جواهر الكلام - ج ٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

إطلاق ما حكي من إجماعي المعتبر والذكرى ، ويؤيده خلو النصوص عن الأمر به في سائر المراتب ، ودعوى أن إهمال الأصحاب ذلك لمعلوميته ، وإلا فهو مخير من أول الأمر بين الائتمام والتعلم كما في كل واجب مخير ، خصوصا والجماعة أفضل الفردين يمكن منعها على مدعيها ، وإن أمكن دعوى شهادة كلامهم في الجملة لها في باب الجماعة ، إلا أن الأقوى الأول ، والتخيير انما هو بين الصلاة فرادى وجماعة لا بين التعلم والجماعة ، وفرق واضح بينهما.

ومن ذلك كله يظهر لك ما في مصابيح الطباطبائي ، قال : وظاهر الأصحاب وجوب التعلم وإن أمكنه الاقتداء والقراءة في المكتوب ، بل صرح بعضهم بترتبها على العجز عنه ، قال : وفيه أن وجوب التعلم ليس إلا لتوقف العبادة عليه ، ومتى أمكن الإتيان بها بدونه لم يجب ، فان ثبت الإجماع كما في المعتبر والذكرى ، وإلا اتجه القول بنفي الوجوب لانتفاء ما يدل عليه ، وإن كان فيه اعتراف وشهادة على بعض ما ذكرنا ، والله أعلم.

وكيف كان فان ضاق الوقت عن التعليم مع التقصير فيه وعدمه قرأ ما تيسر منها على إشكال في صورة التقصير ، لاحتمال عدم قبول ذلك منه ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار وإن لم نقل إن أوامر الشرع إرشادية بحيث يصح توجهها اليه حال الامتناع ، لكن يعامل معاملة المختار في العقاب وعدم الانتقال إلى البدل وغيرهما خصوصا إذا كان منشأ الانتقال إلى البدل قبح التكليف بما لا يطاق منضما إلى عدم سقوط الصلاة بحال ونحوه مما يمكن دعوى عدم تحققه في المقام ، نعم لو أن الشارع رتب البدل على موضوع يصدق وإن كان باختيار المكلف اتجه حينئذ الانتقال كقوله : فاقد الماء مثلا يتيمم ، إذ لا ريب في صدقه على من أراق الماء ، ولعل مدار المسألة فيما نحن فيه على ذلك ، فان ثبت موضوع يندرج فيه ، وإلا كان الحكم بالانتقال‌

٣٠١

مشكلا ، خصوصا إذا قلنا بتحقق الطلب المستلزم للتكليف في حال الامتناع ، إذ أقصى ما يقبحه العقل توجه الخطاب اللفظي إليه لا أصل طلب الشي‌ء ومحبوبية فعله ومبغوضية تركه ، فإنه حينئذ لا ينافيه عدم سقوط الصلاة بحال ونحوه مما دل على ذلك ، إذ لم نقل بسقوط الصلاة عنه في هذا الحال ، وإلا لم يتجه عقابه إذا فرض تصيير الفعل ممتنعا عليه من أول الوقت ، ولعله إلى ذلك أومأ في المحكي عن الموجز وشرحه بإيجاب القضاء عليه خارج الوقت كما سمعته في التكبير أيضا ، اللهم إلا أن يقال : إن المراد بعدم سقوط الصلاة بحال إرادة وقوع فعلها في جميع الأحوال ، وأنها لا تترك بحال من أحوال المكلف أصلا سواء كان باختياره أو بآفة سماوية ، فحينئذ لا ينافي ذلك بقاء التكليف الأول بناء على الإرشاد أو غيره ، فتأمل فإنه قد يدق ، ولتحقيق المسألة مقام آخر.

أما مع عدم التقصير فلا ريب في عدم سقوط الصلاة عنه ، بل هو من ضروريات المذهب إن لم يكن الدين ، إلا أنه هل يجب عليه الائتمام حينئذ مع تيسره له؟ قيل : نعم ، ولعله لأنه أحد الفردين الذي لا يسقط بتعذر الآخر ، ولأنه بسبب تمكنه من التعلم فيما يأتي من الزمان لم يستقر له بدلية ما جعله الشارع بدلا ، ضرورة ظهورها في العاجز أصلا ، ولا ينافيه الانتقال إليها مع تعذر الائتمام ، لقبح التكليف بما لا يطاق ، وعدم سقوط الصلاة بحال ، ولو سلم ثبوت بدليتها للعاجز غير المقيد باستمرار العجز فقد يمنع صدقه في المقام باعتبار التمكن من الائتمام كما أشار إليه الأستاذ في كشفه أيضا ، ويحتمل عدم الوجوب ، لإطلاق النص والفتاوى ومعاقد الإجماعات ، والبدلية معلقة على من لا يحسن القراءة الصادق في المقام ، ضرورة عدم إرادة تمام العمر منه ، وإلا لم تتحقق البدلية أصلا ، لعدم علمه بمستقبل الأزمنة ، بل المراد من لم يحسنها عند الحاجة إليها الصادق على المقام ، ولعله الأقوى في النظر إن لم ينعقد إجماع على خلافه ، وهو على الظاهر كذلك ولو بملاحظة كلامهم في باب الجماعة ، إذ هو مع أنه لا يبلغ حد‌

٣٠٢

الإجماع معارض بظاهر كلامهم في المقام ، اللهم إلا أن يقال بأنه غير مساق لبيانه ، بل هو لإرادة ما يبدل عن القراءة ولو عند تعذر الجماعة ، فتأمل جيدا.

ثم إن ظاهر المتن عدم الفرق فيما تيسر بين كونه آية أو بعضها وإن لم يدخل في القرآنية إلا بالقصد كالبسملة والحمد لله ونحوهما ، ولعله لإطلاق ما دل على عدم سقوط الميسور بالمعسور ونحوه ، بل ربما كان مقتضاه الكلمة الواحدة وبعضها ، لكن في جامع المقاصد وعن الفاضل والشهيد اعتبار كونه قرآنا في وجوب قراءة البعض ، بل ظاهر الأول اعتبار ذلك فيه بنفسه بحيث لا يحتاج إلى قصد ، وربما يومي اليه الخبر العامي الذي استدل به في المقام بعض الأصحاب وهو‌ خبر عبد الله بن أبي أوفى (١) قال : « إن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إني لا أستطيع أن أحفظ شيئا من القرآن فما ذا أصنع؟ فقال له : قل : سبحان الله والحمد لله » ضرورة أنه لو وجب البعض المستطاع وإن كانت قرآنيته محتاجة إلى النية لأمره بقراءة « الحمد لله » التي هي إحدى الكلمتين اللتين علمهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياه ، بل يومي اليه أيضا عدم الأمر بقراءة البسملة المستبعد عادة عدم معرفتها أيضا ، وكذا يومي اليه ظاهر ما يأتي من فرض الأصحاب من أنه لو لم يعلم شيئا من الفاتحة وعلم سورة أخرى وجب تعويضها عن الحمد أو لا يجب على بحث تسمعه إن شاء الله ، إذ لو كان يجب البعض المستطاع وإن كانت قرآنيته محتاجة إلى النية لوجب أمرهم بقراءة البسملة من الحمد ، بل تكرارها بناء على تعويض التكرير عن الفائت ، واحتمال إرادة المجردة عن البسملة كبراءة من السورة في كلامهم يأباه ملاحظة كلامهم في الفرض المزبور.

وعلى كل حال فظاهر المتن وغيره بل حكي عن صريح بعضهم الاكتفاء بقراءة‌

__________________

(١) سنن أبى داود ج ١ ص ٣٠٥ ـ الرقم ٨٣٢ الطبعة الثانية عام ١٣٦٩ مع اختلاف يسير.

٣٠٣

هذا المتيسر ، ولعله للأصل ، وظهور بعض ما دل على وجوب هذا الميسور في الأجزاء كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا به ما استطعتم » لكن فيه أن ما دل على البدلية عند تعذر الجميع مشعر باعتبارها عن كل جزء من الفائت ، فالتمكن حينئذ من البعض لا يسقطها بالنسبة إلى البعض الآخر ، خصوصا إذا قلنا باستفادة بدلية غير الفاتحة مثلا عنها من نحو‌ قوله عليه‌السلام أيضا (٢) : « لا يسقط الميسور بالمعسور » ونحوه وإن كان بعيدا كما ستعرف ، ومن هنا حكم المحقق الثاني وغيره بضعف القول بالاجتزاء بالقدر المزبور ، وأنه لا بد من التعويض عن القدر الفائت ، ويؤيده في الجملة عموم ما في الآية (٣) وإطلاق بعض النصوص التي ستسمعها والاحتياط والاقتصار فيما دل على اعتبار الفاتحة في الصلاة على المتيقن ، وهو ما إذا جاء بالبدل ، وغير ذلك.

انما البحث في تعيين عوضه ، فهل هو تكرير الميسور حتى يبلغ مقدار الفائت منها آيات أو حروفا لأقربيته إلى الفائت من غيره ، وهو الذي اختاره العلامة الطباطبائي في منظومته ، أو قراءة من غيرها بالقدر المزبور لو فرض معرفته بذلك كما هو المشهور بل لم أجد من جزم بالأول وإن حكي عن التذكرة لكنه لم يثبت ، نعم حكي عن إرشاد الجعفرية الميل اليه ، وعن نهاية الأحكام احتماله ، لسقوط فرض ما علمه بقراءته ولأن الشي‌ء الواحد لا يكون أصلا وبدلا ، وتيسر المغايرة المطلوبة في الأصل فلا تسقط ، ولعموم ما تيسر ، وإطلاق‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) : « إن كان‌

__________________

(١) تفسير الصافي سورة المائدة ـ الآية ١٠١.

(٢) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) سورة المزمل ـ الآية ٢٠.

(٤) سنن البيهقي ج ٢ ص ٣٨٠.

٣٠٤

معك قرآن فاقرأ به » في بعض الأخبار العامية التي استدل بها هنا بعض الأصحاب ، وإشعار اعتبار عدم إحسان القرآن في الانتقال إلى الذكر بقراءة ما يحسنه ، ولغير ذلك من الاعتبارات التي هي جميعا كما ترى ، خصوصا البعض.

فان لم يعلم غير ذلك البعض من القرآن ففي إبدال التكرار أو الذكر قولان ، حكي عن جماعة الأول ، لأنه أقرب من الذكر ، ومال المحقق الثاني إلى الثاني لأنه الصالح (١) للبدلية عن الجميع فللبعض أولى ، وعدم الدليل على بدلية التكرير ، ولأن الفاتحة سبع آيات مختلفة فالتكرير لا يفيد المماثلة بين البدل والمبدل عنه ، وعليه لا يكون التكرير حينئذ عوضا أصلا ، اللهم إلا أن يفرض عدم معرفة الذكر فالتكرير حينئذ أولى من السكوت أو الترجمة ، فتأمل.

ثم لا يخفى أن مقتضى البدلية ثبوت أحكام المبدل عنه للبدل ، فيجب حينئذ في الأخير إن كان المتيسر الأول وبالعكس وكذا الوسط ، وفي وجوب مراعاة عدد الآيات في الابدال أو الكلمات أو الحروف احتمالات ، بل ما عدا الوسط قولان تسمعهما فيما يأتي إن شاء الله.

وأما إن تعذر فلم يتيسر له تعلم شي‌ء من الفاتحة أصلا قرأ ما تيسر من غيرها أو سبح الله وهلله وكبره بقدر القراءة ، ثم يجب عليه التعلم كما عن ظاهر المبسوط جمعا بين ما دل على القراءة من قوله تعالى (٢) ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ ) والنبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) « فان كان معك قرآن فاقرأ به » وقربه للفاتحة ، بل يمكن تجشم دعوى دلالة‌ « لا يسقط الميسور بالمعسور » ونحوه عليه ، بأن يقدر أن الواجب‌

__________________

(١) وفي النسخة الأصلية « لأن الصالح للبدلية ».

(٢) سورة المزمل ـ الآية ٢٠.

(٣) سنن البيهقي ج ٢ ص ٣٨٠.

٣٠٥

عليه قراءة وأن تكون الفاتحة ، وبين ما دل على الذكر من‌ صحيح ابن سنان (١) « ان الله فرض من الصلاة الركوع والسجود ، ألا ترى لو أن رجلا دخل في الإسلام لا يحسن أن يقرأ القرآن أجزأه أن يكبر ويسبح ويصلي » وخبر ابن أبي أوفي المتقدم إلا أنهما معا خاليان عن التهليل المذكور في المتن ، والمحكي عن جملة من كتب الأصحاب منها المبسوط بل في الحدائق أنه المشهور ، ولعله جعل مجموعهما إشارة إلى ذكر الأخيرتين الذي هو قائم عن الفاتحة فيهما ، ولذا قال في الذكرى : إنه لو قيل بتعين ما يجزي في الأخيرتين من التسبيح على ما يأتي إن شاء الله كان وجها ، لأنه قد ثبت بدليته عن الحمد في الأخيرتين فلا يقصر عن بدلية الحمد في الأولتين ، بل هو خيرة الدروس وفوائد الشرائع والمسالك ، وعن البيان والموجز وكشف الالتباس والجعفرية والغرية وإرشاد الجعفرية والميسية ، وقواه في جامع المقاصد ، وفي الروضة أنه أولى ، ويؤيده مع أنه أحوط‌ ما روته العامة (٢) « انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لرجل : قل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ».

وعليه فالمتجه حينئذ عدم اعتبار مساواة الذكر للقراءة في الحروف ، بل المعتبر مقدار ذكر الأخيرتين ، وستعرف البحث فيه ، نعم قد يتوقف في التخيير المزبور من جهة قلة القائل ، بل لم يحك عن غير المصنف إلا عن موضع من المبسوط ، انما المشهور تعين الأول ، بل في كشف اللثام لعله لا خلاف فيه ، وكأنه للاحتياط ، وظهور أدلة الذكر فيمن لم يحسن شيئا من القرآن ، وأولوية بدلية القرآن بعضه عن بعض من غيره خلافا لما عساه يظهر من المنظومة من الانتقال إلى الذكر ، وحينئذ ففي اعتبار الآيات‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) سنن أبى داود ج ١ ص ٣٠٥ ـ الرقم ٨٣٢ الطبعة الثانية عام ١٣٦٩.

٣٠٦

في البدلية لظهور قوله تعالى (١) ( آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) في الاعتناء بالعدد المزبور ، ولأنه ميسور فلا يسقط ، وعدمه للأصل ، والاكتفاء بعدد الحروف وحصول امتثال الآية والخبر بدونها قولان ، أشهرهما الأول ، كما أن المشهور بل لا أجد فيه خلافا اعتبار مساواة الحروف الحروف أو الزيادة ، بل ظاهر العلامة الطباطبائي وغيره الاقتصار على اعتبار مساواتها ، لأنه مقتضى البدلية ، ولعدم سقوط الميسور ونحوه ، نعم عن نهاية الأحكام احتمال العدم تشبيها له بمن فاته يوم طويل فقضاه في يوم قصير من غير اعتبار الساعات ، فالآيات حينئذ كافية ، وفيه أنه يجوز الفرق بالإجماع ، واختلاف المعوض عنه بالصوم ، فتأمل جيدا ، وأما تجويز الزيادة فلعدم المانع ، ولأن المنع منها قد يؤدي إلى النقص المفسد للكلام ، والمراد حينئذ باعتبار الحروف مع الآيات مراعاة أكثر الأمرين ، فإن تمت الآيات قبل الحروف قرأ حتى تتم وبالعكس ، ويحتمل إرادة اعتبار كون المقر وسبع آيات لا غير بعدد حروف الفاتحة أو أزيد ، وإن فرض العذر أو العسر اكتفي بمراعاة الحروف ، بل هذا هو الظاهر من جامع المقاصد أو صريحه وإن كان الأول لا يخلو من وجه أيضا ، ومثله يأتي على تقدير اعتبار الكلمات ، فتأمل.

لكن على كل حال لا يجب أن يعدل حروف كل آية بآية من الفاتحة ، بل يجوز أن يجعل آيتين مكان آية ، خلافا للمحكي عن أحد وجهي الشافعي من وجوب التعادل ، ولا يخلو من وجه إذا أمكن من غير عسر ، والمدار في اعتبار مساواة الحروف على الملفوظ منها دون المرسوم بلا لفظ كألف الجماعة ونحوه ، وبه صرح العلامة الطباطبائي في منظومته ووجهه واضح ، وفيما يلفظ تارة ويحذف أخرى كهمزة الوصل وجهان ، أقواهما الاعتبار ، وأما اعتبار التوالي في الآيات فلا خلاف أجده فيه ، بل عن إرشاد الجعفرية الإجماع عليه ، لاعتباره في الأصل ، وما في التفريق من عدم الارتباط الذي‌

__________________

(١) سورة الحجر ـ الآية ٨٧.

٣٠٧

قد يتخيل منافاته لوضع الصلاة أو كمالها ، بل في جامع المقاصد وعن غيره أنه لو كان التفريق مخلا بتسمية المأتي به قرآنا فكما لو لم يعلم شيئا ، لكن المحكي عن غيره كالفاضل والشهيدين إطلاق الأمر بقراءة المفرق مع تعذر التوالي ، بل عن الأول ان الأقرب قراءة ما تفرق وإن كانت الآيات لا تفيد معنى منظوما إذا قرأت وحدها كقوله تعالى (١) : ( ثُمَّ نَظَرَ ) لأنه يحسن الآيات.

ولو أحسن ما دون السبع ففي التعويض عن الباقي بالتكرير أو بالذكر وجهان ، خيرة المحكي عن التذكرة الثاني ومال إليه في كشف اللثام ، لأن الفاتحة سبع مختلفة فالتكرير لا يفيد المماثلة ، ومن ذلك كله ظهر لك ما في المحكي عن المبسوط « من لا يحسن الحمد وأحسن غيرها قرأ ما يحسنه إذا خاف خروج الوقت ، سواء كان بعدد آياتها أو دونها أو أكثر » إلا أن يحمل قوله : « أو ما دون » على من لا يحسن غيره ، أو خاف خروج الوقت أو نحو ذلك ، فتأمل هذا.

وظاهر المتن وغيره عدم الفرق في هذه الأحكام بين كون ما يعرف قراءته من غير الفاتحة سورة كاملة أو غيرها ، بل حكي التصريح به عن غير واحد ، فعليه حينئذ بناء على وجوب السورة قراءتها وتعويض سورة أخرى أو بعضها عن الفاتحة ، لاتحاد الدليل في الحالين ، لكن عن المنتهى الاجتزاء بقراءة السورة للأصل ، وامتثال ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ ) والنهي عن القران ، وهو كما ترى ، لوجوب الخروج عن الأصل بما خرج عنه في حال عدم السورة الكاملة ، وعدم صدق الامتثال إلا إذا أريد الطبيعة وهو مناف لكثير مما تقدم ، والنهي عن القرآن لا يشمل مثل ما نحن فيه الذي قصد من السورة الثانية أو بعضها فيه عوض الحمد ، مضافا إلى أنه لم يكن يجوز له الاقتصار على السورة لو كان علم الحمد فيستصحب ، كما يستصحب أنه كان عليه التعويض عن الحمد‌

__________________

(١) سورة المدثر ـ الآية ٢١.

٣٠٨

لو لم يعلم السورة ، على أنه مما يبعد سقوط وجوب التعويض عن الفاتحة التي هي الأصل في القراءة ولا صلاة بدونها بامتثال الأمر بقراءة السورة ، كما هو واضح.

أما إذا لم يعلم شيئا من القرآن عوض بالذكر للأدلة السابقة ، بل لا أجد فيه خلافا إلا من بعض الناس ، فاحتمل تقديم الترجمة عليه ، وهو اجتهاد في مقابلة النص ، بل كأنه خرق للإجماع ، قال في موضع من المحكي عن الخلاف : « إن لم يحسن شيئا من القرآن أصلا وجب أن يحمد الله مكان القراءة إجماعا » على أنك ستعرف قوة عدم إجزاء الترجمة مطلقا هذا.

وظاهر المتن أيضا عدم الفرق في اعتبار قدر القراءة بين بدليها من الذكر أو القراءة ، وهو الأشهر كما في الرياض ، وعن نهاية الأحكام أن المراد الذكر قدر زمان القراءة ، قال : لوجوب الوقوف ذلك الحد والقراءة ، فإذا لم يتمكن من القراءة عدل إلى بدلها في مدتها ، ولعله عند التأمل يرجع إلى اعتبار مساواة الحروف المصرح بها في الرياض على هذا التقدير ، ضرورة عدم الفرق بين الذكر والقراءة في ذلك ، نعم يمكن الفرق بينهما بإمكان دعوى عدم اعتبار القدر المزبور في الذكر ، للأصل وإطلاق الدليل ، ولأنه بدل من غير الجنس فيجوز أن يكون دون أصله كالتيمم ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقتصر في التعليم على ما ذكر ، ولعله لذا استشكل في المحكي عن التذكرة في الاعتبار المزبور ، بل حكي عن المعتبر الجزم بالعدم ، لكن قال : « إني لا أمنع الاستحباب لتحصل المشابهة » ونحوه عن المنتهى إلا أنه قال : « لو قيل بالاستحباب كان وجها » وقد عرفت أن المتجه عدم اعتبار ذلك أيضا بناء على إرادة ذكر الأخيرتين الذي يقوم مقام الفاتحة ، فتأمل جيدا ، ولا ريب أن الأول أحوط وإن كان الثاني لا يخلو من قوة.

هذا كله بالنسبة إلى الفاتحة كما هو ظاهر المتن ، أما السورة بناء على وجوبها‌

٣٠٩

فقد يظهر من بعض العبارات مشاركتها للفاتحة في جميع الأحكام المزبورة ، بل عن بعض متأخري المتأخرين التصريح به ، ولا بأس به فيما كان مدركه عدم سقوط الميسور بالمعسور ونحوه مما لا يتفاوت فيه بين السورة والفاتحة ، فيجب حينئذ قراءة المتيسر منها كما صرح به في القواعد ، أما تعويض الذكر ونحوه فقد يتوقف فيه للأصل واعتبار قراءتها بالتمكن ، بل صرح بعدمه في جملة من كتب الأساطين ، بل عن المنتهى والبحار أنه لا خلاف في جواز الاقتصار على الحمد حينئذ ، كما أنه يشعر به ما في الحدائق ، وما سيأتي من المصنف أيضا من اختصاص الخلاف في وجوب السورة وعدمه بصورة التمكن من التعلم ، بل في الرياض أن في صريح المدارك والذخيرة وظاهر التنقيح نفي الخلاف أيضا ، قالوا : اقتصارا في التعويض المخالف للأصل على موضع الوفاق ، بل لعله هو من الضرورة التي ادعى غير واحد الإجماع على سقوطها حالها ، بل هو مقتضى فحوى سقوطها للذي أعجلته حاجة (١) ونحوها ، فلا تعويض حينئذ عنها ، فما عن حاشية الأستاذ الأكبر تبعا للمحكي عن صريح التذكرة من جريان الأحكام المزبورة في الفاتحة من التعويض بالذكر مثلا لا يخلو من تأمل ، وإن كان ربما يوهمه أيضا إطلاق القراءة في بعض النصوص والفتاوى ، بل وإطلاق بعض معاقد الإجماع وغيرها ، وعلى كل حال فلا يجب الائتمام عليه إذا ضاق الوقت وإن كان مرجو التعلم فيما يأتي من الأوقات على إشكال يعرف مما مر ، وربما تسمع له تتمة إن شاء الله.

والمراد بمن لا يحسنها في المتن وغيره من عبارات الأصحاب من لا يستطيع أصل القراءة ، لا ما يشمل من يأتي بها ملحونة أو مبدلا فيها بعض الحروف ونحو ذلك مما لا يخرجه عن أصل القراءة عرفا ، ضرورة عدم جريان الأحكام المزبورة في ذلك ، بل يقرأ بحسب ما تمكن كما صرح به في جامع المقاصد وكشف الأستاذ ، لاتفاقهم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٤.

٣١٠

ظاهرا في باب الجماعة على صحة صلاة الفأفاء والتمتام والألثع والأليغ ، لأنه هو المستطاع (١) والميسور (٢) وما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر (٣) وكل شي‌ء قد اضطر اليه مما حرم عليه فهو حلال (٤) ول‌ خبر مسعدة بن صدقة (٥) المروي عن قرب الاسناد ، قال : « سمعت جعفر بن محمد عليهما‌السلام يقول : انك قد ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح ، وكذلك الأخرس في القراءة في الصلاة والتشهد وما أشبه ذلك ، فهذا بمنزلة العجم المحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلم الفصيح » إذ المراد بالمحرم فيه من لا يستطيع القراءة على وجهها ولا يفصح بها لعدم تعود لسانه ، وللنبوي (٦) المشهور « ان سين بلال عند الله شين » والآخر (٧) « إن الرجل الأعجمي ليقرأ القرآن بعجميته فترفعه الملائكة على عربيته » إلى غير ذلك.

وكان الظاهر من المصنف وغيره ممن عبر بعبارته عدم اشتراط الحفظ عن ظهر القلب في القراءة ، بل يجزي اتباع القاري والقراءة بالمصحف ونحوهما ، ضرورة إرادة من لا يعرف أصل القراءة ممن لا يحسنها لا ما يشمل ذلك وإن تجشم المحقق الثاني في حاشية الكتاب ، إلا أن الأحكام المذكورة فيه تنافيه إلا على تكلف ، والتحقيق فيه الجواز وفاقا لصريح المحكي عن التذكرة ونهاية الأحكام وغيرهما من متأخري المتأخرين‌

__________________

(١) تفسير الصافي سورة المائدة ـ الآية ١٠١.

(٢) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ١٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥٩ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٣.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

٣١١

وظاهر غيرهما ممن لم يذكره شرطا ، للأصل وإطلاق الأدلة ، والصحيح عن الصيقل (١) سأل الصادق عليه‌السلام « ما تقول في الرجل يصلي وهو ينظر في المصحف يقرأ فيه يضع السراج قريبا منه قال : لا بأس بذلك » وخلافا لصريح المحقق الثاني والعلامة الطباطبائي والمحكي عن الشهيدين وفخر المحققين وظاهر الشيخ ، لأنه المتبادر والمعهود في الصلاة ، ولم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأعرابي (٢) الذي سأله عن عدم حفظ القرآن بالقراءة من المصحف ، ولأن القراءة من المصحف مكروهة إجماعا كما عن الإيضاح ، ولا شي‌ء من المكروه بواجب إجماعا ، ولأن القراءة به أو الائتمام أو اتباع القاري معرضة للبطلان بذهاب المصحف ، أو عروض ما لا يعلمه ، أو يشك في صحته ، أو ما يبطل الائتمام ، أو ما يمنع من الاقتداء به ، أو اتباعه في القراءة ، فيفتقر المأموم حينئذ إلى إبطال الصلاة ، ول‌ خبر علي بن جعفر (٣) المروي عن قرب الاسناد سأل أخاه موسى عليه‌السلام « عن الرجل والمرأة يضع المصحف أمامه ينظر فيه ويقرأ ويصلي قال : لا يعتد بتلك الصلاة » وللاحتياط الذي ينبغي مراعاته في الصلاة أو يجب ، إذ الجميع كما ترى بين ممنوع وما هو على العكس أدل ، وقاصر عن المقاومة ومشترك الإلزام ، فلا جهة للتفصيل حينئذ بين الفريضة والنافلة جمعا بين الخبرين ، لعدم الشاهد والمقاومة.

وعلى الوجوب فلا ريب في وجوب بذل الجهد في التعلم ولو بأجرة ، وفي جواز الائتمام وعدمه حينئذ مع سعة الوقت وإمكان التعلم ما عرفت سابقا وإن صحت صلاته قطعا لو ائتم ، أما مع الضيق أو التعذر فلا يجب عليه الائتمام ، لجواز القراءة له بالمصحف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) سنن أبى داود ج ١ ص ٣٠٥ ـ الرقم ٨٣٢ الطبعة الثانية عام ١٣٦٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

٣١٢

حينئذ عند أكثر أهل العلم كما عن المنتهى ، وإجماعا كما عن الخلاف ، وجواز اتباع القاري أيضا كما صرح به بعضهم ، بل عن البيان والمسالك أن المصحف مقدم على الائتمام وإن قال في كشف اللثام : إني لا أعرف وجها لهذا التقديم ، قلت : لعله أقرب إلى الاستظهار من الائتمام ، نعم في المحكي من الذكرى احتمال ترجيح اتباع القاري عليه لاستظهاره في الحال ، قال : « ولو كان يستظهر في المصحف استويا ، وفي وجوبه عند إمكانه احتمال ، لأنه أقرب إلى الاستظهار الدائم ، ومنه يعلم الوجه لما في البيان ، فتأمل.

كما أنه يعلم حينئذ إمكان المناقشة في التخيير بين الأمور الثلاثة في كشف اللثام وجامع المقاصد وعدم الترتيب بينها ، وفي وجوب الائتمام عليه إذا تعذر الأمران وآيس من الحفظ إشكال يعرف مما مر ، والأقوى العدم ، لإطلاق ما دل على الانتقال إلى البدل ، نعم يمكن احتمال الوجوب إذا أمكن التعلم إلا أنه ضاق الوقت كما عرفته في التعلم ، ضرورة اتحاد المدرك فيهما بناء على الوجوب ، بل قد عرفت انه يظهر من بعضهم أن المراد ممن لا يحسنها ما يشمل الأمرين ، فأكثر الأحكام حينئذ فيهما سواء ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فلو ارتفع العذر فان كان قبل الشروع في البدل فلا بحث في وجوب الأصل ، كما أنه لا بحث في سقوطه لو كان ارتفاعه بعد فوات المحل ، أما لو ارتفع في الأثناء أو بعد الفراغ من البدل قبل الانتقال إلى الركوع مثلا فقاعدة الاجزاء تقتضي السقوط في الثاني ، والاقتصار على النسبة في الأول ، لكن في جامع المقاصد وجوب الأصل فيهما معا ناقلا له عن الفاضل والشهيد ، ولعله لظهور أدلة البدلية في الاستمرار ، فيقتصر حينئذ عليه في الخروج عن الأصل ، إذ لا أمر حينئذ حتى يقتضي الإجزاء ، بل هو تخيل الأمر لتخيل الاستمرار ، إلا أنه مع ذلك للنظر فيه مجال ، وإن كان هو الأحوط إذا لم يقصد الجزئية بالأصل ، فتأمل.

ثم إن ظاهر المتن وغيره ممن عبر كعبارته عدم إجزاء الترجمة أصلا هنا كما‌

٣١٣

صرح به بعضهم ، بل حكي عن صريح جماعة وظاهر آخرين ، فلعله حينئذ مذهب الأكثر ، بل لعله ظاهر المحكي من إجماع الخلاف وغيره ، بل لم يحك الخلاف إلا عن نهاية الأحكام والتذكرة والروض مع العجز عن القرآن وبدله ، ولا ريب في ضعفه ، للأصل وإطلاق الأدلة ، وخلوها عن الأمر بالانتقال إليها في مرتبة من المراتب ، واندراجها في كلام الآدميين كما في جامع المقاصد وغيره مع حرمة القياس على التكبير ، خصوصا مع إمكان الفرق بأن المقصود من القراءة النظم المعجز ، وفي‌ مرسل الحجال (١) سأل أحدهما عليهما‌السلام « عن قوله تعالى (٢) ( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) فقال : يبين الألسن ولا تبينه الألسن » فما في الرياض حينئذ من القول بالاجزاء لما دل عليه في التكبير في غير محله ، وعليه فهل تقدم ترجمة القراءة بالعربي أو غيره من اللغات على الذكر لقربها إلى القرآن احتمال كما عن الذكرى ، والأقوى خلافه وفاقا لجامع المقاصد والمحكي عن غيره ، لإطلاق الأمر به ، بل قيل : لو عجز عنه قدم ترجمته على ترجمتها ، لأن الذكر لا يخرج عن كونه ذكرا بالترجمة بخلاف القرآن ، ولعموم خبر ابن سنان (٣) المتقدم كما في كشف اللثام ، وإن كان قد يناقش بأن ترجمة الفاتحة لا تخرج عن الذكر أيضا ، لأنها تحميد ودعاء كما في الخبر (٤).

بل قد يستدل بذلك على أصل الجواز ، وبفحوى حكم الأخرس ، وخبر مسعدة ابن صدقة (٥) المتقدم سابقا ، خصوصا مع ملاحظة تتمته التي لم نذكرها ، والنبوي ٧٧٨٢ (٦)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٧ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) سورة الشعراء ـ الآية ١٩٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥٩ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ الحديث ٤.

٣١٤

المتقدم سابقا أيضا ، ولأنه هو الميسور له ، والمستطاع له ، وأولويته من السكوت ، إذ بناء على عدم إجزاء ترجمة القراءة والذكر وفرض العجز لا يجب عليه إلا القيام قدر القراءة كما عن نهاية الأحكام التصريح به ، قال : « ولو لم يعلم شيئا من القرآن ولا من الأذكار وضاق الوقت عن التعلم وجب أن يقوم بقدر الفاتحة ثم يركع » لكن قد يناقش فيه بأنه لا يوافق ما سمعته عنه من الاجتزاء بالترجمة ، فينبغي عدم اعتبار القدرة عليها أيضا ، أو يريد بعدم العلم الذي ذكره عدم معرفة وجوب ذلك عند الشرع وقد ضاق الوقت ، ولذا اعترض عليه في جامع المقاصد بأن في وجود هذا الفرض ونحوه في كلام الفقهاء بعدا ، إذ لا بد من العلم بباقي الأفعال التي تعد أركانها على وجهها ، وجميع الشروط من أصول الدين وفروعه وأخذ الأحكام على وجه يجزي الأخذ به كما سبق التنبيه عليه ، والعلم بأن من لا يحسن القراءة مطلقا أو على الوجه المعتبر ما الذي يجب عليه ، وإلا لم يعتد بصلاته أصلا ، ومع العلم بهذه الأمور كلها لا يكاد يتحقق فرض عدم علمه بالقراءة ، أو بها وبالذكر معا ، وهو جيد ، بل الأول بعيد أيضا إلا إذا فرض عدم استطاعته النطق أصلا.

وحينئذ فيندرج في الأخرس الذي حكمه أن يحرك لسانه بالقراءة ويعقد بها قلبه بلا خلاف أجده في الأول لخبر السكوني (١) عن الصادق عليه‌السلام « تلبية الأخرس وتشهده وقراءته القرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه » ولعدم سقوط الميسور بالمعسور ونحوه الذي يمكن رفع المناقشة فيه هنا بأن الحركة انما وجبت تبعا للقراءة المعلوم سقوطها في المقام بأن يدعى جزئية الحركة من القراءة أو كالجزء الذي هو مدلول الخبر المزبور ، لا أنه مقدمة خارجية لا مدخلية لها في مسمى القراءة ، وظني أن المراد من الخبر المزبور ما هو المتعارف في حاله من إبراز‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٩ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

٣١٥

مقاصده بتحريك لسانه وإشارته بإصبعه ، فلا بد حينئذ له من معرفة المعنى هنا ولو في الجملة حتى يتحقق منه الإشارة ، ويكون بها مع التحريك كاللفظ من الصحيح الذي لا يحتاج معه إلى معرفة المعنى ، لأنه قد جاء بما يفيده في نفس الأمر ، ولعله إلى هذا أومأ الشهيد في المحكي عن بيانه ودروسه وذكراه ، فاعتبر عقد القلب بمعنى القراءة ، بل قال في الأخير : ولو تعذر إفهامه جميع معانيها أفهم البعض وحرك لسانه به وأمر بتحريك اللسان بقدر الباقي وإن لم يفهم معناه مفصلا ، وهذه لم أر فيها نصا ، بل لعل ذلك هو مراد غيره من المتن ونحوه ممن اعتبر عقد القلب بالقراءة ، لكن استشكله في جامع المقاصد بأنه لا دليل على وجوب ذلك على الأخرس ولا غيره ، ولو وجب ذلك لعمت البلوى أكثر الخلائق ، والذي يظهر لي أن مراد القائلين بوجوب عقد قلب الأخرس بمعنى القراءة وجوب القصد بحركة اللسان إلى كونها حركة للقراءة إذ الحركة صالحة لحركة القراءة وغيرها ، فلا يتخصص إلا بالنية كما نبهنا عليه في جميع الأبدال السابقة ، وقد صرح المصنف بذلك في المنتهى ، فقال : « ويعقد قلبه لأن القراءة معتبرة ، وقد تعذرت فيأتي ببدلها ، وهو حركة اللسان ».

وفيه أنه لا تلازم بين وجوبه على الأخرس وبين الوجوب على غيره حتى تعم البلوى أكثر الخلائق ، على أن الفرق بينهما بصدور اللفظ المستقل في إفادة المعنى وإن لم يعرفه المتلفظ به من الثاني دون الأول في غاية الوضوح ، كما أن الدليل عليه بعد أن عرفت المراد من خبر السكوني وأنه جار على ما هو المشاهد من إبراز مقاصده كذلك بل قد يدعى أن الأصل هو المعنى ، وانما سقط اعتباره عن الناطق بلفظه رخصة ، فإذا فقد اللفظ وجب العقد بالمعنى ، على أن المعروف من الأخرس الأبكم الأصم الذي لم يعقل الألفاظ ولا سمعها ، ولا يعرف تلفظ الناس بل يظن أن الخلق جميعا مثله في إبراز المقاصد ، وهذا لا يتصور فيه عقد القلب بالقراءة وألفاظها ، ولذا قال في كشف اللثام :

٣١٦

إن عليه ما يراه من المصلين من تحريك الشفة واللسان ، ولم يعتبر فيه عقد القلب بالقراءة لعدم إمكانه كما صرح به أيضا ، وعليه يكون حينئذ مثله خارجا عن عبارات الأصحاب ، وانها انما تتم في الأخرس الذي يسمع ويعقل ويعرف القرآن والذكر ، أو يعرف أشكال معاني الحروف إذا نظر إليها ، إلا أنه لا يستطيع التلفظ بها لعارض عرض له في لسانه مثلا ، وهو ـ مع اقتضائه التخصيص من غير مخصص ، بل يقتضي إخراج المعروف من أفراد الخرس ـ يمكن دعوى عدم وجوب حركة اللسان في مثله ولا الإشارة بالإصبع ، بل يكتفى توهم القراءة حينئذ توهما ، ضرورة كونه كمن منعه من القراءة خوف ونحوه الذي وردت النصوص فيه بما ذكرنا ، كخبر علي بن جعفر (١) المروي عن قرب الاسناد سأل أخاه موسى عليه‌السلام « عن الرجل يصلح له أن يقرأ في صلاته ويحرك لسانه بالقراءة في لهواته من غير أن يسمع نفسه قال : لا بأس أن لا يحرك لسانه يتوهم توهما » وخبره الآخر (٢) المروي في قرب الاسناد سأله أيضا « عن الرجل يقرأ في صلاته هل يجزيه أن لا يحرك لسانه وأن يتوهم توهما؟ قال : لا بأس » ومرسل محمد بن أبي حمزة (٣) عن الصادق عليه‌السلام « يجزيك من القراءة معهم مثل حديث النفس » وغيرها مما ورد به الأمر من القراءة في النفس ونحوها ، فما في كشف اللثام من إيجاب حركة اللسان على الأخرس المزبور ، بل ظاهره انه هو المراد من عبارات الأصحاب المحكوم فيها بالأحكام السابقة لا يخلو من نظر ، كما أنه لا يخلو ما فيه من أن ما في كتب الشهيد من عقد القلب بالمعنى مسامحة يراد به العقد بالألفاظ ، على أنه انما ذكر معنى القراءة ، وقد يقال : معناها الألفاظ وإن أراد معانيها فقد يكون اعتبارها لأنها لا تنفك عن ذهن من يعقد قلبه بالألفاظ إذا عرف معانيها من النظر المزبور ، وكأن الذي أوقعه في ذلك تفسير الأخرس بما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٣.

٣١٧

والحاصل أن المتصور من الخرس ثلاثة : أحدها الأبكم الأصم خلقة الذي لا يعرف أن في الوجود لفظا أو صوتا. ثانيها الأبكم الذي يعرف أن في الوجود ألفاظا وأن المصلي يصلي بألفاظ أو قرآن. ثالثها الأخرس الذي يعرف القرآن أو الذكر ويسمع إذا أسمع ويعرف معاني إشكال الحروف إذا نظر إليها ، وقد جعل موضوع حكم الأصحاب بالتحريك وعقد القلب الثالث ، أو هو والثاني بالنسبة إلى عقد القلب دون التحريك ، لأنه هو الذي يتصور فيه ذلك بعد إرادة الألفاظ من عقد القلب ، وفيه أن ظهور الخرس في غيرهما وفيما هو أعم منهما مما يعين إرادة المعنى من عقد القلب كما سمعته من الشهيد ، وأن المراد إبراز الأخرس هذه المعاني كما يبرز سائر مقاصده بتحريك لسانه والإشارة بيده ، ولعل في لفظ الإشارة في خبر السكوني وعبارات أكثر الأصحاب إن لم يكن جميعهم إشارة إلى ذلك ، إذ من المستبعد إرادة مجرد التعبد منها أو خصوص ما يفيد التوحيد من القرآن والذكر ، لأنها انما تفعل لافهامه ، بل قد يتوقف في وجوب التحريك على الثالث لما عرفت ، فيكون موضوع كلام الأصحاب الخرس بالمعنيين الأوليين ، إذ دعوى عدم وجوب التحريك على الثاني كما في كشف اللثام للأصل وخبر قرب الاسناد السابق غير مسموعة بعد إطلاق خبر السكوني المعتضد بإمكان جريان قاعدة اليسر فيه أيضا ، فيجب حينئذ كما عن الذكرى ، واكتفاء الفاضل في المحكي عن تذكرته ونهايته لجاهل القرآن والذكر إذا ضاق الوقت أو فقد المرشد بالقيام قدر الفاتحة لا يستلزم الحكم فيما نحن فيه ، لعدم صدق الخرس ، ولا أن المعروف في إبراز مقاصده التحريك والإشارة ، فيكون حينئذ هذا التحريك والإشارة فيه من المهملات والأفعال العبثية بخلاف محل الفرض.

وما في كشف اللثام أيضا من أن الواجب انما هو التلفظ بالحروف ، والتحريك تابع له في الوجوب لما لم يمكن التلفظ بها بدونه يدفعه أنه اجتهاد في مقابلة النص أولا ،

٣١٨

وأن الممكن منه من القراءة هذا المقدار ثانيا ، وقد عرفت إمكان الفرق بين التحريك بالنسبة إلى الألفاظ وبين المقدمات الخارجية ، على أن مثله يرد عليه فيما أوجب فيه التحريك من القسم الثاني من الخرس ، ودعوى أن الشارع قد اعتبر القراءة كحديث النفس بتحريك اللسان في اللهوات من غير صوت في خصوصه وفيمن يصلي خلف إمام يتقيه ولا يأتم به خالية عن الشاهد ، بل لعل الشاهد بخلافها كما عرفت ، كدعوى دفع إطلاق خبر السكوني بأنه لا قراءة لهذا الأخرس ، بل هي أوضح من الأولى بطلانا عند التأمل ، ومن ذلك كله يعرف ما في كلام جملة من الأصحاب في المقام خصوصا كشف اللثام ، فلاحظ وتأمل.

ثم لا يخفى أن المراد باللسان في المتن وغيره ما يشمل الشفة مثلا مما يبرز بها الألفاظ ، أو أنه اقتصر عليه لأن غالب الإبراز به ، كما أن التقييد بالإصبع في خبر السكوني يراد منه مطلق الإشارة به أو باليد ، ولعل عدم ذكر عقد القلب فيه كعبارة المبسوط فيما قيل لأن إبراز المقصد بالتحريك والإشارة لا ينفك عن عقد القلب بالمعنى ، كما أن ترك الإشارة في مثل المتن لنحو ذلك ، بل وكذا ما يحكى عن النهاية والمهذب من ترك التحريك بل اقتصرا على الإيماء مع اعتقاد القلب ، وكل ذلك شاهد على إرادة الأصحاب إبراز الأخرس كباقي إبراز مقاصده ، وأنهم اتكلوا على التعارف والمشاهدة من أحواله فلم يذكروا تمام المشخصات ، فتأمل جيدا.

نعم لو فرض تعسر تعليمه وإفهامه أصلا سقط عنه قطعا ، وهل عليه تحريك اللسان؟ وجهان ، ظاهر ما سمعته من الشهيد الأول ، وقد تقدم في التكبير ما له نفع في المقام في الجملة ، والله أعلم بحقيقة الحال.

والمصلي في كل ثالثة ورابعة بالخيار بين القراءة والتسبيح فـ ( ـان شاء قرأ الحمد ، وإن شاء سبح ) إجماعا محصلا ومنقولا صريحا وظاهرا مستفيضا بل متواترا‌

٣١٩

ونصوصا كذلك صريحة وظاهرة ولو للجمع بين الأمر بكل منهما بالتخيير ، كما أنه يجب حمل الأمر بالثاني ٧٥٠٩ (١) منهما من غير تعرض للقراءة في المحكي عن الصدوقين في الرسالة والمقنع والهداية عليه ، أو على أفضل فرديه كما حكي عنهما ذلك في المسألة الآتية بل لعل المحكي عن الحسن بن أبي عقيل كذلك أيضا وإن كان في عبارته ما يوهم التعيين حتى أنه ربما نسب اليه بل وإلى الصدوقين أيضا ذلك ، لكنه في غير محله ، فما عن كشف الأسرار ـ من حكاية القول به عن بعض معاصريه حملا لأخبار القراءة (٢) على بعض ما تعرفه ، وأخذا بما تضمن الأمر به (٣) والنهي (٤) عنها من النصوص التي سيمر عليك بعضها إن شاء الله ـ مصادمة للإجماع والقطعي من النصوص (٥) كما أن ما عن بعض معاصريه أيضا من تعين القراءة للتوقيع (٦) الآتي الذي يجب طرحه أو تأويله كذلك أيضا ، وإن قيل : إنه ربما ظهر من عبارة الوسيلة ، مع أن المحكي منها ليس بذلك المكان من الظهور ، بل لا يخلو من إجمال ، نعم حكي عن جملة من الأصحاب تخصيص مورد الإجماع هنا بغير المأموم الذي فيه أقوال شتى ، وفيه أنها ليست في التخيير والتعيين ، بل هي بالنسبة إلى الرجحان وعدمه ، وإلى وجوب شي‌ء عليه وعدمه لا أنه بالنسبة إلى تعيين أحد الفردين ، وإن كان قد وقع من بعض من لا يعتد بخلافهم من متأخري المتأخرين ، فمنهم من أوجب القراءة عليه ، ومنهم من أوجب التسبيح ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٤ والباب ٥١ منها ـ الحديث ١١ و ١٢ و ١٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٦ والباب ٥١ الحديث ٦ و ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١٤.

٣٢٠