جواهر الكلام - ج ٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

السجود فان الجلوس فيه من مقدماته لا لأن السجود يعتبر فيه أن يكون عن جلوس.

والمسنون في هذا الفصل للقائم عدة أمور مستفادة من صحيح حماد (١) وزرارة (٢) والمحكي عن فقه الرضا عليه‌السلام (٣) قال في الأول : « قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام يوما : أتحسن أن تصلي يا حماد؟ قال : قلت : يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة ، قال : فقال عليه‌السلام : لا عليك قم صل ، قال : فقمت بين يديه متوجها إلى القبلة ، فاستفتحت الصلاة وركعت وسجدت ، فقال : يا حماد ، لا تحسن أن تصلي ، ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة ، بحدودها تامة ، قال حماد : فأصابني في نفسي الذل ، فقلت : جعلت فداك فعلمني الصلاة ، فقام أبو عبد الله عليه‌السلام مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضم أصابعه وقرب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاث أصابع مفرجات ، واستقبل بأصابع رجليه جميعا القبلة لم يحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة ، فقال : الله أكبر ، ثم قرأ الحمد بترتيل وقل هو الله أحد ، ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم ، ثم قال : الله أكبر وهو قائم ، ثم ركع وملأ كفيه. وقال أبو جعفر عليه‌السلام في الثاني : « إذا قمت في الصلاة فلا تلصق قدمك بالأخرى دع بينهما فصلا ، إصبعا أقل ذلك ، إلى شبر أكثره ، وأسدل منكبيك وأرسل يديك ولا تشبك أصابعك ، وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك ، وليكن نظرك إلى موضع سجودك » وفي المحكي‌ عن فقه الرضا عليه‌السلام « إذا أردت أن تقوم إلى الصلاة فلا تقم إليها متكاسلا ـ إلى أن قال ـ : فقف بين يديه كالعبد الآبق المذنب بين يدي مولاه ، فصف قدميك وأنصف نفسك ولا تلتفت يمينا ولا شمالا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٣.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٧.

٢٨١

وتحسب كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فإنه يراك ، ولا تعبث بلحيتك ـ إلى أن قال أيضا ـ : ويكون بصرك في موضع سجودك ما دمت قائما ـ ثم قال ـ : ولا تتك مرة على رجلك ومرة على الأخرى » إلى آخره وانما لم نذكر تمام الأخبار الثلاثة لاشتمالها على ذكر المستحبات في الصلاة لا خصوص القيام الذي هو المطلوب في المقام.

والمستفاد من هذه وغيرها إسدال المنكبين وإرسال اليدين ووضعهما على الفخذين اليمنى على الأيمن واليسرى على الأيسر مضمومتي الأصابع حتى الإبهام محاذي الركبتين والنظر إلى موضع السجود واستواء النحر وفقار الظهر ، كما يدل عليه أيضا المرسل (١) الوارد في تفسير قوله تعالى (٢) ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) الذي قد تقدم سابقا ، واستواء الرجلين في الاستقرار ، بل يظهر من الأخير كراهة الاتكاء على واحدة ، وصف القدمين بحيث لا ينحرف أحدهما عن الآخر ولا يزيد ، وأن يوجه بالجميع القبلة وأن يفرق بينهما ولو بإصبع ، والشبر أقصى الفصل ، إلى غير ذلك مما لا يخفى على من لاحظ النصوص.

وربما يظهر من‌ صحيح زرارة الآخر (٣) عدم استحباب بعضها بالنسبة إلى المرأة ، قال فيه : « إذا قامت المرأة في الصلاة جمعت بين قدميها ولا تفرج بينهما ، وتضم يديها إلى صدرها لمكان ثدييها. » ولم أعرف خلافا بين الأصحاب في عدم وجوب شي‌ء من جميع ما ذكرنا عدا ما سمعته سابقا من المحكي عن ظاهر الصدوق من وجوب نصب النحر ، وعدا ما يظهر من بعض العبارات المحكية في تحديد ما بين القدمين بالشبر أو الأقل ، ولا ريب في ضعفهما ، وأن المدار في الثاني على عدم حصول التباعد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٣.

(٢) سورة الكوثر ـ الآية ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٤.

٢٨٢

المخل بهيئة القيام ، والله أعلم.

وأما المستحب للقاعد فـ ( شيئان ) : أحدهما أن يتربع المصلي قاعدا في حال قراءته بلا خلاف أجده ، بل عن صريح الخلاف وظاهر غيره الإجماع عليه ، للحسن (١) « كان أبي عليه‌السلام إذا صلى جالسا تربع ، فإذا ركع ثنى رجليه » كما أني لا أعرف خلافا في عدم وجوبه ، بل عن المنتهى أنه إجماعي لإطلاق النصوص (٢) والتصريح والتعميم في بعضها (٣) بل لا أعرف خلافا أيضا في أن ذلك كيفية لمطلق الصلاة جالسا سواء كان فريضة أو نافلة ، وكذا لا أعرف خلافا أيضا في أن المراد بالتربع هنا نصب الفخذين والساقين وإن كان لم يساعده شي‌ء مما وقفنا عليه من كلام أهل اللغة بالخصوص ، بل الموجود فيه خلاف ذلك ، وأنه عبارة عن الكيفية المتعارفة الآن ، إلا أن الأصحاب لعلهم أخذوه من أنه هو جلوس القرفصاء المنقول (٤) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أحد جلساته الثلاثة ، وأنه هو الأقرب للقيام ، بل ربما احتمل وجوبه ، واحتمال أنه هو جلوس العبد المتهيّئ للامتثال الذي قد أمر به في بعض الأخبار ، وربما كان في الحسن السابق أيضا إشارة اليه ، لأن ثني الرجلين في حال الركوع يدل على عدمه قبله ، والتربيع المتعارف فيه ثنى الرجلين ، فتأمل ، والمراد بثني الرجلين فرشهما واضعا للفخذ على الساق.

ولا خلاف في أنه يستحب له أيضا أن يثني رجليه في حال ركوعه للحسن السابق المحكي على ظاهره الإجماع عن بعضهم ، وأما بين السجدتين فالظاهر استحباب التورك لا التربع لما ستسمع ، وإن كان يمكن دعوى دلالة الحسن على الثاني ، وكذا التشهد ، لكن المصنف نسبه إلى القيل مشعرا بتمريضه ، فقال وقيل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القيام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب أحكام العشرة ـ الحديث ١ من كتاب الحج.

٢٨٣

ويتورك في حال تشهده بل عن جامع ابن عمه التصريح باستحباب التربع فيه ، ولم أعرف لهما موافقا ولا شاهدا عدا دعوى إطلاق الحسن السابق الذي لا يقاوم ما سيأتي مما دل (١) على استحباب التورك فيه الذي حكي التصريح به هنا عن جماعة من الأصحاب ، والأمر سهل ، ولقد ذكرنا جملة نافعة عند ذكر المصنف الجلوس في النافلة ، من أرادها فليلاحظها ، لكن ذكر الأستاذ في كشفه هنا « أن الأفضل للجالس العاجز جلوس القرفصاء إن لم نوجبه ، لأنه أقرب إلى هيئة القيام ، وبعدها التربع ، وهو جمع القدمين ووضع إحداهما على الأخرى ، وقد يقال بأفضلية الحال الأولى في مقام القراءة ومقام الركوع ، والثانية في مقام الجلوس ، ويستحب توركه حال التشهد » وهو كما ترى فيه ما هو خال عنه كلام الأصحاب ، بل لعله يخالفه وإن كان يمكن ذكر ما يصلح مستندا لبعض ما ذكره ، والله أعلم.

الفعل ( الرابع )

من أفعال الصلاة

( القراءة‌ )

وهي واجبة في الجملة في الصلاة إجماعا بل وضرورة من المذهب كما في كشف الأستاذ ، لعدم العبرة في ذلك بمن لم يسمع الآن بجملة من الضروريات من بهائم الخلق ونصوصا مستفيضة (٢) بل متواترة ، بل قيل وكتابا كقوله تعالى (٣) :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٣) سورة المزمل ـ الآية ٢٠.

٢٨٤

( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) بعد العلم بأن لا وجوب في غير الصلاة ، وفيه أن النصوص (١) ظاهرة أو صريحة في أن وجوبها من السنة لا من الكتاب كالركوع والسجود ، وذلك أقوى قرينة على عدم إرادة الصلاة من الآية المستلزمة لتكلف إخراج ما عدا الصلاة وما عدا الفاتحة خاصة ، أو هي والسورة مما تيسر ، وإرادة الوجوب الشرطي والشرعي من الأمر على فرض العموم للفرض والنفل ، وغير ذلك ، بل لا ظن بإرادة قراءة الصلاة ، وفرق واضح بين قابلية الإرادة وبين الظن بالإرادة الفعلية كما هو الديدن في قرائن المجاز ، ويؤيد ذلك كله أنها ليست ركنا تبطل الصلاة بتركها عمدا وسهوا فضلا عن زيادتها قطعا ، بل عن الخلاف الإجماع عليه ، بل يمكن دعوى تحصيله ، لعدم معلومية المخالف وإن نسب إلى ابن حمزة ، لكن قيل : إنه لم يكن له في الوسيلة ذكر ، نعم عن المبسوط حكايته عن بعض أصحابنا ، ومثله لا يقدح في تحصيل القطع الناشئ من اتفاق من وصل إلينا فتاويهم من الأصحاب والنصوص (٢) الكثيرة الظاهرة والصريحة في نفي البطلان مع النسيان الذي هو لازم الركنية ، فاصالتها حينئذ على تقدير التسليم وإطلاق نفي الصلاة من دون الفاتحة مثلا يجب الخروج عنهما ببعض ذلك فضلا عن جميعه ، ولو كانت واجبة بالكتاب لكانت ركنا كما أومأت إليه النصوص (٣).

وتتعين بالحمد في كل ثنائية وفي الأولتين من كل رباعية وثلاثية بلا خلاف أجده فيه ، بل يمكن دعوى تواتر الإجماع عليه للنصوص البيانية (٤) وغيرها مما يمر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١ والباب ٢٩ منها ـ الحديث ٥ والمستدرك ـ الباب ٢٢ منها ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ و ٢٨ و ٢٩ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١ والباب ٢٩ منها ـ الحديث ٥ والمستدرك ـ الباب ٢٤ منها ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة.

٢٨٥

عليك في تضاعيف المباحث ، بل قد يشعر المشتمل منها (١) على ذكر السبب في اختصاص الأولتين بالقراءة دون الأخيرتين بكونه مفروغا منه ، بل يمكن دعوى استفادته أيضا من نفي الصلاة بدون فاتحة الكتاب ، بناء على إرادة كل ركعة من الصلاة وإن خرج ما خرج بالدليل ، أو على الإتمام بالإجماع ، ومنه يعلم حينئذ وجوبها شرطا أو وشرعا في النافلة ، بل هي مدلول له قطعا إذا كانت ركعة واحدة ، على أنك قد سمعت أصالة اشتراك النافلة والفريضة في كل هيئة كان موضوعها لفظ الصلاة التي هي اسم للطبيعة المشتركة بينهما ، فما عن تذكرة الفاضل وتحريره وابن أبي عقيل من عدم اشتراطها بذلك للأصل ضعيف كأصله لما عرفت ، مضافا إلى توقيفية العبادة ، وإلى ما ورد في بيان كثير من النوافل الخاصة من الأمر بقراءتها فيها مما هو ظاهر ولو بمعونة فتاوى الأصحاب في عدم إرادة اختصاص تلك النوافل بالفاتحة وإن اختصت بأمور أخر من سور خاصة ونحوها ، بل عدم العثور على نافلة مخصوصة ذكر فيها الاكتفاء بغير الحمد أو ببعضه أقوى شاهد على اعتباره فيها جميعها ، وإلى فعل السلف والخلف ، نعم قد يشهد للفاضل توسعة الأمر في النوافل ، وخصوص‌ خبر علي بن أبي حمزة (٢) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل المستعجل ما الذي يجزيه في النافلة؟ قال : ثلاث تسبيحات في القراءة وتسبيحة في الركوع والسجود » بناء على عدم التخصيص بالمستعجل لعدم القائل بالفصل ، أو لصدق الاستعجال على ما لا ينافي الاختيار ، لكنه مع ضعفه قاصر عن معارضة ما عرفت ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فـ ( ـتجب قراءتها ) أجمع ، وحينئذ لا تصح الصلاة مع الإخلال ولو بحرف واحد منها عمدا إجماعا في كشف اللثام وعن المعتبر والمنتهى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

٢٨٦

نقيصة أو إبدالا ممنوعا أو غيرهما ، لعدم الامتثال ، ضرورة كونها اسما للمجموع الذي ينتفي بانتفاء بعضه ، والتسامحات العرفية كالاشتباهات لا تبنى عليها الأحكام الشرعية والظاهر ذلك حتى لو تدارك بناء على تحقق البطلان بمطلق الزيادة في الصلاة ، إذ من الواضح حينئذ تحققها فيما لو تدارك بسبب ما وقع قبله منه ، بل لو أخل بحرف من كلمة فقد نقص وزاد معا وإن لم يتدارك إن نوى بما أتى به من الكلمة الجزئية ، وإلا نقص وتكلم في البين بأجنبي.

فظهر حينئذ عدم جواز الإخلال بشي‌ء منها حتى التشديد كما عن الأكثر التصريح به ، بل في فوائد الشرائع لا نعرف فيه خلافا ، قال فيه : « لا ريب أن رعاية المنقول في صفات القراءة والتسبيح والتشهد ـ من حركات وسكنات للاعراب والبناء وغير ذلك مما يقتضيه النهج العربي كالادغام الصغير على ما صرح به شيخنا الشهيد في البيان والمد المتصل ـ واجبة ، ومع الإخلال بشي‌ء من ذلك تبطل الصلاة ، ولا نعرف في ذلك كله خلافا ، ويحصل ترك التشديد إما بحذف الحرف المدغم مثلا ، أو بتحريكه ، أو بفك الإدغام » لكن الأول مندرج في الإخلال بحرف ، ولعله خصه بالذكر حينئذ لخفائه ، والثاني إخلال بكيفية الحرف ، لأنه حركة بعد أن كان ساكنا ، والثالث بطلانه لفوات الموالاة ، قال في كشف اللثام : « وفك الإدغام من ترك الموالاة إن تشابه الحرفان ، وإلا فهو إبدال حرف بغيره ، وعلى التقديرين من ترك التشديد ، نعم لا بأس به بين كلمتين إذا وقف على الأولى نحو ( لَمْ يَكُنْ لَهُ ) لما ستعرفه من جواز الوقف على كل كلمة » وظاهره عدم جواز فكه في نحو الكلمتين المزبورتين إذا لم يقف وستعرف التفصيل ، وعلى كل حال فالظاهر إرادة التشديد من الإدغام الصغير في معقد نفي الخلاف في كلام الكركي ، إذ هو إدراج الساكن الأصلي في المتحرك في كلمة واحدة‌

٢٨٧

أو كلمتين متماثلين « كهَلْ لَكَ » أو متقاربين (١) « كمِنْ رَبِّكَ » خلاف الإدغام الكبير الذي هو إدراج المتحرك بعد الإسكان في المتحرك متماثلين في كلمة « كمَناسِكَكُمْ » و ( ما سَلَكَكُمْ ) أو في كلمتين « كيَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » ( فِيهِ هُدىً ) ـ ( وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ ) أو متقاربين في كلمة كالقاف في الكاف بشرط تحرك ما قبلها « كيَرْزُقُكُمْ » وخَلَقَكُمْ لا « كمِيثاقَكُمْ » وأن يكون بعده ميم الجماعة في قول ، وفي كلمتين « كفَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ » قيل : وقد حصروه في ستة عشر حرفا : الحاء والقاف والكاف والجيم والشين والضاد والسين والدال والذال والتاء والثاء والراء واللام والنون والميم والباء ، والتفصيل يطلب من مظانه ، لأن لا غرض لنا يتعلق به ولا بغيره من أقسام الإدغام الكبير ، إذ لم أعرف أحدا قال بوجوب شي‌ء منه من الأصحاب كما اعترف به بعض مشايخنا ، بل لو لا الإجماع المدعى على القراءة بالسبع أو العشر لأمكن التوقف في القراءة ببعض أفراده ، خصوصا مع استلزامه تغيير كيفية الحرف بالإسكان أو الإبدال ، إذ لذلك سمي كبيرا.

بل يمكن المناقشة في إطلاق الوجوب في الإدغام الصغير وإن نسب إلى الفقهاء ولم يعرف الكركي فيه خلافا ، ضرورة عدم الدليل على وجوبه في مطلق المتقاربين في النحو ولا في الصرف ، بل ولا في علم القراءة ، إذ حروف الحلق وهي « اهع حغخ » متقاربة المخرج ، وكذا حروف أصل اللسان كالقاف والكاف ، وحروف وسطه كالياء المثناة التحتانية والشين والجيم ، وحروف طرفه كالصاد والسين والراء ، وحروف الشفة‌

__________________

(١) الصحيح ما أثبتناه وان كانت النسخة الأصلية مع تاء التأنيث الموهمة أن قوله : « متماثلتين » و « أو متقاربتين » صفتان لكلمتين وذلك لأنهما حالان لقوله : « الساكن الأصلي و « المتحرك » كما هو واضح.

٢٨٨

العليا كاللام والنون والثاء والذال والظاء ، وحروف الشفة السفلى وهي التاء والدال والطاء ، وحروف الشفتين كالفاء والباء والواو والميم وإن تفاوتت بالجهر والهمس والشدة والرخاوة وغيرها من الأوصاف ، وقد اختلفوا في إدغام كثير منها مع تقارب المخرج كالذال في الجيم والزاء والسين والصاد والتاء والدال ، نحو إِذْ جَعَلْنَا ، وإِذْ زَيَّنَ ، وإِذْ سَمِعْتُمُوهُ ، وإِذْ صَرَفْنا ، وإِذْ تَبَرَّأَ ، وإِذْ دَخَلُوا ، فعن أبي عمر وهشام الإدغام ، وعن عاصم والحرميين الإظهار ، والدال في الجيم والسين والشين والصاد والذال والراء والضاد والظاء ، نحو لَقَدْ جاءَكُمْ ، لَقَدْ سَمِعَ ، قَدْ شَغَفَها ، لَقَدْ صَرَّفْنا ، لَقَدْ ذَرَأْنا ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ، فَقَدْ ضَلَّ ، فَقَدْ ظَلَمَ ، فعن الأكثر الإدغام ، وعن عاصم وابن كثير وقالون الإظهار ، وتاء التأنيث في ستة : الجيم والسين والصاد والزاء والثاء والظاء ، نحو نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ، وكَذَّبَتْ ثَمُودُ ، وأُنْزِلَتْ سُورَةٌ ، وحَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ، وخَبَتْ زِدْناهُمْ ، وكانَتْ ظالِمَةً ، فعن الأكثر الإظهار ، وعن بعض الإدغام ، ولام هل وبل في التاء والثاء والسين والزاء والطاء والضاد والنون ، نحو هَلْ تَعْلَمُ ، هَلْ ثُوِّبَ ، بَلْ سَوَّلَتْ ، بَلْ زُيِّنَ ، بَلْ طَبَعَ ، بَلْ ضَلُّوا ، بل ظلموا ، بَلْ ظَنَنْتُمْ ، بَلْ نَظُنُّكُمْ ، هَلْ نَدُلُّكُمْ ، فعن الكسائي الإدغام ، وعن الأكثر الإظهار ، إلى غير ذلك مما اختلفوا فيه كالباء في الفاء وبالعكس ، نحو أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ ، ومَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ ، ونَخْسِفْ بِهِمُ ، والراء في اللام ، نحو وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ.

نعم لا خلاف بينهم كما عن الشاطبية وسراج القارئ في إدغام الذال في الظاء نحو إِذْ ظَلَمُوا ، والدال في التاء نحو قَدْ تَبَيَّنَ ، قَدْ نَعْلَمُ ، وَعَدْتَنا ، وفي إدغام تاء التأنيث في الدال والطاء أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ، وفَآمَنَتْ طائِفَةٌ ، واللام في الراء قُلْ رَبِّي ، بَلْ رَبُّكُمْ ، بَلْ رانَ ، بل قيل الظاهر أيضا أنهم يوجبون إدغام الطاء في التاء أَحَطْتُ ، بَسَطْتَ ، والقاف في الكاف مع سكونها واتصال ميم الجمع ، بل قيل وبدونه ، لم يخلقكم ،

٢٨٩

لم يرزقكم ، يخلقك.

ووجوب ذلك كله مبني على وجوب ما عند القراء ، إذ ليس في النحو والصرف ما يقتضيه ، ضرورة عدم معروفية الإدغام عندهم إلا في المتماثلين في كلمة واحدة ، أو كلمتين الساكن أولهما أصالة ، وكأن الإدغام حينئذ من ضروريات النطق بالكلمة أو الكلمتين معا ، ولعل مراد الأصحاب بالإدغام الصغير الذي نقلوا الإجماع على وجوبه هذا لا مطلق ما عرفت ، مع أنه قد يستثنى منه أيضا حرف المد نحو ( آمَنُوا ، وَعَمِلُوا ) ، و ( الَّذِي يُوَسْوِسُ ) ، فإنه واجب الإظهار ، بل يمكن دعوى منافاة المد للادغام ، أما لو أريد بالإدغام الصغير ما يشمل جميع ما سمعت مما ادعي وجوبه عند سائر القراء ففيه بحث أو منع.

كالبحث أو المنع في وجوب إدغام التنوين والنون الساكنة إذا كانت طرفا في اللام والراء بغنة الذي نقل إجماع القراء السبعة عليه عن التيسير وسراج القاري والشاطبية نحو هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ، مِنْ رَبِّكَ ، ولكِنْ لا يَعْلَمُونَ ، بل نقلوه أيضا على إدغامهما في حروف « ينمو » الأربعة مصاحبا للغنة إلا من خلف فلا غنة في الياء والواو نحو من يقو ، وبَرْقٌ يَجْعَلُونَ ، مِنْ نُورٍ ، يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ، مِمَّنْ مَنَعَ ، مَثَلاً ما بَعُوضَةً ، مِنْ والٍ ، غِشاوَةٌ وَلَهُمْ.

أما إذا كانت النون وسطا فعن الشاطبي وجماعة الإجماع على وجوب إظهارها نحو الدُّنْيا وبُنْيانٌ وقِنْوانٌ وصِنْوانٌ لئلا تشتبه بالمضاعف نحو حيان وبوان ، بل قيل أيضا إنه حكي الإجماع مستفيضا على إظهارهما معا قبل حروف الحلق ، وأنهم أجمعوا على قلبهما ميما عند الباء نحو مِنْ بَعْدِ ـ صُمٌّ بُكْمٌ ، بل عن ابن مالك التصريح به أيضا.

وأما حالهما عند غير الذي عرفت من باقي الحروف فعن الشاطبية وسراج القاري الإجماع أيضا على إخفائهما مع بقاء غنتهما ، والإخفاء حال بين الإدغام والإظهار عار‌

٢٩٠

من التشديد ، وأما الميم فان لاقت الباء غنت ، وإن لاقت غيرها من سائر الحروف ظهرت ، ووجه الإشكال في الجميع ما عرفت ، خصوصا إذا قلنا : إن المراد بالوجوب في لسان القراء تأكد الفعل كما عن الشهيد الثاني احتماله ، أو أنه معتبر في التجويد لا كالنحويين والصرفيين الذي يراد به فيهما خروج اللفظ عن قانون اللغة ، ولذا كان الأقوى وجوب كل ما هو واجب عندهم دون القراء.

لا يقال : إنه بعد أن كلف بقراءة القرآن مثلا في الصلاة فلا يجزيه إلا قراءة ما هو معلوم أنه قرآن أو كالمعلوم ، وهو لا يحصل إلا بالقراءات السبع ، للإجماع في جامع المقاصد وعن الغرية والروض على تواترها ، كما عن مجمع البرهان نفي الخلاف فيه المؤيد بالتتبع ، ضرورة مشهورية وصفها به في الكتب الأصولية والفقهية ، بل في المدارك عن جده أنه أفرد بعض محققي القراء كتابا في أسماء الرجال الذين نقلوا هذه القراءات في كل طبقة ، وهم يزيدون عما يعتبر في التواتر ، مضافا إلى قضاء العادة بالتواتر في مثله لجميع كيفياته ، لتوفر الدواعي على نقله من المقر والمنكر ، وإلى معروفية تشاغلهم به في السلف الأول حتى أنهم كما قيل ضبطوه حرفا حرفا ، بل لعل هذه السبعة هي المرادة من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « نزل القرآن على سبعة أحرف » كما يومي اليه المروي (٢) عن خصال الصدوق ، ولأن الهيئة جزء اللفظ المركب منها ومن المادة ، فعدم تواترها يقضي بعدم تواتر بعض القرآن ، أو العشر (٣) لدعوى الشهيد في الذكرى تواترها أيضا؟ وهو لا يقصر عن نقل الإجماع بخبر الواحد كما اعترف به‌

__________________

(١) الخصال ج ٢ ص ١٠ الطبع القديم.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٦.

(٣) قوله : « أو العشر » معطوف على كلمة « السبع » في قوله : « وهو لا يحصل إلا بالقراءات السبع ».

٢٩١

في جامع المقاصد وإن ناقشه بعضهم بأن شهادته غير كافية ، لاشتراط التواتر في القرآن الذي يجب ثبوته بالعلم ، ولا يكفي الظن ، فلا يقاس على الإجماع ، نعم يجوز ذلك له ، لأن كان التواتر ثابتا عنده ، ولو سلم عدم تواتر الجميع فقد أجمع قدماء العامة ومن تكلم في المقام من الشيعة كما عن الفاضل التوني في وافية الأصول على عدم جواز القراءة بغيرها وإن لم يخرج عن قانون اللغة والعربية ، وفي مفتاح الكرامة أن أصحابنا متفقون على عدم جواز العمل بغير السبع أو العشر إلا شاذ منهم ، والأكثر على عدم العمل بغير السبع ، ولعل ذلك‌ للمرسل (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام « جعلت فداك إنا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ، ولا نحسن أن نقرأها ، كما بلغنا عنكم ، فهل نأثم؟ فقال : لا ، فاقرأوا كما علمتم فسيجي‌ء من يعلمكم » وخبر سالم بن سلمة (٢) قال : « قرأ رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام حروفا ليس على ما تقرأها الناس فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : كف عن هذه القراءة ، إقرأوا كما يقرأ الناس حتى يقوم العلم » والمرسل المشهور نقلا في كتب الفروع لأصحابنا وعملا « القراءة سنة متبعة » بل في حاشية المدارك أن المراد بالتواتر هذا المعنى ، قال فيها : « المراد بالمتواتر ما تواتر صحة قراءته في زمان الأئمة عليهم‌السلام بحيث يظهر أنهم كانوا يرضون به ويصححون ويجوزون ارتكابه في الصلاة ، لأنهم صلوات الله عليهم كانوا راضين بقراءة القرآن ، على ما هو عند الناس ، وربما كانوا يمنعون من قراءة الحق ، ويقولون : هي مخصوصة بزمان ظهور القائم عليه‌السلام » انتهى. فالمعتبر حينئذ القراءات السبع أو العشر ، وظاهر الأصحاب بل هو صريح البعض التخيير بين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ١ رواه في الوسائل عن سالم بن أبي سلمة مع تفاوت في اللفظ.

٢٩٢

جميع القراءات ، نعم يظهر من بعض الأخبار (١) ترجيح قراءة أبيّ.

لأنا نقول أولا : يمكن منع دعوى وجوب قراءة المعلوم أنه قرآن ، بل يكفي خبر الواحد ونحوه مما هو حجة شرعية.

وثانيا أن الأوامر تنصرف إلى المعهود المتعارف ، وهو الموجود في أيدي الناس ، ولا يجب تطلب أزيد من ذلك كما أوضحه الخصم في الوجه الثاني من اعتراضه.

وثالثا نمنع اعتبار الهيئة الخاصة من أفراد الهيئة الصحيحة في القرآنية ، فلا يتوقف العلم بكونه قرآنا عليها ، إذ هي من صفات الألفاظ الخارجة عنها ، كما يستأنس له بصدق قراءة قصيدة امرئ القيس مثلا ، ودعاء الصحيفة على المقر وصحيحا وإن لم يعلم الهيئة الخاصة الواقعة من قائلهما ، بل يصدق في العرف قراءة القرآن على الموافق للعربية واللغة وإن لم يعلم خصوصية الهيئة الواقع عليها ، بل قد ادعى المرتضى فيما حكي عن بعض رسائله كبعض العامة صدق القرآن على الملحون لحنا لا يغير المعنى ، ولذا جوزه عمدا وإن كان هو ضعيفا.

وإلى بطلانه أشار المصنف بقوله وكذا إعرابها أي وكذا تبطل الصلاة مع الإخلال عمدا بشي‌ء من إعرابها كما هو المعروف ، بل في فوائد الشرائع لا نعرف فيه خلافا ، بل عن المنتهى لا خلاف فيه ، بل عن المعتبر الإجماع عليه ، إما لدخول الهيئة الصحيحة إعرابا وبنية وبناء لغة في مسمى القرآن كما صرح به في جامع المقاصد لأنه عربي ، أو لأنه المنساق من إطلاق الأوامر ، أو للإجماع ، أو لغير ذلك ، وأولى منه الإخلال بحركات البنية بل والبناء ، ولعله كغيره أراد بالاعراب ما يشمل ذلك كله توسعا ، كما أنه أراد منه قطعا الحركات والسكون وغيرهما من علامات الاعراب ، ودعوى أن القرآن اسم لتلك الألفاظ الخاصة وغيرها مما يقع في ألسنة الناس حكاية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٤.

٢٩٣

صورة القرآن ـ بل حتى ما يقع من لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بناء على أن طريق وحيه إليه بواسطة حلوله في شجرة أو غيرها من الأجسام التي يمكن إخراج الصوت منه مقطعا بالقدرة الربانية ـ يدفعها أن المدار أيضا حينئذ في صدق حكاية القرآن ما ذكرنا.

ورابعا منع التواتر أو فائدته ، إذ لو أريد به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فيه أن ثبوت ذلك بالنسبة إلينا على طريق العلم مفقود قطعا ، بل لعل المعلوم عندنا خلافه ، ضرورة معروفية مذهبنا بأن القرآن نزل بحرف واحد على نبي واحد ، والاختلاف فيه من الرواة كما اعترف به غير واحد من الأساطين ، قال الشيخ فيما حكي من تبيانه : « إن المعروف من مذهب الإمامية والتطلع في أخبارهم ورواياتهم أن القرآن نزل بحرف واحد على نبي واحد غير أنهم أجمعوا على جواز القراءة فإن الإنسان مخير بأي قراءة شاء ، وكرهوا تجريد قراءة بعينها » وقال الطبرسي فيما حكي عن مجمعه : « الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على القراءة المتداولة ، وكرهوا تجريد قراءة مفردة ، والشائع في أخبارهم أن القرآن نزل بحرف واحد » وقال الأستاذ الأكبر في حاشية المدارك : « لا يخفى أن القراءة عندنا نزلت بحرف واحد ، والاختلاف جاء من قبل الرواية ، فالمتواتر » إلى آخر ما نقلناه عنه سابقا ، وقال الباقر عليه‌السلام في خبر زرارة (١) : « إن القرآن واحد نزل من عند الواحد ، ولكن الاختلاف يجي‌ء من قبل الرواة » وقال الصادق عليه‌السلام في صحيح الفضيل (٢) لما قال له : إن الناس يقولون : إن القرآن على سبعة أحرف : « كذب أعداء الله ، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد » ومثله خبر زرارة وقال أيضا في‌ صحيح المعلى بن‌

__________________

(١) أصول الكافي ـ ج ٢ ص ٦٣٠ « باب النوادر » من كتاب فضل القرآن الحديث ١٢.

(٢) أصول الكافي ـ ج ٢ ص ٦٣٠ « باب النوادر » من كتاب فضل القرآن الحديث ١٣.

٢٩٤

خنيس (١) لربيعة الرأي : « إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال ، فقال ربيعة الرأي : ضال فقال : نعم ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أما نحن فنقرأ على قراءة أبي » وإن كان الظاهر أن ذلك منه عليه‌السلام إصلاح لما عساه مناف للتقية من الكلام الأول ، خصوصا وابن مسعود عندهم بمرتبة عظيمة ، وإلا فهم المتبعون لا التابعون ، كما أنهم ربما صدر منهم عليهم‌السلام (٢) ما يوافق خبر السبعة الأحرف المشهور عندهم تقية ، أو يحمل على إرادة البطون كما يومي اليه‌ قوله عليه‌السلام (٣) بعده بلا فاصل : « فأولى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه » ولا ينافي ذلك ما ورد من السبعين بطنا ونحوه ، لأن البطون لها بطون ، كما‌ ورد في الخبر أيضا « إن لكل بطن بطنا حتى عد إلى سبعين » وعن السيد نعمة الله أن ابن طاوس أنكر التواتر في مواضع من كتابه المسمى بسعد السعود واختاره ، قال : « والزمخشري والرضي وافقانا في ذلك » قلت : بل الزمخشري صرح بما في أخبارنا من أن قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدة ، وأن الاختلاف انما جاء من الرواية ، ولذلك أوجب على المصلي كل ما جاء من الاختلاف للمقدمة ، واستحسنه بعض من تأخر من أصحابنا لولا مجي‌ء الدليل بالاجتزاء بأي قراءة.

وبالجملة من أنكر التواتر منا ومن القوم خلق كثير ، بل ربما نسب إلى أكثر قدمائهم تجويز العمل بها وبغيرها ، لعدم تواترها ، ويؤيده أن من لاحظ ما في كتب القراءة المشتملة على ذكر القراء السبعة ومن تلمذ عليهم ومن تلمذوا عليه يعلم أنه عن التواتر بمعزل ، إذ أقصى ما يذكر لكل واحد منهما واحد أو اثنان ، على أن تواتر الجميع يمنع من استقلال كل من هؤلاء بقراءة بحيث يمنع الناس عن القراءة بغيرها ،

__________________

(١) أصول الكافي ـ ج ٢ ص ٦٣٤ « باب النوادر » من كتاب فضل القرآن ـ الحديث ٢٧.

(٢) الخصال ـ ج ٢ ص ١٠ الطبع القديم.

(٣) الخصال ـ ج ٢ ص ١٠ الطبع القديم.

٢٩٥

ويمنع من أن يغلط بعضهم بعضا في قراءته ، بل ربما يؤدي ذلك إلى الكفر كما اعترف به الرازي في المحكي من تفسيره الكبير ، ودعوى أن كل واحد من هؤلاء ألف قراءته من متواترات رجحها على غيرها ، لخلوها عن الروم والإشمام ونحوهما ، وبه اختصت نسبتها اليه كما ترى تهجس بلا درية ، فإن من مارس كلماتهم علم أن ليس قراءتهم إلا باجتهادهم وما يستحسنوه بأنظارهم كما يومي اليه ما في كتب القراءة من عدهم قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وأهل البيت عليهم‌السلام في مقابلة قراءاتهم ، ومن هنا سموهم المتبحرين ، وما ذاك إلا لأن أحدهم كان إذا برع وتمهر شرع للناس طريقا في القراءة لا يعرف إلا من قبله ، ولم يرد على طريقة مسلوكة ومذهب متواتر محدود ، وإلا لم يختص به ، بل كان من الواجب بمقتضى العادة أن يعلم المعاصر له بما تواتر اليه ، لاتحاد الفن وعدم البعد عن المأخذ ، ومن المستبعد جدا أنا نطلع على التواتر وبعضهم لا يطلع على ما تواتر إلى الآخر.

كما أنه من المستبعد أيضا تواتر الحركات والسكنات مثلا في الفاتحة وغيرها من سور القرآن ولم يتواتر إليهم أن البسملة آية منها ومن كل سورة عدا براءة ، وأنه تجب قراءتها معها سيما والفاتحة باعتبار وجوب قراءتها في الصلاة تتوفر الدواعي إلى معرفة ذلك فيها ، فقول القراء حينئذ بخروج البسامل من القرآن كقولهم بخروج المعوذتين منه أقوى شاهد على أن قراءتهم مذاهب لهم ، لا أنه قد تواتر إليهم ذلك ، وكيف والمشهور بين أصحابنا بل لا خلاف فيه بينهم كما عن المعتبر كونها آية من الفاتحة ، بل عن المنتهى أنه مذهب أهل البيت ، بل النصوص (١) مستفيضة فيه إن لم تكن متواترة كالإجماعات على ذلك ، بل وعلى جزئيتها من كل سورة ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

٢٩٦

والنصوص (١) دالة عليه أيضا وإن لم يكن بتلك الكثرة والدلالة في الفاتحة ، نعم شذ ابن الجنيد فذهب إلى أنها افتتاح في غير الفاتحة لبعض النصوص المحمول على التقية ، أو على إرادة عدم قراءة السورة مع الفاتحة ، أو غير ذلك.

ومن الغريب دعوى جريان العادة بتواتر هذه الهيئات وعدم جريانها في تواتر كثير من الأمور المهمة من أصول الدين وفروعها ، فدعوى جريانها بعدم مثل ذلك أولى بالقبول وأحق ، وأغرب منها القول بأن عدم تواترها يقضي بعدم تواتر بعض القرآن ، إذ هو مع أنه مبني على كونها من القرآن ليس شيئا واضح البطلان ، ضرورة كون الثابت عندنا تواتره من القرآن مواد الكلمات وجواهرها التي تختلف الخطوط ومعاني المفردات بها لا غيرها من حركات « حيث » مثلا ونحوها مما هو جائز بحسب اللغة وجرت العادة بإيكال الأمر فيه إلى القياسات اللغوية ، من غير ضبط لخصوص ما يقع من اتفاق التلفظ به من الحركات الخاصة ، وكيف وأصل الرسوم للحركات والسكنات في الكتابات حادث ، ومن المستبعد حفظهم لجميع ذلك على ظهر القلب.

ومن ذلك كله وغيره مما يفهم مما ذكر بان لك ما في دعوى الإجماع على التواتر على أنه لو أغضي عن جميع ذلك فلا يفيد نحو هذه الإجماعات بالنسبة إلينا إلا الظن بالتواتر ، وهو غير مجد ، إذ دعوى حصول القطع به من أمثال ذلك مكابرة واضحة كدعوى كفاية الظن في حرمة التعدي عنه إلى غيره مما هو جائز وموافق للنهج العربي وأنه متى خالف بطلت صلاته ، إذ لا دليل على ذلك ، بل لعل إطلاق الأدلة يشهد بخلافه واحتمال الاستدلال عليه بالتأسي أو بقاعدة الشغل كما ترى ، وأما الإجماع المدعى على وجوب العمل بالقراءات السبع أو العشر كقراءة ابن عامر « قتل أولادهم شركاؤهم » وقراءة حمزة « تساءلون به والأرحام » بالجر ، وأنه لا يجوز التعدي منها إلى غيرها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

٢٩٧

وإن وافق النهج العربي ففيه أن أقصى ما يمكن تسليمه منه جواز العمل بها ، وربما يقال : وإن خالفت الأفشى والأقيس في العربية ، أما تعيين ذلك وحرمة التعدي عنه فمحل منع ، بل ربما كان إطلاق الفتاوى وخلو كلام الأساطين منهم عن إيجاب مثل ذلك في القراءة أقوى شاهد على عدمه ، خصوصا مع نصهم على بعض ما يعتبر في القراءة من التشديد ونحوه ، ودعوى إرادة القراءات السبعة في حركات المباني من الاعراب في عبارات الأصحاب لا دليل عليها ، نعم وقع ذلك التعيين في كلام بعض متأخري المتأخرين من أصحابنا ، وظني أنه وهم محض كالمحكي عن الكفاية عن بعضهم من القول بوجوب مراعاة جميع الصفات المعتبرة عند القراء ، ولعله لذلك اقتصر العلامة الطباطبائي في منظومته على غيره ، فقال :

وراع في تأدية الحروف ما

يخصها من مخرج لها انتمى

واجتنب اللحن وأعرب الكلم

والقطع والوصل لهمز التزم

والدرج في الساكن كالوقف على

خلافه على خلاف حظلا

وكلما في الصرف والنحو وجب

فواجب ويستحب المستحب

فحينئذ لو أجمع القراء مثلا على كسر « حيث » مثلا لم يمتنع على المصلي أن يقرأها بالضم أو الفتح ، وهكذا في سائر حركات البناء والبنية والاعراب والإدغام والمد وغيرها ، ومن العجيب دعوى بعض الناس لزوم ذلك حتى لو كان وقوع ذلك من مثل القراء لمجرد اتفاق لا لأنهم يرون وجوبه ، فإن العبرة بما يسمع منهم لا بمذاهبهم إذ هي دعوى لا دليل عليها ، بل ظاهر الأدلة خلافها ، بل وخلاف ما صرحوا بوجوبه مما لم يكن في العربية أو الصرف واجبا ، بل لو أن مثل تلك الأمور مع عدم اقتضاء اللسان لها من اللوازم لنادى بها الخطباء ، وكرر ذكرها العلماء ، وتكرر في الصلاة الأمر بالقضاء ، ولأكثروا السؤال في ذلك للأئمة الأمناء ، ولتواتر النقل لتوفر دواعيه ،

٢٩٨

والاستدلال على الدعوى المزبورة بتلك الأخبار يدفعه ظهور تلك النصوص في إرادة عدم قراءة القرآن بخلاف ما هم عليها من الأشياء التي ورد في النصوص حذفهم لها أو تحريفها ، لا مثل الهيئات الموافقة للنهج العربي.

ولقد تجاوز أستاذنا الأكبر في كشفه ، فقال : « ولو وقف على المتحرك ، أو وصل الساكن ، أو فك المدغم من كلمتين ، أو قصر المد قبل الهمزة أو المدغم ، أو ترك الإمالة والترقيق والإشباع والتفخيم والتسهيل ونحوها من المحسنات فلا بأس » وإن كان هو جيدا في البعض ، بل لعله عين المختار وإن كان قد ظن أن الوقف على الساكن والوصل في المتحرك والقصر في المد غير واجب بمقتضى اللغة وعند الصرفيين ، والتحقيق خلافه ، فهو في الحقيقة نزاع في موضوع ، لكن قال بعد ذلك : « ثم لا يجب العمل على قراءة السبعة أو العشرة إلا فيما يتعلق بالمباني من حروف وحركات وسكنات بنية أو بناء ، والتوقيف على العشرة انما هو فيها ، ومقتضاه وجوب اتباع السبعة في مثل ذلك ، وعدم التعدي وإن وافق النهج العربي وفيه ما عرفت ، ويلزمه حينئذ وجوب اتباعهم في كل ما فعلوه ، وأجمعوا عليه من إدغام أو مد أو وقف أو إشباع أو صفات حروف حتى لو كان ذلك عندهم من المحسنات ، إلا أنه ما اتفق وقوع غيره منهم ، لأن العبرة بما يقرءونه لا بما يذهبون اليه ، وإلا لجاز مخالفتهم في الحركات والسكنات ضرورة عدم لزوم قراءتهم بالحركة الخاصة منع غيرها وإن وافق النهج العربي ، ولو منعوا لكانوا غالطين في ذلك كما هو المفروض ، على أن كثيرا من هذه المحسنات صرحوا بوجوبه كما عرفت جملة من الإدغام ، اللهم إلا أن يحمل ذلك على شدة الاستحباب والتأكيد لا اللزوم ، فيجري فيه حينئذ البحث السابق ، وربما تسمع لهذا مزيد تحقيق إن شاء الله فيما يأتي والله الموفق والمسدد.

ولا يجزي للمصلي عن الفاتحة مثلا ترجمتها بالفارسية ونحوها اختيارا‌

٢٩٩

قطعا ، وإجماعا لعدم الامتثال ويجب عليه ترتيب كلماتها وآيها على الوجه المنقول إجماعا محكيا إن لم يكن محصلا ، لتوقف صدق السورة أو القرآنية عليه ، أو لأنه المنساق إلى الذهن من إطلاق الأدلة ، والمتعارف المعهود في الوقوع فلو خالف عمدا أعاد الصلاة إذا فرض خروجه بذلك عن القرآنية ودخوله في كلام الآدميين ، أو قلنا بأن زيادة الجزء في الصلاة مبطلة بناء على أنه فعل ذلك بقصد الجزئية وإن كان قد خالف ذلك ناسيا استأنف القراءة ما لم يركع ، فان ركع مضى في صلاته ولو ذكر إجماعا ونصوصا (١) إذ ليس هو أعظم من نسيان القراءة أو الكلام سهوا ، نعم يتجه هنا وجوب السجدتين إذا أخل به بحيث دخل في كلام الآدميين ، ويظهر من المحقق الثاني أن مطلق مخالفة الترتيب توجب ذلك ، وقد يتأمل فيه بالنسبة إلى بعض الأفراد ، وعلى كل حال فالمراد باستئناف القراءة تمامها إذا فرض فوات الموالاة ، وإلا تلافى ما أخل به مما قدمه فقط ، فلو قدم مثلا ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) على قوله ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أجزأه حينئذ إعادة ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) دون ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) كما هو واضح.

ومن لا يحسنها أي الفاتحة أصلا يجب عليه التعلم بعد دخول الوقت قطعا ، وقبله في وجه لا يخلو من قوة إذا علم عدم سعة الوقت له ، وكذا السورة بناء على وجوبها وسائر الأذكار الواجبة ، وظاهر المتن وغيره إيجابه عليه عينا لا تخييرا بينه وبين الائتمام ، وبه صرح الأستاذ في كشفه ، فلو تركه في السعة وائتم أثم وصحت صلاته ، ولعله لأن الائتمام ليس من أفعاله كي يخير بينه وبين التعلم ، ضرورة توقفه على ما لا يدخل تحت قدرته ، مع عدم اطمئنانه بإتمام صلاته جماعة بحيث لا يحتاج فيها إلى القراءة ، فتركه للتعلم في مثل الزمان المزبور ترك للواجب من غير علم بما يسقطه عنه ولعله لذا أطلق الأصحاب هنا وجوب التعلم إطلاقا ظاهرا في التعيين ، بل لعله مقتضى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ و ٢٩ ـ من أبواب القراءة في الصلاة.

٣٠٠