جواهر الكلام - ج ١٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

المكتنفان بموضع السجود من الجبهة كما سمعته سابقا في تفسيرها ، فالضمير حينئذ راجع إلى موضع السجود لا أن المراد أحد جانبي الدمل من الجبهة كما في الكشف حتى يكون الجبين متروك الذكر فيها فإنه ـ بعد أن حكى عن الذكرى بعد عبارة المبسوط أن ذلك تصريح بعدم وجوب الحفر ـ قال : « والأمر كذلك إذا أمكن السجود بدونه على بعض الجبهة كما فرضناه ، لأنهما أي الشيخ وابن سعيد انما أمرا بالسجود على جانبيه أي جانبي الدمل من الجبهة فكأنهما قالا : يسجد على أحد جانبي الدمل من الجبهة إن أمكن بالحفر أو بغيره ، وإلا سجد على الذقن من غير تجويز للجبين » وأنت خبير بعدم معروفية التعبير بهذه العبارة عن مثل ذلك وقصورها عن أدائه وظهورها في امتناع السجود على موضع السجود للدمل لا على بعضه ، على أنه لا فائدة بذكره بعد أن قدم الاجتزاء بوقوع شي‌ء منه على الأرض ، كما أنه لا فائدة بذكر جواز الحفيرة حينئذ مع فرض التمكن من السجود على أحد جانبي الدمل.

نعم قد يتوهم خلافه في الحفيرة ، ولما كان الخلاف فيها في غاية الضعف لا يناسب وقوعه من أصاغر الطلبة فضلا عن شيخ الطائفة وجب حمل عبارته إما على إرادة الوجوب من الجواز إذا فرض توقف وقوع السليم عليه ، أو إرادة بيان جواز ذلك اختيارا مع فرض عدم التوقف ، أو إرادة بيان حكم جديد وهو التخيير في صورة تعذر الجبهة والجبينين بالاستيعاب ونحوه بين وضع الذقن وبين حفر حفيرة يضع فيها الدمل وإن لم يماس شيئا من الأرض تحصيلا لهيئة السجود ولتمام الانحناء ولأن أصل الوضع واجب في السجود وقد تعذر فلا يسقط غيره ، فللجمع بين ذلك وبين الخبر خير بين وضع الذقن وبينه ، بل لو لا الخبر المزبور كان هو المتجه بحسب القواعد ، ولعله لذا أوجب تقديمه ابن حمزة على الذقن ، قال كما في الذكرى : « يسجد على أحد جانبيها ، فان لم يتمكن فالحفيرة ، فان لم يتمكن فعلى ذقنه » بناء على إرادة الجبينين من جانبيها‌

٢٠١

أي الجبهة ، فما في الكشف بعد أن اعترف أن الظاهر جانبا الجبهة من أنه لما قدم السجود عليهما على الحفيرة لم يكن بد من أن يريد الجانبين منها لا الجبينين كما ترى ، إذ لا جهة حينئذ لتقديمهما عليها ضرورة جوازها وإن تمكن من السجود عليها (١) بدونها كما أنه لا معنى لإرادة الجانبين من الجبهة ، وجانب الشي‌ء ما خرج عنه لكنه في جنبه كما هو واضح ، فمن الغريب تجشم هذا الفاضل بمثل هذه الخرافات ، والذي ألجأه إلى ذلك وحشة التفرد فيما اختاره من عدم بدلية الجبينين أصلا التي هي من القطعيات بين الأصحاب ، ولم يذكر أحد منهم فيها شكا ولا إشكالا حتى من عادته الوسوسة في القطعيات ، وأما الصدوقان فقد قالا في الرسالة والمقنع : « إن ذا الدمل يحفر له حفيرة وإن من بجبهته ما يمنعه سجد على قرنه الأيمن من جبهته ، فان عجز فعلى قرنه الأيسر منها ، فان عجز فعلى ظهر كفه ، فان عجز فعلى ذقنه » ونحوهما المحكي عن فقه الرضا عليه‌السلام (٢) فالظاهر إرادتهما الجبينين من القرنين بدليل تقييدهما ذلك بالجبهة ، فيكون المراد بالقرن الطرف والناحية ، كما في‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : « قرني شيطان » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) : « يا علي إن لك بيتا في الجنة وأنت ذو قرنيها » ونحوهما من الاستعمالات السائغة بعد القرنية ».

نعم قد يظن منهما في بادئ النظر الفرق بين الدمل وغيره ، مع أنه بعد التأمل ـ خصوصا في المحكي من فقه الرضا عليه‌السلام الذي يوافقهما في التعبير غالبا ، بل الظاهر أنه لهما ـ ليس كذلك ، وذكرهما خصوص الحفر في الدمل لذكره بالخصوص في النصوص ، وهما من أهل الجمود عليها غالبا في التعبير ، فلاحظ وتأمل ، فصح حينئذ‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصواب « عليهما » أى على الجانبين من الجبهة بدون الحفيرة.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب المواقيت.

(٤) سفينة البحار ج ٢ ص ٤٢٧.

٢٠٢

نفي الخلاف عن ذلك كدعوى الإجماع ممن عرفت ، كما أنه صح عدم نقل الخلاف في مسألة الحفيرة أيضا مع أن هذه العبارات بمرأى منهم ، فمن العجيب ظنه في الرياض تبعا للذكرى والأستاذ الأكبر الخلاف منهما في مسألة الحفيرة ، بل صح حينئذ دعوى إمكان تحصيل الإجماع في المقامين ، خصوصا بعد عدم ظهور خبر عولوا عليه في الثاني منهما أو إمارة ركنوا إليها ، وما ذاك إلا لأن الحكم قد استغنى بمعلوميته عن حفظ ما جاء به من الأخبار ككثير من المسائل الإجماعية التي لم يظهر لها مستند يعول عليه ، وانما يذكر لها بعض الاعتبارات التي يعلم من حال من يذكرها عدم الاعتماد على ذلك ، كاستدلال المصنف في المقام بأن الجبينين مع الجبهة كالعضو الواحد ، فقام كل منها مقامها ولأن السجود على أحد الجبينين أشبه بالسجود على الجبهة من الإيماء ، والإيماء سجود مع تعذر الجبهة ، فالجبين أولى ، ونحوه الفاضل ، فيظن من يقف على ذلك أن هذا هو المدرك في الحكم المزبور ، وكيف والمصنف قد صرح بعد ذلك بأنه محض اعتبار ، بل المدرك معلومية الحكم وبداهته ، وكثيرا ما يقع في الفقه من هذا القبيل ، فيشدد النكير عليهم من لا درية له ، وقد خالطه حب الإنكار والتشنيع على مثل هؤلاء الأساطين كي يعد في سلكهم ، وأنه ممن ينازلهم في ميدانهم ، وأنه ممن يأتي بالأشياء التي قد خفيت عليهم ، أجارنا الله من ذلك كله ، وإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، ومكر الشيطان وإن ضعف لكنه قد يدق.

على أنه قد يستدل للمطلوب بما دل على السجود على الجبهة بناء على شمولها للجبينين كما أوضحناه في باب التيمم ، وأن التقييد بموضع خاص منها للإجماع أو غيره في حال الاختيار ، فيبقى حال الاضطرار على الإطلاق ، أو بما دل على الاجتزاء في السجود بما بين قصاص الشعر إلى الحاجبين من خبر زرارة (١) وغيره من الأخبار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٥.

٢٠٣

المتقدمة سابقا في الجبهة بتقريب أن تقييدها بالموضع الخاص بالإجماع وغيره حال الاختيار ولهذا نظائر كثيرة في الفقه مضى بعضها في الوضوء والتيمم ويأتي آخر مؤيدا ذلك كله بصدق اسم السجود لغة وشرعا بذلك.

وقد يستدل أيضا بخبر مصادف المتقدم سابقا بتقريب أن مصادف (١) مع أنه مولى الكاظم والصادق عليهما‌السلام ومن المستبعد استمراره مدة كما يومي اليه قوله : وكنت على السجود منحرفا عن الجبهة أي الجبينين برأيه ومن قبل نفسه ، على أنه لما سأله الإمام عليه‌السلام عن ذلك أجابه بأني غير مستطيع للسجود بالمحل ، ومعناه أن كل غير مستطيع هكذا حكمه ، ولم ينكر عليه الامام عليه‌السلام استدلاله وانما دله على طريق للاستطاعة لم يكن مصادف متنبها له ، فيؤول إلى تقرير الامام عليه‌السلام إياه مع فرض عدم الطريق كما في المقام ، ويؤيده أنه عليه‌السلام لم يأمره باستقبال ما مضى من صلاته ، والمشهور عدم معذورية الجاهل بالحكم وإن وافق فضلا عن المخالفة إذ على ما قلناه يكون عدم أمره عليه‌السلام بالإعادة لعدم الجهل بالحكم ، وانما كان قد زعم حصول شرط السجود على الجبينين بعدم استطاعة الجبهة لعدم تفطنه للحفيرة لا لعدم وجوبها عنده ، ومثله قد يقال بعدم وجوب الإعادة عليه فضلا عن القضاء لقاعدة الاجزاء ، كمن زعم عجزه عن الماء فتيمم فصلى ثم بان أن الماء قريب منه ، فتأمل جيدا.

وقد يستدل أيضا‌ بالموثق المروي في تفسير علي بن إبراهيم (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « رجل بين عينيه قرحة لا يستطيع أن يسجد عليها قال : يسجد ما بين طرف شعره ، فان لم يقدر فعلى حاجبه الأيمن ، فان لم يقدر فعلى حاجبه الأيسر ، فإن‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية والصواب أن لفظ « مع أنه » زائد إذ ليس في العبارة ما يكون قابلا لأن يقع خبرا لقوله : « ان ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٣.

٢٠٤

لم يقدر فعلى ذقنه ، قلت : وعلى ذقنه قال : نعم ، أما تقرأ كتاب الله ( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) (١) » بل قال : وروي أيضا عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام لا لأن المراد من الحاجب الجبين ، إذ هو من المجازات التي يمكن دعوى استقباحها ، بل يبعده أيضا أنه لا قرب فيه للجبهة (٢) مكانا ولا معنى ولا تعارفا فلا يحسن الانتقال منها اليه بل لأن المراد مما بين طرف شعره الجبينان لا من الجبهة ، إذ لا يناسب لإسحاق بن عمار السؤال عن مثل ذلك ، ضرورة أنه مع التمكن من السجود عليها يجب ، وخروج القرحة بنفسه غير مسقط ، وبذلك حينئذ يحسن الجواب بالحاجب لفرض تعذر الجبينين أجمع إلا أنه لما أعرض الأصحاب عن هذه المرتبة وجب طرحه بالنسبة إلى ذلك أو حمله على ما إذا تمكن بذلك للسجود على شي‌ء من الجبينين ولو المتصل بالحاجبين ، فتأمل جيدا ، إلى غير ذلك من الرضوي (٣) بناء على أنه رواية ، ونحوه مما ينجبر قصوره لو سلم بما عرفت ، بل لا يحتاج اليه بناء على حجية مطلق الظنون أو وجوب الاحتياط في العبادة ، فمن العجيب ميل الفاضل الأصبهاني إلى عدم بدليتهما أصلا عنها ، مع أنه من القائلين بوجوب الاحتياط كما يومي اليه تصفح كتابه المزبور ، قال بعد حكاية ما سمعته من المعتبر : وضعف الوجهين ظاهر مع انحراف الوجه بوضعهما عن القبلة وخلوها (٤) عن نص وإجماع ، ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما تقدم مما لا ينافيه‌

__________________

(١) سورة الإسراء ـ الآية ١٠٨.

(٢) هكذا في النسخة الأصلية ولكن حق العبارة هكذا « لا قرب فيه للجبين مكانا ولا معنى ولا تعارفا فلا يحسن الانتقال منه إليه ، لأن المدعى عدم إرادة الجبين من الحاجب فلا ربط لعدم قرب الحاجب من الجبهة بذلك مع أن قربه منها متحقق بالوجدان.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٤) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصحيح « خلوهما » أى خلو الجبينين عن نص وإجماع محصل إذ لا عبرة بمحكيه.

٢٠٥

ما رواه في‌ الكافي عن علي بن محمد (١) بإسناده سئل أبو عبد الله عليه‌السلام « عمن بجبهته علة لا يقدر على السجود عليها قال : يضع ذقنه على الأرض ان الله تعالى يقول : ( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) » ضرورة إرادة ما يعم الجبينين من الجبهة ولو لما سمعته.

وكيف كان فلا ترتيب بين الجبينين للأصل وعدم اقتضاء شي‌ء مما ذكرناه ذلك خصوصا بعد عدم إرادة الجبينين من الحاجب في الموثق المزبور (٢) فليس حينئذ إلا الرضوي المعبر فيه بالقرن كالصدوقين ، وهو ليس حجة عندنا ، بل مقتضى إطلاق الموثق المزبور بناء على ما ذكرناه فيه كنصوص الجبهة (٣) أو تحديد محل السجود عدم ذلك ، ولعله إلى ذلك أشار في الذخيرة بالاستدلال بإطلاق الخبر ، فما عن الصدوقين من الترتيب في غاية الضعف وإن مال اليه بعض متأخري المتأخرين ممن لا يبالي بإعراض الأصحاب مع قوله بحجية الرضوي وتفسيره الموثق بإرادة الجبين من الحاجب.

وعلى كل حال فان كان هناك مانع عن السجود على شي‌ء من الجبينين سجد على ذقنه بلا خلاف معتد به أجده فيه ، بل لا يبعد كونه إجماعيا كما في مجمع البرهان لخبر محمد بن علي السابق المنجبر بالشهرة العظيمة ، بل في المعتبر أن عليه العمل كما أن في المدارك الإجماع على مضمونه ، وللموثق السابق أيضا ، بل هما معا كشفا عن دلالة الآية (٤) أيضا على ذلك وإن كان لولاهما لأمكن المناقشة في استفادة هذا المعنى منها ، ضرورة إرادة الوجوه من الأذقان كما في تفسير القمي ، لأنها أول ما تباشر الأرض ، أو الخر للأذقان سجدا على الوجوه ، لأنه من المعلوم إرادة المدح بذلك لمن أوتي العلم من المؤمنين ، وسجودهم كان على الوجوه لعدم الاضطرار كما هو واضح ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ و ٩ ـ وغيرهما من أبواب السجود.

(٤) سورة الإسراء ـ الآية ١٠٨.

٢٠٦

ويمكن أن يكون صدر ذلك من الامام تقريبا ، لكن على كل حال لا ينبغي التأمل في الحكم المزبور ، وتقديم ظاهر الكف عليه كما في عبارة الصدوقين لا يبعد أن يكون اشتباها من النساخ ، ضرورة كون البحث الآن في تعذر وضع ما يسجد به لا ما يسجد عليه ، بل المراد من حيث الوضع لعلة في محل السجود لا بسبب تعذر ما يسجد عليه من عدم الأرض أو حصول مانع فيها أو غير ذلك ، إذ تلك مسألة أخرى بحث الأصحاب عنها في غير المقام ، كما أنهم بحثوا عن تعذر السجود بسبب عدم التمكن من تمام الانحناء ونحوه ، ولقد أجاد في جامع المقاصد بعد ذكره ذلك على الصدوق قال : إنه لا يكاد يظهر له معنى محصل ، وتبعه عليه غيره ، وأما العبارات الأربعة السابقة فلا خلاف فيها بناء على ما فهمه كشف اللثام ، وبناء على ما ذكرناه يثبت فرد آخر للتخيير في هذه المرتبة أو على التعيين ، لكن الخبر المزبور حجة عليهم أيضا ، كما أنه حجة على ما حكاه في كشف اللثام عن بعض القيود (١) من تقديم الأنف على الذقن وقد عرفت انجبار ضعف سنده بالإجماع والاعتضاد ، والمناقشة في الحدائق في الأول بأنه كيف يكون إجماعا وهو قد يدل على الانتقال من أول الأمر إلى السجود على الذقن ، والأصحاب قائلون بالحفيرة أولا ، ثم مع تعذرها فالجبينان ، ثم مع تعذرهما فالذقن فهو مرتبة ثالثة حتى ألجأه ذلك إلى إساءة الأدب كما ترى ، ضرورة دخول الحفيرة في أصل السجود على الجبهة ، وليست بدلا ، وإرادة ما يشمل الجبينين من الجبهة ولو للأدلة السابقة ، وما كنا نأمل منه وقوع هذا الشتم بسبب هذه الأمور الجزئية عفا الله عنا وعنه.

والمراد بالذقن مجمع اللحيين ، والظاهر أنه اسم للبشرة ، ولذا أوجب كشفه ليصيب شي‌ء منه المسجد مع التمكن ثاني الشهيدين وغيره ممن تأخر عنه ، ورده في المدارك‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولعل الصواب « عن بعض القوم ».

٢٠٧

بالإطلاق ، وفيه أن إطلاق الحال غير حجة ، ولا إطلاق في اللفظ بعد فرض وضعه للبشرة كالأنف والجبهة وغيرهما ، اللهم إلا أن يدعى صدق اسم السجود على الذقن عرفا ولو مع الحاجب المزبور بخلاف غيره من الحواجب الاختيارية ، وفيه بحث ، ولعل الأولى الاستدلال بقوله عليه‌السلام (١) : « كل ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا أن يبحثوا عنه » بناء على عدم إرادة خصوص الوضوء وإن تضمنت حكمه بعد ذلك ، بل على إبدال حرف الاستعلاء باللام كما هو إحدى النسختين أو الروايتين يشكل الاجتزاء بالبشرة أيضا ، لصيرورة الشعر بدلا شرعيا حينئذ.

وكيف كان فان تعذر ذلك كله فقد صرح غير واحد بالاقتصار على الإيماء ، ومرادهم به على الظاهر ما يشمل الانحناء الممكن كما صرح به العلامة الطباطبائي قال :

ثم إلى الجبين ثم الذقن

فلينتقل بالانحناء الممكن

ووجهه قد عرفته سابقا ، بل لا يبعد حفر الحفيرة مع فرض نقصان انحنائه بما يزيد على اللبنة لذلك أيضا ، بل إن أمكنه استقرار رأسه على حواشيها وإن لم يماس شي‌ء من جبهته أو جبينه شيئا حافظ عليه ، ثم يترتب الانحناء إلى أن يصل إلى حد الإيماء ، ولذا قال العلامة الطباطبائي :

ومن وراء ذلك الإيماء

وليس من ورائه وراء

لكن ينبغي عدم ترك السجود على الأنف أو الحاجب مع فرض تمكنه لما عرفت ، هذا ، وفي المدارك وكشف الأستاذ هنا أنه يرفع ما يسجد عليه ، وفيه أن محل البحث تعذر الملاقاة ، وليس هو من المسألة السابقة ، اللهم إلا أن يوجبا التقريب اليه ولو برفعه اليه ، وفيه بحث.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء ـ الحديث ٣.

٢٠٨

هذا كله في مانع الجبهة ، أما غيرها من المساجد فلا ريب في وجوب الحفيرة ونحوها مما يفرض توقف حصول مسماها عليه ، لقاعدة المقدمة ، فان لم يتمكن صرح بعضهم كالعلامة الطباطبائي وغيره بالانتقال للأقرب فالأقرب ، وكأن وجهه العمل بإطلاق اليدين والرجلين مع فرض تنزيل التقييد بالبعض الخاص منها على صورة الاختيار كما أشرنا إليه سابقا غير مرة ، بل أشرنا أيضا إلى أنه لا يسقط السجود على الستة الباقية بمجرد تعذر وضع الجبهة مع فرض التمكن من التقوس ، للأصل وإطلاق الأدلة وعدم سقوط الميسور ، ولو فرض تعذرها حتى الأقرب فالأقرب اتجه السقوط ، للأصل ، لكن في المنظومة تبعا للمنتهى وجوب التقريب للمحل ، قال :

والعذر إن كان بغيرها انتقل

لأقرب فأقرب مما اتصل

ثم إلى التقريب للمحل

وليس فيما بعده من نقل

وهو لا يخلو من بحث إن أراد ما ذكرنا ، كما أنه لا يخلو من نظر أو منع ما أوجبه بعضهم من المحافظة على الست وإن انتهى الأمر إلى الإيماء بالرأس أو بالعين لما سمعته سابقا من ظهور الأدلة في بدلية الإيماء المزبور عن تمام السجود ، ولعله إلى هذا أشار العلامة الطباطبائي بقوله :

وتسقط الستة كلما انتهى

في الجبهة النقل بها للمنتهى

ولو تعذر الإيماء بالرأس والعينين ففي قيام غيرهما من الأعضاء وجه جزم به الأستاذ في كشفه ، وظاهر الأصحاب خلافه ، ولو فرض تعذر الجميع اكتفى بالإخطار وجريان الأقوال على لسانه كما ذكرناه في بحث القيام ، لعدم سقوط الصلاة بحال والاقتصار على الميسور ، لكن في كشف اللثام هنا احتمال سقوط الصلاة ، وجعل الاخطار أحوط ، ولا ريب في ضعفه كما هو واضح.

ولو زال الألم بعد إكمال الذكر ففي المسالك أجزأ وقبله يستدرك ، وفيه أن قاعدة‌

٢٠٩

الإجزاء تقتضي خلاف ذلك خصوصا في بعض أفراد العذر ، والمتجه عليها إتمامه بعد الانتقال إلى ما تمكن منه ، فتأمل ، والله أعلم.

المسألة الثانية سجدات القرآن عندنا خمس عشرة ، أربع منها واجبة إجماعا محصلا ومنقولا ونصوصا (١) وهي سجدة ألم تنزيل المتصلة بسورة لقمان عند قوله تعالى (٢) ( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) كما في التذكرة والدعائم وحم السجدة عند قوله تعالى (٣) ( إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) على الأصح كما ستعرف والنجم عند قوله تعالى (٤) ( وَاعْبُدُوا ) كما في الكتابين المزبورين وغيرهما واقرأ باسم ربك عند قوله تعالى (٥) ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) وإحدى عشر مسنونة بلا خلاف أجده بيننا ، بل في ظاهر التذكرة وعن صريح الخلاف الإجماع عليه ، بل في الثاني أن عليه إجماع الأمة إلا في موضعين « ص » والسجدة الثانية في الحج ، قلت : أما « ص » فعند الشافعي أنها سجدة شكر ليست من سجود التلاوة ، وبه قال أحمد في إحدى الروايتين وقال أبو حنيفة ومالك وأبو ثور وإسحاق وأحمد في الرواية الأخرى : إنها من عزائم السجود ، والحق خلافهما معا ، وأما السجدة الثانية في الحج فعن أبي حنيفة ومالك أنها ليست سجدة ، لأنه جمع فيها بين الركوع والسجود ، فقال تعالى (٦) ( ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ) كقوله تعالى لمريم (ع) (٧) ( وَاسْجُدِي وَارْكَعِي ) مع أن المحكي عن علي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ١ و ٧ و ٩.

(٢) سورة السجدة ـ الآية ١٥.

(٣) سورة فصلت ـ الآية ٣٧.

(٤) سورة النجم ـ الآية ٦٢.

(٥) سورة العلق ـ الآية ١٩.

(٦) سورة الحج ـ الآية ٧٦.

(٧) سورة آل عمران ـ الآية ٣٨.

٢١٠

عليه‌السلام وعمر وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري وابن عمر سجودها بل عن أبي إسحاق اني أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين ، وهذا إجماع كما في التذكرة ، وعلى كل حال فإجماع الفرقة الناجية معلوم على خلاف ذلك ، وأنها مسنونة في الإحدى عشر وهي كما في التذكرة ودعائم الإسلام الأعراف عند قوله تعالى (١) ( وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) والرعد عند قوله تعالى (٢) : ( وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) والنحل (٣) و ( يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) وبني إسرائيل (٤) ( وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) ومريم (٥) ( خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ) والحج في موضعين (٦) ( يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) (٧) ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) والفرقان (٨) ( وَزادَهُمْ نُفُوراً ) والنمل (٩) ( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) وص (١٠) ( وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ) كما في الدعائم خاصة وإذا السماء انشقت (١١) ( وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ ) إلى آخره. ولا يقدح في ذلك خلو ما وصل إلينا من النصوص عن التعرض لتفصيل عدد المندوبات منها كما اعترف به في المدارك أيضا ، قال : إني لم أقف على نص معتد به على استحباب السجود في الإحدى عشر وإن كان مقطوعا به في كلام الأصحاب مدعى عليه الإجماع‌

__________________

(١) سورة الأعراف ـ الآية ٢٠٥.

(٢) سورة الرعد ـ الآية ١٦.

(٣) سورة النحل ـ الآية ٥٢.

(٤) سورة الإسراء ـ الآية ١٠٩.

(٥) سورة مريم ـ الآية ٥٩.

(٦) سورة الحج ـ الآية ١٩.

(٧) سورة الحج ـ الآية ٧٦.

(٨) سورة الفرقان ـ الآية ٦١.

(٩) سورة النمل ـ الآية ٢٦.

(١٠) سورة ص ـ الآية ٢٣.

(١١) سورة الانشقاق ـ الآية ٢١.

٢١١

إذ الظاهر أن هذا من المواضع المستغنية بالوصول إلى مرتبة القطع والمعلومية ، لتكررها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام والصحابة والتابعين وتابعي التابعين عن النصوص بالخصوص كغيرها من الأحكام التي هي كذلك ، على أن أصل الاستحباب في غير الأربع ثابت في النصوص وإن لم يذكر فيها تفصيل ذلك ، ففي خبر أبي بصير (١) منها قال : « إذا قرئ شي‌ء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد وإن كنت على غير وضوء وإن كنت جنبا وإن كانت المرأة لا تصلي ، وسائر القرآن أنت فيه بالخيار إن شئت سجدت وإن شئت لم تسجد » ضرورة عدم إرادة الإباحة الخاصة من ذلك ، وفي‌ خبر عبد الله بن سنان (٢) عن الصادق عليه‌السلام المروي عن مجمع البيان « العزائم الم تنزيل وحم السجدة والنجم إذا هوى واقرأ باسم ربك ، وما عداها في جميع القرآن مسنون » وفي‌ المروي عن مستطرفات السرائر نقلا من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر عن العلاء عن محمد بن مسلم (٣) قال : « سألته عن الرجل يقرأ بالسورة فيها السجدة فنسي ويركع ويسجد سجدتين ثم تذكر بعد قال : يسجد إذا كانت من العزائم الأربع : الم تنزيل وحم السجدة والنجم واقرأ باسم ربك ، وكان علي بن الحسين عليهما‌السلام يعجبه أن يسجد في كل سورة فيها سجدة » وفي‌ المروي عن العلل بسنده عن جابر (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام « إن أبي عليه‌السلام ما ذكر لله نعمة عليه إلا سجد ، ولا قرأ آية من كتاب الله عز وجل فيها سجدة إلا سجد ـ إلى أن قال ـ : فسمي السجاد لذلك » بل يدل عليه أيضا ظاهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب سجدتي الشكر ـ الحديث ٨ والباب ٤٤ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ١.

٢١٢

سائر النصوص (١) الحاصرة للوجوب في الأربع المقتضية ولو بالمفهوم ثبوته في غيرها على غير جهة الوجوب كقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « عزائم السجود أربع وعددها » وغيره ، كما أن منها لاستفاضتها أو تواترها مع الإجماع بقسميه إن لم يكن ضرورة من المذهب يستفاد وجوبه في الأربع المذكورة ، واستدل عليه زيادة على ذلك في الذكرى تبعا لغيره كما أنه تبعه عليه غيره بأنها عدا الم بصيغة الأمر التي هي للوجوب وأما فيها فلأنه تعالى حصر المؤمن بآياته بمن إذا ذكرها سجد ، وهو يقتضي سلب الايمان عند عدم السجود ، وسلب الإيمان منهي عنه ، فيجب السجود لئلا يخرج عن الايمان ، قال : فان قلت : المراد بالمؤمنين الكمل بدليل الإجماع على أنه لا يكفر تارك هذه السجدة متعمدا فهو كقوله تعالى (٢) ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) قلت : يكفينا عدم كمال الايمان عند انتفاء السجود ، ويلزم المطلوب ، لأن تكميل الايمان واجب ، فان قلت : لا نسلم وجوب تكميل الايمان مطلقا بل انما يجب تكميله إذا كان بواجب ، فان قلتم : إن ذلك مما وجب فإنه محل النزاع ، وأما تكميله بالمستحب فمستحب كما في وجل القلب ، قلت : الظاهر أن فقد الكمال نقصان في حقيقة الايمان ، وخروج غير الوجل منه بدليل من خارج لا يقتضي اطراد التكميل في المندوبات ، وهو كما ترى من غرائب الكلام ، ضرورة صدق امتثال الأوامر المزبورة بناء على إرادة غير الخضوع منها ولو بسجود الصلاة ، ولا يتوقف على إرادة وجوب السجود متى قرئت هذه الآية أو سمعت التي لا تتم حتى لو قلنا بإفادة الأمر التكرار ، ضرورة عدم اختصاصه حينئذ بالحالين المزبورين ، كما أن ظاهر آية الم تنزيل (٣) إرادة غير سماع القرآن من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب قراءة القرآن.

(٢) سورة الأنفال ـ الآية ٢.

(٣) سورة السجدة ـ الآية ١٥.

٢١٣

الآيات فيها على ما اعترف به في كشف اللثام ، خصوصا هذه الآية نفسها ، على أن استظهاره النقصان من فقد الكمال يجدي لو كان لفظ الكمال نفسه موجودا لا في نحو المقام الذي اعتبر فيه التقدير لما يخص الكمال المزبور ، كما هو واضح.

نعم قد يستفاد وجوب سجود التلاوة من نحو قوله تعالى (١) ( وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ) باعتبار الذم على ترك السجود لقراءة القرآن ، ولا مورد له بعد الإجماع وغيره إلا الأربع المزبورة خاصة وإن كان مشتملة على لفظ الأمر كالسجدة الثانية من الحج التي لم يقل بوجوبها أحد حتى أبي حنيفة الذي يوجب السجدات على الإطلاق ، هذا ، مع أن مقتضى الاستدلال بالأوامر المزبورة على الوجوب تحقق الوجوب بمجرد قراءتها نفسها من غير حاجة إلى باقي الآية ، مع أن الأقوى اعتبار قراءتها تمام في الوجوب كما صرح به العلامة الطباطبائي وشيخنا في كشفه ، بل صرح الثاني منهما باعتبار ذلك في الندب أيضا ، ولعله للأصل السالم عن المعارض ، ضرورة عدم إناطة السجود بالسجود في شي‌ء من النصوص ، بل ربما كان فيها ما يومي إلى اعتبار الآية كالخبر المحكي عن علي بن الحسين عليهما‌السلام (٢) وفي‌ موثق عمار (٣) المتقدم في القراءة « وربما قرأوا آية من العزائم » وفي‌ موثق سماعة (٤) « من قرأ إقرأ باسم ربك فإذا ختمها فليسجد » وغيرهما ، بل الظاهر أنه المراد من السجدة المعلق على قراءتها السجود في كثير من النصوص (٥) بل لعله المراد من العزائم التي علق عليها‌

__________________

(١) سورة الانشقاق ـ الآية ٢١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ و ٣٩ ـ من أبواب القراءة في الصلاة والباب ٤٢ من أبواب قراءة القرآن.

٢١٤

ذلك في بعض آخر (١) أيضا ، ضرورة معلومية عدم اعتبار قراءة تمام السورة في وجوب السجود من نصوص قراءة العزيمة في الصلاة وغيرها ، كضرورة عدم تحقق الوجوب أيضا بقراءة آية ما من سور العزائم ، فليس المراد حينئذ من نحو‌ قوله (ع) (٢) : « إذا قرئ شي‌ء من العزائم فاسجد » إلا آية من آيات العزائم ، لا أقل من أن يكون ذلك هو المتيقن ، والأصل براءة الذمة من غيره ، ولا إطلاق معتد به صالح لقطعه ، ولأنه لو كان لفظ السجود أو الأمر به فيها هو الموجب لكان محل السجود عند الفراغ من التلفظ به ، مع أن المعروف بين الأصحاب ـ بل في آخر كلام الحدائق أن ظاهرهم الاتفاق عليه ـ أن محل السجود بعد تمام الآية حتى أنه صرح في المحكي عن شرح الجعفرية كظاهرها أيضا أنه لو أتى بالسجود بعد لفظ السجدة لم يقع في محله ، ولا بد من إعادته بعد تمام الآية.

بل لا أجد فيه خلافا بيننا فيما عدا سجدة حم ، أما فيها فالمعروف فيها ذلك أيضا ، فيكون محل السجود فيها بعد الفراغ من قوله تعالى ( إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) كما رواه الطبرسي (٣) في المحكي من مجمعه عن أئمتنا عليهم‌السلام وصرح به في كتاب الدعائم ، خلافا للمصنف وظاهر الفاضل في المنتهى قيل : والتذكرة والمحكي عن الموجز وشرحه ، فقوله : « لله » بل حكاه في المعتبر عن الشيخ في الخلاف أيضا ، ولم نتحققه بل المحكي عنه فيه كالمبسوط أن محل السجود بعد الآية ، نعم قال في أثناء كلام : قوله تعالى ( وَاسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) أمر ، والأمر يقتضي الفور عندنا ، لكن قال : وذلك يقتضي السجود عقيب الآية ، ومن المعلوم أن آخر الآية ( تَعْبُدُونَ ) على أن تخلل السجود في أثناء الآية يؤدي إلى الوقوف على المشروط دون الشرط ، والابتداء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٨.

٢١٥

للقاري بقوله ( إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) وهو مستهجن عند القراء.

وزاد في الذكرى في الاستدلال على ذلك بأنه لا خلاف فيه بين المسلمين انما الخلاف في تأخر السجود إلى ( يَسْأَمُونَ ) فإن ابن عباس والثوري وأهل الكوفة والشافعي يذهبون اليه ، والأول هو المشهور عند الباقين ، إلى أن قال : « فإذا ما اختاره في المعتبر لا قائل به ، فان احتج بالفور قلنا هذا القدر لا يخل بالفور ، وإلا لزم وجوب السجدة في باقي العزائم عند صيغة الأمر ، وحذف ما بعده من اللفظ ، ولم يقل به أحد » وهو كما ترى صريح في أن محل السجود في غير الآية المزبورة بعد التمام ، كما أنه صريح في أن الإجماع قد سبق المحكي عن البهائي في بعض فوائده عن بعض أصحابنا من القول بوجوبه عند التلفظ بالسجدة ، مع أن المجلسي على سعة باعه قال بعد حكاية ذلك عنه على ما قيل : ولم أر هذا القول في كلام غيره ، وقد صرح في الذكرى بعد القول به ، فلعله اشتباه ، فوسوسة المحدث البحراني حينئذ في حدائقه في ذلك ـ حتى قال : إنه لا ريب في قوة هذا القول لظهور الأخبار أن السجود عند ذكر السجدة ، والمتبادر لفظ السجدة ، إذ الحمل على تمام الآية يحتاج إلى تقدير بأن يراد سماع آية السجدة ـ في غير محلها ، خصوصا بعد اعترافه بأن ظاهرهم الاتفاق عليه ، ودعواه التبادر في غاية المنع.

نعم قد يقال : إن ذلك كله من الأصحاب لا يدل على ما نحن فيه من اعتبار قراءة تمام الآية في الوجوب ، وأنه متى ترك بعضها وإن قل لم يجب عليه ، بل المراد بيان محلية السجود في مقابلة من ادعى وجوبه قبل ذلك بحيث يأثم بالتأخير ، ولذا رد في جامع المقاصد والذكرى وغيرهما بأن هذا المقدار لا ينافي الفورية ، وفي مقابلة من أخره في سورة حم إلى ( يَسْأَمُونَ ) وهي مسألة أخرى لا تنافي القول بحصول سبب وجوب السجود قبل تمام الآية وإن كان محل السجود بعد التمام ، لعدم منافاة الفورية‌

٢١٦

وللمحافظة على نظم القراءة واتصال الجمل بعضها ببعض ولغير ذلك ، بل ربما يستفاد بالتأمل الجيد في بعض كلماتهم كالمنتهى والتذكرة والذكرى وجامع المقاصد وغيرها تحقق سبب وجوب السجود عندهم قبل إتمام الآية خصوصا مع تمسكهم بالأمر ونحوه ، إلا أنه قد عرفت اقتضاء الأصل اعتبار تمام الآية ، والمسألة لا تخلو من إشكال.

ثم إن ظاهر المصنف وغيره حصر مستحب سجود التلاوة في الأحد عشر عندنا ، لكن في المنتهى عن ابن بابويه أنه يستحب أن يسجد في كل سورة فيها سجدة ثم قال : فيدخل فيه آل عمران لقوله تعالى (١) ( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي ) قلت : وغيرها خصوصا مع عدم اعتبار لفظ الأمر والاكتفاء بلفظ السجود ، ووافقه عليه الأستاذ في كشفه ، فقال : والظاهر استحبابه في كل ما اشتمل على الأمر بالسجود وربما يؤيده ما سمعته من المحكي عن علي بن الحسين عليهما‌السلام إلا أنه قد يحمل على إرادة السجدات المعلومة المعهودة سيما بعد ما رواه في‌ الدعائم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « وكان علي بن الحسين عليهما‌السلام يعجبه أن يسجد فيهن كلهن » مشيرا إلى السجدات المعهودة ، ولذا قال العلامة الطباطبائي :

وندبه في كل آية بها

ذكر السجود قد أتى مشبها

ويشهد له أيضا استبعاد خفاء سجدات القرآن الذي يتكرر في كل زمان ، ولذا حصرت وعرفت بين الخاص والعام واستغنت عن النصوص بالخصوص حتى أن أبا حنيفة لما أنكر السجدة الثانية من الحج أنكر عليه من عرفت بأنه قد أدرك الناس منذ سبعين سنة يسجدونها ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( السجود واجب في العزائم الأربع على القاري والمستمع‌ )

__________________

(١) سورة آل عمران ـ الآية ٣٨.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ١.

٢١٧

المصغي ليسمع بلا خلاف أجده فيه ، بل هو مجمع عليه تحصيلا ونقلا مستفيضا أو متواترا كالنصوص (١) والمدار على تحقق صدق اسم قراءتها على فعله ، وفي المشترك منها بين العزيمة وغيره مع قصد غير العزيمة أو قصد الذكر ما سمعته سابقا في البسملة ، وجزم الأستاذ في كشفه باعتبار عدم اللحن في الوجوب ، وفيه بحث ، نعم لا فرق بين القراءة الحرام كالغناء والحلال وإن استشكل فيه شيخنا في كشفه ، ولا بين الاستماع الحرام كصوت الأجنبية متلذذا أو مطلقا على اختلاف الرأيين والاستماع الحلال ، ولا بين قاصد استماع خصوص العزيمة وغيره ممن لا يعلم إرادة القاري العزيمة ثم بان ، ولا بين تكليف القاري وعدمه ، ولا بين عصيانه بعدم السجود وعدمه ، إذ لا مدخلية لتكليف السامع فيه ، وموثق عمار (٢) النافي للسجود بقراءة من لا يقتدى بهم محمول على التقية أو الإيماء أو غير ذلك.

ويتكرر السجود بتكرر القراءة والاستماع ، لأصالة عدم التداخل ، وظهور النصوص في المقام أو صراحتها في ذلك من غير فرق بين الفصل بالسجود وعدمه ، وسأل محمد بن مسلم (٣) أبا جعفر عليه‌السلام في الصحيح « عن الرجل يتعلم السورة من العزائم فتعاد عليه مرارا في المقعد الواحد قال : عليه أن يسجد كلما سمعها ، وعلى الذي يعلمه أن يسجد » ومن العجيب ما في الحدائق من المناقشة في هذا الصحيح بأن غاية ما يدل على أنه متى قرأ السجدة وجب السجود تحقيقا للفورية التي لا خلاف فيها ، ضرورة ظهور السؤال عن التعدد لا عن الفورية ، كما أنه قد يمنع شمول ما دل (٤) على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب قراءة القرآن.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ الحديث ١.

٢١٨

الاجتزاء عن الحقوق المتعددة بالحق الواحد لمثل المقام ، لظهورها في الأغسال ، بل الذي في بالي أن النص « أجزأك عنها غسل واحد » ولعل لذا أعرض من تعرض لذلك من الأصحاب عنه في المقام وأمثاله إلا من لا يعتد به منهم ، والوجوب فيها على الفور إجماعا بقسميه إن لم يكن ضرورة ، ونصوص النهي (١) عن قراءة العزيمة في الفريضة صريحة في ذلك ، بل نصوص المقام ظاهرة فيه أيضا ، إذ حملها على إرادة بيان مطلق التسبيب في غاية البعد ، خصوصا بعد ملاحظة الإجماع والنصوص الأخر ، ولا ينافي ذلك‌ موثق الساباطي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يسمع السجدة في الساعة التي لا يستقيم الصلاة فيها قبل غروب الشمس وبعد صلاة الفجر فقال : لا يسجد » إذ هو ـ مع ظهوره في نفي الوجوب المعلوم بالإجماع أو الضرورة فضلا عن الفورية وغير صريح في سجدة العزيمة ـ أقصاه بعد العمل به تقييد ذلك بغير الوقت المزبور لا نفي أصل الفورية ، على أني لم أجد أحدا عمل به في سجدة العزائم ، بل عن الفوائد الملية أن العمل على خلافه ، فالجرأة به على تقييد تلك الأدلة وإثبات الرخصة في التأخير أو الرجحان كما ترى ، بل قد يظهر من المنتهى أنه لا عامل به عندنا في مطلق السجود فضلا عن العزائم حيث حكى الخلاف في ذلك عن العامة ، بل في المحكي عن الخلاف الإجماع على الجواز ، وفي التذكرة نسبة الجواز إلى علمائنا ، ومراده منه كالمنتهى الخالي عن الكراهة على الظاهر بقرينة استدلاله عليه بأنه من ذي السبب كقضاء النوافل ، كما أن المراد منه الأعم من الواجب بقرينة آخر كلامه في المنتهى حيث ذكر الدليل للمخالف بقوله عليه‌السلام (٣) : « لا صلاة بعد الفجر » إلى آخره. ثم قال : والجواب أن السجدة ليست بصلاة ولا هي عندنا جزء صلاة ، ولو سلم فالنهي تناول‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

٢١٩

النفل المبتدأ به لا الواجب ، أو النفل ذا السبب ، وفي‌ مرسل الدعائم (١) عن الباقر عليه‌السلام « من قرأ السجدة أو سمعها من قار يقرأها سجد أي وقت كان ذلك مما تجوز الصلاة فيه أو لا تجوز عند طلوع الشمس وعند غروبها ».

لكن ومع ذلك فلا يخلو الحكم بالكراهة بالنسبة إلى السجود المستحب من وجه وإن قلنا بفوريته التي هي أيضا ظاهر النصوص (٢) والفتاوى ، بل هو صريح بعضها (٣) فيكره حينئذ فعله في الأوقات المكروهة كراهية عبادة للموثق المزبور ، ولظهور التعليل للنهي (٤) عن الصلاة بأن الشيطان يوحي إلى أوليائه أن بني آدم سجدوا لي في ذلك أيضا ، ولعله لذا صرح في المبسوط بكراهته عند طلوع الشمس وغروبها ، فما في الحدائق من الإشكال في الحكم للموثق المزبور السالم عن المعارض (٥) بما لا يمكن تقييده به إن أراد به بالنسبة إلى الواجب فمقطوع بفساده ، وإن أراد به في المندوب فله وجه ، ولقد أجاد بقوله بعد ذلك : وخبر الدعائم (٦) لا يبلغ قوة في رد هذا الموثق إلا أنها باحتمال اتفاق الأصحاب على القول بمضمونها لا تقصر عن المعارضة ، مضافا إلى ما في روايات عمار مما نبهت عليه غير مرة ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وعلى كل حال فهل يستحب للسامع غير المستمع السجود للعزائم أو يجب قولان ، اختار المصنف أولهما ، فقال على الأظهر تبعا للشيخ في الخلاف وتبعه الفاضل وغيره ، بل في الفوائد الملية أنه مذهب الأكثر ، بل عن كشف الالتباس أنه المشهور ، بل في الخلاف وظاهر التذكرة الإجماع عليه للأصل ، ولأن‌ عبد الله بن سنان (٧)

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب قراءة القرآن.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

(٥) هكذا في النسخة الأصلية ولكن حق العبارة « عن المعارضة ».

(٦) المستدرك ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٢.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ١.

٢٢٠