جواهر الكلام - ج ١٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ما في المدارك من الاستدلال بهذه النصوص هنا وفي أحكام الخلل على عدم البطلان بنسيان التسليم على القول بوجوبه ، فلاحظ وتأمل ، ولو أغضينا عن ذلك كله كان الترجيح لأدلة الوجوب قطعا من وجوه متعددة ، خصوصا بعد معروفية خبر التحليل منها الذي هو من السنة النبوية المعلومة التي قد أمرنا بنقد الأدلة بالعرض عليها كالكتاب العزيز.

ومن العجيب الاستدلال أيضا بصحيح زرارة (١) عن الباقر عليه‌السلام « في رجل صلى خمسا قال : إن كان جلس في الرابعة قدر التشهد فقد تمت صلاته » الذي يجب على الخصم تأويله أيضا ، لنسيان التشهد المعلوم وجوبه عنده ، فما كان جوابه عنه فهو جوابنا عن التسليم ، مع أن المتجه بناء على دلالته على الندب من حيث قيام الجلوس مقام التشهد وترك التسليم فيه لندبيته ، فلا يقدح حينئذ الزيادة قبله لتحقق الخروج عدم الفرق في ذلك بين الخامسة وما زاد عليه ولا بين الثلاثية والثنائية والرباعية وظاهرهم اختصاص الحكم بالأخير ، بل كان المتجه أيضا عدم التدارك لو ذكر قبل الركوع والذي ينقدح في البال أن المراد بالجلوس قدر التشهد الكناية عن نفس التشهد لا الجلوس خاصة ، وله قرائن تدل على هذا الاستعمال ، فيجري فيه حينئذ إرادة ما يشمل التسليم هنا منه أو خصوص الصيغة الأولى ، ولو قيل بكون المراد به الاحتيال في تحصيل التذكر للحال السابق كما يومي اليه ما ورد (٢) في غيره أنه « كيف يستيقن » كان ممكنا وغير مناف للمطلوب أيضا ، إلى غير ذلك من الأدلة التي هي في غاية الضعف ، أو يعلم جوابها مما ذكرنا ، والله أعلم بحقيقة الحال.

والظاهر الجزئية مع ذلك وفاقا لظاهر جماعة وصريح آخرين ، بل عن الناصريات « أن كل من قال : إن التكبير من الصلاة قال : التسليم واجب وإنه من الصلاة » وفي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٥.

٣٠١

التنقيح « ان القائل قائلان ، إنه إما واجب فهو جزء من الصلاة ، ولهذا حصروا الواجبات في ثمانية ، أو غير واجب فيكون واحدا من مندوباتها ، فالقول بكونه واجبا غير جزء خرق الإجماع » وفي المدارك وغيرها الإجماع على بطلان الصلاة بتخلل المنافي بينه وبين التشهد على تقدير الوجوب وإن كان التعويل على هذه الإجماعات لا يخلو من نظر ، إذ مع الإغضاء عن كيفية تحصيلها خصوصا بعد اعتراف المرتضى منهم بعدم نص للأصحاب فيه ليس المراد منها إلا مجرد اتفاق القائلين بالوجوب ، ومعلوم أنه غير الإجماع الكاشف كالإجماع المركب المزبور المقطوع بعدم كونه من الحجة عند حاكيه فضلا عنا ، ضرورة عدم إرادة القطع بكون المعصوم غير خارج عن أحد القولين كما هو واضح ، إلا أنه يمكن القول باعتبارها في المقام وإن لم تكن من الحجة بناء على حصول الظن منها بالجزئية لمسمى اللفظ الموضوع للمركب من أجزاء مخصوصة على القول به وعلى كفاية مثل هذا الظن فيه وإن كان شرعيا ، لعدم الفرق بين اللغوي والشرعي في ذلك وإن كان لا يخلو من نظر أو منع ، للفرق الواضح بين الموضوع الشرعي وغيره ، وكيف كان فنحن بحمد الله في غنية عن ذلك بظاهر المروي في النصوص من الأقوال والأفعال المساقة لبيان الصلاة ـ خصوصا صحيح حماد (١) وخبر المعراج (٢) وغيرهما ، بل انسياق أنه من الصلاة من ملاحظة جميع النصوص المتفرقة في سائر الأبواب المذكور فيها التسليم كالضروري لكل ناظر غافلا عن القول بالخروج من بعض المتفقهة ، بل يكفي استمرار الفعل من زمن الشارع إلى يومنا هذا بعنوان أنه من الصلاة ، ولم يخطر ببال أحد من المتشرعة خروجه عند إطلاق لفظ الصلاة في جميع الاستعمالات ـ وببعض ما تقدم سابقا في أدلة الوجوب من تحقق البطلان نصا وفتوى بزيادة الركعة مثلا الشامل لما بعد التشهد قبل التسليم ، ضرورة أنه على تقدير الخروج لم تتحقق الزيادة في الصلاة ، بل الظاهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ١٠.

٣٠٢

الصحة وإن أفسده بإخلال في كيفيته فضلا عن إفساده بالأمور الخارجية ، إذ احتمال شرطيته مع خروجه بعيد جدا ، فتأمل ، وبنصوص التحليل (١) الظاهرة عند التأمل الجيد ولو بملاحظة التحريم في أن المقصود منها بيان وصف التحريمية في التكبير الذي هو أول الصلاة والتحليلية في التسليم الذي هو آخرها المؤمي إلى معروفية افتتاحها بالتكبير واختتامها بالتسليم من الأفعال والأقوال ، كخبر ابن أسباط (٢) المصرح فيه باللفظ المزبور فضلا عن غيره المتضمن للمعنى خاصة ، ولما أريد بيان معنى آخر فيها هو التحريمية والتحليلية قيل : تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، فكان اللام فيه للعهد مفيدة ما يفيده الضمير لو قيل تحريمها تكبيرها وتحليلها تسليمها ، فتأمل جيدا فان فهمه محتاج إلى لطف قريحة ، على أنه لا ريب في ظهورها فيما ينافي القول بالخروج من بقاء حرمة المنافيات دون إبطالها ، وانه بها يحصل التحليل أيضا وإن عصى لو فعلها باختياره ، ضرورة كون المفهوم منها بقاء المنافيات حرمة وإبطالا إلى حصول المحلل بمعنى أن التكبير فيها سبب لثبوت جميع ما ورد النهي عنه في الصلاة إلى أن يحصل المحلل ، فلو فرض خروج المحلل عنها لم يتحقق مصداق لا تحدث في الصلاة مثلا فيما قبل التسليم ، ضرورة الفراغ من الصلاة ، إذ الفرض أن ما بقي شي‌ء خارج عنها ، ودعوى إرادة حكم الصلاة مجاز في مجاز لا دليل عليه ، مع أنه مقتض للحرمة والبطلان معا أيضا ، هذا.

ولكن قد يقال من جانب القائلين بالخروج وهو أقصى ما يتخيل لهم : إنه يمكن الاكتفاء في صدق وصف الصلاة بما بقي من الكون الذي وقع فيه أقوال التشهد ، إذ هو وإن طال شي‌ء واحد ، ولا يقتضي ذلك دخول التسليم ، إذ لا ملازمة بين وقوعه في حال من أحوال الصلاة وكونه منها ، فإنه قد يقع فيها ما ليس منها ، بل يمكن دعوى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١ و ٨ و ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢.

٣٠٣

عدم تصور دخوله فيها بناء على أن صفة التحليل فيه للمنافاة الثابتة فيه ، وكشف الحال أنه قد ثبت منافاة التسليم للصلاة إما لكونه كلام آدميين أو لغيره مما لا يتصور بعد ذلك دخوله فيها ، ضرورة اعتبار عدم المنافيات فيها لا وجودها ، ولما ورد أنه تحليل الصلاة وأنه به تنقطع لم يكن منافاة بينه وبين ما ثبت أولا ، إذ حاصله بقاء صفة المنافاة التي كانت ثابتة للتسليم لو أوقعه في أثنائها وإن أذن الشارع بفعله في الآخر ، ومنع سريان فساده إلى تمام أجزاء المركب الذي هو كان مقتضى الضابطة في كل مناف عرض لحال من أحوال الصلاة ، سواء قلنا بالكشف لاشتراط صحة ما مضى من أجزاء المركب بصحة الباقي ، فالفساد في المتأخر يكشف عن عدمها في الأول ، أو لم نقل بذلك ، إلا أنه على كل حال بطلان جزء من الصلاة بمناف من منافياتها يقضي ببطلان الجميع ، لاشتراط التركيب فيها ، ولكن لما جعل الشارع تحليلها التسليم الذي قد عرفت أنه أحد المنافيات للصلاة لم يرفع صفة أصل المنافاة عنه كي يحتمل دخوله في الصلاة ، بل منع سريان الابطال الذي حصل به إلى ما مضى من الأجزاء ، وإلا فهو باق على صفة المنافاة ، وأن التحليل به لذلك كما يومي اليه في الجملة‌ المروي في العيون وعن العلل بسند معتبر عن الفضل بن شاذان (١) عن الرضا عليه‌السلام « إنما جعل التسليم تحليل الصلاة ولم يجعل بدلها تكبيرا أو تسبيحا أو ضربا آخر لأنه لما كان الدخول في الصلاة تحريم كلام المخلوقين والتوجه إلى الخالق كان تحليلها كلام المخلوقين والانتقال عنها ، وإنما ابتدأ المخلوقون في الكلام أولا بالتسليم ».

فظهر حينئذ أن جهة التحليل في التسليم لبقاء صفة المنافاة فيه التي تمنع دخوله في الصلاة وصيرورته جزءا منها ، ويكفي في ثبوته بها أنه به ينقطع الكون للصلاة ، ولولاه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١٠.

٣٠٤

لبقي مستمرا ، بل لعل في‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير (١) : « إذا قلت ذلك ـ مشيرا إلى الصيغة الأولى من التسليم ـ فقد انقطعت الصلاة ثم تؤذن القوم » الحديث إشعارا بذلك ، ضرورة توقف صدق الانقطاع على صدق وصف الصلاة لو لا القاطع ، ومن هنا أطلق على ما عدا التسليم من أفعال الصلاة وصف التمام في غير واحد من النصوص المتقدم بعضها سابقا في أدلة الندب ، ومنها‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن أبي يعفور (٢) فيمن نسي التشهد الأول : « فليتم صلاته ثم يسلم » وصحيح سليمان بن خالد (٣) « وإن لم يذكر حتى يركع فليتم الصلاة حتى إذا فرغ فليسلم » بل‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر الحلبي (٤) : « كلما ذكرت الله به والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو من الصلاة ، فإذا قلت : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد انصرفت » كالصريح في انقطاع الأجزاء حتى المندوبة بذلك ، وأنه لا يكون بعد ذلك شي‌ء من الصلاة ، بل على ما ذكرنا بنى أبو حنيفة تعميمه التحليل بكل مناف للصلاة ، لقوله بحجية العلة المستنبطة ، فقاس باقي المنافيات على التسليم الذي قد عرفت أن تحليله لما فيه من صفة المنافاة مؤيدا بما وقع من أبي بكر من نهي خالد عن قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام في القصة المشهورة في طرقهم (٥) ولما كان القول بالقياس باطلا عندنا وفعل أبي بكر غير حجة بل هو دليل الخلاف وجب الاقتصار على خصوص التسليم من بين المنافيات ، ولا يقدح في اعتبار صفة المنافاة فيه حال التحليل به الأمر به لقطع الصلاة وإبطالها ، كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١.

(٥) البحار ـ ج ٨ الباب ـ ٤ ـ ص ٥٩ والباب ١١ ص ٩٤ والباب ٢٠ ص ٢٣٤.

٣٠٥

فظهر حينئذ من ذلك كله خروج التسليم عن الصلاة ، وأنه ليس بجزء ، ويؤيده أيضا النصوص (١) التي تسمعها إن شاء الله الدالة على انقطاع الصلاة والفراغ منها بقول السلام علينا وإن وجب بعد ذلك الصيغة الثانية المعروفة باسم التسليم ، والتي أمر بها في موثق أبي بصير (٢) وغيره بعد هذه الصيغة ، وكذا النصوص (٣) التي أشرنا إليها في أدلة الندب التي لا يتم المراد منها بناء على بطلان الندب إلا على الوجوب الخارجي الذي لا يؤثر فعل المنافيات قبله بطلان الصلاة ، لحصول الفراغ من الصلاة وعدم بقاء جزء منها ، وهو أي الوجوب الخارجي الذي ذهب إليه أبو حنيفة ، بل في كشف اللثام أنه إليه يميل كلام البشرى ، قال : لا مانع أن يكون الخروج بالسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإن يجب السلام عليكم ورحمة الله وبركاته‌ للحديث الذي رواه ابن أذينة (٤) عن الصادق عليه‌السلام في وصف صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السماء « انه لما صلى أمر أن يقول للملائكة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته » إلا أن يقال هذا في الإمام دون المأموم ، قلت : بل هو لازم لكل من يقول بالتحليل بالصيغة الأولى وأنها مخرجة إذا فرض فعل المصلي لها ، إذ لا يتصور جزئية ما بعدها من الصلاة على وجه الوجوب.

ومن هنا يحصل في موضوع البحث إجمال في الجملة ، إذ لم يعلم المراد بالموضوع فيه هل هو كلي التسليم أو خصوص الثانية منه أو غيرهما ، والأولى إناطته بالمحلل من التسليم وإن كان مستحبا أو أحد فردي الواجب التخييري على ما ستعرفه إن شاء الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢ و ٩ و ١١ و ١٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ١٠.

٣٠٦

والتحقيق أنه إن جمع بين الصيغتين مقدما للصيغة الأولى وقلنا بوجوبها تخييرا كان آخر الأجزاء الواجبة الصيغة الأولى ، وأما الثانية فيحتمل وجوبها خارجا واستحبابها داخلا أو خارجا ، والأوسط أوسطها كما ستعرفه إن شاء الله ، وإن اختار الصيغة الثانية كانت آخر الأجزاء الواجبة والمندوبة إلا تكرارها في بعض الأحوال ، فإنه قد يكون من الأجزاء المندوبة في وجه قوي ، خلافا للمصنف وغيره فجعلوا من المستحب الصيغة الأولى بعدها ، وهو لا يخلو من وجه تسمعه إن شاء الله ، كل ذلك لما ذكرناه أولا وما تسمعه إن شاء الله ، مضافا إلى‌ قول الصادق عليه‌السلام في موثق أبي بصير (١) : « فان آخر الصلاة التسليم » وما في‌ خبر العيون (٢) « عن معنى التسليم في الصلاة » وفي آخر (٣) « وجب التسليم في الصلاة » والعلل (٤) « وفي إقامة الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها وتسليمها » وفي‌ صحيح زرارة (٥) « فسلم في نفسه فقد تمت صلاته » وفي‌ موثق أبي بصير (٦) أيضا « إذا ولى وجهه عن القبلة وقال : السلام علينا فقد فرغ من صلاته » ونحوه غيره مما هو ظاهر في أن ذلك تمام الصلاة لكن في الصيغة الأولى ، ويمكن دعوى القطع فيها باعتبار معروفية أنها من التشهد الذي لا إشكال في أنه من الصلاة ، كالتسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والملائكة كما يكشف عن ذلك نحو خبر أبي بصير (٧) المشتمل على التشهد الطويل ، إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة والصريحة والمشعرة المتفرقة في أبواب الصلاة كالسهو وصلاة الجماعة والخوف وغيرها ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١٣ لكن رواه عن معاني الأخبار.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٢.

٣٠٧

خصوصا ما دل (١) منها على القسمة بين المأمومين بأن للأولين التكبير افتتاح الصلاة ، وللآخرين التسليم ، بل بقاء الائتمام معه أعظم شاهد على جزئيته ، لعدم مشروعية الجماعة في غير الصلاة ، إلى غير ذلك من النصوص التي لا يقابلها النصوص (٢) المشعرة بالخروج بوجه من الوجوه ، خصوصا بعد موافقتها للتقية ، وخصوصا بعد ظهور كلمات الأصحاب في الجزئية بين القائلين بالوجوب والندب حتى سمعت دعوى الإجماع عليه من التنقيح.

وظني أن القول بالخروج في مطلق التحليل بالتسليم مما حدث في هذه الأعصار وإن حكاه المقداد في التنقيح عن قواعد الشهيد رادا عليه بوجوه متعددة ، منها خرق الإجماع ، لكن لا صراحة في كلامه باختياره ، بل ذكره احتمالا في رد بعض النصوص المستدل بها على الندب كما ذكرناه نحن هناك لبيان نفي الدلالة على الندب التي يكفي في نفيها مجرد وجود الاحتمال وإن لم نعينه ماذا كما هو واضح بعد التأمل وإن اختاره بعض متأخري المتأخرين من المتفقهة ، ولا ريب في ضعفه وسقوطه ، نعم هو متجه لا محيص عنه في الصيغة الثانية بناء على وجوبها لو جاء بالصيغة الأولى وقلنا بحصول التحليل بها ، وأما النصوص المدعى ظهورها في الخروج أو إشعارها فقد عرفت الجواب عنها في أدلة الندب بما ينفي هذا الظهور مفصلا ، وستعرف زيادة على ذلك ، وخبر الحلبي (٣) محمول على إرادة انقطاع الأجزاء غير التسليم من الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحو ذلك ، بل قد عرفت سابقا أيضا ما يعرف منه الجواب أيضا عما ذكرناه أخيرا من جانب القائل بالخروج ، ضرورة ظهور النصوص كما سمعته فيما تقدم في أدلة الوجوب في أن الشارع قد جعل التسليم من الأسباب المحللة للمنافيات لا أن تحليله لما فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١.

٣٠٨

من صفة المنافاة وإن أومأت إليه بعض النصوص (١) لكنها في مساق بيان حكم وأسرار لا تدور عليها تكاليف شرعية كما لا يخفى على من لاحظها ، على أنه لو سلم فقد يمنع عدم إمكان تصوره جزءا من الصلاة ، إذ لا مانع من أن تكون اسما لهذه الأفعال المعتبر فيها عدم تخلل المنافي فيها في الأثناء خاصة ، وفعله في آخرها كدخول ما به الإحرام والحل في اسم الحج والعمرة ، فتأمل جيدا.

ولو أغضينا عن ذلك كله كان مقتضى التقرير المزبور البطلان والحرمة قبل التسليم ، لا خصوص الحرمة كما يدعيه القائل بالوجوب الخارجي كصاحب الحدائق وغيره ، ضرورة صدق لا تحدث في الصلاة مثلا المقتضي لهما معا ولو من حيث الطول في الكون المخصوص للتشهد ، بل لا دليل تختص به الحرمة دون البطلان ، ومن الغريب دعوى أنه يحصل التحليل بباقي المنافيات كما يحصل به وإن كان محرما ، ويكون بين هذا وبين ما قاله أبو حنيفة الإثم وعدمه ، إذ فيه أنه مناف لمقتضى حصر التحليل في التسليم بل لو لم يكن حصرا كانت التحليلية بغيره محتاجة إلى دليل شرعي مستقل ، لما عرفت أنها من الأمور التوقيفية كباقي الأسباب الشرعية ومسبباتها ، والاكتفاء عن ذلك بما دل على إبطال الصلاة بالحدث يقتضي البطلان حينئذ لا الحرمة خاصة ، على أن الإبطال غير التحليل كما هو واضح بأدنى تأمل ، نعم لما كانت نتيجتهما متحدة باعتبار ترتب جواز تناول المنافيات على فعل كل منهما ربما خفي على البعض فعمم المحلل لكل منهما وإن كان غير التسليم منه محرما ، بل هو في غير موضعه الخاص أيضا كذلك بناء على حرمة قطع الصلاة ، وفيه ما لا يخفى ، ولعله لمكان الاتحاد في النتيجة ، واتصاف التسليم بالمنافاة من حيث كونه كلام آدميين أو غيره لا من حيث تسبيبه التحليل صح إطلاق التمام على ما عدا التسليم من الصلاة لما فيه من تلك الصفة المعتبر عدم موصوفها في الصلاة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١٠.

٣٠٩

لا لأنه ليس جزءا حقيقة ، وبه ظهر حينئذ الجواب عن بعض النصوص السابقة ، كما أنه ظهر مما ذكرنا في تحرير موضوع البحث في الأثناء الجواب عن النصوص (١) الأخر الدالة على الفراغ من الصلاة بالصيغة الأولى المقتضية خروج الصيغة الثانية التي هي المسماة بالتسليم ، إذ قد عرفت أن ذلك لا محيص عنه بعد فرض تسليم حصول التحليل بالصيغة الأولى ووجوب الصيغة الثانية مع ذلك ، إذ لا جهة له إلا القول بالوجوب الخارجي ، لكن لا نلتزم حرمة فعل المنافيات الصلاتية قبلها ، لعدم الدليل ، وبه صرح شيخنا في كشفه ، اللهم إلا أن يدعى أن المنساق إلى الذهن من الأمر بها ولو بعد الصيغة الأولى ومن الأمر بالاستقبال أيضا حالها بقاء المصلي على حاله السابق جامعا للشرائط فاقدا للموانع ، وفيه صعوبة كما ستعرف تمام البحث فيه إن شاء الله في محله.

وكيف كان فـ ( له ) أي التسليم نصا وفتوى عبارتان لا غير إحداهما أن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، والأخرى أن يقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وليس المراد مطلق مسمى التسليم قطعا بل ضرورة ، نعم في المحكي عن الرائع للراوندي ـ وقد رام الجمع الذي ذكرناه نحن سابقا بين قولي الوجوب والندب في خصوص المذكور في المتن لا الصيغة الثالثة ـ قال : « إذا قال : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ونحو ذلك ، فالتسليم الذي يخرج به من الصلاة حينئذ مسنون وقام هذا التسليم المندوب مقام قول المصلي إذا خرج من صلاته : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وإن لم يكن ذكر ذلك في التشهد يكون التسليم فرضا » وقد سمعت كلامه في حل المعقود من الجمل والعقود في أول البحث ، وخلاصته في الكتابين أو الفرض هو السلام عليكم ولكن ينوب منابه التسليم المندوب ، كما أن صوم يوم الشك ندبا يسقط به الفرض ، وفي الذكرى « أن أقل المجزي في الفريضة التسليم وقول : السلام عليك أيها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم.

٣١٠

النبي ورحمة الله وبركاته ».

وقد يشهد له مضافا إلى إطلاق أدلة التسليم وخصوص المشتملة عليه ولو في ضمن غيره من المندوبات ما عن‌ العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم (١) « أقل ما يجزي من السلام السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته » وقول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير أو صحيحه (٢) : « إذا كنت إماما فإنما التسليم أن تسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإذا قلت ذلك فقد انقطعت الصلاة ثم تؤذن القوم فتقول وأنت مستقبل القبلة : السلام عليكم » وفي‌ خبر أبي بكر الحضرمي (٣) عن الصادق عليه‌السلام قال له : « إني أصلي بقوم فقال : تسلم واحدة ولا تلتفت قل : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام عليكم » وعن كنز العرفان عن بعض مشايخه الاستدلال على وجوب التسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآية الشريفة (٤) حيث دلت على وجوب التسليم عليه ولا شي‌ء منه بواجب في غير الصلاة ، وقال : إنه الذي يقوى في ظني ، ثم حكى عن العلامة الإجماع على استحبابه ثم منعه ، وجمع الصدوق في الفقيه وعن المقنع بين الصيغتين مع تسليمات على النبي والأنبياء والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) من غير تصريح بوجوب شي‌ء ، لكن ومع ذلك كله لا يخفى عليك ضعف القول بالوجوب الذي قال في كشف اللثام بعد أن حكاه عن البعض : لم يوافقه عليه أحد ، وفي الذكرى « أنه لا يعد من المذهب » وعن البيان أنه مسبوق بالإجماع ملحوق به ومحجوج بالروايات المصرحة بندبه لما عرفت فيما تقدم من النصوص والفتاوى ومعاقد الإجماعات على عدم وجوب غير‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٩.

(٤) سورة الأحزاب ـ الآية ٥٦.

٣١١

الشهادتين والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتسليم المعلوم نصا وانسياقا تحققه بدون التسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآية بعد تسليم إرادة غير الانقياد من التسليم فيها وأن المراد خصوص التسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرفت المناقشة في مثل هذا الاستدلال بها ، ولذا قال في المحكي عن البيان : إن قوله تعالى : ( وَسَلِّمُوا ) ليس بمتعين للسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو سلم لم يدل على الوجوب المدعى ، وأضعف منه القول بأنه مخرج وإن لم يكن واجبا الذي لم يعرف في المنتهى خلافا في عدمه بين القائلين بوجوب التسليم ، وفي ظاهر التذكرة إجماعهم عليه لحصر المخرج في النصوص والفتاوى بغيره ، بل هو صريح خبر أبي كهمس (١) ومن ذلك يعلم أن الإتيان به في التشهد الأول وغيره من أحوال الصلاة لا بعنوان الخصوصية غير قادح في الصلاة ، لعدم التحليلية فيه ، وكذا ( سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) في القنوت وإن كان موافقا للفظ القرآن ، فالتوقف فيه من بعض الناس وسوسة في غير محلها.

وأما العبارتان المذكورتان فلا ريب في أن بكل منهما يخرج من الصلاة ويحصل الفراغ منها وتحليلها ، لمعلوميته بين الأمة كافة في الثانية كما اعترف به في الذكرى وغيرها فضلا عن تواتر القول والفعل به ، وللنصوص المعتبرة المستفيضة في خصوص الأولى منهما ، منها قول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير (٢) السابق آنفا وموثقه (٣) المتقدم في أول التسليم ، وفي‌ صحيح الحلبي (٤) « كلما ذكرت الله عز وجل به والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو من الصلاة ، وإن قلت : السلام علينا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١.

٣١٢

وعلى عباد الله الصالحين فقد انصرفت » وسأله عليه‌السلام أيضا أبو كهمس (١) « عن الركعتين الأولتين إذا جلست فيهما للتشهد فقلت وأنا جالس : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته انصراف هو فقال : لا ، ولكن إذا قلت : السلام علينا وعلى عباد الله فهو الانصراف » وعن ابن إدريس أنه رواه في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب النوادر لمحمد بن علي بن محبوب ، وفي‌ خبر ميسر (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « شيئان يفسد الناس بهما صلاتهم قول الرجل : تبارك اسمك ـ إلى أن قال ـ وقول الرجل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » وفي الفقيه (٣) قال الصادق عليه‌السلام : « أفسد ابن مسعود على الناس صلاتهم بقوله : تبارك اسمك ـ إلى أن قال ـ وبقوله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين يعني في التشهد الأول » كما يشهد له‌ ما رواه بسند معتبر عن الفضل بن شاذان (٤) عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون « ولا يجوز أن تقول في التشهد الأول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لأن تحليل الصلاة التسليم ، فإذا قلت هذا فقد سلمت » ونحوه المروي عن الخصال بسنده إلى الأعمش (٥) عن الصادق عليه‌السلام.

ومنهما يعلم أن المراد بالانقطاع والفراغ ونحوهما حصول التحليل بذلك ، فهذه النصوص بعد تعاضدها ورواية المشايخ الثلاثة وغيرهم لها على وجه ظاهرهم العمل بها مما لا سبيل إلى ردها كما اعترف به في الذكرى تارة ، ولم ينكرها أحد من الإمامية تارة أخرى ، وفي ثالث إضافتها إلى الإمامية ، وفي رابع هنا مقدمتان : إحداهما أن السلام علينا يقطع الصلاة ، وهذه دل عليها الأخبار وكلام الأصحاب ، وهو مشعر بالإجماع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٢.

٣١٣

على حصول الخروج به كعبارة الشيخ في التهذيب ، بل قيل : إن الظاهر اتفاق الشيعة على ذلك ، ولذا تركوه في التشهد الأول ، نعم ظاهرهم أن المخرج والواجب بالأصالة السلام عليكم ، وأن السلام علينا مستحب يحصل به المقصود من الواجب ، ولذا قال في الدروس : إن أكثر القدماء على الخروج بقول : السلام علينا إلى آخره وعليها معظم الروايات مع فتواهم بندبها ، لكن في المحكي عن البيان أن القائل بوجوب التسليم يجعلها مستحبة غير مخرجة من الصلاة ، والقائل بندب التسليم يجعلها مخرجة ، وتبعه على نحو ذلك بعض من تأخر عنه ، وهو مخالف لما سمعته منه في الذكرى ، ويقتضي طرح تلك النصوص التي لا سبيل إلى ردها ، وظني أنه استنبطه استنباطا من جهة عدم تعقل وجوب التسليم حينئذ بعد الإتيان بهذه الصيغة خصوصا ، وظاهرهم الجزئية التي لا يتصور تحققها في المقام ، لكن قد يدفع بأنه يمكن التزامهم بالوجوب الخروجي لو جاء بالصيغة الأولى وإن خرج بها كما أومأ إليه ما سمعته سابقا من البشرى ، واختاره في المدارك والحدائق وغيرهما ، ومال اليه شيخنا في بغية الطالب وإن كان هو في غاية الضعف ، خصوصا مع القول بحرمة المنافيات حينئذ بعد الصيغة الأولى دون البطلان كما صرح به في الحدائق ، ضرورة منافاته لما ورد من التحليل بالصيغة الأولى المقتضي لحل سائر المنافيات ، مضافا إلى ما عرفته سابقا من اتحاد دليل البطلان والحرمة ، فالتفصيل بينهما قول في الشرع بلا دليل.

بل ومثله في الضعف دعوى الوجوب خاصة كما ستعرفه إن شاء الله ، أو يدفع بأنه يمكن بناء إطلاقهم الوجوب على إرادة الوجوب بالأصالة كالمخرج ونحو ذلك مما لا ينافي الاجتزاء بالمندوب نحو إطلاقهم وجوب الوضوء والغسل مثلا للصلاة المراد منه قطعا بعد الخطاب بها مع الاستغناء بالمندوب منهما قبل الوقت ، فيكون التحليل بناء على هذا واجبا عندهم ، والأصل في سببه الصيغة الثانية ، إلا أنه قد يحصل بغيرها كالصيغة‌

٣١٤

الأولى ، فهي حينئذ كالوضوء مثلا المندوب قبل الوقت الذي يستغنى به باعتبار حصول رفع الحدث به عن فعله بعد الوقت ، فلا ملازمة بين إطلاقهم وجوب التسليم المنصرف إلى الصيغة الثانية وبين القول بحصول الخروج بالصيغة الأولى لو جي‌ء بها بعد معلومية كون وجوب الثانية عندهم للتحليل كما هو صريح المرتضى أو كصريحه ، كمعلومية أن وجوب الوضوء لرفع الحدث ، فمع فرض حصوله يسقط فعله ، كما أنه يسقط السبب الأصلي في التحليل مع فرض حصوله بالصيغة الأولى ، ولعل استحباب الجمع بينهما كالوضوء التجديدي ، ويمكن انطباق مراد الشيخ وغيره ممن حكم باستحباب التسليم مع قوله بالخروج بالصيغة الأولى على هذا كما أومأنا إليه في أول البحث ، خصوصا مع شبه التسليم بالوجوب المقدمي أو الشرطي الذي لم يتعارف إطلاق الواجب عليه عند الجميع ، ضرورة أن وجوبه لحصول التحليل ورفع حرمة المنافيات وحفظ الصلاة عن الإبطال ، فتأمل جيدا.

لكن قد يفرق بين الوضوء قبل الوقت وبين الصيغة الأولى من التسليم بأن صدق وصف الندب على الوضوء لا غبار عليه ، لتحقق خاصته به ، بخلاف ذلك الذي صار فردا لتحقق الواجب ، ضرورة حصول الخطاب بالخروج من الصلاة كما عرفت دعوى الإجماع عليه فيما تقدم ، بل حرمة إبطال الصلاة كافية في ثبوته ، والفرض تحققه في ضمنه ، فلا يعقل حينئذ بعد ذلك الاستحباب الصرف ، اللهم إلا أن يقال : إنه لم يعد للخروج ولا هو الأصل فيه ، بل هو قول مندوب إن اتفق فعله أجزء عن المخرج كالغسل المندوب بعد الوقت بناء على الاجتزاء به عن الوضوء ، ومثله لا يسمى واجبا قطعا ولو تخييرا ، بل يعبر عنه بأنه مندوب يجزي عن الواجب وإن كان عند تدقيق النظر كأحد فردي الواجب المخير ثمرة ، وربما يطلق عليه اسم الواجب بهذا الاعتبار ولعله لذا ذهب المصنف إلى التخيير ، وتبعه عليه الفاضل ، بل حكي عن منتهاه عدم‌

٣١٥

معرفة الخلاف فيه وإن كنت لم أتحققه فيما حضرني من نسخته ، والمقداد والعلامة الطباطبائي وغيرهما ممن تأخر عنه حتى الشهيد في ألفيته التي هي أول ما صنف ولمعته التي هي آخرها وإن بالغ في إنكاره في الذكرى والبيان ، وقال : إنه قول حدث في زمان المحقق فيما أظنه أو قبله بيسير ، لأن بعض شراح رسالة سلار أومأ اليه ، وقال أيضا : إنه لا قائل به من القدماء ، وكيف يخفى عليهم مثله لو كان حقا.

وفيه انه لو سلم حدوثه بالنسبة إلى أقوال من وصلت إلينا مصنفاتهم لم يكن ذلك قادحا بعد عدم انعقاد إجماع تطمئن به النفس على خلافه ، كما هو واضح ، ومن الغريب ما أجاب به عما ذكر في أثناء كلامه من الاستدلال له بما ذكرناه ، فقال : لا يقال لا ريب في وجوب الخروج من الصلاة ، وإذا كان هذا مخرجا منها كان واجبا في الجملة ، فيكون الحق ما ذهب إليه القائل بوجوبه ، ولا نبالي بقول القدماء بندبه ، لأنهم ليسوا جميع الإمامية ، لأنا نقول قد دلت الأخبار الصحيحة على أن الحدث قبله لا يبطل الصلاة ، منها خبر زرارة (١) ثم ساق بعض النصوص التي ذكرناها في أدلة الندب المشتملة على إتمام الصلاة ، وفيه أولا أنه مخالف لما أطنب فيه سابقا وبرهن عليه وحكى عليه كلام الشيخ في الخلاف من أن التسليم اسم للصيغة الثانية خاصة ، وأن الصيغة الأولى من التشهد ، وثانيا أن ذلك لا دخل له فيما نحن فيه من الوجوب التخييري وعدمه ، ضرورة اقتضائها ندب مطلق التسليم لا خصوص هذه الصيغة ، وهو مقام آخر غير ما نحن فيه قد أبطله هو بعد ذلك بتواتر النقل وغيره ، وبالجملة لا جهة لهذا الجواب على تقدير وجوب التسليم بحيث يرجع إلى إبطال صغرى الدليل أو كبراه ، ثم اعترض على نفسه بعد الجواب المزبور فقال : لا يقال ما المانع من أن يكون الحدث مخرجا كما أن التسليم مخرج ، ولا ينافي ذلك وجوبه تخييرا ، لأنا نقول : لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢.

٣١٦

بل ولا من المسلمين غير أبي حنيفة ، فيمتنع القول به ، لاستلزامه الخروج عن إجماع الإمامية ، وفيه بعد الإغضاء عن تمام ما فيه أنه يمكن القول بكونه مخرجا اضطراريا أو محرما ، فلا يلزم موافقة أبي حنيفة ولا مخالفة الإجماع ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، ثم إنه بعد ذلك بلا فصل قال : وهنا سؤال ، وهو أن القائلين باستحباب الصيغتين يذهبون إلى أن آخر الصلاة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما معنى انقطاع الصلاة بصيغة السلام علينا ، والفرض أنها انقطعت ، فلا تحتاج إلى قاطع ، إلى أن قال : ولا جواب عنه إلا بالتزام أن المصلي قبل هذه الصيغة يكون في مستحبات الصلاة وإن كانت الواجبات قد مضت ، وبعد هذا لا يبقى للصلاة أثر ، ويبقى ما بعدها تعقيبا لا صلاة ، وقد أشعر به‌ رواية الحلبي (١) عن الصادق عليه‌السلام « كلما ذكرت الله به والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو من الصلاة ، فإذا قلت : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد انصرفت » وبهذا يظهر عدم المنافاة بين القول بندبيته وأنه مخرج من الصلاة ، إلا أنه يلزم منه بقاؤه في الصلاة بدون الصيغتين وإن طال ، ولا استبعاد فيه حتى يخرج عن كونه مصليا أو يأتي بمناف ، فان قلت : البقاء في الصلاة بدون الصيغتين يلزمه تحريم ما يجب تركه ووجوب ما يجب فعله ، والأمران منتفيان هنا فينتفي ملزومهما ، وهو البقاء في الصلاة ، قلت : لا نسلم انحصار البقاء فيها في هذين اللازمين على الإطلاق ، إنما ذلك قبل فراغ الواجبات ، أما مع فراغها فينتفي هذان اللازمان ، ويبقى باقي اللوازم من المحافظة على الشروط وثواب المصلي واستجابة الدعاء ، ثم حكى كلام صاحب البشرى.

وفيه ما أشرنا إليه سابقا من أنه متى ثبت كونه في الصلاة ثبت الحرمة والبطلان بسائر المنافيات ، لصدق مضمونها المستلزم ذلك ، وكون الباقي مندوبا لا يجدي ، إذ ليس إبطال الحدث مثلا لعدم التمكن مما بعده من الأجزاء ، بل قد عرفت فيما مضى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١.

٣١٧

أن الكون للمصلي من الجلوس ونحوه حال الإتيان بالمندوبات أحد أفراد الواجب المخير والحدث معه يسري إلى الجميع لا يختص بالمقارن له ، اللهم إلا أن يريد الشهيد أن التحليل والخروج من الصلاة غير لازم ، بل هو مستحب عند الشيخ وأتباعه وإن قالوا : إنه إن جاء به ترتب عليه مسببه ، وحينئذ يتوجه عليه أولا أن هذا مخالف لمعنى التحليلية من الإحرام ، وثانيا أنه مخالف لما سمعته من الإجماع على وجوب الخروج من الصلاة حتى من أبي حنيفة وإن كان لم يخص المخرج بالتسليم ، وليس المراد بوجوب الخروج إلا فعل شي‌ء من المكلف رتب عليه الشارع الخروج من جنس ( حبس خ ل ) الصلاة وإحرامها إذ ليس غيره مما يحصل بتمام فعل الواجب والفراغ منه شيئا زائدا على الواجب يكلف به المكلف ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ومما يدل على مختار المصنف أيضا ـ مضافا إلى ما عرفت ، وإلى أنه مقتضى الجمع بين الأمر بالصيغة الأولى في خبري أبي بصير (١) حتى الطويل منهما وإن اشتمل على مندوبات وغيرهما من النصوص حتى المتضمنة للفراغ من الصلاة وانقطاعها بالصيغة الأولى ضرورة ظهورها في أنك قل ذلك فإذا قلت ذلك فقد انقطعت الصلاة ، وبين الأمر بالصيغة الثانية المعلوم بالإجماع وغيره بعد معلومية عدم وجوب الجمع بينهما بالإجماع بقسميه والنصوص ، فليس حينئذ إلا التخيير ـ أنه من التسليم المجعول تحليلا للصلاة والمأمور به في النصوص الكثيرة ، ودعوى الانصراف إلى المتعارف فعلا واسما بين العامة والخاصة يدفعها بعد تسليمها أنه لا ينافي ثبوت فرد آخر بدليل مستقل ، وهو النصوص السابقة خصوصا الدالة على أنه تحليل الصلاة ، بل‌ قوله عليه‌السلام في بعضها (٢) :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٨ والباب ـ ٣ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٢.

٣١٨

« إذا قلت ذلك فقد سلمت » كالصريح في إرادة بيان أن هذا من التسليم المحلل للصلاة وإن لم يكن متعارفا ولا معروفا بذلك ، ولذا استعمله العامة في التشهد الأول فاحتاج أهل العصمة عليهم‌السلام إلى بيان خطئهم في ذلك وردع شيعتهم عن استعماله ، وبيان أنه من المحلل المقتضي لفساد الصلاة مع التعمد إلى وقوعه في غير محله من الصلاة ، بل قالوا : إنه هو الانصراف مبالغة في إرادته من الأوامر المتعددة أو المتواترة بالانصراف بعد التشهد كما هو واضح بأدنى تأمل.

بل منه ومما تقدمه وغيرهما يعلم أنه لا وجه معتد به للقول بوجوب الصيغة الثانية تعبدا وإن كان قد خرج بالأولى جمعا بين النصوص (١) الدالة على حصول ذلك بها وبين الأوامر (٢) المتواترة بالتسليم المنصرفة بالتبادر للتعارف قولا وفعلا إلى الصيغة الثانية المعتضدة بالجمع بينهما في خبري أبي بصير (٣) والمستبعد حملها جميعها على إرادة الوجوب التخييري والندب إذا فرض الخروج بالصيغة الأولى ، بل في الحدائق التصريح بتوقف حل المنافيات عليها وإن كان قد خرج بالأولى بحيث لا يبطل فعل المنافي بعدها لكن يأثم ، والذي يرفع ذلك كله الصيغة الثانية مقتصرا عليها أو آتيا بها بعد الخروج من الصيغة الأولى ، وفيه أن إطلاق اسم التحليل عليه في بعض تلك النصوص (٤) وأن من قاله سلم ، والانصراف والفراغ في آخر (٥) ونحو ذلك مما يقطع ملاحظة بعد التأمل والانصاف في ظهوره أو صراحته بعدم وجوب شي‌ء آخر بعده.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٨ والباب ٣ من أبواب التشهد ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١ و ٥.

٣١٩

ومن هنا جعل الشهيد في الذكرى القول بوجوب الصيغة الثانية بعينها مستلزما لطرح هذه النصوص جميعها ، وما ذاك إلا لأن المراد بها ما ذكرنا ، بل ظاهر المنتهى أو صريحه أنه لا يعرف خلافا في عدم وجوب شي‌ء بعد فرض حصول التحليل ، وقد سمعت أن الشهيد في البيان جعل كل من قال بوجوب الصيغة الثانية قائلا بعدم الخروج بالأولى ، وليس هو إلا استنباطا مما ذكرناه ، بل لعل الإجماع المستفيض على عدم وجوب الجمع بينهما مأخذه ذلك أيضا ، ضرورة أنه لا وجه لوجوب شي‌ء آخر بعد حصول التحليل والفراغ والانصراف ، لا أن مأخذه ندب الصيغة الأولى ، إذ ليس ذلك يقتضي التعبير بعدم وجوب الجمع بينهما ، بل هو إجماع خاص على خصوص الندبية كما هو واضح ، على أن ظاهر النصوص كون وجوب التسليم لأجل حصول التحليل سيما المتضمن منها للتعليل‌ كالمروي (١) عن العلة التي من أجلها وجب التسليم في الصلاة قال : عليه‌السلام « لأنه تحليل الصلاة » إلى آخره.

ومن ذلك كله يظهر تقرير الدليل للمصنف بوجه آخر هو أنه قد ثبت حصول التحليل بكل منهما ، ولا شي‌ء واجب بعده ، فلا يجب حينئذ إلا أحد المحللين ، وأظرف شي‌ء دعوى حصول التحليل بالأولى والانصراف والفراغ ، وأنه يبقى حرمة المنافيات موقوفة على الصيغة الثانية ، ومع التأمل في النصوص والفتاوى يمكن القطع بفساده ، بل الإجماع على خلافه ، واحتمال البشرى له لا ينافي ذلك خصوصا وقد جزم في آخر ما حكى من كلامه بخلافه ، نعم جزم به جماعة من متأخري المتأخرين ، وكأنه من جملة أوهامهم.

نعم قد يقال : إن المستفاد من التأمل في النصوص كقوله عليه‌السلام في خبر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١١.

٣٢٠