وسط الركبة لا الزاوية السفلى ، فيجتمع حينئذ مع غيره لا أن مراده عدم الاجتزاء بوصول الأصابع فقط التي هي بعض الكف ، ولعله إلى ذلك كله أشار في الروضة بقوله : « والمعتبر وصول جزء من باطن الكف لا جميعه ولا رؤوس الأصابع » بل وفي المسالك أيضا قال : والظاهر الاكتفاء ببلوغ الأصابع ، وفي‌ حديث زرارة (١) المعتبر « فان وصلت » إلى آخره. وكأنه فهم من الخبر المزبور ما ذكرناه بقرينة ذكره دليلا على دعواه ، بل وفي جامع المقاصد أيضا حيث قال : « وفي أكثر الأخبار اعتبار وصول الراحتين والكفين إلى الركبتين ، وفي بعضها الاكتفاء بوصول أطراف الأصابع ، وإن حمل على الأطراف التي تلي الكف لم يكن بينها اختلاف ، ولم أقف في كلام لأحد يعتد به على الاجتزاء ببلوغ رؤوس الأصابع في حصول الركوع » وهو كالصريح في الاجتزاء بوضع بعض الكف الذي هو الأصابع ، كما أنه ظاهر في أنه لم يفهم من نحو عبارة المنتهى الاجتزاء بنحو ذلك ، مع أنه ذكر بلوغ اليد ، واستدل بخبر الأطراف كالمعتبر وظاهر كشف اللثام ، ولقد أجاد في إرادة الوضع من البلوغ فيهما لا الاكتفاء بالوصول ، ولعل ذلك أيضا هو مراد العلامة الطباطبائي بقوله :

والحد فيه الانحناء الموصل

لليد بالركبة أو ما ينزل

بل والأستاذ في كشفه وإن بعد حيث عرفه بتقويس الظهر على البطن والصدر بحيث تناول أطراف أصابعه مع استواء خلقته أعلى ركبتيه ، كما ينبئ عنه ظاهر العرف‌

__________________

(١) التهذيب ج ٢ ص ٨٣ من طبعة النجف.

٧١

وآداب المرأة أو ما قام مقامه ، والأحوط اعتبار راحتيه ، إذ الظاهر بقرينة جعله الراحة خاصة الاحتياط إرادته من التناول التمكن من الوضع لو أراده ، وهو بعينه ما ذكرناه ، بل والمحكي عن البيان أيضا من أن الأقرب وجوب انحناء تبلغ معه الكفان الركبتين ، ولا يكفيه بلوغ أطراف الأصابع ، وفي رواية يكفي ، إذ الظاهر إرادته ولو بعض الكف لا تمامه.

ومن ذلك كله بان لك ما في الذي أطنب به في الحدائق تبعا للمحكي عن المجلسي من الاجتزاء ببلوغ رؤوس الأصابع وإن لم يتمكن من الوضع لو أراده ناسبين ذلك إلى الأكثر ، بل في الحدائق إلى المشهور وأن في عبارتي المعتبر والتذكرة مسامحة ، كما أن ما في الجامع والروض والروضة والبيان من التصريح بعدم الاجتزاء واضح البطلان ، كوضوح بطلان ما في الذخيرة من الميل إلى أن التجوز والتسامح في عبارتي المنتهى والذكرى ، فيجب إرجاعهما إلى عبارتي المعتبر والتذكرة ، لأن الذي يقع في الخاطر من وضع اليد وصول شي‌ء من الراحة ، قال : ويشعر بذلك الأدلة التي في الكتابين ، سيما الذكرى ، فإنه قال فيه بعد نقل‌ قول الباقر عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) : « وتمكن راحتيك » وهو دليل على الانحناء هذا القدر ، لأن الإجماع على عدم وجوب وضع الراحتين ، فاذن لا معدل عما ذكره المدققان ، لتوقف يقين البراءة عليه ، ولا تعويل على ظاهر الخبر إذا خالف فتاوى الفرقة ، وكأنه يريد خبر الأطراف ، وقد أطال في مناقشته حتى ذكر عليه وجوها خمسة ، مع أنه يمكن إرجاع كلامه إلى ما ذكرنا بنوع من التأمل والتأويل وإن كان لم يذكر التأويل في الخبر كالشهيد في البيان على ما قيل وتبع المحدث المزبور المولى في الرياض حيث قال بعد ذكره صحيح الأطراف : « ويستفاد‌

__________________

(١) التهذيب ج ٢ ص ٨٣ من طبعة النجف.

٧٢

منه ومن غيره كفاية الانحناء بمقدار إمكان بلوغ رؤوس الأصابع إلى الركبتين ، وأن الزائد مستحب ، وبه صرح بعض ، بل عن خالي العلامة المجلسي في البحار أنه مذهب الأكثر ، خلافا لجماعة فأوجبوا الزيادة ، وهو أحوط ، لظهور عبائر الأكثر فيه ، ومنهم جملة من نقلة الإجماع كالفاضلين في المعتبر والتذكرة ، ولكن في تعيينه نظر ، لظهور النص المعتبر في خلافه مع سلامته عن المعارض عدا شبهة دعوى الإجماع ، ويحتمل تعلقها بالتحديد المشترك بين الحدين ، وهو ملاقاة اليدين الركبتين إما بالبلوغ أو الوضع ، فأما خصوصه فلعله من اجتهاد الناقل ، مع أن ظاهر جملة آخرين من نقلة الإجماع هو ما ذكرناه وإن كان يأباه سياق عباراتهم في الاستدلال عليه ، كما يأتي في سياق عباراتهم في الاستدلال ما يستفاد من ظاهر عبارتهم ، وهذا من أوضح الشواهد على ما ذكرنا من أن المقصود من دعوى الإجماع انما هو إثبات القدر المشترك ردا على أبي حنيفة في قوله بكفاية أقل ما يقع عليه اسم الانحناء » ولا يخفى عليك مواضع النظر من كلامه بعد الإحاطة بما قدمناه.

فتلخص من ذلك كله أن الوجوه المحتملة بل الأقوال ثلاثة أو أربعة أحدها الاجتزاء بوصول رؤوس الأصابع وإن لم يصل إلى إمكان الوضع ، الثاني الوضع ولو لبعض الكف ، الثالث وضع تمام الكف ، الرابع وضع بعض الراحة ، والأول خيرة الحدائق ، والثاني صريح الشهيد الثاني ، والثالث ظاهر المعتبر والذكرى والتذكرة ، والرابع ظاهر المحكي عن الخراساني ، وقد عرفت الحال في الجميع وإمكان إرجاع البعض إلى البعض.

نعم يبقى إشكال فيما ذكرناه من التحديد بأنه لا يوافق ما دل عليه‌ مقطوع زرارة (١) الذي قد نسبه في الذكرى وجامع المقاصد إلى عمل الأصحاب ، إذ فيه « ان المرأة إذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها ليس تتطأطأ كثيرا فترتفع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الركوع ـ الحديث ٢.

٧٣

عجيزتها » وقد ذكر مضمونه في المحكي عن كثير من كتب المتقدمين وأكثر كتب المتأخرين ، ومقتضاه كما اعترف به في الذكرى والجامع أن ركوعها أقل انحناء من ركوع الرجال ، وأنه يتحقق مسمى الركوع بأقل من ذلك ، ويوافق التحديد برؤوس الأصابع.

وقد يدفع أولا بأنه لا منافاة بين استحباب وضع اليدين فوق الركبتين وكون الانحناء فيها مساويا لانحناء الرجل ، إلا أنها لا تتطأطأ كثيرا كما يستحب للرجل ، بأن تضع يديها على ركبتيها وتردهما إلى خلف لئلا ترتفع عجيزتها ، فيكون إطلاق الأصحاب حينئذ بحاله ، بل صرح في جامع المقاصد هنا أنه لا فرق في التحديد المزبور بين الرجل والمرأة ، وثانيا بأنه لا يتم بناء على الوضع الشرعي للركوع ، إذ لا منافاة في وضعه للانحناءين الخاصين بالنسبة إلى المكلفين ، بل وإن لم نقل بالوضع الشرعي وقلنا بالمراد الشرعي ـ إذ لا مانع من تكليف الرجال بهذا الفرد من الركوع والنساء بالفرد الآخر منه بعد أن كان في اللغة لمطلق الانحناء ـ انما يتجه الاشكال وينحصر الجواب حينئذ بالأول إذا قلنا ببقاء الركوع على معناه اللغوي ، وأن هذا التحديد كاشف عنه ، وأنه عبارة عن حالة خاصة من التقوس لا يختلف مسماها بالنسبة إلى المكلفين ، ولعله هو الأقوى في النظر ، خلافا لظاهر بعض وصريح آخر من ثبوت المعنى الشرعي له ، لأصالة عدم النقل ، ولسلب اسم الركوع عرفا عن غيره من أفراد الانحناء ، أو عدم الحكم بكونه ركوعا أو غير ركوع ، لكن لما كان هو غير منضبط ومعرفة أول أفراده في غاية الصعوبة على المكلفين كالاقتصار على الفرد الأعلى ، بل ربما كان مثارة الوسواس من جهة الشك والالتباس تلطف الشارع بحد له مبناه في الأصل على التقريب في حصول أول مسمى الركوع ، لا أنه صار بالأخرة على التحقيق بحيث لا يجوز النقص حتى لو فرض انكشاف صدق الاسم عليه ، فكان تحقيقا في تقريب كتقدير الكر والمسافة والوجه ونحوها من التقديرات الشرعية ، ولعل من نسبه إلى الشرع أراد ذلك لا المعنى‌

٧٤

الشرعي ولا المراء الشرعي على معنى معروفية غير هذا الفرد من الركوع ، إلا أن الشارع أوجب هذا الفرد بالخصوص منه ، وربما كان في عبارة الأردبيلي إشعار ببعض ما ذكرنا في الجملة ، حيث قال في شرح عبارة الإرشاد « ويجب فيه الانحناء » إلى آخره : الظاهر أنه به يتحقق لا أنه واجب من واجباته مثل الذكر ، قال المصنف في المنتهى : ويجب فيه الانحناء بلا خلاف لأنه حقيقته ، وقدر أن يكون بحيث يبلغ يداه إلى ركبتيه ، وهو قول أهل العلم كافة إلا أبا حنيفة فإنه أوجب مطلق الانحناء ، وربما ظهر من مطاوي كلمات غيره أيضا كالتذكرة وغيرها ، فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فظاهر المتن وغيره كصريح البعض بل المحكي عن الأكثر أنه لا يجب الوضع المزبور فعلا ، بل في الذكرى الإجماع كما عن غيرها نفي الخلاف فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، بل ربما يدعى أن التأمل في النصوص يقتضيه أيضا ، فمن الغريب ما في الحدائق وكم له من الميل إلى وجوبه تمسكا بظاهر النصوص السابقة المساقة في بيان أكثر المندوبات.

ولا إشكال في أن التحديد المذكور في النص والفتوى ومعاقد الإجماعات بالنسبة إلى مستوي الخلقة ، إذ هو المنساق إلى الذهن من أمثال ذلك في سائر المقامات فـ ( ـان كانت يداه في الطول بحيث تبلغ ركبتيه من غير انحناء ) أو في القصر بحيث لا تبلغهما إلا بغاية الانحناء أو مقطوعتين أو كانت ركبتاه مرتفعتين أو منخفضتين أو نحو ذلك انحنى كما ينحني مستوي الخلقة على حسب النسبة ولو بفرضه مستوي الخلقة بأن يقدر تناسب أعضائه بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك سوى ما في مجمع البرهان من أنه لا دليل واضح على انحناء قصير اليدين وطويلهما كالمستوي ، ولا يبعد القول بالانحناء حتى يصل إلى الركبتين مطلقا لظاهر الخبر مع عدم المنافي وعدم التعذر ، نعم لو وصل بغير الانحناء يمكن اعتبار ذلك مع إمكان الاكتفاء بما يصدق الانحناء عليه‌

٧٥

وهو من الغرائب وإن كان يوافقه المحكي عن ابن الجنيد من أنه لو كان أقطع الزند أوصل مكان القطع إلى الركبة ووضعه عليها ، ولو كانت مشدودة فعل بها كذلك ، وكذا لو كان له يد من ذراع ، ضرورة استلزامه الاكتفاء بما لا يسمى ركوعا ، أو وجوب الأقصى من أفراده بحيث لا يجتزى بغيره وإن سمي ركوعا ، ولا ريب في وضوح بطلانه في كل منهما ، لانصراف الإطلاق إلى الفرد الشائع المتعارف المعهود ، ولأنه هو المناسب للتحديد المقصود به الانضباط وعدم الاختلاف ، ولا يقدح تفاوت أفراد مستوي الخلقة للتسامح في مثله ، لكن يقوى دوران حكم كل مكلف منهم على يديه وركبتيه ، لأنه هو المنساق إلى الذهن ، والموافق لغرض التحديد ، ولكاف الخطاب في النص ، فلا يجب على ذي الطول منهم انحناء ذي القصر ، كما أنه لا يجتزي ذو القصر بانحناء ذي الطول مع احتماله ، واحتمال تعين أقصى الأفراد منهم لتيقنه في البراءة ، والاجتزاء بأولها لأصالة البراءة عن الزائد ، وتقريب حد منتزع من الأواسط لا يجوز مخالفته ، والأقوى الأول ، وعلى كل حال فالمراد وصول اليدين إلى الركبتين بالانحناء المتعارف ، وإلا فلو انخنس بأن قوس بطنه وصدره على ظهره ، أو قوس أحد جانبيه على الآخر ، أو خفض كفيه ، أو رفع ركبتيه فأمكن وصول كفيه إلى غير ذلك اختيارا مما يخرجه عن الاسم لم يصح ولم يعد راكعا ، نعم إذا لم يتمكن من تمام الانحناء لعارض أتى بما تمكن منه بلا خلاف فيه ، بل في المعتبر إجماع العلماء عليه ، وهو إن تم الدليل بعد أولويته من الإيماء الثابت في النصوص ، وبعد فحوى ما سمعته فيمن تعذر عليه تمام القيام ، بل ربما كانت بعض أدلته شاملة للمقام ، فلاحظ وتأمل ، لا عدم سقوط الميسور بالمعسور ونحوه ، إذ هو لا يتم إلا على تقدير كون الركوع مجموع الانحناء ، أو أن الانحناء واجب في الصلاة ووصوله إلى حد الركوع واجب آخر ، والكل يمكن منعه ، إذ الذي يقوى في النظر أنه مقدمة لتحصيل الركوع‌

٧٦

كهوي السجود ، لحصر واجبات الصلاة نصا وفتوى في غيرها ، ولانسياق ذلك إلى الذهن لو فرض الأمر به للركوع والسجود ، فالأصل براءة الذمة من وجوبهما لأنفسهما في الصلاة ومن وجوب القصد بهما للركوع والسجود ، فليس هما إلا مقدمة خارجية ، وعليه لو هوى غافلا لا بقصد ركوع أو غيره أو بقصد غيره من قتل حية أو عقرب ثم بدا له الركوع أو السجود صح ، ولقد أجاد العلامة الطباطبائي بقوله :

ولو هوى لغيره ثم نوى

صح كذا السجود بعد ما هوى

إذ الهوي فيهما مقدمة

خارجة لغيرها ملتزمة

بل لا يبعد الاجتزاء بالاستدامة بعد تجدد قصد الركوع مثلا كالقيام في الصلاة لصدق الامتثال وعدم تشخص جميع زمان الفعل بالنية الأولى ، بل لا يبعد القول بالصحة في الفرضين الأولين وإن قلنا بوجوبه أصالة في الصلاة سيما الأول اعتمادا على النية الأولى للصلاة ، ضرورة تأثيرها في كل ما لم يقصد به الخلاف وإن كان قابلا لأن يقع على وجوه كالقراءة وغيرها من أفعال الصلاة ، فما في كشف الأستاذ ـ من أنه لو انحط بقصد عدم الركوع أو خاليا عن القصد أو أتم الانحطاط بعدم القصد أو قصد العدم وبلغ محل الركوع أو تجاوزه لم يجر عليه حكمه وإن قلنا بعدم اشتراط النية استقلالا في الأجزاء ، لأن ذلك لا يكون إلا حيث لا يقع إلا على وجه واحد ، بخلاف ما إذا كان ذا وجهين أو وجوه ، فإذا وقع منه ذلك عاد اليه بعد القيام تجاوز حد الراكع أولا وركع ، فلو هوى بالغا حد الركوع ولم يركع أعاد الاعتدال والهوي ، وإن ركع فسد وفسدت الصلاة ، إلى أن قال : ومثل ذلك يجري في هوي السجود حيث لا يبلغ وضع الجبهة على الأقوى فيهما ـ لا يخلو من نظر يعرف مما قدمناه ، وإن كان قد يوجه بأن نية الصلاة انما تؤثر في الصالح لها ولغيرها من غير واسطة ، لا نحو المقام الذي لا يكون من الصلاة إلا إذا صار الركوع ، فإنه لا يكون حينئذ له إلا بنية‌

٧٧

أو خطور الداعي لا النية الأولى وإن عزب الداعي ، وفيه أن الظاهر تأثير نية الصلاة مطلقا ، ولذا لم نوجب تعيين البسملة في الفاتحة وإن قلنا به في غيرها.

وعلى كل حال فقد وافقه عليه في الجملة في الذكرى والمحكي عن نهاية الأحكام والتذكرة والدروس والبيان والموجز الحاوي وكشف الالتباس والجعفرية وشرحيها قالوا : لا بد أن لا ينوي بالانحناء غير الركوع ، فلو قرأ آية سجدة فهوى ليسجد أو أراد قتل حية أو نحو ذلك فلما بلغ حد الراكع بدا له أن يجعله ركوعا لم يجز ، بل يجب أن ينتصب ثم يركع ، لأن الركوع الانحناء ولم يقصده ، وانما يتميز الانحناء للركوع منه عن غيره بالنية ، ول‌ قوله (١) : « إنما الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى » بل في كشف اللثام عن نهاية الأحكام أنه لا فرق في ذلك بين العامد والساهي على إشكال ، قال في الكشف : من حصول هيئة الركوع وعدم اعتبار النية لكل جزء كما في المعتبر والمنتهى والتذكرة وغيرها ، غايته أن لا ينوي غيره عمدا ، ولا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه وجه النظر في جميع ذلك ، وإن كان المتجه بناء على ما ذكروه عدم الفرق مع نية الخلاف بين العمد والسهو ، ضرورة عدم تأثير النية الأولى بعد العدول عنها ولو سهوا ولعله إليه أشار في الرياض بقوله بعد نقله ذلك : وفيه نظر ، لكنك خبير أن ذلك كله مع قصد الخلاف لا مع عدم القصد ، فلا دلالة فيه حينئذ على اعتبار قصد الركوع بالانحناء بحيث لو انحنى سهوا لم يجز ، فما في الرياض ـ من عنوان المسألة بذلك وأنه هل يشترط القصد أو لا وحكي عن ظاهر جماعة الأول ، وقال : بل قيل : إنه لا خلاف فيه ـ في غير محله قطعا ، بل يمكن دعوى القطع بالصحة مع عدم قصد الخلاف ، قال في المنتهى : لو أراد السجود فسقط من غير قصد أجزأته الإرادة السابقة ، ولو لم تسبق له الإرادة فالأقرب الإجزاء أيضا ، بل يومي اليه ما سمعته من الحكم بالصحة مع قصد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١٠.

٧٨

الخلاف سهوا فضلا عن حال عدم القصد ، وأغرب من ذلك الاستدلال فيه لهم‌ بالخبر (١) « رأيت أبا الحسن عليه‌السلام يصلي قائما وإلى جنبه رجل كبير يريد أن يقوم ومعه عصا له فأراد أن يتناولها فانحط عليه‌السلام وهو قائم في صلاته فناول الرجل العصا ثم عاد إلى صلاته » إذ من الواضح عدم شهادته لذلك ، إذ لعله قد انحط من غير تقوس على أن البحث لو قصد الركوع بعد الهوي وإلا فبدون قصده لا يجتزى ، ولا تقدح زيادته في الصلاة ، إذ المعلوم من قدحها الثابت بالإجماع غير ذلك وإن قلنا بصدق اسم الركوعية على التقوس لقتل الحية ونحوها ، ولا نص يتمسك بإطلاقه بحيث يتناول نحو ذلك ، بل لا يصدق عليها أنها زيادة في الصلاة بناء على إرادة ما يفعل بعنوان الصلاة منها ، ولو أن هذه الصورة مبطلة لوجب التحفظ حال القيام وحال الهوي للسجود ونحو ذلك عن حصولها بأن ينسل للقيام انسلالا ، كما أنه ينحط للسجود انحطاطا ، وكذا البحث أيضا في استدلاله له‌ بالخبر الآخر (٢) « لا بأس أن تحمل المرأة صبيها وهي تصلي أو ترضعه وهي تتشهد » هذا.

وظاهر المصنف وغيره بل يمكن تحصيل الإجماع عليه الاجتزاء بهذا الممكن من الانحناء عن الإيماء للركوع ، لجعلهم إياه مرتبة ثانية ، مع أن المتجه بناء على وجوب الانحناء لنفسه وأن التكليف به لم يسقط بسقوط التكليف بالركوع وجوب الإيماء للركوع ، لإطلاق أدلة وجوبه بتعذر الركوع الصادق في المقام ، نعم قد يتم سقوطه بناء على مقدميته وأن وجوبه الآن بدلا عن الركوع ، لأولويته من الإيماء مثلا ، وربما كان هذا مؤيدا آخر للمختار ، فتأمل.

وعلى كل حال فان عجز عن الانحناء أصلا ولو باعتماد ونحوه اقتصر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١.

٧٩

على الإيماء بلا خلاف ، بل في المعتبر أن عليه إجماع العلماء كافة ، وقد‌ قال الكرخي (١) للصادق عليه‌السلام : « رجل شيخ لا يستطيع القيام إلى الخلاء ولا يمكنه الركوع والسجود فقال له : ليؤم برأسه إيماء ».

فان لم يتمكن من الإيماء بالرأس فبالعينين تغميضا للركوع ، وفتحا للرفع كما نص عليه العلامة الطباطبائي ، بل في كشف الأستاذ أن الأحوط عدم الاكتفاء بالعين الواحدة إلا مع طمس أختها ، بل قال : ومع ذلك الأحوط قصدها ، وقد مر الكلام في أكثر ذلك مفصلا في بحث القيام ، فلاحظ.

وقد يظهر من العبارة وجوب الانحناء على أحد الشقين مع إمكانه مقدما على الإيماء كما عن المبسوط والتذكرة ، لكن قد يشعر الاقتصار على نسبته للشيخ في الذكرى والدروس وعن المقاصد العلية بنوع تردد فيه ، ولعله لأنه ليس بعض الانحناء الواجب الجنس غير مجد ، فتأمل ، بل ظاهر المتن وغيره بل هو صريح العلامة الطباطبائي تقديم الركوع الناقص لعدم التمكن من تمام الانحناء على الركوع التام عن جلوس ، للإطلاق ، ولأنه أقرب إلى الواجب ، ولتحصيل القيام المتصل بالركوع ، بل لعل ظاهر العبارة وغيرها تقديم الإيماء عليه أيضا لبعض ما مر ، لكن في المنظومة :

وفي انحناء من جلوس مطلقا

دار مع الإيماء وجه ذو ارتقا

ولعله لأولوية إبدال القيام بالجلوس من الركوع بالإيماء ، وقد تقدم لنا في ذلك بعض الكلام في بحث القيام ، كما أنه قد ذكرنا أيضا الكلام في كيفية ركوع الجالس ، فلاحظ وتأمل.

ولو كان كالراكع خلقة أو لعارض كبر أو مرض وجب كما في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١١.

٨٠