جواهر الكلام - ج ١٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وكم بدا من قولهم شواهد

قضت بأن المعنيين واحد

ولعل منها ما أشكل على الشهيد في الذكرى والخراساني في الذخيرة من ظهور كلام الشيخين الذين هما الأصل في القول بالندب في توقف الخروج عن الصلاة على التسليم وأنه هو المحلل عندهما كما اعترفا به ، وقد ألجأهما الجمع بين ذلك والقول بالندب إلى تجشمات ضعيفة وتعسفات بعيدة لا ريب في أن ما ذكرناه من الجمع بإرادة ندب خصوص الصيغة الثانية إذا جاء بالأولى لا مطلق التسليم حتى الأولى المعدودة من التشهد ولم تسم بالتسليم عندهما وبها يحصل الخروج والتحليل والانقطاع أولى منها ، وربما تسمع له تتمة عند شرح قول المصنف : « وله عبارتان » ولا ينافيه جعل المفيد الآخر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لعله ممن يقول بالوجوب الخارجي ، أو لأن لما يحصل به الانقطاع جهتي دخول وخروج ، أو لغير ذلك.

فمن الغريب بعد ما عرفت نسبة القول بالندب إلى أجلاء الأصحاب في جامع المقاصد ، والأكثر عن تعليق النافع ، وأكثر القدماء في الذكرى ، وأكثر المتأخرين في المدارك وغيرها ، بل عن غاية المراد أن الأصحاب ضبطوا الواجب والندب وكلهم جعلوه من قبيل الندب وإن كنا لم نتحققه فيها ، مع أنه لم يحك إلا عن ظاهر والد الصدوق ولم نتحققه ، بل مقتضى عدم نقل ولده عنه ذلك عدمه ، سيما مع ما عن أماليه من نسبة الوجوب إلى دين الإمامية وإن كنا أيضا لم نتحققه ، ووالده عنده من أعظمهم كما يومي اليه شدة اعتنائه برسالته في الفقيه ، والشيخين وقد عرفت الحال فيهما ، ومنه اضطرب النقل عن الخلاف والمبسوط في كشف الرموز والمعتبر وغيرهما ، فلاحظ ، وابن طاوس وظاهر المحكي عنه في الذكرى خلافه ، والقاضي وابن إدريس والفاضل وبعض من تأخر عنه ولم يحضرني كلام الأولين ، وليس النقل كالعيان ، وقد عرفت ما حكاه ولد الثالث عنه فضلا عن مذهبه في المنتهى.

٢٨١

على أن المتبع الأدلة ، ولا ريب في أن مقتضاها الوجوب ، أما الكتاب منها فظاهر الآية (١) وإن كان لا يخلو من بحث ، وأما العقل فقاعدة الشغل بناء عليها ، واستصحاب معنى الإحرامية والحبس الحاصل من تكبيرة الإحرام التي هي سبب لثبوت حرمة منافيات الصلاة من الكلام وغيره ، واستصحاب حكم الصلاة وحكم منافياتها ، بل لعل أدلتها نحو‌ قوله (٢) : « لا تحدث في الصلاة » وشبهه دالة عليه بتقريب أنه على تقديري الوجوب والندب من الصلاة ، إذ القول بخروجه ضعيف وحادث يمكن تحصيل الإجماع على خلافه كما ستعرفه ، وحينئذ فأصالة الحقيقة في هذه النواهي مستلزمة لوجوب التسليم ، إذ على تقدير الندب لا يحرم شي‌ء منها كما هو واضح ، فتأمل ، وأما الإجماع فهو إن لم يمكن تحصيله فقد عرفت دعوى المركب منه من المرتضى ، وفي الغنية لا خلاف في وجوب الخروج من الصلاة ، وإذا ثبت ذلك فلا تخيير بلا خلاف بين أصحابنا في الخروج منها بغير التسليم من المنافيات ، وكأنه أخذه من المرتضى حيث قال على ما في الذكرى إنه قد ثبت بلا خلاف وجوب الخروج من الصلاة كما ثبت الدخول فيها ، فان لم يقف الخروج منها على السلام دون غيره جاز أن يخرج بغيره من الأفعال المنافية للصلاة كما قال أبو حنيفة ، وأصحابنا لا يجيزون ذلك ، فثبت وجوب السلام ، وفي التنقيح إن لم يجز الخروج من الصلاة إلا بالتسليم فإنه يكون واجبا ، لوجوب الخروج من الصلاة إجماعا ، والظاهر إرادة بين المسلمين من نفي الخلاف أولا لأن أبا حنيفة إنما خالف في تعيين السلام للخروج ، فخير بينه وبين الحدث وغيره من المنافيات ، وإلا فهو قد وافق على وجوب المخرج بمعنى أن الصلاة ليست كباقي الأفعال التي يحصل الخروج منها بمجرد الفراغ من أفعالها ، بل هي أشبه شي‌ء بالإحرام المتوقف‌

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ الآية ٥٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٥.

٢٨٢

على المحلل ، لكن أبا حنيفة خير ، وغيره عين السلام.

واليه أشار المصنف بقوله ولا يخرج من الصلاة إلا به ولعل الذي ألجأه إلى التخيير المزبور بعد القياس أنه راعى التناسب بين أفراد ما ابتدعه من الصلاة وبين المحلل لها ، إذ منها عنده ـ بعد الوضوء بنبيذ التمر المغصوب منكوسا عكس الكتاب العزيز ـ الصلاة في الدار المغصوبة على جلد كلب لابسا لجلد كلب وبيده قطعة من لحم كلب وعليه نجاسة ثم يكبر بالفارسية ويقرأ كذلك مدهامتان ثم يطأطئ رأسه حدا يسيرا غير ذاكر (١) ولا مطمئن ثم يهوي إلى السجود من غير رفع ثم يحفر حفيرة لينزل جبهته أو أنفه فيها من غير ذكر ولا طمأنينة ولا رفع بينهما ثم يقعد من غير تشهد ، وهذه لا يناسبها إلا التحليل بضرطة قطعا ، وحق للآمر بها أن يأمر بهذا المحلل لها.

وكيف كان فقد ظهر أنه متى وجب الخروج من الصلاة وجب التسليم بعد فرض عدم المخرج عندنا غيره ، إذ المراد بوجوب الخروج فعل شي‌ء يترتب عليه الخروج ، وإلا لم يكن لهذا الوجوب معنى محصل كما هو واضح بأدنى تأمل ، وأما السنة فالفعل منها من النبي والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) مما لا ينبغي إنكاره فضلا عن فعل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وكل من دخل في هذا الدين ، وعن غوالي اللئالي في الأحاديث الصحيحة ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول التسليم المخرج من الصلاة عقيب كل صلاته وكان يواظب عليه وكذا الأئمة عليهم‌السلام ولقد أجاد في الذكرى بقوله تارة : تواتر النقل (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام بقول : السلام عليكم من غير بيان ندبيته مع أنه امتثال للأمر الواجب‌

__________________

(١) وفي النسخة الأصلية « ثم غير ذاكر ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢ و ١١ و ١٥ والمستدرك الباب ١ منها ـ الحديث ٣ وسنن البيهقي ج ٢ ص ١٧٧ و ١٧٨.

٢٨٣

وأخرى حتى أن قول سلف الأمة : السلام عليكم عقيب الصلاة داخل في ضروريات الدين قلت : لو أغضينا عن دليل التأسي وخصوص‌ قوله (ص) (١) : « صلوا كما رأيتموني أصلي » وعن عموم ما دل (٢) على وجوب الطاعة والانقياد ، وعن أصالة الوجوب في كل ما يصدر بيانا للواجب مع عدم اقترانه بما يقتضي الندب لأمكن استفادة الوجوب من مجرد الالتزام بذلك على وجه لم يعلم مثله في غيره من المندوبات ، خصوصا ولم يرد فيه ما يقتضي عظم الثواب وشدة الترغيب فيه كما ورد في باقي المستحبات التي مع ذلك لم يحافظ عليها الخواص فضلا عن السواد بعض هذه المحافظة ، وكيف يسوغ لصاحب الشرع عدم التصريح بالندب والإعلان به مع علمه بفعل جميع أتباعه له بعنوان الوجوب وخصوصا إذا قلنا بفساد الصلاة مع ذلك ، بل يظهر منه من الملازمة عليه والأمر به ما يغريهم به ويوقعهم بالجهل فيه ، حاش لمتدين يتوهم ذلك ، بل ليس هذا إلا من التقرير المعلوم حجيته مع قطع النظر عن التأسي بفعله ، بل إن لم يكن هذا تقريرا فلا تقرير يمكن أن يستفاد حكم منه ، كما أنه إن لم يحصل من هذه السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار من الخواص والسواد وسكوت العلماء عن النكير على اعتقاد الوجوب من الصلاة ، مع أنه تدور عليه أحكام عديدة منها أحوال السهو والشك وفعل المنافيات وغيرها مما لا يمكن حصره وعده لا ينبغي الالتفات بعد إلى سيرة أو إجماع أو ضرورة.

وأما القول فمنه نصوص التحليل ، ففي‌ الكافي مسندا إلى القداح (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « افتتاح الصلاة الوضوء ، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم » وفي الفقيه (٤) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ ص ١٢٤ و ١٢٥.

(٢) سورة آل عمران ـ الآية ٢٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٨.

٢٨٤

إلى آخره ، وأرسله في الهداية والتهذيب نحو هذا الإرسال المشعر بوصوله اليه بالطريق المعتبر إن لم يكن مقطوعا به ، وفي المروي عن العلل والعيون بإسناده الذي قيل : إنه لا يقصر عن‌ الصحيح عن الفضل بن شاذان (١) عن الرضا عليه‌السلام « إنما جعل التسليم تحليل الصلاة ولم يجعل بدلها تكبيرا أو تسبيحا أو ضربا آخر ، لأنه لما كان الدخول في الصلاة تحريم الكلام للمخلوقين والتوجه إلى الخالق كان تحليلها كلام المخلوقين والانتقال عنها ، وإنما ابتدأ المخلوقون في الكلام أولا بالتسليم » وعن‌ العلل أيضا بسند يمكن أن يكون معتبرا إلى المفضل بن عمر (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العلة التي من أجلها وجب التسليم في الصلاة قال : لأنه تحليل الصلاة ـ إلى أن قال ـ قلت : فلم صار تحليل الصلاة التسليم؟ قال : لأنه تحية الملكين ، وفي إقامة الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها وتسليمها سلامة العبد من النار ». وفي‌ العيون بإسناد معتبر في الجملة عن الفضل بن شاذان (٣) عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون « لا يجوز أن تقول في التشهد الأول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لأن تحليل الصلاة التسليم ، فإذا قلت هذا فقد سلمت » وبعينه المروي عن الخصال عن الأعمش (٤) عن الصادق عليه‌السلام وفي‌ المروي عن معاني الأخبار بسنده إلى عبد الله بن الفضل الهاشمي (٥) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن معنى التسليم في الصلاة فقال : التسليم علامة الأمن وتحليل الصلاة ، قلت : وكيف ذلك جعلت فداك؟ قال : كان الناس فيما مضى إذا سلم عليهم وارد أمنوا شره ، وكانوا إذا ردوا عليه أمن شرهم ، وإن لم يسلم لم يأمنوه ، وإن لم يردوا على المسلم لم يأمنهم ، وذلك خلق في العرب ، فجعل التسليم علامة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١٣.

٢٨٥

للخروج من الصلاة ، وتحليلا للكلام ، وأمنا من أن يدخل في الصلاة ما يفسدها ، والسلام اسم من أسماء الله عز وجل ، وهو واقع من المصلي على ملكي الله الموكلين » وعن كتاب‌ المناقب لابن شهرآشوب عن أبي حازم (١) « سئل علي بن الحسين عليهما‌السلام ما افتتاح الصلاة؟ قال : التكبير ، قال : ما تحليلها؟ قال : التسليم » إلى غير ذلك ، بل روي أيضا في أكثر كتب الفروع التي منها ما لا يعمل مصنفها إلا بالقطعيات كالسيد وأبي المكارم ، بل رواه الشيخ وغيره ممن قال بالندب ، ولذا وصفه بعضهم بالشهرة ، بل في المنتهى تلقته الأمة بالقبول ونقله الخاص والعام.

قلت : وهو كذلك ، فمن العجيب بعد ذلك كله المناقشة من الأردبيلي وأتباعه في السند بالإرسال ونحوه ، وأنه إنما وقع في كتب الأصحاب إلزاما للعامة بما هو من طرقهم على جهة الجدل ، إذ هي تشهد على قصور الباع وقلة الاطلاع أو عدم التأمل في كلامهم ، على أن هذه النصوص إن لم تكن متواترة أو مقطوعا بها بالقرائن الكثيرة ومعتضدة بالعمل والتظافر ونحو ذلك فلا ريب في استفاضتها بحيث تستغني عن ملاحظة السند كما هو واضح وإن أطنب فيه الأستاذ الأكبر في شرحه على المفاتيح ، وأضعف منها المناقشة في المتن بعد أن وجه الاستدلال بها بأن التسليم وقع خبرا عن التحليل ، لأن هذا من المواضع التي يجب فيها تقديم المبتدأ على الخبر لكونهما معرفين ، وحينئذ فيجب كونه مساويا للمبتدإ أو أعم منه ، فلو وقع التحليل بغيره كان المبتدأ أعم ، ولأن الخبر إذا كان مفردا كان هو المبتدأ بمعنى تساويهما في المصداق لا المفهوم ، ولأن تحليلها مصدر مضاف إلى الصلاة فيعم كل تحليل يضاف إليها ، وعن المختلف توجيه الحصر بأن تقديم الخبر يدل على حصره في الموضوع ، قيل : وكأنه يرى أن إضافة المصدر إلى معموله إضافة غير محضة كإضافة الصفة إلى معمولها ، وهو خلاف ما عليه محققوا العربية‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٥.

٢٨٦

قلت ـ مع أن تقديم الخبر إنما يدل على حصر الموضوع فيه لا العكس المراد في المقام كما لا يخفى على من لاحظ كلام التفتازاني في أحوال المسند ، إذ حاصل المناقشة المزبورة أنا نمنع لزوم كون الخبر مساويا للمبتدإ أو أعم ، فإنه يجوز الإخبار بالأعم من وجه كزيد قائم ، وبالأخص مطلقا كقولك : حيوان يتحرك كاتب ، ومنشأ ذلك أن المراد بالاخبار الاستناد في الجملة لا دائما ، ومنه يعلم أنه لا يجب تساوي المفردين في الصدق والمفهوم ، وأيضا نمنع كون إضافة المصدر للعموم ، لجواز كونها للجنس أو العهد ، على أن التحليل قد يحصل بغير التسليم كالمنافيات وإن لم يكن الإتيان بها جائزا ، وحينئذ فلا بد من تأويل التحليل بالذي قدره الشارع ، فكما أمكن إرادة التحليل الذي قدره على سبيل الوجوب أمكن إرادة الذي قدره على سبيل الاستحباب ، وأيضا الخبر متروك الظاهر ، لأن التحليل ليس نفس التسليم ، فلا بد من إضمار ولا دليل على ما يقتضي الوجوب ، وإرادة اسم الفاعل من المصدر مجاز كالاضمار ، فلا يتعين أحدهما ، إلى غير ذلك ـ : ودفعت بأن المشهور المعروف بين النحويين وأهل الميزان منع كون الخبر أخص من المبتدأ وإلا لعرى الكلام عن الفائدة ، ولهذا لا يجوز الحيوان إنسان واللون سواد وفي كشف الرموز أن ذلك ثابت عند أهل اللسان إلى آخره ، والمشهور أيضا عند النحويين أن الخبر إذا كان مفردا كان هو المبتدأ ، وفي المنتهى اتفاق النحويين على ذلك وقد تقرر في الأصول أن الإضافة حيث لا عهد تفيد العموم ، ولا عهد هنا ، والأصل عدمه ، على أن الجنس نافع في المقام كالاستغراق ، وإذا تعارض المجاز والإضمار فالأقوال ثلاثة ، وترجيح المجاز قول جماعة ، وما ذكروه من أن التحليل قد يحصل بالمنافيات يدفعه أن إفساد الصلاة وإبطالها غير التحليل ، أما على القول بأنها اسم للصحيحة فظاهر وعلى الأعم فالفاسدة غير محتاجة إلى تحليل ، مع أن المتبادر من الإطلاق الصحيحة ، وأيضا معنى التحليل هو الإتيان بما يحلل المنافي لا أنه نفس المنافي ، على أن القائلين‌

٢٨٧

بالاستحباب يقولون يحصل التحليل بالتشهد ، ومن المعلوم أن تحصيل الحاصل محال ، مع أن مفاد الخبر بقاء التحريم إلى تمام التسليم ، ومنه يظهر الاستدلال بما دل (١) على أن التسليم إذن للمأمومين في الانصراف ، ضرورة عدم احتياجه إلى ذلك بعد فرض حصوله بتمام التشهد ، فتأمل جيدا ، ووجوب الطهارة وتكبيرة الافتتاح يرجحان الوجوب فضلا عن أدلة المسألة ، كل ذا مع أنه قد يدعى أن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين كان الحمل حمل مواطاة لا حمل متعارف ، وبذلك أثبتوا مفهوم الحصر في نحو زيد المنطلق والمنطلق زيد ، إلى غير ذلك من القرائن والشواهد الكثيرة التي أطنبوا بذكرها في هذا المقام خصوصا الأستاذ الأكبر منهم في شرحه على المفاتيح مما نحن في غنية عنه أولا بظهور ما سمعته من النصوص في الحصر أو صراحته ، وهو قرينة على غيره ، ولو لوحظ خصوص ما ستسمعه إن شاء الله مما ورد (٢) في حصول التحليل بالسلام علينا وحصر الانصراف فيه واشتراطه بقوله كانت المناقشة معه واهية قطعا زيادة على ذلك ، مع أن فيها نفسها دلالة على المطلوب أيضا فضلا عن الشهادة على صحة مضمون هذه النصوص ، فلاحظ وتأمل ، وثانيا بأن المستفاد من النصوص والفتاوى جعل التسليم سببا لتحليل المنافيات التي حرمت بتكبيرة الإحرام ، فهو من قبيل أسباب الشرع التوقيفية التي لا يمكن ثبوتها إلا بتوقيف من الشارع ، فعدم ثبوت غيره سببا لذلك كاف في حصر التحليل فيه ، وليس المراد من التحليل بسببه مجرد نفس الفراغ من الواجب ، وإلا لكان آخر كل واجب تحليلا ، بل المراد أنه سبب لفظي يترتب عليه عند الشارع حل المنافيات حتى لو وقع على وجه محرم كما يومي اليه النكير على العامة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم.

٢٨٨

في استعماله في التشهد الأول ، وفعل المنافيات ليس من الأسباب التي رتب عليها الشارع الحل ، بل هي تقضي ببطلان الصلاة ، فيكون كمن لم يصل ممن لا يحرم عليه المنافيات ، فحلها حينئذ له ببطلان ما يقتضي التحريم ، ضرورة حصر سبب التحريم في الصحيح من الصلاة ، بخلاف التسليم الذي رتب عليه الشارع الحل كما يومي اليه لفظ « جعل » وغيره في النصوص السابقة ، فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع ، وربما يأتي له تتمة إن شاء الله.

وهو بهذا المعنى يستغني عن إثبات إرادة الوجوب ، ضرورة دخول انتفاء الحل بدونه في أصل معناه ، ومتى حرمت المنافيات ثبت البطلان ، لاتحادهما في الدليل ، ومتى ثبتا معا أو أحدهما كفى في وجوب التسليم ، لعدم التزام القائل بالندب بشي‌ء منهما ، ولقد أجاد العلامة الطباطبائي حيث أومأ إلى بعض ما ذكرناه بعد أن ذكر الخلاف في الوجوب والندب بقوله :

والأظهر الوجوب والدخول

وكونه تحليلها دليل

ومنه الأوامر المستفيضة حد الاستفاضة به في النصوص (١) الكثيرة المتفرقة في سائر أبواب الصلاة التي يصعب إحصاؤها وحصرها ، ولقد أجاد العلامة الطباطبائي في دعواه تواترها ، حيث قال بعد البيت السابق :

وهكذا تواتر الأوامر

ووصفه في خبر بالآخر

مشيرا به إلى‌ موثق أبي بصير (٢) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام في رجل صلى الصبح فلما جلس في الركعتين قبل أن يتشهد رعف قال : فليخرج فليغسل أنفه ثم ليرجع فليتم صلاته ، فان آخر الصلاة التسليم » وعدم العمل ببعض الخبر أو احتياجه إلى التقييد لا يمنع من حجية الباقي ، وليس آخر الشي‌ء من الغاية التي وقع النزاع في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١ و ٨ و ١٠ وغيرها.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٤.

٢٨٩

دخولها وخروجها ، والتعليل مع فرض السؤال قبل التشهد والأمر بالإتمام وغيره يعين إرادة الآخر من الواجبات ، بل جعل التسليم آخر ماهية الصلاة المشعر بأنه لا آخر لها غيره وأنه آخر لها في جميع الأحوال كاف في ظهوره بالوجوب ، إذ على فرض الندب تكون آخريته لفرد من أفرادها ، ومثله لا يعد آخر الماهية ، ضرورة كونه حينئذ كالعارض للشي‌ء الذي لا يستحق وصفه بأنه آخر الشي‌ء كما يظهر ذلك في الأمور المحسوسة ، ويقرب من ذلك ما ورد من أن افتتاحها التكبير واختتامها التسليم ، ففي‌ خبر ابن أسباط (١) عنهم عليهم‌السلام فيما وعظ الله به عيسى عليه‌السلام « أوصيك يا بن مريم البكر البتول بسيد المرسلين ـ إلى أن قال ـ : له كل يوم خمس صلوات متواليات ينادي إلى الصلاة كنداء الجيش بالشعار ، ويفتتح بالتكبير ويختتم بالتسليم » وقد قابل به الافتتاح في‌ معتبر زرارة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام في صلاة الخوف « فصار للأولين التكبير وافتتاح الصلاة ، وللآخرين التسليم » على أنه لو كان التسليم مندوبا ربما وقع التشاح بينهم ، بل ربما كان القسمة لا عدل فيها ، فالمتجه حينئذ القرعة.

وبالجملة لا ينبغي إنكار تواتر الأوامر بذلك ، ولا إنكار ظهور تظافرها في ذلك فضلا عن مقتضى حقيقة الأمر ، خصوصا والعادة في المندوبات وإن تكثرت الأوامر في بعضها إلا أنها لا تخلو من قرائن داخلة وخارجة بذكر الثواب وشدة الحث عليه ونحو ذلك مما يفوح منه رائحة الندب كما لا يخفى على الخبير الماهر الممارس ، بخلاف المقام فإن القرائن تعضد الوجوب كعطف الأمر به على الأوامر السابقة المعلومة الوجوب ونحوه ، مثل قولهم عليهم‌السلام (٣) في علاج الشكوك : ابن على كذا وتشهد وسلم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ١ و ٢ و ٤.

٢٩٠

وصل ركعتين ، ومثل حديث المعراج (١) المروي بأعلى الطرق ، ومثل الأمر به أيضا (٢) في مقام شدة الحاجة إلى الاقتصار على الواجبات كالخوف ونحوه ، بل تدل عليه أيضا النصوص (٣) الكثيرة جدا المتضمنة للأمر بسجود السهو وقضاء التشهد والسجدة وفعل الاحتياط ونحو ذلك بعد التسليم ، بل في بعضها (٤) التصريح بأن السجود بعد التسليم لا قبله ، كما أن في آخر النهي (٥) عن فعل السجدة المنسية قبل التسليم ، وفي ثالث (٦) « إذا سلمت سجدت » إلى غير ذلك من المؤكدات ، فلاحظ وتأمل ، ومن الظاهر أن المندوب لا يصلح أن يكون شرطا لواجب ، إذ على فرض الترك إما يسقط وجوب الواجب أو اشتراط الشرط ، وهما معا مخالفان لظاهر الأدلة ، وتأويل الجميع بإرادة ذلك مع فرض اختيار التسليم أو بأنه كناية عن الفراغ وأن ذكره بالخصوص جريا على الغالب ينفيه ملاحظتها وتتبع فتاوى الأصحاب بمضمونها في ذلك المقام حتى من القائل بالندب.

بل قد تتأكد الدلالة أيضا بوجه آخر هو مقتضى إطلاق بعضها (٧) وظهور آخر (٨) في اعتبار الشك وجريان حكمه من العلاج والفساد وغيرهما وإن كان قد وقع بين التشهد والتسليم ، فلاحظ ، كما أن أخبار العدول (٩) من اللاحقة إلى السابقة فيها ظهور أيضا في أن ذلك وإن ذكر بعد التشهد قبل التسليم ، والحاصل أن سبر هذه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ و ١٤ و ٢٦ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٦.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٣ و ٨.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٤ و ٦.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٦٣ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة.

٢٩١

الأخبار المتفرقة في سائر الأبواب مع التأمل يظهر منه الدلالة على المطلوب من وجوه متعددة بحيث لا تصلح بعد ذلك للتأويل وارتكاب التعسفات التي لا ضرورة إليها ، والمقصود بما ذكرناه التنبيه في الجملة للأدلة وكيفية الدلالة وتعددها من جهات ، ولو أردنا التعرض لكل خبر خبر احتجنا إلى إطناب تام لا يناسب وضع الكتاب.

وقد يدل على المطلوب أيضا بل اعترف الأردبيلي بأنه من أقواها نصوص (١) استئناف الصلاة بزيادة الركعة فما زاد عمدا أو سهوا في غير الصورة المستثناة الشاملة بإطلاقها لما بعد التشهد وقبله ، ولعل منه المصلي تماما في السفر عمدا ، ولو أن التسليم غير واجب لم يتحقق البطلان ، ضرورة حصول الزيادة بعد تمام الواجبات.

ومن هنا استدل القائل بالندب بما ستعرفه مما دل (٢) على صحة صلاة من زاد ركعة في الرباعية إذا جلس مقدار التشهد ، والجواب عنها بأن القائل بالندب يلتزم بعدم الخروج من الصلاة إلا بنيته أو بالسلام أو فعل المنافي يدفعه أنه رجوع إلى مذهب أبي حنيفة ، على أنه لا يقتضي بطلان الصلاة ، إذ لا أقل من أن تكون الزيادة من فعل المنافي ، وأضعف منه الجواب بأن ذلك مبطل وإن وقع خارج الصلاة ، إذ قد يبطلها بعض ما هو كذلك كالعجب ونحوه ، فإنه كما ترى ، ويقرب منه القول بأنه إنما يخرج بآخر التشهد ما لم يقصد ويفعل ما يدل على العدم ، ومرجعه إلى ما قيل من أن نقول بالندب ونلتزم بالبطلان للدليل ، وأما الجواب بأن البطلان في مثله للتشريع في النية فيدفعه أولا فرض موضوع الدليل في الأعم من ذلك عمدا ونسيانا ، وثانيا منع اقتضاء مثله البطلان ، ضرورة كون الزيادة المشرع بها خارج الصلاة ، بل ربما نوقش في أصل حرمته فضلا عن اقتضائه الفساد ، اللهم إلا أن يفرض أنه ركب عبادة خماسية مثلا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ١ و ٢ و ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٤.

٢٩٢

وجعلها هيئة مبتدعة ونوى التقرب بها لا أنه نوى القربة بالواقع وقارنه اعتقاد أن الواقع ذلك ، فإنه قد يحكم بالبطلان معه ، لكن موضوع الدليل أعم من ذلك نصا وفتوى ، والله أعلم بحقيقة الحال.

كل ذلك مع قصور ما ذكر دليلا للندب ، بل بعضه على المطلوب أدل كما ستعرف ، إذ هو الأصل الذي لا يجري في العبادة في وجه ، ومقطوع ببعض ما عرفت وصحيح ابن مسلم (١) عن الصادق عليه‌السلام « إذا استويت جالسا فقل : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم تنصرف » وهو ـ مع أنه مطلق يحكم عليه ما دل على وجوب التسليم كالصلاتين ـ ظاهر الجملة الخبرية فيه التكليف بالانصراف المشعر بعدم حصوله بمجرد الفراغ من القول المزبور ، وإلا لناسب التعبير بانصرفت ، فهو حينئذ إما التسليم أو غيره أو الأعم منهما ، والثاني معلوم البطلان كالثالث الذي ذهب إليه أبو حنيفة ، فيتعين الأول ، ويكون هو المراد حينئذ من الانصراف ، ويؤيده‌ صحيح الحلبي (٢) عن الصادق عليه‌السلام « فان قلت : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد انصرفت » وخبر أبي كهمس (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « عن السلام عليك أيها النبي انصراف هو فقال : لا ، ولكن إذا قلت : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فهو انصراف » وغيرهما ، فدلالتهما على الوجوب حينئذ أولى من الندب ، على أن ظاهر الصحيح (٤) المزبور السؤال عن تفسير لفظ المرتين الواقع في جوابه عليه‌السلام له عند سؤاله عن التشهد في الصلاة باعتبار إجماله ، خصوصا بعد ما روي (٥) من الاجتزاء بالشهادة بالتوحيد في الجملة ، بل هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ١.

٢٩٣

ظاهر في غير الشهادتين ، لانصراف اتحاد المكرر من لفظ المرتين ، فأجابه عليه‌السلام ببيان ذلك ولم يكن بصدد التسليم ، وإلا لسأله محمد بن مسلم عنه ، ضرورة أهميته من السؤال عن التحيات التي فهم عدم وجوبها من عبارة الإمام عليه‌السلام وأولويته من وجوه ، خصوصا بعد معروفية انحصار التحليل به ، بخلاف صحيح الحلبي وخبر أبي كهمس المزبورين وغيرهما من النصوص كصحيحة أبي بصير وموثقته (١) فإنها مساقة لبيان ما يحصل به الانصراف ويتحقق به الفراغ ، مع أنا قد أمرنا برد متشابه نصوصهم عليهم‌السلام إلى محكمها ، وبجعل بعضها مفسرا لبعض ، فإذا ورد في النصوص المستفيضة المعتبرة المقطوع بها أن التسليم في الجملة هو الذي يحصل به التحليل والانصراف والفراغ لا غيره وجب حمل مثل الخبر المزبور على ذلك ، لا أقل من أن يكون من انصراف المطلق إلى الفرد الشائع المتعارف.

ومن ذلك يعلم الحال في صحيحه الآخر وزرارة والفضيل المعبر عنه في لسان جماعة ممن ذكره دليلا للندب بصحيح الفضلاء (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « إذا فرغ الرجل من الشهادتين فقد مضت صلاته ، فان كان مستعجلا في أمر يخاف أن يفوته فسلم وانصرف أجزأ » ضرورة إرادة المعظم من مضي الصلاة بقرينة ترك الصلاتين ، وإشعار لفظ الاجزاء في أقل الواجب أو المهم من واجباتها وغيرها لا خصوص الواجبات ، بل لا يخفى على ذي رؤية من التفريع بالفاء وتعليق الجواب على مثل هذا الشرط إرادة غير التسليم من مضي الصلاة مما يتخيل وجوبه مما تعارف فعله في التشهد من التحيات والأدعية وغيرهما ، فهو حينئذ من أظهر أدلة الوجوب.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٨ والباب ٣ منها ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٥.

٢٩٤

بل وكذا منه يعلم الحال في‌ صحيح علي بن جعفر (١) المذكور دليلا للندب أيضا « عن الرجل يكون خلف الامام فيطيل الامام التشهد فيأخذ الرجل البول أو يتخوف على شي‌ء يفوت أو يعرض له وجع كيف يصنع؟ قال : يتشهد هو وينصرف ويدع الإمام » ضرورة جريان جميع ما سمعته أولا فيه ، مع أن‌ المروي عن الفقيه الذي هو أضبط من التهذيب قطعا « يسلم وينصرف ويدع الامام » كموضع آخر من التهذيب ، ولعله الحق لموافقته حينئذ لصحيحي زرارة (٢) والحلبي (٣) عن الصادق عليه‌السلام المسؤول فيهما عن مثل ذلك ، على أن السائل فرض تطويل الإمام في التشهد ، فالظاهر تحققه منه في الجملة ، فلا يناسب الأمر به حينئذ.

وأضعف من ذلك كله الاستدلال بقول الصادق عليه‌السلام في صحيح معاوية بن عمار (٤) : « إذا فرغت من طوافك فأت مقام إبراهيم فصل ركعتين واجعله أمامك ، واقرأ فيهما قل هو الله أحد وفي الثانية قل يا أيها الكافرون ، ثم تشهد واحمد الله وأثن عليه وصل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسأله أن يتقبل منك » متمما بعدم القول بالفصل ، ضرورة كون ترك ذكر التسليم فيه لمعلوميته ، أو لاندراجه أو خصوص الصيغة الأولى منه في التشهد المأمور به ، لا لأنه مستحب ، وإلا فالرواية قد اشتملت على كثير من المندوبات التي هي أهون من التسليم الذي تظافرت الأفعال والأقوال به في الفرائض والنوافل ، ونحو ذلك‌ خبر زرارة (٥) المذكور دليلا آخر للندب في الشك بين الاثنين والأربع « انه يصلي ركعتين ويتشهد ولا شي‌ء عليه » مع أنه جار على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧١ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٣ من كتاب الحج.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٣.

٢٩٥

مذهب العامة من البناء على الأقل ، فلعله ترك فيه التسليم لذلك أيضا ، ولو أغضي عن ذلك كله فأقصاهما عدم الذكر الذي لا ينافي تلك الأدلة ، فلا يدلان حينئذ على الندب‌ كموثق يونس بن يعقوب (١) الذي قال فيه لأبي الحسن عليه‌السلام : « صليت بقوم فقعدت للتشهد ثم قمت فنسيت أن أسلم عليهم فقال عليه‌السلام : ألم تسلم وأنت جالس؟ قال : بلى قال : لا بأس عليك » ضرورة ظهوره في كون الفرض أنه بعد أن أتم صلاته سلم ولم يلتفت إلى القوم بوجهه ، ولذا قال له : « ألم تسلم وأنت جالس » يعنى ألم تأت بالصيغة الواجبة ، بل في سؤاله واستفهام الامام عليه‌السلام إشعار بمعلومية دخول التسليم في التشهد ، ولعل المراد حينئذ الصيغة الأولى لأنها هي المعروفة بذلك كما لا يخفى على من لاحظ النصوص.

وأما الاستدلال بأنه لو وجب التسليم لبطلت الصلاة بتخلل المنافي بينه وبين التشهد ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، أما الملازمة فإجماعية ، وأما بطلان اللازم فل‌ صحيح زرارة (٢) عن الباقر عليه‌السلام « سأله عن الرجل يصلي ثم يجلس فيحدث قبل أن يسلم قال : تمت صلاته ، وإن كان مع إمام فوجد في بطنه أذى فسلم في نفسه وقام فقد تمت صلاته » وقول الصادق عليه‌السلام في حسن الحلبي (٣) : « إذا التفت في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشا ، وإن كنت قد تشهدت فلا تعد » وموثق غالب بن عثمان (٤) سأله « عن الرجل يصلي المكتوبة فيقضي صلاته ويتشهد ثم ينام قبل أن يسلم قال : تمت صلاته ، وإن كان رعافا فاغسله ثم ارجع فسلم » وصحيح زرارة (٥) عن أبي جعفر عليه‌السلام « في الرجل يحدث بعد أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ١.

٢٩٦

يرفع رأسه في السجدة الأخيرة وقبل أن يتشهد قال : « ينصرف فيتوضأ ، فإن شاء رجع إلى المسجد وإن شاء ففي بيته وإن شاء حيث شاء قعد فيتشهد ثم سلم ، وإن كان الحدث بعد الشهادتين فقد مضت صلاته » وخبر ابن الجهم (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام « عن رجل صلى الظهر والعصر فأحدث حين جلس في الرابعة فقال : إن كان قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يعد ، وإن كان لم يتشهد قبل أن يحدث فليعد ».

فالجواب عنه ـ بعد الإغضاء عما في سند الأول منها والأخير ، وعن دلالة ذيل بعضها على الوجوب ، وعن مخالفة ظاهر بعضها الإجماع ، وعن موافقتها لأبي حنيفة في الخروج بالحدث وعدم قدحه في الصلاة مع التخلل كالنصوص (٢) الكثيرة الدالة على تمام الصلاة ومضيها مع الحدث قبل التشهد المحمولة على التقية أو غيرها من التأويلات الآتية في محلها ، لمعارضتها بالأرجح منها ، وعن ترك الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعضها المسلم عند الخصم وجوبها ، فيجزي حينئذ بعض ما سمعته في النصوص السابقة ـ إما بأنها لا تدل على الندب بإحدى الدلالات الثلاث ، ضرورة أعمية تمام الصلاة ومضيها وعدم إعادتها من الندب ، إذ احتمال كونه واجبا خارجيا لا تبطل الصلاة بتخلل المنافي بينه وبين التشهد فضلا عن وجود القائل به وأنه اختاره غير واحد من متأخري المتأخرين كاف في سقوط دلالتها على ذلك ، بل مجرد احتمال عدم ابتناء ذلك فيها على الندب وإن كنا لم نعينه ماذا كاف أيضا ، فنفيه : أي احتمال الخروج بالإجماع المتبين خلافه خصوصا بعد قول المرتضى : إني لم أر نصا لأصحابنا على الجزئية لا يفيدها دلالة على الندب ، لما عرفت من عدم انحصار الإرادة فيها بذلك والندب ، كي يكون نفي الأول معينا للثاني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب التشهد.

٢٩٧

بل يشبه ذلك في أمثال الدلالات السبر والتقسيم عند العامة ، فتأمل ، فالمتجه حينئذ على القول بالوجوب والدخول والبطلان بالتخلل طرحها أو تأويلها بما لا ينافي ذلك كما صنع في النصوص (١) الدالة على الصحة وتمامية الصلاة مع الحدث قبل التشهد لا أنها تكون دالة على الندب ، وكيف والمتجه في الجمع بين النصوص أن يؤلفها الفقيه بمنزلة الكلام الواحد ، فان انساق إلى الذهن من اجتماعها معنى عرفي أخذ به كما في الجمع بين العام والخاص والمطلق والمقيد وغيرهما من الجموع التي ينتقل إليها من تأليف الكلام ، لا أن مجرد الاحتمال يكون دلالة بعد معلومية بطلان قاعدة إطلاق أولوية الجمع من الطرح ، ولا ريب في عدم الانتقال إلى الندب من قولنا : التسليم واجب ، وآخر الصلاة ، ويبطل الصلاة كل حدث يتخلل بينها ، ولو تخلل حدث بين التشهد والتسليم لا يبطل وقد تمت الصلاة ، بل تحصل المعارضة بين الآخرية وعدمها ، أو البطلان بالتخلل وعدمه ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، وتتميم الدلالة ببعض الإجماعات المدعاة في المقام المعلومة الانتفاء ، أو إرادة غير الحجة منها كما وقع من بعض المتفقهة كما ترى ، ويشبه السبر والتقسيم عند العامة.

وإما بأن المراد بالتشهد فيها ما يشمل الصيغة الأولى المتعارف بين الخاصة والعامة فعلها في التشهد الأخير ، وأنها داخلة في اسم التشهد أو توابعه كتعارف اختصاص اسم التسليم بالثانية ، ولذا تكثرت النصوص (٢) ببيان تسبيبها للانصراف والتحليل ، قال في الذكرى : « إن الشيخ في جميع كتبه جعل التسليم الذي هو خبر التحليل هو السلام عليكم ، وأن السلام علينا قاطع للصلاة وليس تسليما » وقال فيها أيضا والمدارك : ما حاصله المعروف بين الخاصة والعامة كون الصيغة الثانية من التسليم ، يعلم ذلك من تتبع الأحاديث‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب التشهد.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ١ و ٨ و ١٠.

٢٩٨

والتصانيف حيث يذكر فيها ألفاظ السلام المستحبة ثم يقال ويسلم ، قلت : ويؤيده تصفح النصوص وكتب الأساطين من قدماء الأصحاب المشرف للفقيه على القطع باندراج الصيغة الأولى في التشهد ، واختصاص اسم التسليم بالصيغة الثانية ، فينصرف حينئذ إطلاق هذه النصوص إلى ما تعارف فعله في التشهد الذي يطال فيه عادة ، كما يومي اليه الأمر بالتورك (١) ونحوه معللا له بالصبر للتشهد والدعاء ، والنصوص (٢) السابقة في الرجل خلف الامام فيطيل التشهد وغيرها مما يظهر منه تعارف ذلك في الأزمنة السابقة بل في زماننا هذا أيضا بالنظر إلى التسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصيغة الأولى ، ويزيده تأييدا ما سمعته من موثق يونس (٣) المتقدم سابقا ، بل النصوص (٤) الدالة على حصول الانصراف بالصيغة الأولى أيضا ، فإنها ظاهرة في المفروغية من إتيان المكلف بها ، فحينئذ يراد بالتسليم فيها الصيغة الثانية ، ويتجه حينئذ الحكم فيها بتمامية الصلاة ومضيها وعدم إعادتها لما ستعرفه من انقطاع الصلاة بالصيغة الأولى عندنا ، ولقد أجاد العلامة الطباطبائي في قوله مشيرا إلى ما ذكرنا :

واسم السلام في الأخير أشيع

وغيره تشهد أو تبع

فما نفي البطلان بالمنافي

من بعده فذاك لا ينافي

بل الظاهر إرادة ما ذكرنا أيضا في جميع النصوص السابقة حتى صحيح زرارة (٥) وخبر ابن الجهم (٦) المذكور فيهما لفظ الشهادتين المراد منهما الكاملتان مع توابعهما :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٤ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢ و ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التسليم ـ الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب التسليم.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٦.

٢٩٩

أي التشهد ، ولذا لم يذكر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهما ، وعلق الحكم قبلهما أو بعدهما على التشهد.

وإما بأن المراد منها صورة النسيان خاصة ، ضرورة استبعاد العمد إلى ذلك بناء على عدم بطلان الصلاة مع نسيانه كما في المسالك في أحكام الخلل وإن لم يذكره إلا بعد تخلل ما يبطل الصلاة عمدا وسهوا تمسكا بهذه النصوص ، وبالقاعدة المعلومة عندهم من أن نسيان غير الركن لا يبطل الصلاة مع الشك في شمول ما دل (١) على إبطال الحدث المتخلل لمثل ذلك ، ودعوى أن البطلان هنا ليس لنسيانه بل لصدق الحدث في الأثناء حال عدم فعله لانحصار التحليل فيه يدفعها استبعاد ملاحظة الشارع هذه الحيثيات ، ضرورة أنه بعد كون البطلان من لوازم تركه لا يناسب إطلاقه اغتفار السهو فيه ، وتخصيص الإعادة بغيره من الأركان نحو‌ قوله (ع) (٢) : « لا تعاد الصلاة » ونحوه ، إذ لا ريب في صدق الإعادة ولو بالتسبيب ، على أنه يمكن بملاحظة هذه النصوص دعوى حصول التحليل والفراغ والانصراف بغيره في هذا الحال ، كما أنه فارقته صفة التحليل لو زيد سهوا في الصلاة ، وهو مناف لمقتضى حصره في التحليل ، كما أن الأول مناف لحصر التحليل فيه ، بل قد يقال بعدم صدق الحدث في الأثناء ، ضرورة تمامية الصلاة السهوية ، لأن الفرض سقوط اعتباره حال السهو ، فيكون حينئذ كالقراءة المنسية التي ورد التعبير بتمام الصلاة أيضا مع نسيانها ، ولا ينافي ذلك التفصيل بين الحدث قبل التشهد وعدمه في بعض تلك النصوص (٣) إذ قد يفرق بينهما باشتراط بقاء الطهارة في قضاء التشهد المنسي لمعاملته معاملة الجزء الصلاتي ، نعم يتجه ذلك لو لم نقل به وقلنا بكونه عبادة مستقلة ، فيختص الجواب المزبور حينئذ بصحيح زرارة (٤) ونحوه ، ومن الغريب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ١.

٣٠٠