جواهر الكلام - ج ٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الضحاك (١) بناء على الإخفات في التسبيح.

ومن ذلك كله استوجه غير واحد جعل المدار على العرف الذي قد سمعته ، ولكن قيل الأحوط مع ذلك ما ذكروه لشبهة الإجماع الذي ادعوه وإن أمكن الذب عنه بأن عبارة التبيان غير صريحة فيه بل ولا ظاهرة ، وأما الفاضلان فهما وإن صرحا به إلا أنه يحتمل احتمالا قريبا يشهد له سياق عبارتهما كون متعلقة خصوص لزوم اعتبار إسماع النفس في الإخفات ، ومن السياق الشاهد على ذلك عطفهما على الإجماع قولهما : ولأن ما لا يسمع لا يعد كلاما ولا قراءة ، ومنه أيضا قولهما في بعض كتبهما في حد الإخفات : وأقله أن يسمع نفسه ، وهو كالصريح في أن للاخفات فردا آخرا أعلى من إسماع النفس ، ولا يكون إلا بإسماع الغير من دون صوت ، وإلا لتصادق الجهر والإخفات في بعض الأفراد ، وهو معلوم البطلان ، لاختصاص الجهر ببعض الصلاة والإخفات ببعض الصلاة وجوبا أو استحبابا ، إلا أنك خبير بأن ذلك احتمال لا ينافي الظهور الحاصل من متون تلك الإجماعات المحتملة لأن يكون المعتبر شرعا في الجهر والإخفات ذلك ، وأنه ليس المدار على مسماهما عرفا ، إذ لا بعد في أن يراد منهما خصوص بعض الأفراد كما نهي عن الفرد العالي من الجهر وما لا يسمع النفس من الإخفات بناء على تحقق اللفظ والقراءة به ، فصدق الإخفات عرفا حينئذ على بعض ما أسمع الغير لا يستلزم الاجتزاء به شرعا ، ودعوى العسر والحرج بذلك ممنوعة أشد المنع ، ولعل منشأ دعواها جريان العادة في الإخفات بإخراج الصوت بقوة وعزم بصورة المبحوح ، فصار يصعب عليه غيره ، وإلا فالوجدان شاهد بإمكان القراءة من دون إسماع الغير تمام ما يقوله بحيث يفهم إذا فرض عدم أقربيته له من سمعه اليه من غير عسر كما هو واضح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٨ رواه عن رجاء بن أبى الضحاك كما ذكرنا سابقا.

٣٨١

والمروي عن العيون مع ابتنائه على الإخفات في التسبيح الذي قد سمعت البحث فيه لم يتضح سنده ، بل قد ينكر كون اللغة بل والعرف كما ذكروه ، ضرورة كون الجهر فيهما الإظهار الذي يتحقق بمطلق حصول طبيعته ، ولا ريب في حصولها بما قاله الأصحاب من إسماع القريب حتى على ما في كشف اللثام من أن المراد بالقريب الذي لا أقرب منه ، والإخفات الاسرار الذي هو من قبيل الإخفاء ، بل هو منه عند التأمل ، ولا ريب في منافاته لإسماع القريب المعتبر في الجهر ، إذ لا نريد باعتبار عدم إسماع الغير فيه ما يتناول الغير الذي هو مساو للنفس أو كالمساوي قطعا ، فإن أراد المتأخرون أمرا زائدا على ذلك كان للبحث فيه مجال ، وإلا فمرحبا بالوفاق.

ومنه حينئذ يعلم أن ما يستعمله كثير من المتفقهة من الإخفات بصورة الصوت المبحوح ويسمعه منه من كان أبعد من أذنيه بمراتب وربما كان إماما ويسمعه أهل الصف الثاني لا يخلو من إشكال ، بل هو كذلك حتى على كلام المتأخرين ، ضرورة حصول مسمى الرفع به بل والجرسية ، إذ لا ينافيها مثل هذا الإخفاء ، فإنها مراتب عديدة ، بل لو أعطي التأمل حقه أمكن دعوى تسمية أهل العرف مثله جهرا ، كما أنه يسلبون عنه اسم الإخفات ، لا أقل من أن يكون ذلك مشكوكا فيه ، أو واسطة لا يندرج في اسم كل منهما ، فلا يجتزى به ، ولا ينافيه ضديتهما لعدم المانع من ارتفاعهما حينئذ ، وربما يشهد لثبوتها قوله تعالى (١) ( وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) بناء على إرادة ما فوق السر ودون الجهر ، فتأمل. فالاحتياط بترك هذا الفرد في امتثال كل من الإخفات والجهر لازم ، كما أنه يجب ترك الفرد المفرط من الجهر الذي صرح به بعض الأصحاب كالعلامة الطباطبائي وغيره ، بل نسبه الفاضل الجواد في آيات أحكامه إلى الفقهاء مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، للنهي عنه في الآية المفسرة بذلك في موثق‌

__________________

(١) سورة الأعراف ـ الآية ٢٠٤.

٣٨٢

سماعة (١) وغيره ، مضافا إلى خروج الصلاة عن الكيفية المتعارفة فيظن عدم إجزائها أو يعلم مع محوها لصورة الصلاة ، لا أقل من الشك في حصول الامتثال بها بسبب الشك في شمول الإطلاقات لمثلها ، أو الظن بخلافه من جهة انصرافها إلى المتعارفة ، وعليه حينئذ يتجه البطلان ولا يجديه التلافي ولو اكتفينا به في غيره من صور المخالفة كما سمعت البحث فيه سابقا ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( ليس على النساء جهر ) للإجماع بقسميه ، ول‌ خبر علي بن جعفر (٢) المروي عن قرب الاسناد سأل أخاه عليه‌السلام « عن النساء هل عليهن جهر بالقراءة في الفريضة؟ قال : لا ، إلا أن تكون امرأة تؤم النساء فتجهر بقدر ما تسمع قراءتها » ولفظ الجهر فيه مع الاستثناء دليل أن ما عن التهذيب من‌ خبري علي بن جعفر (٣) وعلي بن يقطين (٤) عنه عليه‌السلام « في المرأة تؤم النساء ما حد رفع صوتها بالقراءة والتكبير؟ فقال عليه‌السلام : بقدر ما تسمع » بضم التاء من الاسماع ومقتضاه الوجوب حال الإمامة ، ولم أظفر بفتوى توافقه كما اعترف به في كشف اللثام فلا بأس حينئذ في حمله على الندب حيث لا أجنبي لا معه ، لأن صوتها عورة يجب إخفاؤه عنه باتفاق الأصحاب كما في كشف اللثام وعن غيره ، ومن هنا استدل به بعضهم على المطلوب زيادة على ما ذكرنا ، وقضيته فساد الصلاة معه حينئذ كما صرح به هو أيضا وفيه إمكان منع حرمة الاسماع والسماع مع عدم الفتنة والتلذذ ، للأصل والسيرة المستمرة وظاهر الكتاب والسنة ، ومعروفية قصة فاطمة عليها‌السلام وغيرها ونحو ذلك مما يطول ذكره ، ودعوى أن جميع ذلك للحاجة يدفعها ـ مع معلومية خلافها أيضا ، ووجوب تقييد الحاجة بما يسوغ لها رفع مثل هذه الحرمة ـ ان المقام منها ، ضرورة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

٣٨٣

وجوب الجهر في الصلاة مثلا ، على أنه أخص من الدعوى ، إلا أن يراد كونه عورة كالبدن يجب ستره في الصلاة وإن لم يكن أجنبي ، وفيه منع واضح ، خصوصا والمستدل به يذهب إلى تخييرها بينه وبين الإخفات إذا لم يكن أجنبي ، مضافا إلى أن معارضته لما دل على وجوب الجهر من وجه ، فيحتاج تحكيمه عليه حينئذ إلى الترجيح ، وإلى إمكان اختصاص الحرمة بالسامع دونها ، وإلى ما في الحدائق وحاشية الأستاذ الأكبر من أنه على تقدير الحرمة لا وجه للفساد ، ضرورة كون النهي عن أمر خارج ، وفيه أنه ليس الجهر إلا الحروف المقروة ، ضرورة كونها أصواتا مقطعة غالبا كان الصوت أو خفيا ، فليس هو حينئذ أمرا زائدا على ما حصل به طبيعة الحرف مفارقا له كي يتوجه عدم البطلان كما هو واضح ، ونحوه الغناء في القراءة ، ولعل ذا هو مراد الأصوليين بجعل الجهر والإخفات من الصفات اللازمة ، لكن على كل حال لا تتم دلالة الدليل المزبور على تمام المطلوب.

كما أنه لا يتم الاستدلال عليه أيضا بما في الرياض من اختصاص النصوص الموجبة له وللاخفات بحكم التبادر من سياق أكثرها وفتوى الفقهاء بالرجل دونها ، فتبقى على الأصل حينئذ ، قال : ومنه يظهر عدم وجوب الإخفات في مواضعه أيضا كما صرح به جمع ، ولكن ينافيه ظاهر العبارة ككثير حيث خصوا الجهر بالنفي ، ووجهه غير واضح ، إذ فيه أولا منع اختصاص النصوص بالرجل ، بل فيها الفعل المبني للمجهول ونحوه مما يشملهما مما ، وثانيا بعد التسليم فليس هو إلا موردا لا يعارض قاعدة الاشتراك الثابتة بالإجماع وغيره ، بل الواجب التمسك بها إلا أن يعارضها ما هو أقوى منها ، بل لا يقدح وقوع الخلاف في التمسك بها في محله فضلا عن غيره وإن كان الإجماع عمدة أدلتها ، ضرورة انعقاده على القاعدة التي قامت حجة بنفسها من غير حاجة اليه.

٣٨٤

ومن هنا بان لك أن المتجه ما حكاه عن ظاهر كثير من الأصحاب ، بل لا أجد فيه خلافا بين من يعتد بخلافه من الأصحاب من وجوب الإخفات عليها في مواضعه لا التخيير ، لعدم المعارض لها فيه بخلاف الجهر الذي قد عرفت الإجماع على عدم وجوبه عليهن في مواضعه ، نعم الظاهر تخييرها بينه وبين الإخفات إذا لم تكن ثم أجنبي بناء على ما عرفت ، كما هو ظاهر تعبير الأصحاب بأن ليس عليهن جهر ، فالأصل حينئذ لا معارض له ، بل ظاهر الفتاوى ومعاقد الإجماعات معاضد له ، وبه صرح غير واحد ، بل لم أجد فيه خلافا صريحا ، كما لم أجد بخلافه دليلا كذلك ، والخنثى المشكل بناء على إلزامها بالاحتياط تخفت في محل الإخفات ، ويجهر في محل الجهر إذا لم يكن أجنبي ، وإلا قيل : أخفتت ، والمتجه التكرير مع انحصار الطريق فيه ، تحصيلا للاحتياط ، والله أعلم.

والمسنون في هذا القسم‌ الجهر بالبسملة في مواضع الإخفات في أول الحمد وأول السورة على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا بل في التذكرة نسبته إلى علمائنا مشعرا بدعوى الإجماع عليه كالمحكي عن المعتبر ، بل في كنز العرفان وعن الخلاف الإجماع عليه صريحا ، بل في الذكرى وغيرها أن من شعائر الشيعة الجهر بالبسملة لكونها بسملة ، وزاد في المدارك « حتى قال ابن أبي عقيل تواترت الأخبار أن لا تقية في الجهر بالبسملة » وذلك كله مع الاعتضاد بالتتبع الشاهد لصدق هذا الإجماع حجة على ما تفرد به العجلي ( الحلي خ ل) كما في الذكرى وغيرها من تخصيص الاستحباب بالأولتين للاحتياط الذي يمكن منعه في المقام ، لما ستعرفه من القول بوجوب الجهر ، ولا يجب مراعاته حتى في الصلاة بناء على الأعمية ، على أن الدليل المسوغ متحقق ، فلا معنى للوجوب له معه ، ولأن القراءة انما تتعين في الأولتين وفيه منع دوران الجهر بها على تعيين القراءة ، لما سمعته من إطلاق معاقد الإجماعات‌

٣٨٥

والفتاوى ، ولذا قال في الذكرى بعد نقله القول المزبور : وهو قول مرغوب عنه ، لأنه لم يسبق اليه ، وهو بإزاء إطلاق الروايات والأصحاب ، قلت : وهو كذلك وإن حكي أنه حمل عليه عبارة الشيخ في الجمل « والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم فيما لا يجهر بالقراءة في الموضعين » لكن لعله يريد بالموضعين أول الحمد حيث كانت ، والسورة كما احتمله الفاضل والشهيد ، فصح حينئذ تفرده بذلك وأن الإجماع قد سبقه بل ولحقه نعم قد يظهر من عبارة الغنية موافقته ، بل وأنه إجماع ، لكن التتبع يشهد بخلافه ، أو يحمل على أن لا يريد هذا الظاهر كما يومي اليه عدم ذكر أحد من الأصحاب له مخالفا.

وأما النصوص فمنها الأخبار (١) المستفيضة الدالة على أن الجهر بها أحد علامات المؤمن الخمس ، ومنها الظاهرة كمال الظهور كما لا يخفى على من لاحظها في أن المراد الجهر بها لأنها بسملة كما يومي اليه في الجملة‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر هارون (٢) « كتموا بسم الله الرحمن الرحيم فنعم والله الأسماء كتموها ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل إلى منزله واجتمعت عليه قريش يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويرفع بها صوته فتولى قريش فرارا ، فأنزل الله عز وجل في ذلك ( وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) (٣) بل ملاحظتها أي تلك النصوص مع التأمل والتدبر تشرف على القطع بفساد المناقشة فيها بأنها لا تعم ، فان من العامة من يتركها ، ومنهم من يخفت بها في الجهرية ، فالجهر بها فيها علامة للايمان ، ضرورة ظهورها فيما ذكرناه من أن المراد الجهر بها لأنها بسملة ، بل لعل المراد بالمؤمن فيها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من كتاب المزار ـ الحديث ١ والمستدرك ـ الباب ١٧ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١١ و ١٣ والباب ٣٠ من أبواب أحكام الملابس الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٣) سورة الإسراء ـ الآية ٤٩.

٣٨٦

كما يومي اليه ذكر باقي العلامات كامل الايمان لا المقابل للمخالف ، فالمقصود الحث وزيادة التأكيد على هذا المندوب نحو ما ورد في غيرها من صفات المؤمن وحقوق المؤمن على المؤمن ، ونحو ذلك ، ومنها‌ خبر الأعمش (١) المروي عن الخصال عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام في حديث شرائع الدين قال : « والإجهار ببسم الله الرحمن الرحيم واجب » ضرورة إرادة الاستحباب المؤكد منه كما ستعرف ، ومنها‌ كتابة الرضا عليه‌السلام إلى المأمون في خبر الفضل بن شاذان (٢) المروي عن العيون « والإجهار ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات سنة » كخبر رجاء بن الضحاك (٣) المروي عنها أيضا « أن الرضا عليه‌السلام كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع صلواته في الليل والنهار » إلى غير ذلك من النصوص.

ومن الغريب بعد ذلك كله ميل المحدث البحراني إلى القول المزبور ، قال : « لأن انقسام الصلاة إلى الجهرية والإخفاتية انما هو باعتبار الأولتين لا الأخيرتين ، لتعارف التسبيح فيهما ، فما في النصوص حينئذ من قوله صلاة يجهر فيها ولا يجهر فيها انما هو بالنسبة إليهما » وفيه أنه بعد تسليم ذلك له قد عرفت ظهور نصوص المقام في أن الجهر بها من حيث كونها بسملة كما هو واضح ، مضافا إلى أن العمدة في إخفات قراءة الأخيرتين الإجماع ، خصوصا بعد أن نزل النصوص على ما عرفت ، وهو هنا غير معلوم ، بل لعل المعلوم خلافه ، ودعوى التمسك بإطلاق معقد الإجماع يدفعها أنه إن أريد المنقول منه على الإخفات في المسألة السابقة فالحلي مع أنه لا يقول بحجية أخبار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٥ وفي الوسائل‌ « والإجهار ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة واجب ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٧ روى عن رجاء بن أبى الضحاك.

٣٨٧

الآحاد فضلا عن الإجماع المنقول قد عرفت أن ناقله هناك نقل الإجماع هنا على المطلوب فلا أقل من أن يكون من قبيل المطلق والمقيد وإن أراد المحصل منه ففيه أن تحصيل الإجماع المصطلح على وجه يتمسك بإطلاقه حتى يأتي المقيد ممنوع أو في غاية الصعوبة ، على أنه قد عرفت المقيد ، واحتمال كون التعارض بالعموم من وجه مع فرض ملاحظة دليل الإخفات في قراءة الأخيرتين مستقلا عن دليل الإخفات في غيرهما بعد التسليم يدفعه وجود المرجح من جهات عديدة ، فظهر حينئذ ضعف القول المزبور ، كضعف المحكي عن ابن الجنيد من تخصيص الاستحباب ولو في الأخيرتين بالإمام دون غيره من المنفرد ونحوه ، إذ جميع ما سمعت حجة عليه ، بل وغيره من ظاهر إجماع الغنية والمحكي عن السرائر وغيرهما ، مع أنه لا شاهد له في النصوص على كثرتها ، ضرورة عدم النفي عن الغير في‌ خبر صفوان (١) « صليت خلف أبي عبد الله عليه‌السلام أياما فكان. فإذا كانت صلاة لا يجهر فيها جهر ببسم الله الرحمن الرحيم وأخفى ما سوى ذلك » وعن الكليني زيادة « وكان يجهر بالسورتين جميعا » و‌خبر أبي حفص الصائغ (٢) المروي عن المجالس « صليت خلف جعفر بن محمد عليهما‌السلام فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » وخبر أبي حمزة (٣) قال : « قال لي علي بن الحسين عليهما‌السلام : يا ثمالي إن الصلاة إذا أقيمت جاء الشيطان إلى قرين الامام فيقول : هل ذكر ربه؟ فان قال : نعم ذهب ، وإن قال : لا ركب على كتفيه ، وكان إمام القوم حتى ينصرفوا ، قال : فقلت : جعلت فداك أليس يقرءون القرآن؟ قال : بلى ليس حيث تذهب يا ثمالي انما هو الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ».

بل ربما استدل بالخبرين الأولين على التعميم إما لعدم اعتبار مثل هذه المحتملات‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٤.

٣٨٨

في أصل دليل التأسي ، لصدق دليله عليه بدونه ، أو في خصوص التأسي بالصلاة الحاصل من نحو‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « صلوا كما رأيتموني أصلي » ضرورة صدق الصلاة كصلاته وإن لم يكن المصلي إماما ، فتأمل فإنه دقيق نافع ، وعلى كل حال فقد ظهر ضعفه أيضا كسابقه.

بل ونحوهما ما يحكى عن القاضي من القول بالوجوب وأطلق ، كما عن الأمالي أنه من دين الإمامية الإقرار بأنه يجب الجهر بالبسملة عند افتتاح الفاتحة وعند افتتاح السورة بعدها ، بل قد يستظهر ذلك من الأمر به في المحكي عن الفقيه وبعض عبارات الشيخ ، وما عن المجلسي من القول به في خصوص أولتي الظهرين ، وكأنه ظاهر الغنية وإن قال بعد ذلك : إنه أحوط ، إذ لا ريب في ضعفهما ، لقضاء الأصل ، وخصوص‌ خبر الحلبيين (٢) كما في كشف اللثام سألا الصادق عليه‌السلام : « عمن يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يريد يقرأ فاتحة الكتاب قال : نعم إن شاء سرا وإن شاء جهرا » وجميع الأدلة السابقة صريحا في البعض وظاهرا ولو من السياق والتعداد في جملة المندوبات ونحو ذلك في آخر بخلافهما عدا الخبر (٣) السابق المشتمل على لفظ الوجوب ، وهو مع ضعف سنده يجب حمله على إرادة غير المعنى المصطلح ، أو على الوجوب التخييري ، بل لعل عبارات هؤلاء تحمل على ذلك كما لا يخفى على من مارس عبارات القدماء ، وغلبة تعبيرهم بما في النصوص من بعض الألفاظ الباقية على العرف الأول ، ومن هنا احتمل في الذكرى حمل عبارة الموجب على التخييري كما سمعته في الخبر ، بل ينبغي الجزم به أو بتأكد الاستحباب بالنسبة إلى عبارة الأمالي ، لأن الذي حكاه الشهيد‌

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ ص ١٢٤ و ١٢٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٥.

٣٨٩

وغيره عن تصريح الصدوق الاستحباب ، فهو قرينة أخرى على إرادته به ذلك أيضا ، بل معلومية الاستحباب بين الإمامية قرينة ثالثة ، إذ يبعد عدم معرفة مثل الصدوق بمذهب الإمامية حتى ينسب إليهم الوجوب ، ولئن أغضينا عن ذلك كله كان موهونا بجميع ما عرفت ، مع أنه يمكن المناقشة في إفادة العبارة المزبورة الإجماع ، لأن الظاهر إرادة عند الإمامية في الجملة منها في مقابلة إطباق العامة لا إجماع الإمامية ، بل لعل العبارة لا تفيده لغة ، لظهور الطبيعة منها ، لعدم كونها من الجمع المحلى ، بل هي من الملحق بالمفرد في وجه ، فتأمل.

واحتمال ترجيح الوجوب بأن المستفاد من الأدلة انما هو مطلق رجحان الجهر بالبسملة ـ فتندرج حينئذ في صحيح زرارة السابق الذي عبر فيه عن الإخفات بما لا ينبغي الإخفات فيه ، ضرورة عدم إرادة الوجوب من لفظ « ينبغي » في سؤال الصحيح ، لعدم حسن السؤال معه ـ يدفعه ما عرفت من أن المستفاد من الأدلة خصوص الاستحباب لا مطلق الرجحان ، بل قد عرفت صراحة جملة منها فيه كما هو واضح.

ثم ليعلم أن المراد بالاستحباب في المقام أفضل الفردين للزوم القراءة لأحد الوصفين ، وقد تقرر في الأصول أن الاستحباب الخصوصي لا ينافي الوجوب التخييري عقلا ولا عرفا ، فلا حاجة حينئذ إلى ما عن قواعد الشهيد من رجوع الاستحباب إلى اختيار ذلك الفرد بعينه ، فيكون فعله واجبا واختياره مستحبا ، اللهم إلا أن يريد ما ذكرنا ، على أن استحباب اختياره فرع استحباب المختار وأفضليته عند التأمل ، لكن في الذكرى أن التخيير انما يتم إن قلنا بتباين الصفتين ، وإن قلنا بأن الإخفات جزء الجهر فلا ، وفيه مع ضعف الاحتمال نفسه أنه يمكن القول بتمامه أيضا ، ضرورة تعقله بين الجزء والكل مع فرض عدم حصول أجزاء الكل تدريجا كما في المقام ، إذ الصوت الجهري وإن حصل به إسماع النفس مع الغير لكنه يحصل دفعة ، فحينئذ يخير بين‌

٣٩٠

إسماع النفس وحدها وبين إسماعها مع الغير ، والدقائق الحكمية لا تبنى عليها الأحكام الشرعية.

وكذا ينبغي أن يعلم أيضا أن الظاهر بقاء حكم التقية في المقام كغيرها من الأحكام ، ودعوى التواتر ـ بعد عدم ثبوتها عندنا ، فهي بالنسبة إلينا آحاد ـ لا تصلح لمعارضة أدلة التقية المعتضدة بالعقل وغيره ، مع أن المجلسي قد اعترف على ما حكي عنه بعدم وصول خبر يدل على ذلك إلا‌ خبر الدعائم (١) « روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد عليهم‌السلام أنهم كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر فيه بالقراءة من الصلوات في أول فاتحة الكتاب وأول السورة في كل ركعة ، ويخافتون بها فيما يخافت فيه من السورتين جميعا ، قال الحسن بن علي اجتمعنا ولد فاطمة على ذلك ، وقال جعفر ابن محمد عليهما‌السلام التقية ديني ودين آبائي ، ولا تقية في ثلاث : شرب المسكر والمسح على الخفين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » وأنت خبير بقصوره عن الحكومة على أدلة التقية من وجوه ، فيجب حمله على ما لا ينافيها أو طرحه كما هو واضح ، مع أنه كما ترى مشتمل على ما هو معلوم خلافه عنهم من الإخفات بها في محل الإخفات ، وكفى به مسقطا للخبر المزبور عن الحجية ، فتأمل ، والله أعلم.

ومنه ترتيل القراءة إجماعا محكيا في المدارك والحدائق إن لم يكن محصلا ، للأمر به في الكتاب (٢) المحمول على الندب بقرينة الإجماع المتقدم وغيره مما ستعرفه ، والمرسل (٣) كالصحيح عن الصادق عليه‌السلام « ينبغي للعبد إذا‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١٤.

(٢) سورة المزمل ـ الآية ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

٣٩١

صلى أن يرتل في قراءته ، فإذا مر بآية فيها ذكر الجنة وذكر النار سأل الله الجنة وتعوذ من النار ، وإذا قرأ يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا يقول : لبيك ربنا » وفيه إيماء إلى مناسبة الترتيل للخشوع والتفكر في القراءة الذي هو أمارة أخرى على استحبابه ، بل في كشف اللثام ولذا استحب في الأذكار ، كما أن فيه أيضا شهادة على إرادة الندب من غيره من الأخبار ، ولذا استدل عليه بها في الكشف أيضا بعد الآية ، والمراد بالترتيل الترسل والتأني بالقراءة بسبب المحافظة على كمال بيان الحروف والحركات ، فيحسن تأليفه حينئذ وتنضيده ، ويكون كالثغر المرتل الذي حسن نضده بسبب ما فيه من الفلج حتى شبه بنور الأقحوان بخلاف غير المرتل من الكلام الذي يشبه في تتابعه الثغر الألص أو الشعر الذي يهذ ويسرع في تأديته ، أو الرمل المنثور الذي بعضه على بعض ، كالدقل من التمر المتراكم قبل سقوطه أو بعده إذا تساقط متتابعا ، واليه أومأ‌ خبر عبد الله بن سليمان (١) انه « سأل الصادق عليه‌السلام عن قوله عز وجل (٢) : ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) فقال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : بينه تبيانا ولا تهذه هذ الشعر ، ولا تنثره نثر الرمل ، ولكن اقرعوا به قلوبكم القاسية ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة » وعن‌ دعائم الإسلام (٣) عنه عليه‌السلام « ولا تنثره نثر الدقل ، ولا تهذه هذ الشعر قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة » وعن ابن الأثير « هذا كهذ الشعر ونثرا كنثر الدقل أراد لا تسرع فيه كما تسرع في قراءة الشعر ، والهذ سرعة القطع ، والدقل ردي التمر أي كما يتساقط الرطب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ١.

(٢) سورة المزمل ـ الآية ٤.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

٣٩٢

اليابس من العذق إذا هز » وهو ظاهر في أن المراد بالفقرتين معا الإسراع كما ذكرنا ، ويحتمل حمل نثر الدقل في خبر الدعائم على كثرة التأني ، والفصل بين الحروف كثيرا ، فيكون كالدقل المنثور واحد هنا ، وآخر في موضع آخر ، بل ونثر الرمل في خبر (١) غيره على إرادة مده مسترسلا متفاحشا كالرمل المنثور ، فيكون المراد حينئذ من كل من الفقرتين غير الأخرى ، ولعله إليه أومأ العلامة الطباطبائي بقوله :

ورتل القرآن ترتيلا ولا

تهذه تمده مسترسلا

وكأن قراءة الشعر في الزمن السالف كانت بغير الطرق المتعارفة في هذا الزمان وإلا كان إرادة كثرة التأني والمد في هذه الفقرة أولى من الفقرة الثانية ، واحتمال التزامه مناف لتفسير الهذ بسرعة القطع ، اللهم إلا أن يراد منه هنا مطلق التلفظ ، فتأمل. وعلى كل حال فالمراد بالترتيل ما ذكرنا ، وظني أنه المراد لأكثر اللغويين والفقهاء وإن اختلفت عباراتهم كما هو دأبهم في تفسير الألفاظ المحصل معناها من المحاورات في المقامات ، ضرورة كونها ليست تعاريف حقيقية مستفادة من العقل كي ينضبط حدها بالجنس والفصل ، فما بين من فسره بالترسل والتبيين لغير بغي أي زيادة وطغيان ، مع أن التبيين لا يتم بالتعجيل كما عن الزجاج ، والترسل يتضمن التأني في الأداء كما عن التبيان وغيره ، وآخر بالترسل والتوأدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات وثالث بالتأني والتمهل وتبيين الحروف والحركات ، قال : تشبيها بالثغر المرتل ، وهو المشبه بنور الأقحوان ، ورابع بأن لا يعجل في إرسال الحروف ، بل يتثبت فيها ويبينها تبيينا ويوفيها حقها من الإشباع من غير إسراع من قولهم : ثغر مرتل ، ومرتل مفلج مستوي النسبة وحسن التنضيد ، وخامس بتنسق الشي‌ء ، ثغر رتل حسن المنضد ، ومرتل مفلج ، ورتلت الكلام ترتيلا إذا تمهلت فيه وأحسنت تأليفه ، وهو يترتل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ١.

٣٩٣

في كلامه ويترسل إذا فصل بعضه من بعض ، وسادس بحسن التأليف ، والجميع كما ترى متقارب جدا ، فما عن مجمع البيان ـ رتله : أي بينه بيانا أو اقرأ على هنيئتك ، وقيل معناه ترسل فيه ترسلا ، وقيل : معناه تثبت فيه تثبيتا ، وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) « بينه بيانا » إلى آخر الخبر السابق ، وروى أبو بصير (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « هو أن تتمكث فيه وتحسن به صوتك » ـ فيه ما لا يخفى ، اللهم إلا أن يريد ذكر خصوص الألفاظ التي ذكرت في تفسيره لا أنه مستظهر منها الخلاف في معناه ، ضرورة اتحاد المراد منها جميعها بل وعبارات الفقهاء ، وإن فسره في المنتهى والمحكي عن المعتبر ناقلا له عن الشيخ بتبيين الحروف من غير مبالغة ، وفي المحكي عن نهاية الأحكام والتذكرة ببيان الحروف وإظهارها ، وبأن لا يمده بحيث يشبه الغناء ، وكأنهما أرادا بذلك الإشارة إلى البغي في كلام الجوهري ، وفي المحكي عن إرشاد الجعفرية بتبيين الحروف وإظهارها ، والجميع كما ترى متحد مع اللغة حتى في ألفاظ التفسير.

ولقد أجاد في المدارك في تفسيره له بالترسل والتبيين وحسن التأليف مشيرا بالجمع المزبور إلى اتحاد المراد من هذه الألفاظ ، بل الظاهر ذلك حتى مما ذكره في الذكرى وفوائد الشرائع ، وعن تعليق النافع من تفسيره بحفظ الوقوف وأداء الحروف ، ضرورة إرادة البيان من الأداء كما عبر به في المحكي عن المفاتيح تبعا للمروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أو في إحدى الروايتين عنه ، كما أن التعبير بالأداء تبعا للمروي عن ابن عباس ، وفي فوائد الشرائع أي كمال الأداء ، وفي جامع المقاصد المراد بالتبيين المأخوذ في تعريف الترتيل ما زاد على القدر الواجب من التبيين.

فعلم من ذلك كله اتحاد المراد من البيان والأداء ، وقد يراد ما يشمل الوقوف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب قراءة القرآن.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب قراءة القرآن.

٣٩٤

من الترسل والتوأدة والتشبيه بالثغر المفلج ، قال في كشف اللثام : « كأنه عنى بحفظ الوقوف أن لا يهذ هذ الشعر ولا ينثر نثر الرمل » قلت : ويؤيده روايتهما معا في تفسيره بذلك عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فالمناسب للجمع بينهما إرادة معنى كل منهما من الآخر ، فما في الروضة ـ من أن معناه لغة الترسل والتبيين بغير بغي ، وشرعا ما في الذكرى ، بل في المحكي عن الروض أنه اختلفت العبارة عنه شرعا ، وذكر ما في المعتبر والنهاية والذكرى ، بل عنه في المسالك التصريح بأن له ثلاثة معاني ، وذكر ما في الكتب الثلاثة ـ فيه ما لا يخفى.

كما أن ما في النفلية ـ من تفسيره تبعا لعلماء التجويد بتبيين الحروف بصفاتها المعتبرة من الهمس والجهر والاستعلاء والإطباق والغنة وغيرها والوقف التام والحسن وعند فراغ النفس مطلقا ـ لا يخلو من نظر أيضا ، ضرورة عدم دليل على استحباب الوقوف المصطلحة عند القراء فضلا عن أن تكون داخلة في مفهوم الترتيل وإن ذكر المصنف وغيره أنه يستحب الوقوف على مواضعه المقروة المعروفة عندهم بالحسن والتام ، وقد قالوا : إن في جميع القرآن خمسة آلاف وثمانية وعشرين وقفا ، والظاهر إرادتهم التام ، عشرة منها مخصوصة مضبوطة تسمى وقف غفران ، لما‌ روي عنه (ص) « إن من ضمن لي أن يقف على عشرة مواضع ضمنت له الجنة » والوقوف الواجبة ثلاثة وثمانين وقفا ، منها الوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى (١) ( ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ) مما هو معلوم البطلان ، بل رووا عن الإمام أبي منصور أنه جعل الوقف الحرام ثمانية وخمسين وقفا ، وإن من وقف على واحد منها متعمدا كفر ، وجعل منها الوقف على ( صِراطَ الَّذِينَ ) وعلى ( مُلْكِ سُلَيْمانَ ) إلى غير ذلك مما زخرفوه واختلقوه ومنه تقسيمهم الوقف إلى التام والحسن والكافي والقبيح ، وان المراد بالتام ما لا تعلق له‌

__________________

(١) سورة آل عمران ـ الآية ٥.

٣٩٥

بما بعده لا لفظا ولا معنى ، وأكثر ما يوجد في الفواصل ورؤوس الآي وربما وجد قبلها نحو ( أَذِلَّةً ) الذي هو آخر آية بلقيس ، وبعدها نحو ( مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ ) الذي هو معطوف على المعنى أي بالصبح وبالليل ، وبالحسن ما له تعلق من حيث اللفظ فحسب كالحمد لله ، وبالكافي ما له تعلق من حيث المعنى فحسب كقوله تعالى ( لا رَيْبَ فِيهِ ) « و ( مِمّا رَزَقْناهُمْ ) » وربما اشترط فيه أن يكون ما بعد الموقوف عليه متعلقا به تعلقا إعرابيا ، والقبيح الذي لا يفيد معنى مستقلا كالوقف على الشرط والمضاف ، فالوقف التام في الفاتحة حينئذ أربعة ، على البسملة والدين ونستعين وآخرها ، والحسن عشرة ، بسم الله والرحمن ولله والعالمين والرحمن والرحيم ونعبد والمستقيم ، وعلى أنعمت عليهم وعلى غير المغضوب عليهم ، أو أحد عشر بإدخال الصراط ، وتعليل ذلك بأنهما معا يفيدان تحسين الكلام فيستحبان كما ترى ، كالاستدلال عليه بكراهة قراءة السورة بنفس واحد ، ضرورة أعمية ذلك من هذا الاصطلاح الحادث الناشئ مما تخيلوه في المراد بالآيات التي لا يعلم تفسيرها إلا الله ، فربما وقفوا في مكان لا ينبغي الوقف فيه ، لتخيلهم التمام وكان الواقع خلافه ، كوقفهم على لفظ الجلالة في آية الراسخين ، ودعوى أن المراد المحافظة على معنى الوقف التام والحسن فلا يقدح اشتباههم في بعض مواضعه لتخيلهم وجود المعنى يدفعه أنه لا دليل على ذلك أيضا ، ضرورة حدوث هذا الاصطلاح فلا يتجه إرادتهما من هذا اللفظ الواقع في المروي (١) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسير الترتيل أنه حفظ الوقوف وأداء الحروف بناء على صحة الرواية ، وإلا فقد قال في الحدائق : إني لم أقف عليها في كتب الأخبار ، ويحتمل أن تكون من طرق العامة وإن استسلفها أصحابنا في هذا المقام.

على أن ذكر المصنف وغيره استحباب ذلك بعد الترتيل يومي إلى عدم دخوله فيه‌

__________________

(١) تفسير الصافي ـ المقدمة الحادية عشر.

٣٩٦

ولقد أجاد والد المجلسي فيما حكي عنه وإن كان لا يخلو من النظر في بعض ما حكي يعرف مما ذكرناه ، قال : لم يثبت عندي استحباب رعاية ما اصطلح عليه أهل التجويد من الوقف اللازم والتام والحسن والكافي والجائز والمجوز والمرخص والقبيح ، لأنها من مصطلحات المتأخرين ولم يكن في زمان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلا يمكن حمل كلامه عليه إلا أن يقال غرضه عليه‌السلام رعاية الوقف على ما يحسن بحسب المعنى أو على ما يفهمه القاري ، ولا ينافي حدوث تلك الاصطلاحات ، ثم قال : ويرد عليه أيضا أن هذه الوقوف انما وضعوها على حسب ما فهموه من تفاسير الآيات ، وقد وردت الأخبار (١) الكثيرة في أن معاني القرآن لا يفهمها إلا أهل بيت نزل عليهم القرآن ، ويشهد له إنا نرى كثيرا من الآيات كتبوا فيها نوعا من الوقف بناء على ما فهموه ، ووردت الأخبار المستفيضة بخلاف ذلك المعنى ، كما أنهم كتبوا الوقف اللازم في قوله سبحانه ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ) على آخر الجلالة ، لزعمهم أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابهات ، وقد وردت الأخبار (٢) المستفيضة في أن الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم‌السلام وهم يعلمون تأويلها ، مع أن المتأخرين من مفسري العامة والخاصة رجحوا في كثير من الآيات تفاسير لا توافق ما اصطلحوا عليه في الوقوف.

وأنت خبير أن ذلك كله يمكن دفعه بأن المراد المحافظة على معنى الوقف التام والحسن لا خصوص ما تخيلوه ، وما ورد (٣) من اختصاص علم القرآن بهم عليهم‌السلام لا ينافي اتباع الظاهر لنا مما لم يرد فيه نص منهم عليهم‌السلام ، ولعل التحقيق قصر الندب في الوقوف على ما يندرج منه في الترتيل الثابت في القرآن وغيره ، بل ربما‌

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ـ ص ٢٢٨ « باب انه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم‌السلام ، وانهم يعلمون علمه كله ».

(٢) أصول الكافي ـ ج ١ ص ٢١٣.

(٣) أصول الكافي ج ١ ـ ص ٢٢٨ « باب انه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم‌السلام ، وانهم يعلمون علمه كله ».

٣٩٧

كان ذلك هو المراد بالموضع والمحل ونحوهما المعبر بهما في المتن والقواعد وغيرهما لا وقوف القراء كما صرح به جماعة ، وهو الذي أومأ إليه في كشف اللثام ، حيث فسر المحل بما يحسن الوقف فيه لتحسينه الكلام ودخوله تحت الترتيل ، والأمر سهل بعد اتفاق الأصحاب ودلالة النصوص كما في مجمع البرهان على عدم وجوب وقف ، قيل وما ذكره القراء واجبا أو قبيحا لا يعنون به معناه الشرعي كما صرح به محققوهم ، فمتى شاء حينئذ وصل ، ومتى شاء وقف ، لكن في كشف اللثام يجوز الوقف على كل كلمة إذا قصر النفس وإذا لم يقصر على غير المضاف ما لم يكثر فيخل بالنظم ويلحق بذلك بالأسماء ( الأسماء خ ل) المعدودة ، ولا يخلو استثناؤه من تأمل مع فرض عدم المانع المزبور ، كالمحكي عن الشهيد رحمه‌الله من منع السكوت على كلمة ، ولعل مراده المخل بالنظم منه والمفوت للموالاة مطلقا.

وأما مراعاة صفات الحروف التي استفادوها من قوله عليه‌السلام في تفسير الترتيل بتبيين الحروف في إحدى الروايتين فما له مدخلية في أصل طبيعة الحرف فلا ريب في وجوبه ، وأما الزائد فقد يشكل استحبابه لو لا التسامح فضلا عن وجوبه ، وقد ذكروا أن الصفات الجهر والهمس والشدة والتوسط بين الشدة والرخاوة والاستعلاء والاستفال والإطباق والانفتاح والانذلاق والاصمات ، أما حروف الهمس فعشرة ، يجمعها « فحثه شخص سكت » والجهر فيما عداها ، وحروف الشدة ثمانية ، يجمعها « أجدت طبقك » والمتوسطة خمس ، يجمعها « لن عمر » والرخاوة ما عداهما ، وحروف الاستعلاء سبعة « قا ص خ ض ط ع ظ » سميت بذلك لاستعلاء اللسان عند النطق بها إلى الحنك ، وحروف الاستفال ما عداها ، سميت بذلك لانخفاض اللسان عند النطق بها إلى قاع الفم ، والإطباق « ص ض ط ظ » سميت بذلك لانطباق اللسان على ما حاذاه عند خروجها ، والانفتاح ما عداها ، لانفتاح ما بين اللسان والحنك وخروج الريح من بينهما عند النطق بها ، والانذلاق « لر ن ب م ف » والاصمات ما عداها ، فالضاد‌

٣٩٨

حينئذ ليست حرفا شديدا ، وانما هو رخو كالظاء ، بل عن البهائي أن أبا عمر وابن العلاء وهو إمام في اللغة ذهبا إلى اتحادهما ، وأقاما على ذلك أدلة وشواهد ، وهو وإن كان خلاف التحقيق ، ضرورة كونهما متقاربي المخرج لا متحدين ، لكنه أوضح شاهد على بطلان ما يحكى عن عوام الخاصة وعلماء العامة من المصريين والشاميين من النطق بها ممزوجة بالدال المفخمة والطاء المهملة معرضين عن الضاد الصحيحة الخالصة التي نطق بها أهل البيت عليهم‌السلام ، وأخذ عنهم العراقيون والحجازيون ، وهذا الاختلاف على قديم الدهر وسالف العصر بين علماء الخاصة والعامة وإن حكي عن جماعة منهم موافقة الخاصة في ذلك كالشيخ علي المقدسي الذي قد صنف في ذلك رسالة رجح بها ضاد العراقيين والحجازيين ، ورد عليه الشيخ علي المنصوري في رسالة ألفها أيضا ، وكان مما رد فيها عليه أن النطق بالضاد قريبة من الظاء ليس من طريق أهل السنة المتبعة ، وانما هو من طريق الطائفة المبتدعة ، وهي شهادة منه على طريقتنا المأخوذة يدا بيد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القائل : إني أفصح من نطق بالضاد ، وفيه إشعار أيضا بالمطلوب ، ضرورة تيسر ضادهم لكل أحد حتى النساء والصبيان ، فلا يناسب ذكر اختصاصه عليه‌السلام بالأفصحية بخلاف الضاد الذي ذكرناه ، فإنه مما يعسر فعله بحيث يتميز عن الظاء كما اعترف به بعضهم ، قال راجزهم :

والضاد والظاء لقرب المخرج

قد يؤذنان بالتباس المنهج

وقال آخر :

ويكثر التباسها بالضاد

إلا على الجهابذ النقاد

ويقرب من ذلك المحكي عن السخاوي والجرزي وابن أم القاسم ، بل قال الأخير منهم : « إن التفرقة بينهما محتاجة إلى الرياضة التامة » إلى غير ذلك مما ليس هذا محل ذكره ، نعم ينبغي أن يعلم أن المدار في صدق امتثال الأمر بالكلمة المشتملة على الضاد‌

٣٩٩

صدق ذلك عليه في عرف القارين كغيره من الحروف ، فوسوسة كثير من الناس في الضاد وابتلاؤهم بإخراجه ومعرفة مخرجه في غير محلها ، وانما نشأ ذلك من بعض جهال من يدعي المعرفة بعلم التجويد من بني فارس المعلوم صعوبة اللغة العربية عليهم ، وإلا فمتى كان اللسان عربيا مستقيما خرج الحرف من مخرجه من غير تكلفه ضرورة ، وإلا لم يصدق عليه اسم ذلك الحرف عرفا كما هو واضح ، وعلى ذلك بنوا وصف مخارج الحروف وتقسيمهم لها إلى شفوية مثلا وغيرها لبعض الأغراض المتعلقة لهم بذلك ، وليس المقصود منه تميز النطق بالحروف قطعا ، فان ذلك يكفي فيه صدق الاسم وعدمه ولا يحتاج إلى هذا التدقيق الذي لا يعلمه إلا الأوحدي من الناس ، بل لا يمكن معرفته على وجه الحقيقة إلا لخالق الخلق الذي أودعهم قوة النطق ، والله أعلم.

ومن المسنون أيضا قراءة سورة بعد الحمد في النوافل بل في الذكرى وعن المعتبر الإجماع عليه ، للنصوص (١) المستفيضة حد الاستفاضة إن لم تكن متواترة في قراءة السورتين أو ما شاء من السور فضلا عن السورة الواحدة ، ولا معارض لها إلا ما لا يأبى حمله على ما لا ينافي المطلوب من اختلاف مراتب الاستحباب وجهاته كما لا يخفى على من لاحظ النصوص.

وكذا من المسنون أن يقرأ في الصلاة بسور المفصل ، وهو كما نسبه إلى أكثر أهل العلم في المحكي عن التبيان من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آخر القرآن ، لكن في الظهرين والمغرب بسور القصار منه كالقدر والجحد وما شابههما من الضحى إلى الناس وفي العشاء متوسطاته كالأعلى والطارق وما شاكلهما من عم إلى الضحى وفي الصبح بمطولاته كالمدثر والمزمل وما ماثلهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

٤٠٠