جواهر الكلام - ج ٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

عليه ، بل مخالف للأدلة الآمرة (١) بأخذ ما خالف العامة ونحوه ـ في غير محله ، ضرورة الاكتفاء في الاستدلال عليه بوجوب العمل بأخبارهم عليهم‌السلام ، وأن كلامهم بمنزلة كلام متكلم واحد ، إذ لا ريب في استلزام هاتين المقدمتين الحمل المزبور ونحوه مما ينتقل اليه من نفس اللفظ بعد تأليفه وجعله كالكلام الواحد مثلا.

ونحوه ما وقع من بعض آخر أيضا « من أن الجمع المزبور شرطه المكافاة المفقودة في المقام باعتبار موافقة أخبار الجواز للعامة التي جعل الله الرشد في خلافها ، خصوصا وعمدتها صحيح علي بن يقطين (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام الذي يظن به التقية باعتبار شدتها في زمانه ، وكون « علي » وزير الخليفة ، مع أن ظاهره نفي الكراهة ، وهو مما أجمع العلماء على خلافه ، فمثله يجب طرحه ، وحمله على إرادة نفي الحرمة خاصة خلاف ظاهر النكرة في سياق النفي ، فيكون مؤلا ، وهو أيضا ليس بحجة ، ودعوى الإجماعين على القول الأول ، وكثرة النصوص المشتملة على النهي وغيره مما يدل على المطلوب ، والاعتضاد بعمل النبي والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) والتابعين وتابعي التابعين وجميع العلماء في الأعصار والأمصار ، والاحتياط في العبادة التوقيفية ، بل منه ومن النهي المزبور ونحوهما يتوجه الحكم بإبطاله الذي صرح به بعض القائلين بالحرمة كالشيخ وابن البراج فيما حكي عنهما ، والعلامة في قواعده ، والطباطبائي في منظومته وغيرهم ، لأصالة عدم الإتيان بالمأمور به ، ولظهور النواهي في الفساد ، وأن المعتبر في السورة المجزية الاتحاد ، ومن هنا علل بعضهم البطلان بأنه لم يأت بالمأمور به على وجهه لأنه قد اعتبر فيه عدم القران ، فما في المدارك حينئذ ـ من أنه على تقدير الحرمة لا وجه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١ و ٢١ و ٢٣ و ٣٣ و ٣٤ وغيرها.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٩.

٣٦١

للبطلان لكون النهي عن أمر خارج ـ في غير محله قطعا كما لا يخفى على من لاحظ ما استفاده الأصحاب من الشرائط والأجزاء والموانع من أمثال هذه الأوامر والنواهي في سائر المقامات ».

وفيه أولا أنه لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكرنا وجود المقاومة وزيادة ، وثانيا منع اعتبارها بمعنى ملاحظة المرجحات الموجودة في النصوص (١) في مثل هذا الجمع الذي ينتقل اليه من مجرد تأليف الكلامين كالعام والخاص والمطلق والمقيد ونحوهما بل يكفي فيه جمع شرائط الحجية ، وإلا لزم طرح الدليل المعتبر من غير مقتض ، بل هو في الحقيقة مناف لكل ما دل على الحجية ، ومن هنا حكمنا الخاص ولو بالآحاد على عام الكتاب ونحوه من المتواتر سندا ، وأن التحقيق أنه ليس من المخالفة للكتاب التي أمرنا (٢) بطرح الخبر معها كما هو واضح من طريقة الأصحاب في سائر الأبواب ، ومن العجيب قوله في المقام بطرح نصوص الجواز مع عمل مشهور المتأخرين بها بمجرد احتمال أنها للتقية التي لم تكن لتخفى على خواص الأصحاب والبطانة ، بل كانوا يعرفون ذلك بمجرد سماعهم من بعض الرواة ، ويقولون قد أعطاه من جراب النورة ، كما أن الظاهر تصفية هذه الأصول من مثل هذه الأخبار وغيرها ، وأنهم بذلوا الجهد مع قرب عهدهم وشدة معرفتهم في تعرف ذلك وطرح ما كان من هذا القبيل ، نعم ربما أبقوا فيها ما هو واضح انه انما ورد مورد التقية ، وأن فيها نفسها ما يدل على ذلك ، ولذا كان الحمل على التقية في مثل هذه النصوص المجردة عما يشعر بورودها موردها لا يرتكب إلا عند الضرورة ، ويذكر احتمالا بعد أن يرجح الخبر المقابل له بالتباين بحيث يدور الأمر بين طرحه أصلا وبين ذكر وجه له كالتقية ونحوها ، على أن احتمال مراعاة التقية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١ و ١١ و ١٥ و ١٦

٣٦٢

في المقام في غاية الضعف ، لأنه انما نقل عن الشافعي منهم محتجا بفعل ابن عمر ، والذي يتقى منه غالبا في مثل تلك الأزمنة أبو حنيفة باعتبار كون مذهبه مذهب السلطان والأتباع ، على أن بعض النصوص السابقة من الباقر عليه‌السلام الذي كانت التقية في زمانه في غاية الضعف باعتبار كثرة مراجعة جابر الأنصاري حتى قال قائل منهم حسدا أنه هو كان يعلمه مع أن جابرا وغيره لا يستطيع الكلام بحضرته ، وانما كانت مراجعته له لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بذلك ، وإبلاغ السلام اليه وأنه يبقر العلم بقرا ، وكان العامة يعرفون ذلك من جابر ، ولذا ضعفت التقية في زمانه ، مع أن بني أمية وبني العباس كان بعضهم مشغولا ببعض ، ويومي إلى ذلك كله‌ قول الصادق عليه‌السلام (١) « كان أصحاب أبي يأتونه ويفتيهم بمر الحق ، ويأتوني شكاكا فأفتيهم بالتقية » على أن نصوص المقام قد تضمنت الكراهة والتفصيل بين النافلة والفريضة ونحو ذلك مما لا ينقل عن الشافعي ، بل كان يمكن الامام عليه‌السلام ذكر الحق والتخلص عن فتوى الشافعي بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخلفاء والتابعين وتابعي التابعين.

وبالجملة من نظر بعين الإنصاف إلى تلك النصوص المعمول بها بين كثير من المتأخرين ، وأنه لا معارض لها إلا مجرد نهي فيها يستعمل غالبا في الكراهة ، وبعض الاشعارات التي لا ينبغي الالتفات إليها يجزم بعدم صدورها مصدر التقية ، وكيف يحل لامرئ مسلم رفع اليد عنها وطرحها مع اعتبار أسانيدها ولو بالعمل بها بين المتأخرين بمجرد موافقتها للمحكي عن الشافعي ، وليس ذلك في الحقيقة إلا ردا للخبر بلا معارض لأنه موافق للعامة ، والتسري في ذلك يؤدي إلى هدم قواعد المذهب ، نسأل الله تشييدها وتسديدها ، وانما ذكرنا هنا بعض الكلام وإلا فتمام البحث فيه وفي أمثاله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب المواقيت ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

٣٦٣

محتاج إلى رسالة نسأل الله توفيقنا لها.

وأما ترجيح تلك النواهي على النصوص المزبورة بشهرة القدماء وإجماعي الصدوق والمرتضى ففيه أولا أن المحكي عن ابن إدريس أنه قال : لم يتعرض أصحابنا لذكره ، ولم يعدوه من المبطلات للصلاة ، فإن كان الأمر كما ذكر دل على المختار ، وثانيا أن الموجود في عبارات القدماء لفظ النهي كالنصوص ، وعدم الجواز ونحوه مما لا صراحة فيه بل ولا ظهور في البطلان ، خصوصا وقد صرح الشيخ في المبسوط بعدم البطلان معه بل يمكن إرادة الكراهة منه كالنصوص لغلبة تعبيرهم بنفس متن الخبر ، على أن القدماء وقع ما وقع منهم ، في كثير من المقامات من المذاهب الفاسدة لعدم اجتماع تمام الأصول عند كل واحد منهم ، وعدم تأليف ما يتعلق بكل باب منها على حده ، فربما خفي على كل واحد منهم كثير من النصوص ، فيفتي بما عنده من غير علم بالباقي كما لا يخفى على الخبير الممارس المتصفح لما تضمن تلك الآثار ، على أنه يمكن إرادة الصدوق والمرتضى من النسبة إلى دين الإمامية ومنفرداتهم أن في الإمامية من صرح بالمنع بخلاف العامة ، فإن الشافعي الذي قد تعرض له ذكر الجواز ، وليس المراد إجماع الإمامية عليه ، وربما يشهد لذلك خصوصا بالنسبة إلى الأول منهم وقوع هذه اللفظة المزبورة فيما لا يقول به من الإمامية إلا قليل ، ولقد طال بنا الكلام حتى خرجنا عما يقتضيه المقام وإن كنا لم نستوف أيضا تمام النقض والإبرام ، إلا أنه قصدنا بذلك تهييج الذهن إلى بعض هذه الأمور لينتقل منها إلى غيرها ، فإن الأشياء تحضر بنظائرها ، ولو أنصف المتأمل فيما ذكرنا لاهتدى به إلى أمور كثيرة وقواعد خطيرة لا تخص المقام ، والله أعلم بحقائق الأحكام.

ويجب الجهر بالحمد والسورة في الصبح وفي أولتي المغرب والعشاء ، والإخفات بهما في الظهرين من غير يوم الجمعة وبالحمد خاصة في ثالثة المغرب والأخيرتين‌

٣٦٤

من العشاء على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك في صريح الغنية وعن الخلاف وعن ظاهر غيرهما ، بل يمكن تحصيل الإجماع ، إذ لم نجد فيه خلافا ولا حكي إلا من الإسكافي والمرتضى رحمه‌الله في المصباح ، وهما ـ مع معلومية نسبهما ، بل لم يعتد بخلاف الأول منهما في كثير من المقامات ، كما أن الأستاذ الأكبر أنكر ظهور المحكي عن الثاني فيما نسب اليه ، كما يومي اليه نقل الشيخ وأبي المكارم الإجماع مع عظمة السيد عندهما ، واعتناؤهما خصوصا الثاني منهما بأقواله ، ويؤيد ذلك أيضا ما عن السرائر من نفي الخلاف بيننا في عدم جواز الجهر بالقراءة والإخفات وغير ذلك ، لكن الإنصاف أن إنكار ظهور كلامه في ذلك تعسف ، قال : « إنه من وكيد السنن حتى روي أن من تركه عامدا أعاد » ـ لا يقدحان في تحصيل الإجماع بناء على كثير من طرقه ، على أنه قد تحقق انعقاده في كثير من الأزمنة المتأخرة عن زمنهما حتى استقر المذهب واتفقت الكلمة إلى هذه الأزمنة المتأخرة ، فصدر من بعض أصحابنا ما يقتضي الميل اليه أو التعويل عليه ، لكنه قد سمعت غير مرة أن خلاف أمثالهم غير قادح بعد معلومية أن صدور ذلك لخلل في الطريقة.

وكيف كان فالحجة عليه مضافا إلى ما سمعت‌ صحيح زرارة (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « في رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي أن يجهر فيه أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه فقال : أي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شي‌ء عليه وقد تمت صلاته » ضرورة ظهور النقض بالضاد المعجمة كما هو الموجود في كتب الأصول والفروع في البطلان الذي هو لازم الوجوب كالأمر بالإعادة ، بل هو كذلك وإن قرئ بالصاد أيضا كما احتمله بعض متأخري المتأخرين ، لأنه هو مقتضى النقصان حقيقة ، خصوصا بعد تعقيبه بما عرفت ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

٣٦٥

ولا ينافيه لفظ « ينبغي » في السؤال بعد ظهوره هنا في إرادة القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب ، وإلا لم يحسن من مثل زرارة السؤال ، فلا ينبغي التأمل حينئذ في دلالة الصحيح المزبور ، على أن الأستاذ الأكبر في حاشية المدارك قال : « لا ينحصر وجه الدلالة فيه بذلك ، لأن الموجود في الخبر المزبور بعد قوله : « الإخفاء فيه » « أو ترك القراءة فيما ينبغي القراءة فيه ، أو قرأ فيما لا ينبغي القراءة فيه » وقد أجاب عليه‌السلام عن الجميع بما سمعت ، ومن ضروريات المذهب بل الدين أن ترك القراءة عمدا مبطل للصلاة ، وأما فعلها في موضع لا ينبغي فمثل قراءة السورة في الركعة الثالثة والرابعة أو خلف الإمام أو نحو ذلك ، أو المراد بقصد أنه وظيفة شرعية في أي موضع كان ، فيكون حينئذ دلالة الصحيح المزبور على المطلوب منطوقا ومفهوما من خمسة وجوه » وهو جيد جدا إلا أن الذي عثرنا عليه من صحيح زرارة مجرد عن تلك الزيادة ، نعم له‌ صحيح آخر (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام أيضا في المتن المزبور لكن الجواب فيه « أي ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شي‌ء عليه » ولعله رحمه‌الله من جهة اتحاد الراوي والمروي عنه وكثير من المروي ركب الجميع وجعله جزءا واحدا ، والأمر سهل ، إذ هو إما كذلك أو الصحيحة الثانية دليل آخر على المطلوب ، مضافا إلى ما ورد (٢) من الإخفات في صلاة النهار وأنها عجماء ، والجهر في صلاة الليل حتى شاع ذلك وذاع في ذلك الزمان ، ولأجله‌ سأل يحيى بن أكثم القاضي (٣) أبا الحسن عليه‌السلام « عن صلاة الفجر لم يجهر فيها بالقراءة وهي من صلوات النهار وانما يجهر في صلاة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ٢٢ و ٢٥ من أبواب القراءة في الصلاة والمستدرك ـ الباب ١٨ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٣.

٣٦٦

الليل فقال : لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يغلس بها فقربها من الليل » وفي‌ خبر رجاء بن الضحاك (١) عن الرضا عليه‌السلام المروي عن العيون مسندا « انه كان عليه‌السلام يجهر بالقراءة في المغرب والعشاء الآخرة ـ إلى أن قال ـ : ويخفي القراءة في الظهر والعصر » وهو ظاهر في استمرار فعله عليه‌السلام ذلك في الصلاة التي أمرنا بالتأسي بما يفعلونه فيها ، بل في التذكرة في أول كلامه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفعل ذلك مشيرا إلى نحو ما في المتن ، وقد‌ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : « صلوا كما رأيتموني أصلي » بل قال في آخره فيما حضرني من نسخة التذكرة : « وقال المرتضى وباقي الجمهور كافة بالاستحباب عملا بالأصل ، وهو غلط للإجماع ومداومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجميع الصحابة والأئمة عليهم‌السلام عليه ، فلو كان مسنونا لأخلوا به في بعض الأحيان » وهي صريحة في نقل الإجماع والعمل الذي يجب اتباعه ، لكن المحكي عنها الإجماع على مداومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آخره ، فيكون نقلا للعمل خاصة ، وعلى كل حال فهو شاهد تام على ما قلنا ، بل يصلح أن يكون دليلا مستقلا.

وفي‌ خبر الفضل بن شاذان (٣) عن الرضا عليه‌السلام الذي رواه الصدوق في الفقيه والعيون والعلل كما في الوسائل في حديث وأنه ذكر العلة التي من أجلها جعل الجهر في بعض الصلوات دون بعض « ان الصلوات التي يجهر فيها انما هي في أوقات مظلمة ، فوجب أن يجهر فيها ليعلم المار أن هناك جماعة ، فان أراد أن يصلي صلى ، لأنه إن لم ير جماعة علم ذلك من جهة السماع ، والصلاتان اللتان لا يجهر فيهما انما هما بالنهار في أوقات مضيئة ، فهي من جهة الرؤية لا تحتاج إلى السماع » وفي‌ خبر محمد بن حمران (٤)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٥ روى عن رجاء بن أبي الضحاك.

(٢) صحيح البخاري ـ ج ١ ص ١٢٤ و ١٢٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

٣٦٧

الذي رواه هو « سأل أبا عبد الله عليه‌السلام لأي علة يجهر في صلاة الجمعة وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الغداة ، وسائر الصلوات مثل الظهر والعصر لا يجهر فيهما ـ إلى أن قال ـ : فقال : لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أسري به إلى السماء كان أول صلاة فرض الله عليه الظهر يوم الجمعة ، فأضاف الله عز وجل إليه الملائكة تصلي خلفه ، فأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجهر بالقراءة ليبين لهم فضله ، ثم فرض عليه العصر ولم يضف إليه أحدا من الملائكة ، وأمره أن يخفى القراءة ، لأنه لم يكن وراءه أحد ، ثم فرض عليه المغرب وأضاف إليه الملائكة ، فأمره بالإجهار ، وكذلك العشاء الآخرة ، فلما كان قرب الفجر نزل ففرض الله عليه الفجر فأمره بالإجهار ليبين للناس فضله كما بينه للملائكة ، فلهذه العلة يجهر فيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » والمراد بالظهر فيه يوم الجمعة صلاة الجمعة بقرينة السؤال ، وفي الوسائل أنه رواه في العلل عن حمزة بن محمد بن العلوي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن علي بن معيد عن الحسن ابن خالد عن محمد بن حمزة عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله ، إلا أنه ذكر صلاة الفجر موضع صلاة الجمعة وترك ذكر صلاة الغداة ، وكيف كان فلا يخفى وجه دلالته على المطلوب ، إلى غير ذلك من النصوص المشعرة أو الظاهرة المذكورة في باب الجماعة وغيرها ، بل المستفاد من مجموعها معروفية الجهرية والإخفاتية في ذلك الوقت كما لا يخفى على من لاحظها مجموعها متأملا في وصفها بالجهرية والإخفاتية في بعضها ومما (١) يجهر أو يخفت فيها في آخر.

فمن العجيب بعد ذلك كله وسوسة بعض متأخري المتأخرين في هذا الحكم‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصحيح « وبما » باعتبار العطف المستلزم لتعلقه بوصفها.

٣٦٨

للأصل الذي يكفي في قطعه بعد القول بجريانه في مثل هذه العبادة بعض ما ذكرنا ، ول‌ صحيح علي بن جعفر (١) عن أخيه موسى عليه‌السلام « سألته عن الرجل يصلي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة هل عليه أن لا يجهر؟ قال : إن شاء جهر ، وإن شاء لم يفعل » الذي لا يصلح لمعارضة ما ذكرنا من وجوه ، خصوصا مع شذوذه وموافقته للتقية ، وعدم وضوح المراد منه إلا بأن يجعل « عليه » فيه بمعنى « له » كما روي كذلك أيضا في بعض كتب الفروع ، أو يقرأ « إن » بالكسر أو نحو ذلك بل قد يحتمل إرادة الجهر والإخفات في غير القراءة كما في‌ خبر الآخر (٢) المروي عن قرب الاسناد عن أخيه أيضا ، سأله « عن الرجل هل يصلح له أن يجهر بالتشهد والقول في الركوع والسجود والقنوت؟ قال : إن شاء جهر ، وإن شاء لم يجهر » أو الفرد العالي من الجهر أو صلاة الجمعة بناء على استحباب الجهر فيها لا وجوبه ، كما استدل به هناك في المدارك عليه أو غير ذلك ، والمناقشة في حمله على التقية بأنه قد عمل به السيد والإسكافي كما وقع من المصنف فيما حكي من معتبره حتى نسب الشيخ إلى التحكم في الحمل المزبور لذلك يدفعها أن مثل عملهما خاصة لا يمنع من الحمل على التقية ، بل لا يخرجه عن الشذوذ أيضا ، وأظرف شي‌ء ترجيح الصحيح المزبور على ما ذكرنا بموافقته للكتاب العزيز ، وفيه ـ بعد الإغضاء عن مقاومة المرجح المذكور لبعض ما ذكرنا فضلا عن جميعه ـ أن المراد من الآية (٣) بعد ملاحظة بعض النصوص (٤) الواردة في تفسيرها الوسط في الجهر فيما يجهر به والإخفات فيما يخفت به ، بل يقوى في نفسي أن المراد من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الركوع ـ الحديث ١.

(٣) سورة الإسراء ـ الآية ١١٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٤.

٣٦٩

الآية بقرينة بعض ما ورد (١) في تفسيرها أيضا عدم التجاهر بالصلاة مخافة أذية المشركين ، وعدم التخفي فيها مخافة التساهل فيها أو ظن نسخها أو غير ذلك ، وله شواهد كثيرة ومؤيدات عديدة ليس المقام مقام ذكرها ، كما أنه ليس المقام مقام ذكر جميع ما قيل في الآية مما يخرج به عما نحن فيه ، ومن أرادها فليلاحظ مجمع البيان وكنز العرفان وغيرهما ، ضرورة كون ما نحن فيه من الواضحات التي لا يعتبر بها شي‌ء من هذه التشكيكات.

وأما يوم الجمعة فقد يتوهم أنه لا فرق بين الظهر فيه وغيره من مقتضى إطلاق الفتاوى هنا ومعاقد الإجماعات وسائر الأدلة المزبورة ، لكنه ليس كذلك ، للأصل ، وللبدلية ، وللنصوص الدالة على الجهر بالقراءة فيها ، كصحيح الحلبي (٢) سئل أبو عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل يصلي الجمعة أربع ركعات أيجهر فيها بالقراءة؟ قال : نعم والقنوت في الثانية » وصحيحه الآخر أو حسنه (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القراءة في الجمعة إذا صليت وحدي أربعا أجهر بالقراءة فقال : نعم ». وخبر محمد بن مسلم (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لنا : « صلوا في السفر صلاة الجمعة جماعة بغير خطبة ، واجهروا بالقراءة ، فقلت : إنه ينكر علينا الجهر بها في السفر فقال : اجهروا » بناء على إرادة الظهر قصرا من الجمعة فيه ، كخبر محمد بن مروان (٥) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صلاة الظهر يوم الجمعة كيف نصليها في السفر؟ فقال : تصليها في السفر ركعتين ، والقراءة فيها جهر ».

نعم لمعارضتها بما سمعت ، وب‌ خبر جميل (٦) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة الحديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة الحديث ٨.

٣٧٠

عن الجماعة يوم الجمعة في السفر فقال : يصنعون كما يصنعون في غير يوم الجمعة في الظهر ، ولا يجهر الامام فيها بالقراءة إنما يجهر إذا كانت خطبة » وخبر محمد بن مسلم (١) « سألته عن صلاة الجمعة في السفر فقال : يصنعون كما يصنعون في الظهر ، ولا يجهر الإمام بالقراءة وانما يجهر إذا كانت خطبة » حملت على الندب ، لكن في الوسائل أن الشيخ حمل هذين الخبرين على التقية والخوف ، وفيه أن المتجه حينئذ الوجوب ، ثم قال هو : ويحتمل نفي تأكد الاستحباب في الظهر وإثباته في الجمعة ، وهو جيد.

وعلى كل حال فالقول بالمنع مطلقا كما حكاه في المنتهى عن ابن إدريس في غاية الضعف حتى على أصله ، ضرورة تعدد النصوص في المقام وصحتها والعمل بها من الطائفة ، كما يومي اليه ما في الرياض عن الخلاف من الإجماع على الحكم المزبور ، مع أن المحكي عن الحلي في الرياض ما حكاه في المنتهى عن المرتضى من التفصيل بين الامام وغيره ، فيجهر الأول دون الثاني ، للصحيح المروي (٢) عن قرب الاسناد « عمن صلى العيدين وحده والجمعة هل يجهر فيهما؟ قال : لا يجهر إلا الامام » ومن هنا قال فيه : إن القائل بالمنع مطلقا بعد لم يظهر ، نعم حكاه في المعتبر قائلا أنه الأشبه بالمذهب ، واستقر به بعض من تأخر ، وكيف كان فقد عرفت ما فيه ، كما أنه لا يخفى عليك ما في التفصيل المزبور ، لما سمعته من التصريح بالمنفرد في بعض تلك الصحاح التي يقصر هذا الصحيح عن معارضتها ، بل يجب الجمع بينهما بنفي التأكد أو عدم الوجوب أو نحوهما ، خصوصا وقد عرفت عدم وجوب شي‌ء من الجهر والإخفات عند المرتضى في غير محل البحث فضلا عنه ، فمراده من التفصيل المزبور بالنسبة إلى الاستحباب وعدمه لا أصل الجواز ، بل لم يحك عنه في المنتهى إلا نسبة الجهر مطلقا والتفصيل إلى الرواية ، لكن الاحتياط لا ينبغي تركه وإن كان الأقوى الاستحباب مطلقا ، وفاقا للشيخ والفاضلين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١٠.

٣٧١

وغيرهما ، ويأتي تمام البحث فيه إن شاء الله عند تعرض المصنف له في باب الجمعة.

وهل المراد بالقراءة فيها جميع ركعاتها أو يختص الحكم بالركعتين الأخيرتين (١) لم يحضرني للأصحاب نص عليه بالخصوص ، ولكل منهما وجه.

وأما التسبيح في أخيرتيها فالظاهر أنها كغيرها من الفرائض لا تختص عنها بالحكم وتمام القول فيه أن الأصحاب قد اختلفوا في وجوب إخفاته وعدمه ، ففي الذكرى وجامع المقاصد وحاشية الأستاذ الأكبر والمنظومة والرياض وظاهر التنقيح وعن الدروس والألفية والجعفرية والتكليفية والطالبية وعيون المسائل والاثنى عشرية والمقاصد العلية والتعليقات الكركية على الألفية والروض الوجوب ، بل حكي عن غير واحد دعوى الشهرة عليه ، بل في الحدائق ادعى بعضهم الإجماع عليه ، بل قد يظهر من الرياض اتحاد حكمه مع القراءة ، بل فيه الظاهر الاتفاق عليه كما عساه يظهر من الأستاذ الأكبر أيضا ، بل عن الشيخ نجيب الدين الاستدلال عليه أيضا بالإجماع على الإخفات فيما عدا الصبح وأولتي العشائين ، كما عن الأنوار القمرية « ما وجدت لوجوب الإخفات في التسبيح دليلا إلا ما دل على الإخفات في مواضعه من الإجماع » ولعلهما أرادا إجماعي الخلاف والغنية ، لكن المحكي عن أولهما دعواه على خصوص القراءة ، كما أن الموجود في الثانية ظاهر فيها ، قال فيها : « ويجب الجهر بجميع القرآن في أولتي المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الغداة بدليل الإجماع المشار اليه ، وببسم الله الرحمن الرحيم فقط في أولتي الظهرين من الحمد والسورة التي تليها عند بعض أصحابنا ، وعند بعضهم هو مسنون ، والأول أحوط ، ويجب الإخفات فيما عدا ما ذكرنا بدليل الإجماع المشار إليه » إذ الظاهر حذف متعلق الإخفات اعتمادا على الأول ، والمراد الركعات من قوله فيما عدا ما ذكرنا لا المخفت به.

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية والصواب « الأولتين ».

٣٧٢

ومن هنا يظهر أنه لا ظهور في المتن ونحوه كالمبسوط وغيره من عبارات الأصحاب التي ذكرت القراءة متعلقا للجهر في القول المزبور ، بل يمكن دعوى ظهوره في المقابل بناء على اعتبار مفهوم اللقب في عبارات الأصحاب ، نعم قد يقال بظهور عبارة النافع ونحوها مما ترك فيها ذكر المتعلق فيهما إن لم نقل إن المنساق من لفظ الجهر والإخفات في عبارات الأصحاب تعلقهما بالقراءة ، خصوصا مع ذكرهم ذلك في أحكامها ولعله لذلك كله لم يذكر الطباطبائي مع سعة باعه وجودة ذهنه نحو هذه العبارات أو معاقد الإجماعات من أهل هذا القول صريحا أو ظاهرا.

وكيف كان فيشهد له ـ مضافا إلى احتمال اندراجه فيما سمعته من الإجماع المحكي ـ ظهور التسوية بينه وبين القراءة في ذلك من مثل العبارات الواردة فيه في النصوص (١) كقوله (ع) : « إن شئت سبحت وإن شئت قرأت ، » وهما سواء والقراءة أو التسبيح أفضل ونحو ذلك ، خصوصا مع عدم إشارة في شي‌ء منها على كثرتها إلى المخالفة بينهما فيه بل قد يؤيد ذلك ما في خصوص صحيحة (٢) عبيد بن زرارة منها المعللة للقراءة بأنها تحميد ودعاء ، ضرورة ظهورها في أن جواز القراءة لأنها تحميد ودعاء لا من حيث أنها قراءة ، فهي أوضح شي‌ء حينئذ في اتحادهما ، وأنهما معا من جنس واحد ، وينتقل منه حينئذ إلى اتحادهما في ذلك ، على أن أخبار التسبيح (٣) ليس فيها عموم ، بل أقصاه الإطلاق الذي يرجع إلى العموم إذا لم يسبق إلى الذهن أحد الأفراد ، وهو في المقام ممنوع ، مضافا إلى ما ورد (٤) في خصوص الإخفاتية ، مما هو ظاهر في الإخفات فيها جميعها ، ويتم حينئذ بعدم القول بالفصل ، ولعله إليه أومأ في الذكرى رادا على السرائر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ و ٢٥ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

٣٧٣

حيث أنكر النص على الإخفات بقوله : عموم الإخفات في الفريضة بمنزلة النص ، فتدبر. وإلى ما عساه يشعر به ما في‌ صحيح علي بن يقطين (١) سأل أبا الحسن عليه‌السلام « عن الركعتين اللتين يصمت فيهما الإمام أيقرأ فيهما بالحمد وهو إمام يقتدى به؟ فقال : إن قرأ فلا بأس ، وإن صمت فلا بأس » بناء على أن المراد الركعتان الأخيرتان كما اعترف به في الحدائق لا أولتا الظهر مثلا ، وحينئذ وصفهما بذلك ظاهر في بنائهما على الإخفات ، فيندرج حينئذ في صحيح زرارة السابق (٢) أجهر أو أخفت فيما لا ينبغي الجهر أو الإخفات فيه.

نعم يحتمل حمله على التقية لموافقته للمحكي عن أبي حنيفة بناء على أن المراد بالصمت فيه السكوت ، وإلى ما سمعته سابقا في القراءة من دعوى معلومية إسرار النبي والأئمة ( عليهم الصلاة والسلام ) والصحابة في غير الصبح وأولتي العشاء ، وقد عرفت فيما تقدم أفضلية التسبيح مطلقا عندنا ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى من غيره في المواظبة على الأفضل ، فيعلم حينئذ أن ديدنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان الاسرار بالتسبيح فيجب التأسي به ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : « صلوا كما رأيتموني أصلي » وغيره ، وإلى السيرة المستمرة والطريقة المستقيمة في سائر الأعصار والأمصار ، ولعله إلى ذلك أشار العلامة الطباطبائي بقوله :

ويلزم الإخفات في الذكر البدل

بالأصل والنقل وظاهر العمل

مضافا إلى موافقته للاحتياط أيضا ، ضرورة أنه لم يقل أحد من معتبري الأصحاب بوجوب الجهر وإن ظن من عبارة الصدوق ، لكنه وهم واضح ، نعم أفتى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٣) صحيح البخاري ج ١ ص ١٢٤ و ١٢٥.

٣٧٤

به بعض الحشوية المخلطة في عصرنا وما قاربه ، كما أن بعضهم أيضا واظب على الجهر بالقراءة في الأخيرتين للإمام المعلوم عند الإمامية بطلانه كما عرفته سابقا ، وكأن الذي أوهمه ما ورد (١) أنه ينبغي للإمام أن يسمع من خلفه كل شي‌ء يقوله ، ونحوه مما هو ظاهر عند من له أدنى درية في استماع ما يجوز الجهر فيه ، وأنه مساق لبيان خصوص الاسماع للمأمومين لا لأصل جواز الجهر وعدمه ، لكن هذا ـ مضافا إلى ما في النفس من السوء الذي يدعو إلى محبة الخلاف ، وأنه جاء بما غفل عنه الأصحاب منضمين إلى الجهل المحض وعدم المعرفة بالفقه ـ دعاه إلى هذه البدعة وغيرها من البدع القبيحة أجار الله المذهب منها ومن أهلها.

نعم الإنصاف أنه لا يخلو جميع ما ذكرناه بالنسبة إلى التسبيح من المناقشة ، خصوصا بناء على المختار من عدم حجية كل ظن حصل للمجتهد ، ومن أن اسم العبادة للأعم القاضي بأن ما شك في اعتباره فيها يحكم بعدمه ، ولعله لذا أو لغيره لم يرجح بين القولين في المحكي عن المهذب وغاية المرام وكشف الالتباس ، بل اختار التخيير في التذكرة والحدائق ، بل حكاه في مصابيح العلامة الطباطبائي عن صريح السرائر أيضا وظاهر نهاية الأحكام والتحرير والمحرر والموجز وغاية الإيجاز ومصباح المبتدي وبحار الأنوار والكفاية والذخيرة ، بل هو ظاهر المدارك والمحكي عن الحديقة والمسالك الجامعية وإن قيل فيهما : إن الإخفات أحوط ، بل لعله أيضا ظاهر التنقيح وإن قال فيه : الأولى الإخفات فيه ، لأنه أشد يقينا للبراءة ، بل لعله ظاهر كل من اقتصر على ذكر القراءة في الجهر والإخفات كما سمعته سابقا ، بل في المحكي عن البحار ـ بعد الحكم بأن التخيير أقوى ـ وتدل بعض الأخبار ظاهرا على رجحان الجهر ولم أر به قائلا ، وفي مفتاح الكرامة وجدت في هامش رسالة تلميذ ابن فهد أن بعض الأصحاب ذهب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٣.

٣٧٥

إلى استحباب الجهر ، قلت : لعل المجلسي رحمه‌الله أراد ما في‌ خبر رجاء بن الضحاك (١) من أنه « صحب الرضا عليه‌السلام من المدينة إلى مرو فكان يسبح في الأخراوين يقول : سبحان الله » ضرورة ظهوره في أنه حكاية ما كان يسمعه منه حال الصلاة ، ولا يتم إلا مع الجهر الذي ستعرف أن أدناه عند الأصحاب إسماع الغير وأن الإخفات ليس إلا إسماع النفس خاصة حتى نقلوا الإجماع على ذلك ، وأوضح منه ما في‌ خبر أحمد بن علي المروي عن العيون من أنه « صحب الرضا عليه‌السلام فكان يسمع ما يقوله في الأواخر من التسبيحات » وهما مع الأصل وإطلاق بعض أخبار الجهرية وما فيه من التعليل وما عساه يشعر به التقييد فيما‌ روي (٢) من « أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقرأ في أولتي الظهر سرا » ، وغير ذلك يستفاد منه أصل الجواز أيضا ، بل الأخير مشعر برجحان الجهر المدعى سابقا ، فتأمل جيدا ، فليس من العدل حينئذ شدة الإنكار على القول بجواز الجهر فيه ، بل ولا ما في الرياض هنا من نظمه التسبيح تارة في البحث عن القراءة مشعرا باتحاد البحث فيهما ، وقوله عند البحث على أقل الجهر الظاهر الاتفاق عليه أخرى ، وكأنه لم يظفر بما ذكرناه في المسألة ، والله أعلم.

وأقل الجهر أن يسمع القريب الصحيح إذا استمع بلا خلاف بين العلماء كما في المنتهى ، بل بإجماعهم كما في ظاهر التذكرة أو صريحها وعن المعتبر وحد الإخفات أن يسمع نفسه إن كان يسمع إجماعا كما في التذكرة والمنتهى أيضا وعن المعتبر ، وقال الشيخ فيما حكي عن تبيانه حد أصحابنا الجهر فيما يجب الجهر فيه بأن يسمع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٨ لكن رواه عن رجاء بن أبي الضحاك.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٩.

٣٧٦

غيره ، والمخافتة بأن يسمع نفسه ، وظاهر الجميع حتى المتن وغيره ممن عبر كعبارته إذا لم يعطف لفظ الإخفات فيه على المضاف اليه كما صرح به في التذكرة حيث قال : وحد الإخفات إلى آخره أنه لا يدخل إسماع الغير في الإخفات أصلا كما عن ابن إدريس التصريح به ، قال : « وحد الإخفات أعلاه أن تسمع أذناك القراءة ، وليس له حد أدنى بل إن لم تسمع أذناه القراءة فلا صلاة له ، وإن سمع من عن يمينه وشماله صار جهرا ، فإذا فعله عامدا بطلت صلاته » نحو المحكي عن الراوندي في تفسير القرآن « أقل الجهر أن تسمع من يليك ، وأكثر المخافتة أن تسمع نفسك ».

نعم لا عبرة بالغير الذي يفرض أقربيته إلى سماع اللفظ من الإنسان نفسه ، كما لو وضع أذنه قريبا من فم المتكلم مثلا ، بل يمكن دعوى ظهور لفظ القريب المأخوذ في تعريف الجهر في غير المجتمع معه ، بل يكون بينهما مسافة في الجملة وإن قلت تحقيقا لمعنى القرب المتغاير للمعية ، ضرورة إمكان أقربية سماع مثل المفروض من النفس ، إما لأن إذن السامع في جهة هواء الحرف بخلاف أذن الإنسان نفسه فإنها منحرفة عنه ، أو لغير ذلك ، وربما ينبه عليه في الجملة‌ قول الباقر عليه‌السلام في المرسل (١) في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى (٢) ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) الآية : « الإجهار أن ترفع صوتك تسمعه من بعد عنك ، والإخفات أن لا تسمع من معك إلا يسيرا » ضرورة إرادته بيان المنهي عنه من الجهر ، فلا بد من حمل « من معك » فيه على المساوي للنفس أو دونه كي لا ينافي ما دل على أن الإخفات المنهي عنه ما دون سماع الإنسان نفسه كما في‌ موثق سماعة (٣) وكذا يجب إرادة البعد المفرط من قوله عليه‌السلام فيه : « من بعد عنك » كي يوافقه أيضا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٧.

(٢) سورة الإسراء ـ الآية ١١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

٣٧٧

والمدار في الظاهر على سماع تمام اللفظ وجواهر الحروف لا خصوص بعض الحروف لما فيها من الصفير ونحوه ، فلا يقدح حينئذ في صدق الإخفات سماع القريب مثل ذلك ، كما أنه لا يكفي في تحقيق معنى الجهر مثله ، أما إذا لم يسمع الإنسان نفسه ما يقوله من جوهر الحروف لضعف الصوت لا لعارض الماء أو الهواء فالظاهر عدم الاجزاء كما صرح به غير واحد من الأصحاب ، بل هو ظاهر معقد الإجماعات السابقة بل صريحها خصوصا بعضها ، وهو الحجة ، مضافا إلى‌ صحيح زرارة أو حسنه (١) « لا يكتب من القراءة والدعاء إلا ما أسمع نفسه » وما ورد في موثق سماعة (٢) وغيره من تفسير الإخفات المنهي عنه في الآية بما دون السمع ، مضافا إلى ما في التذكرة وغيرها من عدم صدق القراءة مثلا عليه حينئذ ، ولعله لاعتبار هذا المقدار من الصوت في أصل ماهية اللفظ ، وفيه بحث ، نعم يمكن أن يجعل ذلك مقدمة لليقين بحصول اللفظ المأمور به فبدونه لم يحصل اليقين بذلك ، وهو لا يخلو من بحث أيضا ، وفي الأول غنية ، فما في الرياض ـ من احتمال الاجتزاء بالهمهمة لصحيح الحلبي (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام هل يقرأ في صلاته وثوبه على فيه؟ قال : لا بأس بذلك إذا أسمع أذنيه الهمهمة » ـ ضعيف جدا خصوصا بناء على الوجهين الأخيرين ، ضرورة قصوره عن إفادة مثل ذلك حينئذ ، على أن الهمهمة الصوت الخفي كما عن القاموس ، فلا ينافي فهم جوهر الحروف قبل ، وإن كان كلام ابن الأثير يقتضيه ، والموجود فيما حضرني من نسخة نهايته أنها كلام خفي لا يفهم ، ولعله يريد لا يفهمه الغير ، فلا يكون منافيا أيضا.

وعلى كل حال فلا ريب في قصوره عن الحكم على غيره من وجوه ، خصوصا مع احتماله إرادة القراءة مع القدرة بمن لا يقتدى به تقية ، كما يومي اليه ما فيه من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٤.

٣٧٨

جعل الثوب على فيه ، كصحيح علي بن جعفر (١) عن أخيه عليه‌السلام « سألته عن الرجل يصلح له أن يقرأ في صلاته ويحرك لسانه بالقراءة في لهواته من غير أن يسمع نفسه؟ قال : لا بأس أن لا يحرك لسانه يتوهم توهما » بشهادة‌ الخبر الآخر (٢) « يجزيك من القراءة معهم مثل حديث النفس » والصحيح (٣) أيضا معهم « إقرأ لنفسك ، وإن لم تسمع فلا بأس » هذا.

وربما ظن من المتن ونحوه بتخيل عطف الإخفات على المضاف اليه اتحاد الجهر والإخفات في بعض المصاديق ، فيكون بينهما العموم من وجه ، بل ما يحكى عن التحرير وبعض نسخ التلخيص كالصريح في ذلك ، حيث عبر فيهما بأقل الإخفات المشعر بأن له فردا أعلى ، وهو ليس إلا إسماع الغير الذي هو أقل الجهر ، بل هو صريح المحكي عن الموجز من أن أعلى الإخفات أدنى الجهر ، فاعترض بظهور التفصيل والتقسيم إلى الجهرية والإخفاتية في النصوص والفتاوى في عدم الاشتراك ، وانهما ضدان لا يجتمعان في فرد وفيه أنك قد عرفت ظهور كثير من عباراتهم في أن ذلك تحديد للاخفات نفسه لا لأقله كما سمعته من صريح السرائر بل وغيرها ، ويومي اليه ذكر الأقل في تعريف الجهر ولفظ الحد في تعريف الإخفات ، والعطف في عبارة المتن ونحوها على الجملة ، فانحصر الإيهام المزبور في النزر من العبارات ، والضدية حينئذ متحققة لاعتبار إسماع الغير القريب عرفا في أقل الجهر وعدمه في الإخفات ، والمراد بالنفس حينئذ المعتبر في تعريفه نفي ذلك الغير المعتبر في تحقيق أقل الجهر ، فليس مطلق إسماع الغير منافيا خصوصا بعض الحروف ونحوها ، فلا دلالة حينئذ في المحكي عن نهاية الأحكام من أنهما حقيقتان متضادتان على ما يقوله المتأخرون ، إذ قد عرفت حصوله على التقدير المزبور ، كما أنه لا دلالة في بعض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

٣٧٩

العبارات الظاهرة في أن للاخفات فردا أعلى من إسماع النفس عليه أيضا ، إذ هي إما منافية وابتنائها على أن بينهما العموم من وجه ، أو يكون المراد منها ما ذكرناه من بعض صور إسماع الغير التي لا يتحقق بها الجهر ، فأقله حينئذ إسماع النفس ، وأعلاه إسماع الغير الذي يكون أبعد عن النفس في الجملة ، على أنه يمكن القول على الإيهام المذكور بعدم إجزاء فرد الاجتماع في شي‌ء منهما ، وأن التقابل انما هو في فردي الافتراق ، ضرورة استلزام اجتماع الأمر والنهي فيه ، وظهور اقتضاء التقابل خلافه ، لا أنه يجتزي به في كل منهما كي يتأتى الاعتراض السابق ، ولكن الفتوى على الأول.

وظني أنه ينطبق على ما ذكره المحقق الثاني وتبعه عليه من تأخر عنه كما اعترف به هو ، إذ حاصله أن المرجع فيهما إلى العرف كما هو الضابط في كل ما لم يرد به تحديد شرعي ، والجهر يتحقق فيه بإسماع القريب عرفا مع فرض عدم المانع من هواء أو ماء بسبب إظهار جوهر الصوت والجرسي منه الذين بهما يتحقق الجهر عرفا ، والإخفات بإسماع النفس أو مع الغير لكن باخفات الصوت وهمسه وعدم ظهور الجرسي منه ، فهما حينئذ ضدان ، وأنه لا يعتبر في الجهر إسماع الغير وإن أمكن دعوى لزومه له ، كما أنه لا يعتبر في الإخفات عدم إسماع الغير ، ضرورة حصول مسماه عرفا بالتقدير المزبور وإن أسمع الغير ، بل في كشف اللثام عسى أن لا يكون إسماع النفس بحيث لا يسمع من يليه مما يطاق ، وكأنه يريد بيان شدة العسر والحرج لو اعتبر في الإخفات عدم إسماع الغير ، بل في الرياض أنه يعضد العرف ما في الصحاح « جهر بالقول رفع الصوت به » قيل : ويظهر من القاموس ذلك أيضا ، قلت : وفي المجمل « الجهر الإعلان بالشي‌ء ، والخفت إسرار النطق » ويقرب منه ما في مختصر النهاية الأثيرية ، ويدل عليه أيضا مع ذلك ما عن العيون « من أن أحمد بن علي صحب الرضا عليه‌السلام فكان ما يسمع ما يقوله في الأخراوين من التسبيحات » وما تقدم من خبر رجاء بن‌

٣٨٠