جواهر الكلام - ج ٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

المجاز فيه أو مناسبة النقل أوضح من الزيادة ، ضرورة حصول الفساد في ذي الأركان الحسية بالنقيصة دون الزيادة ، فلا جهة حينئذ لما يورد هنا على إطلاق الركنية في القيام بأن زيادته ونقيصته غير قادحة ، إذ لا تبطل صلاة من قام في محل القعود سهوا مثلا ، ولا من نسي القراءة فركع ، أو قرأ وهو جالس ، لما عرفت من أن الزيادة غير معتبرة في مفهوم الركن في كلام كثير منهم وإن اشتهر على لسان جماعة من المتأخرين ، قال في المعتبر في بحث التسليم : « إنما نعني بالركن ما يبطل الصلاة بالإخلال به عمدا وسهوا » وقال في الروضة : « ولم يذكر المصنف حكم زيادة الركن مع كون المشهور أن زيادته على حد نقيصته تنبيهها على فساد الكلية في طرف الزيادة ، لتخلفه في مواضع كثيرة لا تبطل بزيادته سهوا » إلى آخره. وهو مما يشهد لما ذكرنا في الجملة ، لا يقال : إن التخلف للدليل غير قادح ، لأنا نقول : إنك قد عرفت عدم وجود لفظ الركن في النصوص ، وانما هو اصطلاح صدر منهم بعد مراعاة الأدلة ، فأطلقوه على ما ثبت فيها أن له تلك الخاصة ، ويجب في مثل هذه القواعد المستنبطة العموم ، وليس هو إلا في طرف النقيصة ، فتأمل جيدا ، هذا.

ويمكن أن يقال هنا : إن المراد بزيادة الركن المبطلة أن يزاد تمام الركن كالركوع والسجدتين بناء على أن المراد مجموع القيام ركن ، إذ لا يحصل حينئذ إلا بزيادة تمام القيام حتى المتصل منه بالركوع وحده أو مع التكبير المستلزم لزيادتهما ، وإلا ففي الفرض زيادة قيام لا القيام المحكوم بركنيته ، وأما النقيصة فقد سمعت أن المراد بقولنا : القيام ركن نحو قولهم : السجود ركن والركوع ركن أي إذا فقدت الركعة القيام أصلا أو الركوع أصلا أو السجود أصلا بطلت الصلاة ، وهو كذلك هنا إجماعا محصلا ومنقولا إذ من سها وركع من جلوس بلا قيام أصلا بطلت صلاته عمدا أو سهوا وإن كان في حال الركوع قام منحنيا ، والمناقشة بأن ذلك ليس بركوع ـ لاعتبار الانحناء من‌

٢٤١

قيام فيه مطلقا ، أو في المعتبر منه في الصلاة المحكوم بركنيته ، وبأن زيادته مبطلة كما لا يخفى على من لاحظ ما دل على ذلك من النصوص ، لا أقل من أن يكون المجرد عن قيام أصلا فرد نادر لا تشمله الإطلاقات ، فيتدارك حينئذ القيام والركوع وصحت صلاته ما لم يكن قد دخل في السجود ، فيبطل حينئذ لفقد الركوع والقيام في الفرض لا القيام خاصة ـ يدفعها أن حاصلها عدم تصور نقصان القيام أصلا من دون الركوع وأنهما متلازمان كالزيادة كما صرح به بعضهم ، وحكاه في الرياض مناقشا فيه تبعا للأردبيلي بالفرض المزبور المبني على عدم اعتبار القيام في الركوع ولا في ركنيته ، وأنه يسمى ركوعا حقيقة كما في الحدائق مستظهرا له من صاحب القاموس ، ولئن سلم له ذلك لغة فلا نسلم له أنه هو الذي جعله الشارع ركنا ، وأبطل الصلاة بزيادته ونقصه كما لا يخفى على من لاحظ النصوص ، وعلى كل حال فحاصل المناقشة المزبورة غير قادح في المطلوب الذي هو إثبات ركنية القيام بمعنى أنه متى نقص القيام كنقيصة غيره من الأركان أي لم يأت به أصلا في الركعة بطلت الصلاة ، ولو فرض استلزامه لترك الركوع كما هو مقتضى المناقشة لم يقدح استناد البطلان إليهما ، إذ علل الشرع معرفات.

ومن ذلك كله ظهر لك أنه لا وجه للاعتراض على المتن ونحوه مما أطلق ركنيته فيه بأن عدم قدح زيادته ونقيصته ينافي الركنية ، ولا حاجة إلى الجواب عنه بأن الخروج للدليل لا ينافي ذلك ، بل ولا إلى المحكي عن بعض فوائد الشهيد من أن القيام يتبع ما وقع فيه في الركنية والوجوب خاصة والندبية ، وأنه لا واجب أصلي منه إلا المتصل بالركوع خاصة منه ، وذلك هو الركن وإن كان لا يتصور زيادته إلا بزيادة الركوع ، بل ولا النقيصة بناء على ما عرفت ، إلا أن علل الشرع معرفات ، وإن كان هو عند التأمل والتفكيك بعينه مراد الفقهاء كما اعترف به الأستاذ الأكبر في حاشيته على المدارك.

٢٤٢

بل لعل ذلك الإطلاق الذي قد عرفت أن المراد منه البطلان مع الترك أصلا على حسب قولهم : السجود ركن أولى من ذلك ، لسلامته عن المناقشة بأن القيام وإن طال فرد واحد للطبيعة ، والآتي بأعلى الأفراد منه ليس ممتثلا إلا امتثالا واحدا ، فكيف يجوز اختلافه في الوجوبية والندبية ، والوجوبية والركنية من دون مقتض ، نعم ليس هو واحدا بسيطا لا يجوز للشارع إيجابه وندبه ، بل هو مركب ذو أجزاء يجوز للشارع أن يفرق بين أجزائه في ذلك ، لكن ليس في القيام إلا أمر بطبيعة وأمر بالقراءة مثلا حاله وندب للقنوت ، وهذا لا يقتضي ندبية القيام ، ضرورة أنه لا منافاة بين وجوب القيام وندب نفس الفعل كما في الدعاء حال الوقوف بعرفة مثلا ، وجواز ترك القيام المقارن للقنوت بترك القنوت معه لا يقتضي الندب أيضا بعد أن كان الترك إلى بدل ، وهو الفرد الآخر من القيام الذي هو أقصر من هذا الفرد مثلا ، كما هو شأن سائر الواجبات التخييرية ، بل يمكن أن يقال : إنه لا جزء مندوب في الصلاة أصلا ، ومرجع الجميع إلى أفضل أفراد الواجب التخييري ، وإلا فلا يتصور انتزاع كليات هذه الأجزاء وتسميتها باسم الصلاة وجعلها متعلقة الأمر الوجوبي مع ندبية بعض الأجزاء ، مع أن الأمر إذا تعلق بكل جرى إلى أجزائه قطعا ، ولذا لا يجوز مخالفة حكم الأجزاء للجملة كما هو واضح ، فمعنى ندبية القنوت حينئذ أن له تركه والعدول إلى فرد آخر من أفراد الصلاة ، إذ الصلاة اسم جنس تحته أنواع مختلفة ، وكلها مورد للامتثال ، إلا أن الأفضل اختيار النوع المشتمل على مثل القنوت ونحوه ودعوى أن القنوت ونحوه من الأجزاء المندوبة أجزاء للفرد لا أجزاء لمسمى الاسم ، وإن أطلق فهو من التسامحات يدفعها فرض البحث في كون ذلك وأمثاله من أجزاء مسمى الاسم حقيقة ، لا الفرد الذي لا يطلق عليه الاسم إلا باعتبار حلول الطبيعة فيه ، فتأمل جيدا.

٢٤٣

ولسلامته أيضا من ظهور لفظ الاتصال في انحصار المبطل زيادة ونقصا في خصوص ذلك الجزء المقارن دون غيره ، ولم نعرف له دليلا ، ومقتضاه بطلان صلاة من سها وجلس بعد إكمال القراءة أو في أثنائها أو قبلها ، وبالجملة أحرز طبيعة القيام في الركعة وقبل أن يدخل في السجود ذكر أنه لم يركع وقام منحنيا إلى حد الركوع ناسيا ثم سجد ، بناء على أن مثله يعد ركوعا ، ضرورة أنه لم يأت بالمقارن للركوع من القيام الذي ظاهر العبارة ركنيته ، وفيه أن أقصى ما يستفاد من الأدلة بطلان الصلاة بفقد أصل القيام في الركعة لا جزء منه ، وأنه يكفي حال السهو تعقب الركوع للقيام ، فكان الشارع يلغي هذه الواسطة المتخللة ، ويوصل هذا الركوع بذلك القيام ، وإيجاب الانتصاب حال التذكر لخصوص النص (١) عليه ، أو للمحافظة على الهوي للركوع والسجود كما عللوه به في أحكام الخلل لا لتحصيل القيام المتصل بالركوع ، ويومي إلى ذلك في الجملة تصريح البعض فيما لو كان نسيانه بعد الهوي قبل الوصول إلى حد الركوع بأنه يجب عليه أن يقول منحنيا إلى ذلك الحد الذي نسي عنده ، مع أن مقتضى ركنية ذلك الجزء المقارن أن يقوم منتصبا ثم يركع ، ضرورة عدم قابلية ما لحق التلفيق بما سبق بحيث يحصل القيام المتصل بالركوع ، فتأمل.

بل قد يدعى ظهور العبارة في بطلان صلاة من نسي القراءة أو بعضها وركع ، لعدم حصول القيام المتصل بالركوع ، ضرورة وقوعه في حال قيام القراءة ، اللهم إلا أن يدعى أنه مع نسيان القراءة ذهب القيام الذي كان لها ، فكأن المكلف وصل إلى القيام المتصل بالركوع ونسي القراءة ومقدماتها ، والأمر في ذلك سهل ، بل في الرياض أنه لم يظهر لي ثمرة لهذا البحث من أصله بعد الاتفاق على عدم ضرر في نقصانه بنسيان القراءة وأبعاضها ، وبزيادته في غير المحل سهوا ، وبطلان الصلاة بالإخلال بما كان منه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١.

٢٤٤

في تكبيرة الإحرام وقبل الركوع مطلقا ، نعم اتفاقهم على البطلان في المقامين كاشف عن ركنيته فيهما ، وثمرتها فساد الصلاة لو أتي بهما من غير قيام ، قال : « ومن ذلك ينقدح وجه النظر فيما قيل من أنه لولا الإجماع على الركنية لأمكن القدح فيها ، لأن زيادته ونقصه لا يبطلان إلا مع اقترانه بالركوع ، ومعه يستغنى عن القيام ، لأن الركوع كاف في البطلان ، لمنع الحصر في قوله : « إلا مع اقترانه بالركوع » أولا ، لما عرفت من البطلان بالإخلال به في التكبير أيضا وتوجه النظر إلى قوله : « والركوع كاف في البطلان » ثانيا ، لمنع التلازم بين ترك القيام قبل الركوع وبين تركه ، لتخلف ترك القيام عن تركه فيما لو أتى به عن جلوس ، لأنه ركوع حقيقة عرفا ، ولا وجه لفساد الصلاة حينئذ إلا ترك القيام جدا » انتهى مشتملا على الجيد وغيره كما يعرف مما مر ، مع زيادة إمكان أن يقال : إن مطلوب المعترض أصل القيام المعتبر في سائر الصلاة لنفسه لا التبعي للتكبير أو غيره ، مع احتمال أن الفساد هناك من جهة ظهور الأدلة في اشتراط صحة التكبير بالقيام لا أنه جزء من الصلاة حاله ، فالبطلان حينئذ لاختلال الشرط كالطهارة والاستقبال لا لفقد جزء من حيث أنه جزء كما هو المتعارف في الركن ، ولعله عليه بنى البطلان العلامة الطباطبائي في صورة نسيان الاستقرار حال التكبير أو حال الركوع بناء على ركنية المتصل منه ، فضلا عن نسيان القيام نفسه كما سمعته سابقا في بحث التكبير وإن كان هو لا يخلو من نظر في نحو الواقف المضطرب سهوا مما لا يخرج عن هيئة الصلاة عرفا ، فان شمول ما دل على الشرطية لصورة السهو فيه منع ، خصوصا مع عدم ركنية الطمأنينة عندنا في شي‌ء من الركوع والسجود ونحوهما كما ستعرف إن شاء الله.

والمرجع في القيام إلى العرف كما في سائر الألفاظ التي لم يعلم فيها للشرع إرادة خاصة ، ضرورة أن ليس في النصوص هنا إلا الأمر بالقيام ، وأن من لم يقم صلبه‌

٢٤٥

فلا صلاة له ، نعم في‌ مرسل حريز (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قلت له ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال : « النحر الاعتدال في القيام أن يقيم صلبه ونحره. والصلب كما في المجمل ومختصر النهاية الظهر ، وعظم من الكاهل إلى أصل الذنب كما في الحدائق ، وعلى كل حال فما حده به غير واحد من الأصحاب من نصب فقرات الظهر أي خرزة لا يراد منه أمر زائد على العرف ، ولذا تسامحوا في ذلك ، إذ ليس هو تمام معنى القيام ، فان الجالس فضلا عن غيره فقرات ظهره منصوبة ، وكأنهم قصدوا بذلك إخراج بعض الاستعمالات الواقعة من سواد أهل العرف الذين غالبا يخفى عليهم العرف الصحيح ، كإطلاق القائم هنا على بعض أفراد المنحني ، ولا ريب في خطأه ، إذ ليس القيام إلا الاعتدال ، ولعل منه الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج ، والمرسل السابق يراد من الاعتدال فيه إقامة النحر التي هي ليست مأخوذة في مفهوم القيام قطعا كما ستعرف ، لا غيره كي يقال : إنه ظاهر في تحقق مصداق القيام من دون اعتدال ، وأنه أمر زائد معتبر فيه.

نعم لا ريب في عدم اعتبار الإقلال في مفهومه وإن حكي عن ظاهر المحقق الثاني وفخر المحققين ، وأوهمته عبارة والده في القواعد ، ضرورة صدق القيام حقيقة على الحاصل باستناد من خشبة وغيرها بحيث لولاها لسقط ، ودعوى أنه في صورة للقيام لا قائم حقيقة كبعض الراكبين بل هو اشتباه في العرف أو مجاز ممنوعة أشد المنع وإن كان ربما تسلم في بعض أفراد السناد ، كما إذا صار هو مستقلا في ذلك وليس للقائم مشاركة فيه أبدا وأصلا نحو المشدود بحبل ونحوه ، فتأمل. وعدم جوازه في الصلاة اختيارا عند المشهور شهرة كادت تكون إجماعا ، بل لعلها كذلك ، إذ لا نعرف فيه خلافا إلا من المحكي عن أبي الصلاح لا لاعتباره في مفهوم القيام ، بل لدعوى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٣.

٢٤٦

انسياقه إلى الذهن من إطلاق لفظ القائم ونحوه من المشتمل على النسبة وإن كان فيها ما فيها ، ولأنه المعهود الواقع من النبي والأئمة ( صلوات الله عليهم ) الذين قد أمرنا بالتأسي بهم ، خصوصا في‌ الصلاة الوارد (١) فيها « صلوا كما رأيتموني أصلي » ول‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن سنان (٢) « لا تستند بخمرك وأنت تصلي ، ولا تستند إلى جدار إلا أن تكون مريضا » والخبر المروي (٣) عن قرب الاسناد « عن الصلاة قاعدا أو متوكئا على عصا أو حائط فقال : لا » وللإجماع المحكي عن مختلف الفاضل المؤيد بما عرفت ، وبما قيل من إشعار عبارة الصيمري به أيضا حيث نسب رواية المخالف إلى الشذوذ ، لكن‌ سأل ابن بكير الصادق عليه‌السلام في الموثق (٤) « عن الرجل يصلي يتوكأ على عصا أو على حائط فقال : لا بأس بالتوكأ على عصا والاتكاء على حائط » وعلي بن جعفر أخاه موسى عليه‌السلام في الصحيح (٥) « عن الرجل هل يصلح له أن يستند إلى حائط المسجد وهو يصلي أو يضع يده على الحائط وهو قائم من غير مرض ولا علة فقال : لا بأس ، وعن الرجل يكون في صلاة فريضة فيقوم في الركعتين الأولتين هل يصلح له أن يتناول جانب المسجد فينهض ليستعين به على القيام من غير ضعف ولا علة؟ قال : لا بأس » وسعيد بن يسار (٦) الصادق عليه‌السلام أيضا « عن الاتكاء في الصلاة على الحائط يمينا وشمالا فقال : لا بأس » خصوصا وقد حكي عن بعض أهل اللغة اعتبار الاعتماد في مفهوم الاتكاء ، بل لعله في العرف كذلك ، فلا جهة للجمع حينئذ بحمل هذه النصوص على فاقد الاعتماد‌

__________________

(١) صحيح البخاري ـ ج ١ ص ١٢٤ و ١٢٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٢٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٣.

٢٤٧

والأول على المصاحب له ، سيما ولفظ الاستناد والاتكاء موجود فيهما معا ، وسيما بعد قوله في الصحيح : « من غير مرض ولا علة » فالتفريق من غير فارق لا يصغى اليه.

ولذلك كله جوزه بعض متأخري المتأخرين تبعا للمحكي عن أبي الصلاح اختيارا على كراهية ، وفيه أن هذه النصوص ـ المعرض عنها بين الأصحاب القاصر سند أكثرها التي نسبت إلى الشذوذ تارة ، وإلى مخالفة الإجماع أخرى وربما كانت محتملة لإرادة الاستناد والاتكاء الذي فيه اعتماد في الجملة إلا أنه ليس بحيث لولاه لسقط بناء على ظهور كلمات الأصحاب في جوازه ، لاعتبارهم في السناد القيد المزبور ، إذ هو حينئذ إما علة تامة في الوقوف أو جزء العلة ، والمناقشة كما يومي اليه في الجملة ذيل الصحيح الأول ، ولغير ذلك من الاحتمالات ، وللتقية كما يومي اليه ما حكي عن فخر المحققين من حملها عليها مؤذنا بأنه مذهب العامة ـ قاصرة عن معارضة ما سمعت من وجوه لا تخفى ، فلا إشكال حينئذ بحمد الله في المسألة خصوصا لو قلنا بقاعدة الشغل.

هذا كله في السناد حال القيام ، أما عند النهوض فعن ظاهر الذكرى وصريح جامع المقاصد إلحاقه بالقيام ، ولعله لقوله عليه‌السلام في الصحيح السابق (١) : « وأنت تصلي » وللأصل في وجه وبعض ما مر ، لكنه لا يخلو من نظر ، لما سمعته في صحيح علي بن جعفر ، ولأنه من المقدمات ، وكذا النظر فيما يحكى عن صريح جماعة من تخصيص البطلان بالاستناد في حال العمد وإن كنا قد فتحنا قاعدة اغتفار السهو فيما سبق ، لكن في الأجزاء كما هو مقتضى‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « تسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة » ونحوه ، دون الشرائط وإن كانت لها والموانع ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ـ الحديث ٣.

٢٤٨

وما نحن فيه منها ، ضرورة كون عدمه شرطا في القيام المطلوب لا جزء من الصلاة ، وما اجتمع فيه الجهتان كالقيام المتصل بالركوع فالبطلان بالسهو عنه حينئذ من جهة الشرطية لا الجزئية ، ولعله من ذلك ينقدح التأمل في عده ركنا أيضا زيادة على ما سبق.

وبالجملة فعدم البطلان بالسهو هنا مع أنه من شرائط الأجزاء التي من المعلوم انتفاء المشروط بانتفائها لا يخلو من تأمل ، اللهم إلا أن يقال بعموم تلك القاعدة للجميع كما هو مقتضى بعض ما ذكرناه دليلا لها من نحو‌ قوله عليه‌السلام (١) : « لا تعاد الصلاة » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : « رفع » وقوله عليه‌السلام (٣) : « كلما غلب الله عليه » وغيره ، بل لعل شمولها لها أولى ، لضعف مدخليتها بالنسبة إلى الأجزاء بل شرائط الأجزاء منها من التوابع لها ، وثبوت الحكم في المتبوع يقتضي ثبوته في التابع بطريق أولى ، إذ هو فرعه ، وذلك أصله ، فثبوت العفو في الأصل يقتضي أولويته في الفرع ، على أنه يمكن دعوى اختصاص الشرطية في العمد ، وخصوصا في مثل المقام الذي استفيد فيه المانعية من النهي الذي مورده العمد دون النسيان بعد منع استفادة حكم وضعي من أمثاله غير مقيد بالعمد ، ولعل عدم البطلان هنا لذلك لا لعموم القاعدة المزبورة ، وفيه بعد الإغضاء عما في المنع المزبور عدم اختصاص الدليل بذلك النهي ، بل قد سمعت أدلة أخر له أيضا ، فتأمل جيدا فإن المسألة من المهمات التي تنفع في كثير من المقامات ، وربما كان بناؤها على الترجيح بينها وبين قاعدة انتفاء المركب بانتفاء أحد أجزائه ، وانتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، وإن كان تقديمها عليهما متجها ، لورودها عليهما ، وأخصيتها منهما ، نعم قد يتوقف في ترجيحها على خصوص ما يظهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الركوع ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس من كتاب الجهاد.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٣.

٢٤٩

من بعض أدلة بعضهما من البطلان مطلقا ، بل لعل الأقوى تقديم مثل ذلك عليها إذا كان الظهور معتدا به ناشئا من ذلك الدليل الخاص لا من قاعدة الشرط والجزء ، لخصوصيته حينئذ بالنسبة إليها.

وبذلك كله ظهر لك وجه البحث في إطلاق الصحة مع السهو وإن كانت هي الأقوى ، خصوصا إذا كان الاعتماد في البعض ، إذ ليس هو أعظم من القعود المغتفر سهوا.

نعم لا تأمل لأحد من الأصحاب في اعتبار الاختيار في شرطية الإقلال ، أما لو اضطر اليه جاز بل وجب ، وقدم على القعود بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل عن ظاهر المنتهى الإجماع عليه من غير فرق بين الآدمي وغيره ، ولا بين خشبة الأعرج وغيرها ، لصدق القيام والصلاة ، وعدم سقوط الميسور بالمعسور (١) وما لا يدرك كله لا يترك كله (٢) ولأنه المستطاع من المأمور به (٣) ولأن الله قد أحل كل شي‌ء قد اضطر اليه مما قد حرمه عليه (٤) وهو أولى بالعذر في كلما غلب عليه (٥) ولظهور الصحيح (٦) السابق فيه كايماء الآخر ، وللمقدمة التي لا ينافيها عدم جوازه مع الاختيار ولأولويته من التفحج الفاحش ونحوه مما يخرج عن حقيقة القيام الذي لا أعرف أيضا خلافا بين الأصحاب في وجوبه وتقديمه على القعود لكثير من الأدلة السابقة ، ول‌ قول أبي الحسن عليه‌السلام في صحيح ابن يقطين (٧) : « يقوم وإن حتى ظهره » في‌

__________________

(١) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) تفسير الصافي سورة المائدة ـ الآية ١٠١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٦ و ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٢.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٥.

٢٥٠

صاحب السفينة الذي لم يقدر أن يقوم فيها أيصلي وهو جالس يومي أو يسجد.

ومنه يظهر حينئذ أن المراد بالقيام الذي علق القعود على عدم استطاعته في نصوص المقام ما يشمل ذلك كله لا الانتصاب خاصة ، بل مقتضى الصحيح المزبور أنه لو لم يتمكن من القيام إلا كهيئة الراكع وجب أيضا كما صرح به غير واحد ، بل ظاهر نسبته الخلاف في ذلك إلى الشافعي كالمسألة السابقة أنه لا خلاف فيه بيننا كما هو كذلك وستسمعه في باب الركوع.

وإلى كثير مما ذكرنا أشار المصنف بقوله وإن أمكنه القيام مستقلا وجب وإلا وجب أن يعتمد على ما يتمكن معه من القيام ، وروي جواز الاعتماد على الحائط مع القدرة.

وفي اعتبار الاعتماد على الرجلين معا في القيام قولان ، أشهرهما الأول للأصل والتأسي ، ولأنه المتبادر المعهود ، ولعدم الاستقرار ، وأقواهما الثاني إلا أن يريدوا بالاعتماد عليهما الوقوف عليهما أي لا على واحدة ، فإن الظاهر وجوبه لما عرفت ، أما وجوب مساواتهما في طرح الثقل عليهما فلا ، والأصل ممنوع كالتأسي في نحو المقام الذي هو من الأفعال العادية غالبا ، ولم ينقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لم يفعل إلا ذلك ، بل وكذا المنع في دعوى أنه المتبادر المعهود تبادرا وعهدا يفيد الوجوب ، وأوضح من ذلك منعا دعوى عدم الاستقرار مع عدم الاعتماد ، بل قد يشهد للصحة بعد الإطلاقات ما في‌ الصحيح (١) عن محمد بن أبي حمزة عن أبيه « رأيت علي بن الحسين عليهما‌السلام في فناء الكعبة في الليل وهو يصلي فأطال القيام حتى جعل مرة يتوكأ على رجله اليمنى ومرة على رجله اليسرى » وإن كان من المحتمل أو الظاهر أنه في النافلة ، لكن قد يقال بأصالة الاشتراك في الأحكام ، مع أن الظاهر بعد اختيار ذات القيام من النافلة أنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١.

٢٥١

يعتبر في قيامها ما يعتبر في قيام الفريضة ، خصوصا إذا أريد الفرد الأكمل ، فتأمل جيدا.

وأما ما في‌ خبر عبد الله بن بكير (١) عن الصادق عليه‌السلام المروي عن قرب الاسناد « ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما عظم أو ثقل كان يصلي وهو قائم ويرفع إحدى رجليه حتى أنزل الله سبحانه (٢) ( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ) فوضعها » فيمكن القول به ، بل في الحدائق نفي الخلاف فيه تارة ، ودعوى الاتفاق عليه أخرى لكثير من الأدلة السابقة ، مضافا إلى الخبر المزبور ، ودعوى ظهوره في نفي الإلزام به لا أصل الجواز ممنوعة على مدعيها ، بل هو ظاهر في نسخ الكيفية المذكورة ، ضرورة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يرى وجوبه بل كان يختاره من بين الأفراد لأنه أحمز وأشق ، ولعل مراد الأصحاب بالاعتماد على الرجلين معا عدم رفع إحدى الرجلين لا ما يشمل الاتكاء على واحدة ، كما يومي اليه ما عن بعض من صرح هنا بالوجوب أنه ذكر بعد ذلك كراهة الاتكاء على إحدى الرجلين ، وهو إن لم يرد ما ذكرنا مناف لذلك ، كمنافاة القول بالوجوب أيضا جواز الاستناد اختيارا إلى الحائط ونحوه كما يحكى عن بعضهم أيضا ، بخلاف ما لو حمل على ما ذكرنا ، فإنه لا منافاة بين الجميع حينئذ.

نعم قد يلحق بالرفع الاعتماد على إحداهما خاصة بحيث تكون الأخرى موضوعة مجرد وضع بلا مشاركة أصلا في حمل الثقل ، فيكون المراد حينئذ بالاعتماد الذي نفينا وجوبه عدم الاتكاء على واحدة بحيث تكون أكثر الثقل عليها ، لا التي لم تشاركها الأخرى أصلا بل كانت مماسة للأرض خاصة ، فتأمل جيدا ، هذا.

وفي كشف الأستاذ « أصل الوقوف على القدمين معا واجب غير ركن ، وترك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٤.

(٢) سورة طه ـ الآية ١.

٢٥٢

الجميع مخل كالسجدتين ، والاعتماد على القدمين سنة ، وعلى الواحدة مكروه ، والمحافظة عليه فيهما من كمال الاحتياط » وكأنه أراد ما ذكرنا ، ووجه الفساد بترك الجميع عدم صدق القيام حينئذ ، فالظاهر حينئذ إرادة ركن في القيام لا في الصلاة ، ضرورة عدم البطلان بالسهو مع التذكر والعود ، إذ ليس هو أعظم من القعود سهوا ، وأما احتمال أنه يريد بالوقوف على القدمين عدم الوقوف على أصابعهما مثلا أو على العقبين فإنه وإن كان واجبا أيضا ، بل‌ خبر أبي بصير (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام المروي في الوسائل عن الكافي وتفسير علي بن إبراهيم « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم على أصابع رجليه حتى نزل طه » دال عليه أيضا بالتقريب المتقدم ، لكن دعوى أنه ركن بحيث يبطل الصلاة الوقوف كذلك في تمام الركعة سهوا محل نظر ، لصدق القيام حقيقة ، وعموم قاعدة السهو السابقة.

وأما إطراق الرأس وانحراف العنق يمينا أو شمالا كما يفعله بعض الأتقياء فلا أرى فيه إبطالا للصلاة ، لصدق القيام ، خلافا للمحكي عن ظاهر الصدوق فأبطلها بالاطراق ، وهو ضعيف ، وما أبعد ما بينه وبين المحكي عن التقي من استحباب إرسال الذقن على الصدر الذي لا يتم إلا بالاطراق وإن كان هو ضعيفا أيضا ، لظهور الأمر في مرسل حريز (٢) السابق بنصب النحر ، ولو لا إرساله والاعراض عن ظاهر الأمر به لاتجه وجوبه ، أما الاستحباب فلا محيص عنه ، والله أعلم بحقيقة الحال.

ولو قدر على القيام في بعض الصلاة وجب أن يقوم بقدر مكنته بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به غير واحد ، لعدم سقوط الميسور بالمعسور ، وما لا يدرك كله لا يترك كله ، وإذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم ، ولأن طبيعة القيام من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٣.

٢٥٣

الواجبات الأصلية في الصلاة أيضا لا أنه تابع محض للأجزاء كي يقال إن مقتضى اعتباره في المجموع المسمى بالصلاة سقوطه بتعذر البعض ، لصيرورته حينئذ كالأمر بالكل الذي يستفاد منه الأمر بالجزء تبعا للكل ، ويتعذر بتعذره ، على أنه قد يمنع ذلك في مثل المقام ، لظهور الفرق بينه وبين الأمر بالكل ، بل كان لحوقه لكل جزء جزء من غير اشتراط اجتماعه مع آخر ، خصوصا والمراد هنا من الصلاة الأجزاء الخاصة منها لا مسماها ، مضافا إلى ظهور‌ قوله (ع) (١) : « إن لم يستطع القيام فليقعد » في إرادة اعتبار عدم استطاعة طبيعة القيام في الانتقال إلى القعود ، وقوله عليه‌السلام في صحيح جميل (٢) : « إذا قوي فليقم » في وجوب القيام عليه وقت قوته عليه ، وهو عين ما في المتن.

ومنه يظهر حينئذ أنه لو قدر على القيام زمانا لا يسع القراءة والركوع قدم القراءة وجلس للركوع ، لأنها هي وقت قوته ، فليس بعاجز عما يجب عليه حالها ، فإذا انتهى إلى الركوع صار عاجزا كما صرح به بعضهم وحكي عن آخرين ، خلافا للمحكي عن المبسوط والنهاية والسرائر والمهذب والوسيلة والجامع فقدموا الركوع على القراءة في ذلك ، بل نسبه في الأول إلى رواية أصحابنا ، وفيه أنه مخالف لمقتضى الترتيب والرواية لم تصل إلينا ، والتعليل بأنه أهم لأنه ركن ـ مع أنه اعتباري ـ لا يصلح لأن يكون مدركا لحكم شرعي ، كالاستدلال عليه أيضا بما ورد (٣) في النصوص من أن الجالس إذا قام في آخر السورة فركع عن قيام يحسب له صلاة القائم ، ضرورة ظهورها في الجالس اختيارا في النوافل ، ولعل ما في المهذب وما بعده منزل على تجدد القدرة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١٨ مع اختلاف في اللفظ.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب القيام.

٢٥٤

عند الركوع ، بل ما حكي لنا من بعضها كالصريح في ذلك ، فلاحظ ، هذا.

وفي كشف اللثام بعد الاستدلال على أصل المسألة بعدم سقوط الميسور بالمعسور قال : « فيقوم عند النية والتكبيرة ويستمر قائما إلى أن يعجز فيجلس ، وأما‌ خبرا عمار (١) وأحمد بن الحسن (٢) عن الصادق عليه‌السلام « فيمن وجب عليه صلاة من قعود فنسي حتى قام وافتتح الصلاة قائما ثم ذكر فقال : يقعد ويفتتح الصلاة وهو قاعد ، ولا يعتد بافتتاحه الصلاة وهو قائم » فهما فيمن يجب عليه القعود لا للعجز بل للعدو وافتتحها قائما عمدا ، والنسيان إما بمعنى الترك أو نسيان القعود حتى قام ثم تعمد الافتتاح قائما ، أو للعري وافتتحها قائما عمدا أو نسيانا » وفيه أنه لا داعي إلى هذه التكلفات التي من الواضح فساد بعضها ، إذ لا مانع من حمله على القعود من العجز أو خوف طول المرض ، أو غير ذلك ، ضرورة أن القيام حينئذ له كالقعود للصحيح ، لانقلاب تكليفه ، وليس هو من الرخص بل العزائم ، فتأمل جيدا.

ولو عجز عن الركوع والسجود ولو جالسا دون القيام قام وأومأ إليهما بلا خلاف أجده ، بل قد يظهر من المنتهى الإجماع عليه ، بل يمكن دعواه عليه ، كما أنه يمكن استفادته على وجه القطع من قواعد المذهب ، خصوصا بعد التأمل في الثابت من الأحوال في الصلاة ، وأنه لا يسقط جزء منها بتعذر آخر ، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة فأسقط القيام هنا بتعذر الركوع والسجود ، وهو كما ترى ، نعم قد يظهر من معقد إجماع المنتهى وجوب الجلوس لايماء السجود ، وفيه بحث ، لابتنائه على أصالة وجوبه وأنه ليس مقدمة تسقط بسقوط ذيها ، وبدلية الإيماء عنه لا تقتضي وجوبها بعد ان لم يكن متوقفا عليها ، وكذا البحث في وجوب الانحناء له وللركوع إذا لم يتحقق به مسماهما ، ضرورة عدم جريان قاعدة الميسور فيه ، بل هو فيهما ليس إلا مقدمة محضة لتحقيق مسماهما.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١.

٢٥٥

ولو دار أمره بين الركوع والسجود جالسا وبين القيام خاصة لتعذر الجلوس عليه بعده للسجود أو للركوع والانحناء قائما قام وأومأ بهما كما صرح به بعضهم ، بل يظهر من آخر أنه المشهور بل المتفق عليه ، بل في الرياض عن جماعة دعوى الاتفاق عليه ، لاشتراط الجلوس بتعذر القيام في النصوص (١) ولأن الخطاب بأجزاء الصلاة مرتب ، فيراعى كل جزء حال الخطاب به بالنسبة اليه وبدله ، ثم الجزء الثاني وهكذا إلى تمام الصلاة ، ولما كان القيام أول أفعالها وجب الإتيان به مع القدرة عليه ، فإذا جاء وقت الركوع والسجود خوطب بهما ، فان استطاع وإلا فبدلهما ، ويحتمل كما مال إليه في كشف اللثام تقديم الجلوس والإتيان بالركوع والسجود ، بل قال : وكذا إذا تعارض القيام والسجود وحده ، ولعله لأنهما أهم من القيام ، خصوصا بعد أن ورد أن الصلاة ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود (٢) وأن أول الصلاة الركوع (٣) ونحو ذلك ، ولأن أجزاء الصلاة وإن كانت مرتبة في الوقوع إلا أن الخطاب بالجميع واحد حاصل من الأمر بالصلاة ، فمع فرض تعذر الإتيان بها كما هي اختيارا وجب الانتقال إلى بدلها الاضطراري ، ولما كان متعددا ضرورة كونه إما القيام وحده أو الجلوس مع استيفاء باقي الأفعال وجب الترجيح بمرجح شرعي ، ولعل الأهمية ونحوها منه ، وأنها أولى بالمراعاة من السبق لما عرفت ، ومع فرض عدم المرجح أو عدم ظهور ما يدل على الاعتداد به يتجه التخيير كما احتمله في كشف اللثام هنا تبعا للمحكي عن المحقق الثاني ، قال في جامعه : « ولو كان بحيث لو قام لم يقدر على الركوع والسجود وإن صلى قاعدا أمكنه ذلك ففي تقديم أيهما تردد ، من فوات بعض الأفعال على كل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القيام.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٦.

٢٥٦

تقدير فيمكن تخييره ، ويمكن ترجيح الجلوس باستيفاء معظم الأركان معه » وظاهره عدم الترجيح ، والمسألة لا تخلو من إشكال وإن كان احتمال تقديم الجلوس قويا ، ومن العجيب دعوى الإجماعات في المقام مع قلة المتعرض وخفاء المدرك ، وأعجب من ذلك دعوى اتفاق الأصحاب على تقديم القيام والإيماء وإن تمكن من الركوع جالسا ، وأن ذلك هو ظاهر معقد إجماع المنتهى ، وظني أنه لم يقل به أحد من الأصحاب ، وأن عبارة المنتهى بعد التأمل في الفرض الأول الذي ذكرنا لا المتمكن من الركوع جالسا ، ضرورة وجوبه عليه مع فرض تمكنه ، لتواتر النصوص (١) في بدلية الركوع من جلوس عنه قائما وفي تقديمه على الإيماء ، مضافا إلى ظهور ما في مجمل ابن فارس والمحكي عن القاموس في أنه ركوع لغة ، ثم لا يخفى عليك بعد ما ذكرنا الوجه في باقي صور الدوران على كثرتها ، لابتنائها جميعا على ما عرفت ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فـ ( ـان لا ) يتمكن من القيام في الصلاة أصلا مستقلا أو متعمدا منتصبا أو منحنيا مضطربا أو مستقرا في أحد القولين صلى قاعدا إجماعا بقسميه ونصوصا (٢) كادت تكون متواترة ، والمشهور بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعا ، بل لعلها كذلك ، في بعض المعاقد أن المدار في معرفة التمكن وعدمه نفسه ، لأنه عليها بصيرة كما في غير المقام من التكاليف كالغسل والوضوء والصوم ونحوها ، وقد صرح هنا في جملة من النصوص (٣) المعتبرة بأن الإنسان على نفسه بصيرة ، وأنه هو أعلم بنفسه وبما يطيقه ، فإذا قوي فليقم ، نعم لا يعتبر التعذر ، بل يجزي المشقة الشديدة التي لا تتحمل عادة ، كما أنه يجزي الخوف من زيادة المرض أو طول البرء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ١٤ ـ من أبواب القيام.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القيام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القيام.

٢٥٧

بالقيام أو الركوع أو السجود ولو من إخبار الطبيب ، بل يجزي رجاء البرء ولو باخباره أيضا ، ففي‌ صحيح ابن مسلم (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل والمرأة يذهب بصره فتأتيه الأطباء فيقولون : نداويك شهرا أو أربعين ليلة مستلقيا كذلك يصلي فرخص في ذلك ، وقال : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٢) » وموثق سماعة (٣) « عن الرجل يكون في عينه الماء فينزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيام الكثيرة أربعين يوما أقل أو أكثر فيمتنع من الصلاة الأيام وهو على حاله فقال : لا بأس بذلك ، وليس شي‌ء مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر اليه » وخبر بزيع المؤذن (٤) المروي عن طب الأئمة قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « إني أريد أن أقدح عيني فقال : استخر الله وافعل ، قلت : هم يزعمون أنه ينبغي للرجل أن ينام على ظهره كذا وكذا لا يصلي قاعدا قال. افعل »

ولا فرق في ذلك بين الرمد وغيره من أمراض العين ، ولا بينها وبين غيرها من الأمراض ، ولا بين الاستلقاء والاضطجاع وغيرهما من أنواع الضرورة ، ولا بين تعذر القيام والركوع والسجود ، ضرورة ظهور النصوص المزبورة خصوصا ما اشتمل منها على الاستدلال بالآية (٥) في الأعم من ذلك ، فما عساه يتوهم من بعض العبارات من اختصاص الحكم ببعض ما ذكرنا في غير محله ، بل لعله غير مراد لهم أيضا.

وقيل كما عن المفيد ومحتمل النهاية حد ذلك العجز المسوغ للقعود ، وعلامته أن لا يتمكن من المشي بقدر زمان صلاته قائما ، فحينئذ يسوغ له القعود وإن كان متمكنا من الوقوف في جميع الصلاة أو بعضها ، لخبر سليمان بن حفص‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١٦٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٣.

(٥) سورة البقرة ـ الآية ١٦٨.

٢٥٨

المروزي (١) قال : « قال الفقيه عليه‌السلام : المريض انما يصلي قاعدا إذا صار بالحال التي لا يقدر فيها على أن يمشي مقدار صلاته إلى أن يفرغ قائما » ولا ريب أن الأول أظهر لوجوه ، منها قصور الخبر المزبور سندا ودلالة عن معارضة ما عرفت ، ضرورة احتمال إرادة بيان أنه بدون هذه القدرة تحصل له مشقة في القيام لا تتحمل ، فيكون الحاصل حينئذ أنه إذا عجز عن المشي مقدار صلاته قائما فله أن يقعد فيها وإن كان متمكنا من الصلاة قائما بمشقة ، فلم يتلازم العجزان ولا القدرتان ، لا أن المراد منه الرخصة في القعود بسبب العجز عن المشي وإن كان متمكنا من الوقوف بسهولة كي ينافي النصوص المتقدمة ، ويحتاج في رفعه إلى دعوى غلبة تلازم القدرتين ، أو إلى أنه كناية عن العجز عن القيام بقرينة أن المصلي قد يمكن أن يقوم مقدار الصلاة ولا يتمكن من المشي كذلك وبالعكس ، وإن كان بعد التأمل ربما يرجع إلى ما ذكرنا.

وربما قيل : إن المراد منه بيان ترجيح صلاة الماشي على القاعد لا تحديد العجز كما حكي عن جماعة اختياره منهم المفيد والفاضل والشهيد الثاني مؤيدين له بأنه انما فقد الاستقرار ، وهو كفقد الاستقلال المقدم على القعود الرافع لأصل القيام ، وفيه ـ مع أن المشي إن كان فيه انتصاب ليس في القعود ففي القعود استقرار ليس في المشي ـ ان مجرد هذا الاحتمال في الخبر المزبور لا يجسر به على إثبات هذه الكيفية من العبادة المسلوب عنها اسم الصلاة في عرف المتشرعة ، إذ لم يرد بها غيره قول ولا فعل كما اعترف به في كشف اللثام ، ودعوى اندراجها فيما دل على اشتراط الانتقال الى القعود بعدم استطاعة القيام ، لأنه في الفرض مستطيع للقيام مقطوع بعدمها ، ضرورة انسياق ما لا يشمل المشي من القيام فيها ، إما لعهدية اللام ، أو لأن المراد من القيام هنا في النصوص والفتاوى الوقوف ، ولذا لم يذكر الأكثر اشتراط الاستقرار في القيام ، ولا عقدوا له‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٤.

٢٥٩

فصلا وإن كان الإجماع متحققا على اعتباره فيه كغيره من أفعال الصلاة ولو الحال المندوب منها ، قال العلامة الطباطبائي :

لا تصلح الصلاة في اختيار

إلا من الثابت ذي القرار

وذاك في القيام والقعود

فرض وفي الركوع والسجود

يعم حال فرض تلك الأربعة

والندب بالإجماع في فرض السعة

وهي بمعنى الشرط في المندوب

فلا ينافي عدم الوجوب

لكن عدم ذكره هنا بالخصوص مع ذكره في الركوع والسجود وغيرهما ليس إلا لارادتهم منه الوقوف الذي ينافيه الحركة فضلا عن المشي ، ضرورة كونه بمعنى السكون يقال واقف : أي غير متحرك ، وربما كان وصف القيام بالطول وتقدير مسافة ما بين القدمين بالشبر مثلا في بعض النصوص (١) وما يحكى من حال سيد الساجدين عليه‌السلام من أنه لا يتحرك منه إلا ما حركته الريح (٢) ونحوها مشعرا به ، فيدل على المطلوب في جميع النصوص (٣) الدالة على الانتقال إلى الجلوس بتعذر القيام كما تنبه له العلامة الطباطبائي ، فإنه بعد ما حكى عن المفيد ترجيح المشي قال :

ورجح القول به في التذكرة

وهو خلاف ظاهر المعتبرة

بل لعله إلى هذا أومأ الشهيد في دعوى ركنية القرار في القيام ، ضرورة عدم مدخليته في أصل القيام ، لصدقه على المضطرب ، بل على الماشي قطعا ، وانما هو معتبر في الوقوف ، فلا ريب حينئذ في رجحان القعود عليه ، بل وكذا غير القعود من الأبدال كما نص عليه العلامة الطباطبائي ، فقال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ١ والباب ١٧ منها ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ وغيره من أبواب القيام.

٢٦٠