جواهر الكلام - ج ١٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

طرف إبهام رجله اليمنى مما يلي طرفها الأيسر بالأرض ، وباقي أصابعها عاليا عليها ، وأن يستقبل بركبتيه جميعا القبلة ، قال في الذكرى : ويقرب منها قول المرتضى ، فتأمل جيدا ، هذا ، وفي الغنية في المقام « أنه يرد رجله اليمنى إلى خلفه إذا جلس » وكأنه مخالف في استحباب التورك ، والصحيح حجة عليه.

وربما يستفاد من إطلاق المتن استحبابه أيضا في جلسة الاستراحة ، بل صرح به في الحدائق ، بل ظاهره فيها أنه مفروغ منه ، وأنه كغيره مما يستحب فيه التورك ، كما أن ظاهر غيره استحباب التورك في سائر جلوس الصلاة من غير فرق بين جلوس التشهد وغيره وأنه على هيئة واحدة ، ولعله لذا استدل بعضهم بصحيح التشهد (١) على المقام في أصل التورك وكيفيته ، أو لاشتمال الصحيح المزبور على التعليل للنهي عن الإقعاء وغيره في حال التشهد بما يعم سائر جلوس الصلاة كما في المنتهى ، فيتعين التورك حينئذ في جميع الجلوس ، ويؤيده أنه المستفاد من خبر أبي بصير السابق الآمر بالجلوس في الصلاة على الأيسر منضما إلى‌ خبر سعد بن عبد الله (٢) قال لجعفر بن محمد عليه‌السلام : « إني أصلي في المسجد الحرام فأقعد على رجلي اليسرى من أجل الندى فقال : اقعد على أليتيك وإن كنت في الطين » ضرورة كون مجموعهما حقيقة التورك.

نعم ينبغي أن يستثنى من ذلك الجلوس الأول للسجود ، فإنه لا تورك فيه اتفاقا كما تسمعه من كشف اللثام ، ولعله لعدم الوظيفة فيه ، بل أقصاه أنه يجوز له الجلوس قبله ، مع أن المتعارف عدمه أصلا ، ومن ذلك ظهر لك قوة التعميم في استحباب التورك في كل جلوس مأمور به في الصلاة ، خصوصا بعد التسامح في السنن ، لكن الإنصاف أن دعوى الإجماع عليه لا تخلو من بحث ، لما عرفت من الخلاف فيه بين السجدتين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٤.

١٨١

فضلا عما بعدهما الذي قد يظهر من تقييد بعضهم له بالبينية عدمه فيها ، بل لعله مراد المصنف أيضا بقرينة تأخير جلسة الاستراحة عنه واتصاله بحكم البينية.

هذا كله في الرجل ، أما المرأة فلا يستحب لها التورك كما نص عليه غير واحد بل المعروف في الفتاوى حتى حكي في الغنية الإجماع عليه أن جلوسها على إليتيها مع ضم فخذيها ورفع ركبتيها وساقيها عن الأرض ووضع قدميها على الأرض ، والأصل فيه‌ صحيح زرارة (١) « فإذا جلست فعلى إليتيها ليس كما يجلس الرجل ـ إلى أن قال ـ: فإذا كانت في جلوسها ضمت فخذيها ورفعت ركبتيها من الأرض » قال في الذكرى : ولفظ « ليس » موجود في الكافي ، وفي التهذيب « فعلى إليتيها كما يقعد الرجل » وهو سهو من الناسخين ، وسرى هذا السهو في التصانيف كالنهاية للشيخ وغيرها ، ثم قال : وهو كما لا يطابق المنقول في الكافي لا يطابق المعنى ، إذ جلوس المرأة ليس كجلوس الرجل ، لأنها في جلوسها تضم فخذيها وترفع ركبتيها من الأرض ، بخلاف الرجل فإنه يتورك ، وفي المحكي عن كشف اللثام « قد يراد قعود الرجل للجلوس الذي لا تورك فيه اتفاقا » وهو كما ترى ، ولعل حمله على جلوس الرجل المصلي قاعدا أولى ، وعن بعض نسخ العلل موافقة التهذيب ، والخبر فيها مسند إلى أبي جعفر عليهما‌السلام.

وكذا يستحب أن يجلس عقيب السجدة الثانية مطمئنا ليستريح ، ولذا سميت بجلسة الاستراحة ، واستحبابها مشهور بين الأصحاب ، بل في المنتهى « أنه مذهب علمائنا إلا السيد المرتضى » وفي المعتبر نسبته إلى أكثر أهل العلم ، بل عن كشف الحق وتلخيص الخلاف الإجماع عليه ، وهو الحجة في نفي الوجوب بعد الأصل وموثق زرارة (٢) « رأيت أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما‌السلام إذا رفعا رؤوسهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٢.

١٨٢

نهضا ولم يجلسا » وحبر رحيم (١) قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : « جعلت فداك أراك إذا رفعت رأسك من السجود في الركعة الأولى والثالثة تستوي جالسا ثم تقوم ، فنصنع كما تصنع ، قال : لا تنظروا إلى ما أصنع ، اصنعوا ما تؤمرون » وفي الذكرى أنه صريح في المطلوب ، وفي المنتهى لا يقال هذا يدل على المنع من الجلسة ، لأنا نقول : لو كانت مكروهة لما فعلها الامام عليه‌السلام ، وانما أراد عليه‌السلام لا تفعلوا كلما تشاهدون على طريق الوجوب ، ويؤيده‌ قوله عليه‌السلام : « ولكن اصنعوا ما تؤمرون » والأمر انما هو للوجوب ، بل قد يفوح الندب من‌ خبر الأصبغ (٢) عن علي عليه‌السلام قال : « كان إذا رفع رأسه من السجود قعد حتى يطمئن ثم يقوم ، فقيل له : كان أبو بكر وعمر إذا رفعا رأسيهما من السجود نهضا على صدور إقدامهما كما تنهض الإبل فقال : انما يفعل ذلك أهل الجفاء من الناس ، ان هذا من توقير الصلاة » خصوصا التعليل ، مضافا إلى خلو خبر حماد (٣) المشتمل على دقائق المندوبات فضلا عن الواجبات عنه.

خلافا للمرتضى رحمه‌الله فأوجبها مدعيا فيما حكي من انتصاره وناصرياته الإجماع عليه ، بل هو مقتضى إطلاق معقد إجماع أبي المكارم وجوب الطمأنينة بعد رفع الرأس قائما وجالسا ، بل قيل : يلوح الوجوب أيضا من خلال المقنعة والمراسم والسرائر ، بل والمحكي عن الإسكافي أيضا ، حيث قال : « إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة حتى يماس إليتاه الأرض أو اليسرى وحدها يسيرا ثم يقوم جاز ذلك » ضرورة ظهوره في أقل أفراد المجزي ، بل والعماني « إذا أراد النهوض ألزم إليتيه الأرض ثم نهض معتمدا على يديه » بل وعلي بن بابويه « لا بأس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ١.

١٨٣

أن لا يقعد في النافلة » واختاره صريحا في الحدائق ومال إليه في كشف اللثام ، ولعله للإجماعات السابقة ، والأمر بها في‌ موثق أبي بصير (١) عن الصادق عليه‌السلام « إذا رفعت رأسك من السجدة الثانية في الركعة الأولى فاستو جالسا ثم قم » وفي‌ المروي عن كتاب زيد النرسي (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام « إذا رفعت رأسك من آخر سجدتك في الصلاة قبل أن تقوم فاجلس جلسة ـ إلى أن قال ـ : ولا تطش من سجودك كما يطيش هؤلاء الأقشاب في صلاتهم » وفي‌ المروي (٣) عن الخصال بإسناده إلى علي عليه‌السلام قال : « ليخشع الرجل في صلاته ، فان من خشع قلبه لله عز وجل خشعت جوارحه ، فلا تعبث بشي‌ء ، اجلسوا في الركعتين حتى تسكن جوارحكم ثم قوموا ، فان ذلك من فعلنا ». وفي‌ خبر المعراج المروي (٤) عن العلل بسند جيد ـ إلى أن قال ـ: « فنظرت إلى شي‌ء ذهب منه عقلي فاستقبلت الأرض بوجهي ويدي فألهمت أن قلت : سبحان ربي الأعلى وبحمده لعلو ما رأيت فقلتها سبعا ، فرجعت إلى نفسي كلما قلت واحدة منها تجلى عني الغشي ، فقعدت فصار السجود فيه سبحان ربي الأعلى وبحمده ، وصارت القعدة بين السجدتين استراحة من الغشي وعلو ما رأيت ، فألهمني ربي عز وجل وطالبتني نفسي أن أرفع رأسي فرفعت فنظرت إلى ذلك العلو فغشي علي ، فخررت لوجهي واستقبلت الأرض بوجهي ويدي وقلت : سبحان ربي الأعلى وبحمده سبعا ، ثم رفعت رأسي فقعدت قبل القيام لأثني النظر في العلو ، فمن أجل ذلك صارت سجدتين وركعة ، ومن أجل ذلك صار القعود‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٣.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ١٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ١٠.

١٨٤

قبل القيام قعدة خفيفة ، ثم قمت » وفي‌ خبر أبي بصير (١) المروي في زيادات التهذيب « فإذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك حتى ترجع مفاصلك ، وإذا سجدت فاقعد مثل ذلك ، وإذا كان في الركعة الأولى والثانية فرفعت رأسك من السجود فاستتم جالسا حتى ترجع مفاصلك ، فإذا نهضت فقل : بحول الله وقوته أقوم وأقعد ، فإن عليا عليه‌السلام هكذا كان يفعل » مضافا إلى‌ خبر عبد الحميد بن عواض (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « رأيته إذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى جلس حتى يطمئن ثم يقوم » إلى غير ذلك.

مع إمكان المناقشة في إجماعي الندب بإمكان إرادة أصل الرجحان الذي لا إشكال فيه عندنا ، على أن الثاني منهما قال بعض المتبحرين : إني لم أجده في الخلاف وفي موثق زرارة باحتماله النفل والتقية والعذر ، وفي خبر رحيم بظهور إرادة التقية منه على معنى لا تلتفتوا إلى فعلي وتفعلون مثله فتخالفون التقية ، بل اصنعوا ما تؤمرون ولو بها ، فأنا أعلم منكم بصلاحكم ، ومنع ظهور خبر الأصبغ في الندب وإن علل بتوقير الصلاة ، ولعل خلو خبر حماد منها في بادئ النظر وإلا فبعد التأمل يفهم منه ذلك ، أو أن الغفلة من حماد ، ومن ذلك كله كان الجلوس حينئذ أحوط وإن كان عدم الوجوب أقوى ولو لإمكان النظر في سائر ما ذكرناه له ويبقى إطلاق الصلاة بلا معارض.

وكذا يستحب أن يدعو بالمأثور فيما ستسمعه في النصوص عند النهوض للقيام من الجلوس المتعقب للسجود إن كان كما هو المعروف بين قدماء الأصحاب ومتأخريهم ، بل في كشف اللثام نسبته إلى فتاوى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، لقول الصادق عليه‌السلام لأبي بصير (٣) في الخبر المتقدم آنفا :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٩.

١٨٥

« إذا رفعت رأسك من السجود فاستتم جالسا حتى ترجع مفاصلك ، فإذا نهضت فقل : بحول الله وقوته أقوم وأقعد ، فإن عليا عليه‌السلام كان يفعل ذلك » وفي ذيله شهادة على ما رواه‌ رفاعة (١) في الصحيح عنه عليه‌السلام أيضا « كان علي عليه‌السلام إذا نهض من الركعتين الأولتين قال : بحول الله وقوته أقوم وأقعد » بل وعلى إرادة النهوض من القيام في‌ صحيح أبي بكر الحضرمي (٢) « إذا قمت من الركعتين الأولتين فاعتمد على كفيك ، وقل : بحول الله وقوته أقوم وأقعد ، فإن عليا عليه‌السلام كان يفعل ذلك » بل وعلى محل القول في‌ خبر سعد (٣) الجلاب المروي عن المستطرفات نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب مسندا « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يبرأ من القدرية في كل ركعة ويقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد » بل وعلى المراد من القيام في‌ صحيح ابن مسلم (٤) عن الصادق عليه‌السلام أيضا « إذا جلست فتشهدت ثم قمت فقل : بحول الله وقوته أقوم وأقعد » ضرورة عدم إرادة قول ذلك بعد القيام للقطع بعدمه نصا وفتوى ، فلا بد من حمله على ما هو الأقرب إليه من الشروع في مقدماته والنهوض له ، خصوصا بعد النصوص السابقة.

ومنه حينئذ ينكشف المراد مما في‌ صحيحه الآخر (٥) عنه عليه‌السلام أيضا « إذا قام الرجل من السجود قال : بحول الله وقوته أقوم وأقعد » لصدق القيام من السجود على الشروع فيه والنهوض له وإن كان بعد الجلسة ، لقصر زمانها ، وكذا‌ صحيح عبد الله بن سنان (٦) عنه عليه‌السلام أيضا « إذا قمت من السجود قلت : اللهم ربي بحولك وقوتك أقوم وأقعد ، وإن شئت قلت : وأركع وأسجد » وخبره الآخر (٧) المروي عن مستطرفات السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود الحديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود الحديث ٦.

١٨٦

مسندا عن الصادق عليه‌السلام أيضا « إذا قمت من السجود قلت : اللهم بحولك وقوتك أقوم وأقعد وأركع وأسجد » فما عساه يظهر من النافع والمنتهى بل في كشف اللثام أنه قد يوهمه المعتبر أيضا من قول ذلك حال الجلوس لا النهوض ضعيف جدا ، وأضعف منه الاستدلال عليه بإرادة الجلوس من القيام من السجود في صحيحي ابني مسلم وسنان ، ضرورة بعدهما عن ذلك ، بل المراد منهما ما قلناه ، أو إذا لم يجلس جلسة الاستراحة.

ومن هنا قد استدل بهما وبصحيح ابن مسلم الآخر في الذكرى على القول عند الأخذ في القيام بعد أن حكاه عن الصدوقين والجعفي وابن الجنيد والمفيد وسلار وأبي الصلاح وابن حمزة وظاهر الشيخ مقابلا لقول المصنف حال الجلوس ، لكن في جامع المقاصد بعد أن حكى ذلك عنها قال : وكأنه يريد بالأخذ بالقيام الأخذ في الرفع من السجود وإن كان خلاف المتبادر من العبارة ، وإلا لم تكن الرواية دليلا عليه ، والظاهر أن هذا هو مراد المصنف هنا كما في غير هذا الكتاب ، وفيه أولا أنك قد عرفت صحة الاستدلال بهما على التقدير المزبور ، وثانيا أنه لا يوافق ذلك ما حكاه في الذكرى عمن عرفت ، لأن المحكي من عبارات بعضهم كالصريح في إرادة النهوض من الجلوس ، بل ولا استدلاله بعد ذلك بخبر رفاعة إلا على وجه لا يخلو من تكلف ، وثالثا أن ما ذكره ناسبا له إلى الفاضل يرجع إلى قول ثالث لا أظن أحدا يوافقه عليه ولا هو كما حكاه عنه مختارا له في غيره من كتبه ، فالأولى حمل قوله على القيام عليه من الجلوس كما في كشف اللثام ناسبا له إلى الأخبار والفتاوى ، نعم قال : قد يوهم المعتبر قوله في الجلوس ، ثم قال : ولعله غير مراد له ، قلت : وكذا المنتهى خصوصا بعد قولهما كما قيل في بحث التشهد : « إذا قام من التشهد الأول لم يقم بالتكبير ، واقتصر على قوله : بحول الله وقوته » إلى آخره. اللهم إلا أن يفرقا بين القيام منه والقيام من الجلوس‌

١٨٧

كما يومي اليه استدلال المنتهى على القول عقيب الجلوس بأنه حالة في الصلاة فلا يخلها من الذكر ، وبصحيح ابن سنان.

وكيف كان فظاهر هذه النصوص بل كاد يكون صريحها كالفتاوى ونصوص عدد تكبير الصلاة (١) عدم التكبير للقيام ، وبها يخرج ع ما دل (٢) على مشروعيته لكل حال ينتقل إليها من حالة أخرى في الصلاة ، خلافا للمفيد فقال : يقوم بالتكبير من التشهد الأول ، وهو ضعيف ، وفي الذكرى لا نعلم له مأخذا لكن في‌ المروي (٣) عن احتجاج الطبرسي في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الأمر عليه‌السلام « يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبر فان بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبيرة ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد فكتب عليه‌السلام الجواب فيه حديثان ، أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى حالة أخرى فعليه التكبير ، وأما الآخر فإنه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى ، وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا ».

وكذا يستحب أن يعتمد على يديه سابقا برفع ركبتيه عند جميع علمائنا في جامع المقاصد ، والأصحاب في المدارك بل في المنتهى أجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن هذه الكيفية مستحبة ويجوز خلافها ، كما عن صريح التذكرة وظاهر المعتبر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب تكبيرة الإحرام.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الركوع ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٨.

١٨٨

الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد‌ صحيح ابن مسلم (١) « رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام يضع يديه قبل ركبتيه إذا سجد ، وإذا أراد أن يقوم رفع ركبتيه قبل يديه » منضما إلى صحيح أبي بكر الحضرمي (٢) المتقدم آنفا ، بل الظاهر كما صرح به الفاضل وغيره استحباب أن تكون الأصابع مبسوطة غير مضمومة كالذي يعجن لقول الصادق عليه‌السلام في خبر الحلبي (٣) : « إذا سجد الرجل ثم أراد أن ينهض فلا يعجن بيديه في الأرض ، ولكن يبسط كفيه من غير أن يضع مقعدته في الأرض » ومنه يعلم ما في المحكي عن العماني من أنه إذا أراد النهوض ألزم ألييه الأرض ثم نهض معتمدا على يديه ، ويمكن إرادته بذلك الكناية عن جلسة الاستراحة كما حكيناه عنه هناك ، فلا يكون مخالفا ، وعن النفلية وشرحها أنه يستحب جعل اليدين آخر ما يرفع ، ولعله لظهور الفتاوى والنصوص في الاعتماد عليهما عند النهوض القاضي بتأخر رفعهما ، نعم قد يتوقف في المراد بسبق الركبتين هل هو لليدين خاصة كما هو ظاهر الخبر السابق ، أو لجميع البدن؟ ولعل المستفاد من مجموع خبري الحلبي وابن سنان الثاني ، والأمر سهل لكن كان ينبغي جعل العجن من المكروه للنهي عنه في الخبر السابق ، ولا ينافيه استحباب البسط ، إلى غير ذلك من المندوبات التي وفت بها النصوص والفتاوى وإن اقتصر المصنف منها على ما عرفت ، كما أنه اقتصر على مكروه واحد من بين المكروهات فقال ويكره الإقعاء بين السجدتين وفاقا للأكثر كما في كشف اللثام والمدارك ، بل في الغنية الإجماع على أنه يستحب أن لا يقعي بين السجدتين ، بل‌ روى الشيخ في الاستبصار بأسانيده عن معاوية بن عمار وابن مسلم والحلبي (٤) انهم قالوا : « لا تقع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٢.

١٨٩

في الصلاة بين السجدتين إقعاء الكلب » ولعله لذا حكاه في المعتبر عن الأولين ، لكن في التهذيب « قالوا » قال : وحينئذ يكون من المضمر ، وكان الأولى على التقدير الأول حكايته عن الثالث أيضا ، لأن روايته نفي البأس عن ذلك في الصحيح الآتي (١) قرينة على إرادته الكراهة من النهي دونهما ، وكيف كان فلا ريب في الكراهة لقول الصادق عليه‌السلام في موثق أبي بصير (٢) « لا تقع بين السجدتين إقعاء » المحمول على ذلك للأصل المعتضد بالشهرة العظيمة إن لم يكن إجماعا ، بل حكي الإجماع عليه ، وب‌ قوله عليه‌السلام في صحيح الحلبي (٣) : « لا بأس بالإقعاء في الصلاة فيما بين السجدتين » وب‌ قول الباقر عليه‌السلام في خبر زرارة (٤) المروي عن مستطرفات السرائر نقلا من كتاب حريز : « لا بأس بالإقعاء فيما بين السجدتين ، ولا ينبغي الإقعاء في التشهدين ، انما التشهد في الجلوس ، وليس المقعي بجالس » وبالمروي‌ عن معاني الأخبار بسنده إلى عمرو بن جميع (٥) عن الصادق عليه‌السلام « لا بأس بالإقعاء في الصلاة بين السجدتين ، وبين الركعة الأولى والثانية ، وبين الركعة الثالثة والرابعة ، وإذا أجلسك الإمام في موضع يجب أن تقوم فيه تتجافى ، ولا يجوز الإقعاء في موضع التشهد إلا من علة ، لأن المقعي ليس بجالس ، انما جلس بعضه على بعض ، والإقعاء أن يضع الرجل إليتيه على عقبيه في تشهديه ، فأما الأكل مقعيا فلا بأس به ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أكل مقعيا » ولعل الجميع من الخبر ، وإن حكاه في الذكرى عن الصدوق لكنه غالبا يعبر بمضمون الروايات ، فقد يكون عبر بمضمون هذا الخبر في الفقيه ، وحكاه عنه حينئذ فيها ، ويحتمل انتهاؤه عند قوله :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٦.

١٩٠

« تتجافى » وعند تفسير الإقعاء ، وعلى كل حال فهو شاهد لرفع الحرمة وموجب لحمل النهي المزبور على الكراهة.

نعم لا ينبغي للمصنف قصره على ما بين السجدتين ، إذ كما صدر النهي عنه بينهما فحمل على ذلك لذلك كذلك صدر النهي عنه مطلقا في‌ خبر أبي بصير (١) عن الصادق عليه‌السلام « لا تقع بين السجدتين إقعاء » وفي‌ مرسل حريز (٢) عن الباقر عليه‌السلام كما في موضع من الوسائل « ولا تقع على قدميك » وصحيح زرارة (٣) عنه عليه‌السلام « إذا قمت إلى الصلاة فعليك بالإقبال على صلاتك ، فإنما يحسب لك ما أقبلت عليه ، ولا تعبث فيها بيدك ولا برأسك ولا بلحيتك ، ولا تحدث نفسك ، ولا تتثأب ولا تتمط ولا تكفر ، فإنما يفعل ذلك المجوس ، ولا تلثم ولا تحتفز ، وتفرج كما يفرج البعير ، ولا تقع على قدميك ولا تفترش ولا تفرقع أصابعك فإن ذلك كله نقصان من الصلاة ، ولا تقم إلى الصلاة متكاسلا ». بناء على إرادة الإقعاء منه لا الوقوع على القدمين ، وكذا وقع النهي عنه في التشهدين في الخبر المزبور (٤) وفي‌ صحيح زرارة (٥) عن الباقر عليه‌السلام « وإذا قعدت في تشهدك ـ إلى أن قال ـ : وإياك والقعود على قدميك فتتأذى بذلك ، ولا تكون قاعدا على الأرض فيكون انما قعد بعضك على بعض فلا تصبر للتشهد والدعاء » بل لعل التعليل فيه خصوصا قوله : « ولا تكون قاعدا على الأرض » جار في الجميع إن لم نقل إن المراد مطلق القعود في الصلاة.

ودعوى الفرق فيما بين السجدتين وجلسة الاستراحة وبين التشهد بالقصر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٣.

١٩١

فلا يتأذى والطول فيتأذى ممنوعة ، خصوصا بعد ملاحظة التعليلين الآخرين ، وقد سمعت ما في ذيل خبر المستطرفات ، ولعل منه ومن هذا التعليل المناسب للكراهة دون الحرمة وإطلاق معقد إجماع الخلاف على الكراهة كما قيل مضافا إلى ظهور صحيح زرارة السابق في ذلك من وجوه يجب إرادة شدة الكراهة من نفي الجواز المروي (١) عن معاني الأخبار ، خصوصا بعد قصوره عن إفادة الحرمة من وجوه ، بل هو ليس من كلام الامام عليه‌السلام على الاحتمالين السابقين ، فلم يبق حينئذ إلا النهي في صحيح زرارة السابق المفهوم منه الكراهة بقرينة سابقه ولاحقه فضلا عن القرينة الخارجية ، فالقول بحرمته في التشهدين تبعا لظاهر الفقيه والمحكي عن النهاية من نفي الجواز في غاية الضعف ، وقد أجاد الحلي فيما حكي عنه في حمل ذلك منهما على إرادة شدة الكراهة ، كالقول بنفي كراهته بين السجدتين ، كما عساه يظهر من المبسوط والفقيه والمحكي عن النهاية وعلم الهدى ، بل قد يظهر من الثاني نفيها في جلسة الاستراحة أيضا كما عساه بوهمه أيضا الاقتصار على كراهته في التشهد وبين السجدتين في المحكي عن بني حمزة وإدريس وسعيد ، مع أن الموجود في موضع من الأول هو « يجوز الإقعاء بين السجدتين وإن كان التورك أفضل » فقد يريد به الأعم من الكراهة ، خصوصا وقد قال في موضع آخر منه في سنن التروك : « ولا تقع بين السجدتين » والظاهر إرادته الكراهة منه ، والثاني انما قال : « لا بأس به بين السجدتين ، ولا بأس به بين الأولى والثانية ، وبين الثالثة والرابعة » وقد يريد الأعم أيضا ، والاقتصار على البعض لا يدل على نفي الغير ، والثالث انما قال : « لا بأس أن يقعد متربعا أو يقعي بين السجدتين » وهو كالسابق في احتمال الأعمية ، خصوصا وعادته فيه كالفقيه التعبير بمضمون النصوص‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٦.

١٩٢

وإناطة قصدهما بالمقصود منها ، وقد عرفت إرادة ذلك في النص ، ولم يحضرني عبارة الرابع ، فلا قائل حينئذ صريحا بنفيها عنهما ، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه.

وأضعف منه نفيها عنه في التشهد وغيره مما عدا بين السجدتين كما عساه يوهمه المحكي عن الأكثر من الاقتصار عليها بينهما ، إذ قد عرفت مما قدمنا أن الأولى تعميم الكراهة لسائر أفراد الجلوس في الصلاة وفاقا لصريح المحقق الثاني وغيره وظاهر الفاضل وغيره ممن أطلق كراهته كالشيخ رحمه‌الله فيما حكي من خلافه مدعيا الإجماع عليه وغيره ، بل حكي عن صريح المختلف وظاهر المقنع أيضا ، بل في مجمع البرهان العلة المذكورة في التشهد جارية في غيره ، وكأنه إجماع ، إلى غير ذلك لما سمعته مما تقدم سابقا من الإطلاق وغيره الذي لا يعارضه خصوص النهي عنه بين السجدتين كي ينزل عليه كما هو واضح.

وكيف كان فالمراد بالإقعاء المبحوث عنه عندنا وعند الجمهور وضع الأليتين على العقبين معتمدا على صدور القدمين ، كما نص عليه في المعتبر والمنتهى والتذكرة وكشف الالتباس وحاشية المدارك ناسبين له إلى الفقهاء ، بل في ظاهر الحدائق أو صريحها كما عن البحار الإجماع عليه ، بل هو أيضا ظاهر إجماع جامع المقاصد وفوائد الشرائع وغيرهما ، بل نسبه أهل اللغة إلى الفقهاء فضلا عنهم ، قال في الصحاح : أقعى الكلب إذا جلس على استه مفترشا وناصبا يديه ، وقد جاء النهي عن الإقعاء في الصلاة ، وهو أن يضع أليته على عقبيه بين السجدتين ، وهذا تفسير الفقهاء ، وأما أهل اللغة فالإقعاء عندهم أن يلصق أليته بالأرض وينصب ساقيه ويتساند إلى ظهره ، وفي المحكي عن المغرب الإقعاء أن يلصق أليته بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كما يقعي الكلب ، وتفسير الفقهاء أن يضع ألييه على عقبيه بين السجدتين ، نعم لم يذكرا الاعتماد على صدور القدمين فيما نسباه إليهم ، ولعله لذا قال في المحكي عن البحار : إن الظاهر‌

١٩٣

من كلام أكثر العامة أن الإقعاء الجلوس على العقبين مطلقا لكن قد يقال : إنه يلزمه الاعتماد على صدور القدمين كما اعترف به في كشف اللثام والمحكي عن البحار ، قال في الأخير : لعل مرادهم المعنى الذي اتفق عليه أصحابنا ، لأن الجلوس على العقبين حقيقة لا يتحقق إلا بهذا الوجه ، فإنه إذا جعل ظهر قدمه على الأرض يقع الجلوس على بطن الأليين لا على العقبين.

قلت : وهو المناسب لما ورد في أخبارنا الذي يحتمل أن يكون هو مستند الأصحاب في ذلك من النهي عن الإقعاء على القدمين ، ضرورة توقف الصدق حقيقة على ذلك ، وإلا كان إقعاء على بعض القدمين ، ولعل الأصحاب من ذلك فهموا إرادة هذا المعنى من الإقعاء ، ضرورة عدم صدق الإقعاء على القدمين على المعنى اللغوي ، لأن القعوين الذين هما أصلا الفخذين على الأرض فيه مضافا إلى ما سمعته في صحيح زرارة من التعليل بالتأذي وعدم الصبر للتشهد والدعاء وعدم القعود على الأرض والقعود بعض على بعض مما لا ينطبق شي‌ء منه على الإقعاء اللغوي الذي قد سمعت أنه وضع الأليتين على الأرض مع نصب الفخذين والساقين ، وربما زيد وضع اليدين مع ذلك كما عن النهاية والمصباح المنير وسمعته عن المغرب ، بل عن الراوندي في حل المعقود من الجمل والعقود « أن الإقعاء بين السجدتين هو أن يثبت كفيه على الأرض فيما بين السجدتين ولا يرفعهما » وهو غريب لا يوافق اللغة ولا الفقهاء وإن كان هو مكروها أيضا لما سمعته سابقا من النص (١) الدال على أنه نقص في الصلاة ، بل عن العامة روايته عن ابن عمر أنه كان يقعي في الصلاة بمعنى أنه يضع يديه على الأرض فلا يفارقان حتى يعيد السجود ، ونحوه في الغرابة أيضا ما عن بعض علمائنا من اعتبار هذا الوضع أيضا مع الجلوس على العقبين في المراد من الإقعاء هنا ، وعبارات الأصحاب تشهد بخلافه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

١٩٤

وعلى كل حال فالمعروف من الإقعاء في اللغة ما عرفت ، واليه يرجع ما عن القاموس وغيره من أنه التساند إلى ما وراءه كما أومأ إليه في الصحاح ، وقد عرفت أن تلك الإشارات في النصوص لا تنطبق عليه ، بل قد سمعت ما في المروي عن معاني الأخبار بناء على أن الجميع من الخبر ، ويؤيده مع ذلك أن الظاهر الإشارة بهذه النصوص إلى ما تفعله العامة ، وعند جماعة منهم أنه سنة ، قال في المحكي عن شرح صحيح مسلم : اعلم أن الإقعاء ورد فيه حديثان : أحدهما أنه سنة ، وفي حديث آخر النهي عنه وقد اختلف العلماء في حكمه وتفسيره اختلافا كثيرا ، والصواب الذي لا معدل عنه أن الإقعاء نوعان : أحدهما أن يلصق ألييه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب ، هكذا فسره أبو عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبو القاسم بن سلام وآخرون من أهل اللغة ، وهذا النوع هو المكروه الذي ورد النهي عنه ، والنوع الثاني أن يجعل ألييه على عقبيه بين السجدتين ، وهذا هو مراد ابن عباس أنه سنة ، وقد نص الشافعي على استحبابه في الجلوس بين السجدتين ، وحمل حديث ابن عباس جماعة من المحققين عليه منهم البيهقي والقاضي عياض وآخرون ، قال القاضي قد ورد عن جماعة من الصحابة والسلف أنهم كانوا يفعلونه ، قلت : وهو الذي يستعملونه الآن ، فهو المناسب لبيان حكمه بالنهي عنه ، وإلا فذاك قل ما يفعله أحد ، على أنه هو جلوس القرفصاء التي هي أحد جلسات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفضل الأحوال في النافلة وغيرها مما يصلى من جلوس ، وأفضل جلوس المرأة ، فوجب القطع من جميع ذلك أن المراد هنا بالإقعاء ما سمعته من الأصحاب لا اللغوي ، ولا ينافيه ما في صحيح الثلاثة (١) من التشبيه بإقعاء الكلب ، إذ هو مع أنه عبارة لهم لا من المعصوم عليه‌السلام في أحد الوجهين في هذه الكيفية شبيه بإقعاء الكلب أيضا ، ولذا حكي عن الميسية تفسيره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٢.

١٩٥

بذلك ، وقال : كما يقعي الكلب ، وإلا فهما معا لا ينطبقان على إقعاء الكلب ، ضرورة افتراش ساقيه وفخذيه كما في كشف اللثام ، بخلاف الرجل فإنه ينصبهما ، ولعله لذا أخذ بعضهم مع ذلك وضع اليدين في الأرض لتحصيل المشابهة له ، على أن حمل خصوص هذا الصحيح على ذلك ـ فيكون أيضا مكروها كالاقعاء بالمعنى المعروف ـ لا يقتضي حمل الجميع على ذلك بعد ما عرفت.

كما أنه لا ينافيه أيضا عدم ذكر أهل اللغة له في تفسير الإقعاء بعد أن علم المراد منه بالقرائن المتقدمة ، إذ لا يقدح حينئذ معروفية الإقعاء لغة بخلافه ، على أنه قد يمنع ذلك ، فإن أصحابنا أدرى باللغة من الذين صنفوا فيها ، وظاهرهم ثبوته فيها بالمعنى المزبور كما يومي اليه ما في المعتبر وغيره ، ولعل أهل اللغة نصوا عليه بالنسبة إلى إقعاء الكلب ، هذا. مع أن ظاهر كشف اللثام « أن الإقعاء في اللغة لما يعمهما ، قال فيه : والإقعاء من القعو ، وهو كما حكاه الأزهري عن أبي العياش عن ابن الأعرابي أصل الفخذ ، فهو الجلوس على القعوين إما بوضعهما على الأرض ونصب الساقين والفخذين قريبا من إقعاء الكلب ، والفرق أنه يفترش الساقين والفخذين ، أو بوضعهما على العقبين وهو المعروف عند الفقهاء المنصوص عليه في خبري زرارة (١) وخبر حريز (٢) ومعاني الأخبار (٣) كما أن الأول عند اللغويين » إلى آخره.

قلت : ولعله على هذا بنى من عمم الكراهة للإقعاء بمعنييه ، ضرورة كونه حينئذ للقدر المشترك بين الفردين ، فالنهي حينئذ في نحو خبر أبي بصير (٤) للطبيعة الشاملة لهما ، واقتصار الأصحاب على هذا الفرد لأنه هو الذي يستعمله العامة وغيرهم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التشهد ـ الحديث ١ والباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

١٩٦

من المستعجلين ، بخلاف نحو إقعاء الكلب الذي هو في غاية الصعوبة ولم يستعمله أحد فلذا ناصب التنصيص على الأول دونه ، وإلا فالنهي مما يشملهما كما هو الأصل فيما يتعقب النهي من الطبائع والنكرات ، خصوصا بعد التأكيد في الخبر المزبور ، نعم قد يمنع عليه أصل ذلك بملاحظة كلام اللغويين والفقهاء ، لظهورهما معا في تباين المعنيين وعدم الجامع بينهما ، وأن لفظ الإقعاء حينئذ إما من المشترك لفظا ، أو من الحقيقة والمجاز ، فالطبيعة أو النكرة المتعقبة للنهي انما تقتضي التعميم في أفراد ذلك المعنى المراد لا المعنى الآخر كما هو واضح ، ومن هنا قال في المحكي عن البحار : إن المعنى المشتهر بين اللغويين خلاف ما هو المستحب من التورك ، أما إثبات كراهته فمشكل ، لأنه لا يدل على كراهته ظاهرا إلا أخبار الإقعاء ، وهي ظاهرة في معنى آخر مشتهر بين الأصحاب ومخالفيهم ، قلت : فهي مع القرائن السابقة التي أقمناها على تعيين المراد من الإقعاء هنا في النصوص والفتاوى تعارض شهرة اللغويين ، لكن ومع ذلك فالأولى تركه.

كما أن الأولى ترك الجلوس على بطون القدمين بافتراش ظاهرهما على الأرض وإن كان إثبات كراهته مشكلا أيضا ، بل قد سمعت فيما تقدم عن ابن الجنيد استحبابه فيما بين السجدتين ، والاستناد في إثباتها إلى ما يوهمه إطلاق كلام بعض اللغويين والمخالفين بعد أن عرفت التحقيق وأنها عند الأصحاب لما لا يشمل ذلك في غاية الضعف ، كالاستناد إلى نحو‌ قوله (١) : « ولا تقع على قدميك » وقوله (٢) : « إياك والقعود على قدميك » ونحو ذلك ، ضرورة كون مورد الأول الإقعاء لا القعود ، فيتوقف الاستدلال به على أن الإقعاء موضوع لخصوص هذا الفرد أو لما يشمله ، وقد عرفت ما فيه ، والمراد بالثاني بقرينة التعليل بالأذية وعدم الصبر ما لا يشمل ذلك وإن كان تخصيصه بالإقعاء بالمعنى المتعارف لا يخلو من بحث ، لاحتمال إرادة النهي عن أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٣.

١٩٧

يجعل باطن قدميه على الأرض غير موصل ألييه رافعا فخذيه وركبتيه إلى قريب ذقنه كما يتجافى المسبوق ، والتعليل منطبق عليه كمال الانطباق ، وهو غير الإقعاء اللغوي ، ضرورة عدم وضع الأليين فيه على الأرض ، ومنه تحصل الأذية ، ولعل هذا هو مراد ابن الجنيد فيما حكي عنه من النهي عن القعود على مقدم رجليه وأصابعهما لا الإقعاء اللغوي كما ظن ، لكن ومع هذا كله فالأحوط والأولى ترك الجلوس على الوجوه الأربعة ، بل ربما احتمل إرادة النهي عن جميعها إن جاز استعمال اللفظ في معنييه الحقيقيين أو المعنى الحقيقي والمجازي ، بل وإن لم يجز ، لإمكان عموم المجاز أو الاشتراك حينئذ ، فالأولى ترك الجميع خصوصا الذي لم يكن الجلوس فيه على الألية منها ، لظهور شدة طلب الشارع ذلك ، وعدم إرادة غيره ، قال الصادق عليه‌السلام لسعيد بن عبد الله (١) لما سأله أني أصلي في المسجد الحرام فأقعد على رجلي اليسرى من أجل الندى : « اقعد على أليتيك وإن كنت في الطين » وكأنه عنى السائل جلوسه على أليته اليسرى مفترشا لفخذه وساقه اليسريين ، أو غير مفترش ناصبا لليمينين ، أو غير ناصب ، فأمره عليه‌السلام بالقعود عليهما بالإفضاء بهما إلى الأرض متوركا أو غير متورك أولا به كما في كشف اللثام ، والله أعلم ، هذا. وقد وقع في الحدائق في المقام ما لا يخفى ما فيه بعد الإحاطة بما قدمناه ، خصوصا دعواه حصر الكراهة فيما بين السجدتين بالإقعاء اللغوي دون المتعارف ، فلاحظ وتأمل.

مسائل ثلاث‌ الأولى من حصل به ما يمنع وضع مسمى الجبهة على الأرض وغيرها مما يصح السجود عليه كالدمل والجروح ونحوهما إذا لم يستغرق الجبهة بل بقي منها ما يحصل به وضع المسمى أو مقدار الدرهم بناء على اعتباره وجب عليه أن يحتفر حفيرة مثلا ليقع السليم من جبهته على الأرض بلا خلاف فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٤.

١٩٨

بين العلماء كما في المدارك ، وعليه فتوى العلماء كما في منظومة الطباطبائي ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه لما ستعرف من عدم خلاف من ظن خلافه في ذلك ، وكيف يعقل الخلاف فيه بعد فرض التمكن من الإتيان بالمأمور به على وجهه ، فجميع ما دل حينئذ على وجوب وضع الجبهة بحاله ، مضافا إلى خصوص‌ خبر مصادف (١) الذي رواه المشايخ الثلاثة ، قال : « خرج في دمل فكنت أسجد على جانب فرأى في أبو عبد الله عليه‌السلام أثره فقال : ما هذا؟ فقلت : لا أستطيع أن أسجد من أجل الدمل فإنما أسجد منحرفا فقال : لا تفعل ذلك ، احتفر حفيرة واجعل الدمل في الحفيرة حتى تقع جبهتك على الأرض » وفي‌ المحكي (٢) عن فقه الرضا عليه‌السلام « فان كان في جبهتك علة لا تقدر على السجود أو دمل فاحفر حفيرة ، فإذا سجدت جعل الدمل فيها ، وإن كان على جبهتك علة لا تقدر على السجود من أجلها فاسجد على قرنك الأيمن ، فإن تعذر فعلى قرنك الأيسر ، فإن تعذر فعلى ظهر كفك ، فان لم تقدر عليه فاسجد على ذقنك يقول الله تبارك وتعالى (٣) ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) » وفي الرياض بعد أن ذكر منه ما يخص الحفرة قال : وقريب منه المروي (٤) في تفسير علي بن إبراهيم ، وفيه أنه خال عن مسألة الحفر كما ستسمعه ، ومن المعلوم أنه لا فرق في ذلك بين الدمل وغيره ، ولا بين الحفيرة وغيرها مما يحصل به الواجب ، وما عساه يظهر من الصدوقين من الخلاف في الأول غير مراد ، أو في غاية الضعف كما ستعرف.

فان تعذر الوضع للاستيعاب ونحوه سجد على أحد الجبينين إجماعا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ١.

(٣) سورة الإسراء ـ الآية ١٠٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٣.

١٩٩

صريحا في المحكي عن حاشية المدارك ، وظاهرا في جامع المقاصد ومجمع البرهان والمدارك والمحكي عن تعليق النافع ، وفي الذخيرة وشرح المفاتيح للأستاذ الأكبر الظاهر أنه لا خلاف فيه ، وفي الجامع أيضا والمحكي عن إرشاد الجعفرية والروض أنه لا خلاف في تقديم الجبينين على الذقن ، وفي مجمع البرهان أن مرسل علي بن محمد (١) الآمر بالسجود على الذقن مقيد بتعذر الجبينين بالإجماع أو الشهرة ، بل في الرياض بالنص والإجماع ، وفي المحكي عن الخلاف « الإجماع على أنه إذا لم يقدر على السجود على جبهته وقدر على السجود على أحد قرنيه أو على ذقنه سجد عليه » ولعل مراده ما لا ينافي الترتيب ، بل هو في مقابلة من أنكر من العامة السجود عليهما أو على أحدهما بحال من الأحوال لا التخيير بينهما ، إذ لم نعرفه قولا لأحد منا فضلا عن أن يكون إجماعا ، نعم قد يتوهم من الصدوقين الخلاف في الجبينين كما ظنه في كشف اللثام من المبسوط والنهاية وجامع الشرائع وابن حمزة ، فلا بدلية للجبينين عن الجبهة أصلا ، بل إن تعذرت انتقل إلى الذقن ، ومال هو إليه ، للأصل وإطلاق خبر الذقن (٢) كما ستعرف ، وعدم صلاحية ما يقيده من نص أو إجماع ، مع أنه ليس كذلك في الجميع ، قال في المبسوط : « وموضع السجود من قصاص شعر الرأس إلى الجبهة أي شي‌ء وقع منه على الأرض أجزأه ، فإن كان هناك دمل أو جراح ولم يتمكن من السجود عليه سجد على أحد حاجبيه ( جانبيه خ ل ) فان لم يتمكن سجد على ذقنه ، وإن جعل لموضع الدمل حفيرة يجعله فيها كان جائزا » وفي الذكرى « انه قال في النهاية نحو ذلك » وفي المحكي عن جامع الشرائع « فإن كان في موضع سجوده دمل سجد على أحد جانبيه ، فان تعذر فعلى ذقنه وإن جعل حفيرة للدمل جاز » والظاهر إرادتهما الجبينين من الجانبين ، لأنهما هما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب السجود ـ الحديث ٢.

٢٠٠