جواهر الكلام - ج ٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

أحدهما خاصة ، وآخر بإغناء الوصف عن الغائي ، وثالث العكس.

وكيف كان فقد استدلوا على اعتبار الوجه بوجوه ذكرناها في الوضوء ، وبينا فسادها ، لكن العمدة منها دعوى توقف التعيين على ذلك ، قالوا : لأن جنس الفعل لا يستلزم وجوهه إلا بالنية ، فكلما أمكن أن يقع على أكثر من وجه واحد افتقر اختصاصه بأحد الوجوه إلى النية ، فينوي الظهر مثلا ليتميز عن بقية الصلوات ، والفرض ليتميز عن إيقاعها ندبا ، كمن صلى منفردا ثم أدرك الجماعة ، وبه فرق بعضهم بينها وبين الوضوء باعتبار أنه لا يقع إلا على وجه واحد الوجوب مع اشتغال الذمة بواجب ، والندب مع عدمه ، بخلافها ، وفيه مع ما قد عرفت من أن نية التعيين تجب عند التعدد ، لتوقف صدق الامتثال عليها ، وصلاة الظهر مثلا لا يمكن وقوعها من المكلف في وقت واحد على وجهي الوجوب والندب ، ليعتبر تمييز أحدهما عن الآخر ، لأن من صلى الفريضة ابتداء لا تكون صلاته إلا واجبة ، ومن أعادها ثانيا لا تقع إلا مندوبة ، على أن مثل ذلك يجري في الوضوء باعتبار ملاحظة التجديدي أيضا ، ولا ريب في عدم توقف صدق الامتثال على شي‌ء من هذه المشخصات ، ضرورة الاكتفاء باتحاد الخطاب مع قصد امتثاله عن ذلك كله ، إذ هو متشخص بالوحدة مستغن بها عنها ، وإلا لوجب التعرض لغيرها من المشخصات الزمانية والمكانية وسائر المقارنات ، إذ الكل على حد سواء بالنسبة إلى ذلك ، بل ليست صفة الوجوب إلا كتأكد الندب في المندوب المعلوم عدم وجوب نيته زيادة على أصل الندب.

ودعوى أن الوحدة الواقعية لا تكفي ـ إذ قد يعدد المكلف الخطاب جهلا منه أو سهوا أو عمدا ، وحينئذ مع عدم التعيين لا يعد أيضا ممتثلا عرفا ، فمراد الأصحاب إيجاب نية ذلك عليه لتحصل له الصلاة الصحيحة ـ يدفعها ـ مع أن نحوها تجري في الوضوء ، فلا ينبغي الفرق بينه وبين الصلاة ممن فرق بينهما ـ أنه لو كان المراد ذلك‌

١٦١

ما احتاجوا في مثال الخطاب بها ندبا إلى صلاة الصبي كما في التذكرة ، والإعادة للجماعة كما فيها وفي غيرها ، على أن صفة الوجوب لا تجدي في التعيين حينئذ في الفرض ، إذ قد يعدد الخطاب بها وجوبا أيضا جهلا أو نسيانا أو عصيانا ، فلا ريب في عدم إرادة وجوب نيتها دفعا لهذا التعدد ، ولو سلم فهو خروج عن محل النزاع ، إذ هو قول بوجوبها حال التعدد خاصة وإن كان بزعم المكلف ، مع أن ما ذكره من الفرض انما يتصور في خصوص الجاهل الذي يرجع إليه الناسي ، أما العاصي فيكفي في بطلان صلاته حينئذ عدم قصده امتثال الأمر المعلوم لديه ، والجاهل إن كان إشكال في صلاته ففيما إذا نواها مرددة ، أو بقصد الأمر الثاني الذي زعمه ، لعدم قصده امتثال الأمر المكلف به ، لكن قد يقال بالصحة في الصورة الأولى إذا كان قد قصد امتثال الأمر الذي تخيل تعدده ، لمكان قصده الصفة المشخصة له في الواقع ، إذ الفرض عدم أمر آخر غيره ، وتخيله أنها غير مشخصة لا يرفع تشخيصها الواقعي ، واستوضح ذلك بأمر السيد لعبده بالإتيان بلحم مع تخيله تعدد الأمر وجاء بلحم بقصد امتثال الأمر ، بل قد يتجشم للصحة في الصورة الثانية أيضا ، إذ هو وإن كان قد جاء بالفعل بقصد امتثال الأمر الذي تخيله إلا أن ما شخصه به من صفة الندبية مثلا وقعت في غير محلها ، فلا تفيده تشخيصا ، والفرض تحقق الطلب في الواقع ، فينصرف الفعل اليه ، وبالجملة هو أشبه شي‌ء بنية الندب في مقام الوجوب وبالعكس ، وقد ذهب جمع من محققي مشايخنا إلى الصحة معها تبعا للمحكي عن المصنف في بعض تحقيقاته ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فمما ذكرنا يظهر لك ما في كلام الأستاذ الأكبر في حاشية المدارك وإن أطنب وتبعه عليه صهره في الرياض ، فلاحظ وتأمل ، كما أنه ظهر لك ضعف القول بوجوب نية الوجه في المتحد خطابا ، للتعيين ، وأنه ليس من موارده ، أما غيره من الأدلة فقد أوضحنا فسادها في باب الوضوء حتى ما ذكره الأستاذ الأكبر من الاستدلال‌

١٦٢

عليه بقاعدة الشغل ، ضرورة حصول الشك من الشهرة أو الإجماع كما عرفت على اعتبار الوجه في الصحة ، إما لدخوله في معنى النية أو المراد منها ، وإما لاعتباره شرطا في الصلاة ، وعلى كل حال فهو شك في جزء الشرط أو الجزء على الخلاف في النية ، أو شرط الصلاة ، فيجب الإتيان به تحصيلا لليقين بالفراغ ، إذ هو ـ مع أنه غير تام على المختار عندنا من عدم إجمال المراد بالنية ، وعدم شرطية ما شك فيه ـ يدفعه أنه لا شك في المقام بعد استنادهم إلى نحو ما عرفته هنا وفي الوضوء مما هو ظاهر في عدم دليل لهم غير ذلك ، وأنه اشتباه في محل وجوب نية التعيين ، أو أن نية الوجه من جملة وجه المأمور به الذي إن لم يأت المكلف به على وجهه لم يمتثل ، أو نحو ذلك ، خصوصا بعد ملاحظة ما سمعته من أدلة العدم التي ذكرناها في الوضوء.

وما في كتب أهل الكلام يمكن حمله على إرادة نية القربة لا خصوصية الوجوب أو إرادة نية الخلاف ، بل ربما حمل كلام من اعتبرها من الأصحاب على ذلك ، وإن كان الأقوى أيضا عدم الفساد بها إذا كان قد قصد الامتثال بالأمر من حيث كونه أمرا وإن اعتقد مع ذلك خلاف وصفه من الوجوب والندب ، بل لو شخصه بذلك أيضا لم يبعد الامتثال ، لأنه بعد ان كان متشخصا بوحدته لم يقدح فيه الغلط بتخيل مشخص آخر خارجي له ، ضرورة كونه كمن شخصه بزمان أو مكان ونحوهما من الأمور الخارجية التي لا مدخلية لها في الامتثال ، ولقد أجاد المصنف فيما حكي عنه من بعض تحقيقاته في نية الوضوء ، حيث أنه بعد أن استظهر عدم اشتراط نية الوجه في صحته قال في جملة كلام له : « وما يقوله المتكلمون ـ من ان الإرادة تؤثر في حسن الفعل وقبحه ، فإذا نوى الوجوب والوضوء مندوب فقد قصد إيقاع الفعل على غير وجهه ـ كلام شعري ، ولو كان له حقيقة لكان الناوي مخطئا في نيته ، ولم يكن النية مخرجة للوضوء عن التقرب » إلا أنه ينبغي تقييده بما إذا لم يكن قد زعم التعدد وجعل النية مشخصة له بناء على‌

١٦٣

البطلان في مثله ، فتأمل ، أو على إرادة وجوب ذلك مع التعدد في الذمة.

كما يشهد له أن المنسوب إليهم أو أكثرهم في المقام عدم الفرق بين نية الوجه والأداء أو القضاء ، حتى أن المحررين للمسألة جعلوا ذلك كله مسألة واحدة ، وحكوا الشهرة وظاهر الإجماع عليها ، بل في تذكرة الفاضل « وأما الأداء والقضاء فهو شرط عندنا » بعد قوله : « وأما الندبية والفرضية فلا بد من التعرض لهما عندنا » وفي الخلاف « يجب أن ينوي كونها ظهرا فريضة مؤداة على طريق الابتداء دون القضاء » بل لم أجد أحدا صرح بوجوب نية الوجه دونهما ، ولعله لاتحاد الدليل ، لكن ظاهر الشيخ والفاضل أو صريحهما أن وجوب نية القضاء ، أو الأداء عند اشتغال الذمة بهما معا ، قال الأول : « واعتبرنا كونها حاضرة ، لأنه يجوز أن يكون عليه ظهر فائتة فلا تتميز إلا بالنية » وقال في التذكرة بعد ما سمعت من عبارته : « وهو أحد وجهي الشافعية ، لأن الفعل مشترك فلا يتخصص لأحدهما إلا بالنية ، إذ القصد بها تمييز بعض الأفعال عن بعض ، والوجه الآخر أي لهم لا يشترط ، لأنه لو صلى في يوم غيم بعد الوقت أجزأه وإن لم ينو الفائتة ، وكذا لو اعتقد فوات الوقت فنوى القضاء ثم بان الخلاف ، ثم قال ردا عليهم : والفرق ظاهر ، فإنه ينوي صلاة وقت معينة وهو ظهر هذا اليوم فكيف وقعت أجزأه سواء وقعت أداء أو قضاء ، لأنه عين وقت وجوبها ، وجرى مجرى من نوى صلاة أمس ، فإنه يجزيه عن القضاء ، وانما يتصور الخلاف فيمن عليه فائتة الظهر إذا صلى وقت الظهر ينوي صلاة الظهر الفريضة ، فإن هذه الصلاة لا تقع بحكم فائتة الظهر إذا صلى وقت الظهر ينوي صلاة الظهر الفريضة ، فإن هذه الصلاة لا تقع بحكم الوقت عندنا وتقع عند المجوزين ، وإذا كان نسي أنه صلى فصلى ثانيا ينوي صلاة الفريضة فإنه لا يجزيه عن القضاء عندنا ويجزي عندهم » إلى آخره. وهو كالصريح في وجوب نية ذلك مع التعدد ، فلعلهم يريدون مثله في الوجوب والندب أيضا ، وإلا أشكل عليهم الفرق بين المقامين.

١٦٤

كما أنه يشكل عليهم ذلك بالنسبة إلى نية القصر والتمام التي لا أجد خلافا في عدم اعتبارها مع عدم التعدد في الذمة والتخيير ، بل في المدارك نسبته إلى قطع الأصحاب كما عن شرح النفلية الاتفاق عليه ، بل في المحكي عن كشف الالتباس أن المشهور عدم اعتبار ذلك في مواضع التخيير أيضا ، كما أن في المدارك نسبته إلى قطع الأصحاب أيضا بل في الرياض لا أجد فيه خلافا إلا من المحقق الثاني فأوجبه ، واحتمله الشهيد في الذكرى قلت : قد حكي الجزم به عنه في الدروس وموضع من البيان والموجز وجامع المقاصد وتعليق النافع والجعفرية وشرحيها ، كمن كان عليه قضاء قصرا وتماما.

لكن على كل حال لا ريب في أن الأكثر على عدم الاشتراط ، والفرق بينهما في غاية الإشكال حتى على القول بأن مراعاة التمييز للتعدد بزعم المكلف ، إذ مثله جار في المقام ، نعم بناء على المختار عدم اشتراط ذلك حال عدم التخير والتعدد واضح ، إذ الاتحاد كاف ، فإذا قصد الامتثال بصلاة الظهر مثلا أجزأه ذلك قطعا ، بل قد يقال به لو نوى الخلاف جهلا مثلا ، لأنه قد قصد الامتثال بإيقاع صلاة الظهر وهي في الواقع التمام ، فغلطه بوصفها بالقصر غير قادح ، وليس هذا خلوا عن نية الركعتين الأخيرتين مثلا ، أو زيادة في المكلف به في العكس بعد أن كان قصده صلاة الظهر التي هي في الواقع أحدهما ، والقصرية والتمامية من الأحكام اللاحقة لها ، بل هما عند التأمل الجيد كالقنوتية مثلا في الصلاة وعدمها ، وربما يومي اليه تمثيلهم بهما للتخيير بين الأقل والأكثر وغير ذلك.

نعم ربما يتخيل هنا بعض الصور التي لا تخلو من إشكال ، بل الفرض لا يخلو عنه أيضا بناء على أن القصر والتمام ماهيتان مختلفتان ، ضرورة كون المنوي حينئذ غير المكلف به ، فلا يجزي وإن اشترك الماهيتان بالركعتين مثلا ، فتأمل جيدا حتى يظهر لك الحال في الحكم في مقام التخيير ، إذ على الأول يتجه أيضا عدم وجوب التعرض‌

١٦٥

في النية لهما ، إذ هما حينئذ كباقي أحكام الفريضة الذي من المعلوم عدم وجوب التعرض في النية له ، بل يجزيه نية فريضة الظهر ، وهو بالخيار في الإتيان بأحد فرديها ، حتى لو عزم على أحدهما من أول الأمر لم يلتزم به ، وكان له اختيار الفرد الآخر ، للأصل السالم عن معارضة ما يدل على التزامه بما عزم عليه من أحدهما.

ومن هنا صرح غير واحد من الأصحاب ببقاء التخيير له في الأثناء كالابتداء بل بذلك استدل بعضهم على عدم وجوب التعرض في النية ، وإن كان قد يناقش فيه بأن جواز العدول له عما نواه أعم من عدم وجوب التعرض في النية لذلك ، إذ أقصاه أنه كالعدول من الحاضرة إلى الفائتة ، اللهم إلا أن يريد بقاء التخيير الأول ، وأن تعيينه أحدهما كعدمه لا يلتزم به ولا تتشخص الصلاة به لذلك ، فليس هو عدولا ، بل الحكم الأول باق ، ومن ذلك يعلم قاعدة ، هي أن كل ما لا يتعين في العمل لا يتعين في النية ، وعلى كل حال فالمتجه بناء على ذلك عدم وجوب التعرض في النية وعدم الالتزام به لو تعرض ، بل ليس التعرض المزبور سوى أنه عزم منه على اختيار أحد الفردين لا يلتزم به ولا يشخص ما وقع من أفعاله لما نواه.

أما بناء على انهما ماهيتان مختلفتان فيمكن القول بوجوب التعيين ، وأنه يتعين عليه ما نواه ، بل لا يخلو القول بالعدول لاستصحاب التخيير أو إطلاق دليله من إشكال ، وحينئذ فلو شك في العدد على وجه يمكن علاجه على تقدير اختيار الأربع جاز له حينئذ البناء على التمام والعمل بما يقتضيه الشك ، إذ احتمال البطلان ـ لأنه الأصل في الشك ، فليس له حينئذ اختيار التمام بعد حصول الشك كما هو الفرض ـ في غاية الضعف ، للأصل وغيره ، نعم يمكن القول بتعين اختيار التمام عليه تجنبا عن إبطال العمل ، ولأنه كتعذر أحد فردي المخير عليه ، فيتعين عليه الفرد الآخر ، بل قد يقال ذلك فيما لو كان من نيته القصر وشك ، لما عرفت من عدم التعين بنيته عليه بحيث يكون عدولا منه‌

١٦٦

لو اختار التمام بعد ذلك ، بل أقصاه أنه عزم منه على فعل أحد الفردين الذي هو القصر ، فمع فرض تعذره عليه بالشك المزبور تعين عليه الفرد الثاني ، فتأمل جيدا فإنه دقيق ، ومنه يعلم بطلان الاستدلال على وجوب التعيين باختلاف الأحكام في الشك وغيره ، مضافا إلى أن مثله لا يقضي بالتعيين ، إذ أقصاه البطلان في الفرض المزبور.

ومن ذلك كله ظهر لك ما في عبارة المصنف وما ضاهاها ، بل قوله فيها : « إن حقيقة النية استحضار » إلى آخره كما ترى ، وكأنه به عرض الشهيد في الذكرى بقوله : « إن من الأصحاب من جعل إحضار ذات الصلاة وصفاتها هي المقصودة ، والأمور الأربعة مشخصات للمقصود ، أي يقصد الذات والصفات مع التعيين والأداء والوجوب والقربة ، وكانت نيته هكذا أصلي فرض الظهر بأن أوجد النية وتكبيرة الإحرام مقارنة لها ثم أقرأ ويعدد أفعال الصلاة إلى آخرها ، ثم يعيد أصلي فرض الظهر على هذه الصفات أداء لوجوبه أو ندبه قربة إلى الله تعالى » ولقد أجاد في رده بأنه وإن كان هذا مجزيا إلا أن الاعراض عنه من وجوه ثلاثة : أحدها أنه لم يعهد من السلف ، وثانيها أنه زيادة تكليف ، والأصل عدمه ، وثالثها أنه عند فراغه من التعداد وشروعه في النية لا تبقى تلك الاعداد في التخيل مفصلة ، فإن كان الغرض التفصيل فقد فات ، وإن اكتفي بالتصور الإجمالي فهو حاصل بصلاة الظهر ، إذ مسماها تلك الأفعال ، على أن جميع ما عدده انما يفيده التصور الإجمالي ، إذ واجب كل واحد من تلك الأفعال لم يتعرض له ، مع أنها أجزاء ، منها مادية أو صورية ، واحتمال إرادة المصنف من صفة الصلاة كونها ظهرا واجبة مؤداة يدفعه قوله : « والقصد إلى أمور أربعة » فتعين حمله على إرادة ما سمعت الذي فيه مضافا إلى ما عرفت أنه ليس هو حقيقة النية ، وانما هو تشخيص المنوي. إذ النية أمر واحد بسيط ، وهو القصد إلى فعل الصلاة المخصوصة ، والأمور المعتبرة فيها التي يجمعها اسم المميز انما هي مميزات‌

١٦٧

المقصود ، وهو المنوي لا أجزاء لنيته ، بل القربة المفسرة عندهم بغاية الفعل المتعبد به خارجة عنها أيضا.

نعم لما كانت النية عزما وإرادة متعلقة بمقصود معين اعتبر في تحققها إحضار المقصود بالبال أولا بجميع مشخصاته كالصلاة مثلا ، وكونها ظهرا واجبة مؤداة مثلا ، ثم يقصد إيقاع هذا المعلوم على وجه التقرب إلى الله تعالى ، فلفظة أصلي مثلا هي النية ، إذ هي وإن كانت مقدمة لفظا فهي متأخرة معنى ، لأن الاستحضار القلبي الفعلي يصير المتقدم من اللفظ والمتأخر في مرتبة واحدة ، قال في المسالك : « وقد أفصح عن هذا المعنى أجود إفصاح الشهيد في دروسه وذكراه » قلت : قال في الأول : « لما كان القصد مشروطا بعلم المقصود وجب إحضار ذات الصلاة وصفاتها الواجبة من التعيين والأداء والقضاء والوجوب ، ثم القصد إلى هذا المعلوم لوجوبه قربة إلى الله تعالى مقارنا لأول التكبير » إلى آخره ، وقال في الثاني : « النية قصد ، ومتعلقة المقصود ، فلا بد من كونه معلوما ، فيجب إحضار ذات الصلاة وصفاتها الواجبة من التعيين والأداء والقضاء والوجوب للتقرب إلى الله تعالى ، ثم يقصد إلى هذا المعلوم ، وتحقيقه أنه إذا أريد نية الظهر مثلا فالطريق إليها إحصار المنوي بمميزاته عن غيره في الذهن ، فإذا حضر قصد المكلف إلى إيقاعه تقربا إلى الله تعالى وليس فيه ترتيب بحسب التصور وإن وقع ترتيب فإنما هو بحسب التعبير عنه بالألفاظ ، إذ من ضرورياتها ذلك ، فلو أن مكلفا أحضر في ذهنه الظهر الواجبة المؤداة ثم استحضر قصد فعلها تقربا إلى الله وكبر كان ناويا ، ولو جعل القربة مميزا كأن يستحضر الظهر الواجبة المؤداة المتقرب بها ويكبر مع إرادة التقرب منه صحت منه النية ، ولكنه يكفي إرادة التقرب منه عن استحضاره أولا وعن جعله مشخصا رابعا ، ولا يكفي تشخيصه عن جعله غاية ،

١٦٨

قلت : فإذن الأولى الاقتصار على ذكره غاية مقترنا بلام التعليل كما سمعته من النظم أولا لا مشخصا مع ذلك ، إذ هو حينئذ كالعبث ، ثم قال : « فان قلت : بين لي انطباق هذه العبارة على النية المعهودة ، وهي أصلي فرض الظهر ، إلى آخره ، فان مفهوم هذه العبارة يقتضي أن قوله : « أصلي » بعد ذلك الإحضار ، فيلزم تكرار النية أو نية النية ، وهما محالان ، قلت : إذا عبر المكلف بهذه الألفاظ فقوله : « فرض الظهر » إشارة إلى القرب والتعيين « وأداء » إلى الأداء ، و « لوجوبه » إلى ما يقوله المتكلمون من أنه ينبغي فعل الواجب لوجوبه أو وجه وجوبه ، وقوله : « قربة إلى الله » هي غاية الفعل المتعبد به ، وفي هذا إحضار الذات والصفات كما ذكر ، فقوله : « أصلي » هو عبارة عن القصد المتعلق بها ، وهو وإن كان متقدما لفظا فإنه متأخر معنى ، وفي قولنا : « للتقرب إلى الله » إشارة إلى فائدة ، هي أن الغاية ليست متعددة بل هي متحدة ، أعني التقرب إلى الله الذي هو غاية كل عبادة ، وعلى ترتيب النية المعهودة بتلك الألفاظ المخصوصة وانتصابها على المفعول له أو الإتيان فيها بلام التعليل يشكل إعرابه من حيث عدم جواز تعدد المفعول لأجله إذا كان المغيا واحدا إلا بالواو ، واعتذر عنه بعض النحاة من الأصحاب بأن الوجوب مثلا في هذه النية غاية لما قبله ، والتقرب غاية للوجوب ، فيتعدد الغاية بسبب تعدد المغيا ، فاستغنى عن الواو ، وإذا صورت النية على الوجه الذي ذكرناه لم يكن إلا غاية واحدة ، ويزول ذلك الإيراد من أصله ، مع أنه ليس له تعلق بالنية الشرعية ، بل متعلق بالألفاظ التي لا مدخل لها في المقصود ، فإن أريد التعيين بنية تطابق ما ذكرناه ملفوظة فليقل : أصلي فرض الظهر الواجب المؤدي أو المقضي قربة إلى الله ، وهذه العبارة كافية في هذا المقام ونحوها من العبارات ، والغرض بها إيصال المعاني إلى فهم المكلفين كما قيل لا التلفظ بها » ونقلناه بطوله لما فيه من كمال الإفصاح بما عند المشهور من النية ، وقد أنكر عليهم متأخرو المتأخرين ذلك ،

١٦٩

بل عدوه من جملة الخرافات قائلين : إن النية هي الداعي لا هذا الاخطار الذي هو حديث فكري ومثارة للوسواس في قلوب أكثر الناس ، خصوصا بعد ما تسمعه من الأقوال في اعتبار مقارنة النية للتكبير بخلافه على القول بالداعي ، ولذا قال راجزهم :

ويلزم اقترانها بالداعي

والخطب سهل فيه ذو اتساع

ولا كذاك الأمر في الاخطار

فهو مع الضيق على إخطار

لكن ربما كان نوع غموض في المراد من الداعي في كلامهم ، وربما انساق إلى الذهن منه العلة الغائية ، وكون النية عبارة عنها كما ترى ، والظاهر أن مرادهم به الإرادة المسماة بالباعث في لسان الحكماء المؤثرة في وجود الفعل من الفاعل المختار المنبعثة عن تصور الغاية والإذعان بها ، وكشف الحال أن القلب له معنيان : أحدهما اللحم الصنوبري الذي في تجويفه دم أسود ، والثاني لطيفة ربانية روحانية لها تعلق بالقلب الجسماني ، وهو المدرك من الإنسان والمكلف المخاطب ، إذ به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات ، بل هو حقيقة الإنسان بخلاف الأول المشترك بينه وبين غيره ، ويطلق عليه بهذا المعنى العقل ، بل ربما أطلق عليه اسم الروح والنفس ، كما أنه قد يطلقان على غيره ، بل العقل أيضا قد يطلق على غير المعنى المزبور ، ثم إن للقلب جنودا ، وذلك لأنه لما كان اكتساب الكمالات الإنسانية موقوفا على البدن فلا بد من حفظه بجلب ما يوافقه ودفع ما ينافيه ، فأنعم الله تعالى على القلب بجندين : باطن وهو الشهوة ، وظاهر وهو آلتها ، ولما توقف الشهوة للشي‌ء والنفرة عنه على معرفة ذلك أنعم الله عليه في المعرفة بجندين باطنيين أحدهما الإدراكات الخمس ، ومنازلها الحواس الخمس الظاهرة ، وثانيهما القوى الخمس ، ومنازلها تجويف الدماغ ، فإذا علم الموافق اشتهاه وانبعث على جلبه ، وإذا علم المنافر نفر عنه وانبعث على دفعه ، والباعث يسمى إرادة ، وهي المعبر عنها عند الأصحاب بالداعي ، لأنها هي التي تدعو لوقوع الفعل ووجوده في الخارج ، بل ربما كانت العلة التامة فيه باعتبار‌

١٧٠

أنها جزء أخير ، والمحرك للأعضاء قدرة ، فجميع جنود القلب ثلاثة : الإرادة والقدرة والقوى الدراكة الظاهرة والباطنة ، ولما اصطحبت في الإنسان هذه الجنود اجتمعت فيه أربعة أوصاف : سبعية تحمله على العداوة ، وبهيمية تحمله على الشره والحرص ، وربانية تحمله على الاستبداد والانسلال من القيود السفلانية والإطلاق عن ربقة العبودية ، وشيطانية تحمله على المكر والخديعة ، فمن تسخرت نفسه للصفة الربانية فحبل الله قصده ، والآخرة مستقره ، والدنيا منزله ، والبدن مركبة ، واللسان ترجمانه ، والأعضاء خدمه والحواس جواسيسه ، تؤدي ما تطلع عليه من المحسوسات إلى الخازن ، وهو القوة الخيالية ، ثم يعرض الخازن ذلك على الملك أعني حقيقة الإنسان ، فتقتبس منه ما يحتاج إليه في تدبير منزله ونيل السعادة في آخرته ، ولتمام تحقيق هذه المطالب محل آخر.

انما المراد بيان ان الداعي عبارة عن تلك الإرادة المؤثرة في وجود الفعل المنبعثة عن تصور غاية الفعل ، وبها يكون الفعل منويا ، إلا أنه إذا كان عبادة اعتبر فيها كونها منبعثة عن إرادة قصد الامتثال وما تصور له من الغايات وأذعن بها ، ولا يتوقف ذلك على خطور الغاية في الذهن عند الفعل ، بل يكفي وجودها في الخزانة ، بل لا يتوقف على تصور الفعل حين الفعل ، بل تصوره السابق مجز ، بل تعيينه السابق حيث يكون متعددا أيضا كاف نعم قد يحتاج إلى خصوص التعيين إذا فرض عدم انبعاث الإرادة المؤثرة في وقوعه عن تصور غاية الفعل المعين ، ولعل الحكم في النصوص يكون ما في يده من الأفعال لما قام لها من الفريضة يومي إلى بعض ما ذكرناه على أحد الوجهين ، إذ يمكن أن يكون ذلك لانبعاث تلك الإرادة عن التعيين الذي حصل في الذهن ووقع القيام له فظهر من ذلك أنه لا يتوقف في كون الفعل منويا مقصودا به الامتثال على أزيد من مقارنته أول الفعل لتلك الإرادة المنبعثة عن ما عرفت ، ولا يحتاج إلى خطور غيرها فضلا عن الاستحضار الذي هو في الحقيقة علم بالخطور والتفات آخر للقلب إلى ما حصل‌

١٧١

فيه من تلك الإرادة ، كباقي المعاني التي تحصل للإنسان من الفرح والهم والغم والجوع والشبع ونحوها ، فان حصولها شي‌ء ، والعلم بحصولها شي‌ء آخر ، ومن الواضح عدم توقف حصولها على تصوره والالتفات اليه والعلم به ، فحينئذ حصول القصد إلى الفعل غير محتاج إلى الاستحضار المزبور والإخطار ، إذ لا يكاد يخفى على ذي مسكة وقوع الأفعال من الفاعلين على وجه يعدون به من المختارين غير الغافلين والساهين من دون تصور القصد المتعلق بها وبلا التفات للنفس إلى ذلك ، والعلم بوجود المكلف به واقعا أو شرعا أمر آخر لا مدخلية له فيما نحن فيه ، إذ يكفي فيه حصوله ولو بعد الفراغ من الفعل فضلا عن حال النية ، على أن ما ذكروه من الاخطار لو كان منشأه ذلك لوجب في سائر أفعال الصلاة ، ضرورة توقف الجميع على حصول العلم بالمكلف به ، على أن حصول القصد المقارن للفعل ضروري للنفس غير محتاج إلى التفاتها اليه ، فهو كالوجع غير محتاج العلم به إلى الاخطار المزبور.

والذي أظنه أن الأصحاب أجل من أن يخفى عليهم ذلك ، وقد صرحوا بأن النية أمر بسيط هو القصد إلى الفعل المعين ، إلا أنهم لما أرادوا تصوير ذلك باللفظ لإفهام المكلفين ولم يكن ثم لفظ موضوع للدلالة مطابقة على نفس القصد المزبور احتاجوا في بيانه إلى لفظ « أصلي » ونحوه مما معناه « أقصد » الذي هو زائد على نفس حصول القصد ، إذ هو كقولك : « أطلب الضرب » الذي يدل بالالتزام على النسبة الناقصة التي هي حصول الطلب في النفس ، ولعلهم يريدون من لفظ « أقصد » المعنى الإنشائي الذي عين تعلق القصد بالمقصود ، فلا يكون زائدا على ما ذكرناه من الداعي ، وقولهم : « إخطار » و « استحضار » ونحوهما يراد به حيث يكون المكلف خاليا من التصور السابق التي تكون الإرادة منبعثة عنه وكان الخطور موقوفا عليهما ، أو نفس خطور القصد المزبور بحيث لا يكون غافلا ولا ساهيا ولا موجدا للفعل بإرادة أخرى منبعثة‌

١٧٢

عن غرض آخر ، لا أن مرادهم تصور خطور القصد الذي لا مدخلية له في وجوده كما هو واضح.

ومن ذلك ونحوه ظن متأخرو المتأخرين من هذه الألفاظ في كلامهم اعتبارهم هذا التصور في تحقق النية مع وضوح عدم توقف شي‌ء من الأفعال على ذلك ، على أنه ربما كان الداعي إلى كثرة ما سمعته من الكلام وزيادة الإيضاح شدة الاحتياط في العبادة وشدة اعتبار النية فيها ، وأنها في الأعمال بمنزلة الروح في البدن ، مضافا إلى ما في بعض النصوص (١) من بيان حكمة رفع اليدين بالتكبير بأن فيه إحضار النية وإقبال القلب على ما قصد مما يشعر برجحان الاخطار المزبور ، والله أعلم.

وكيف كان فمما ذكرنا ظهر لك أنه لا عبرة باللفظ في النية عندنا كما في التذكرة ، لما عرفت من أنها أمر قلبي لا مدخلية للألفاظ فيها ، بل في المحكي عن الخلاف وغيره عدم استحبابه أيضا ، وفي التذكرة ما يشعر بدعوى الإجماع عليه للأصل بل في البيان أن الأقرب كراهته ، لأنه إحداث شرع وكلام بعد الإقامة ، وربما نوقش فيه بأنه يمكن استثناؤه ، لأنه مما له تعلق بالصلاة خصوصا مع الإعانة على خلوص القصد وإن كان في استفادة ذلك من الأدلة على وجه لا يفرق بين الجماعة والفرادى وبين نفس الصلاة ومقدماتها كالاتيان بالساتر ونحوه منع ظاهر ، نعم قد يستفاد من تعليل رجحان رفع اليدين بأن فيه إحضار النية والقلب على ما قصد استحباب كل ما له مدخلية في ذلك من لفظ وغيره ، ولعله إليه أومأ بعضهم بقوله : إنه ينبغي الجمع ، فان اللفظ أعون على خلوص القصد ، لكن في الذكرى أن فيه منعا ظاهرا ، والانصاف أنه لا رجحان له بنفسه ، ويختلف باختلاف الناوين وأحوالهم ، فقد يعين على القصد فيترجح وقد يخل فالخلاف ، وبذلك يمكن ارتفاع الخلاف ، وما يقال ـ من أنه تشريع محرم ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب تكبيرة الإحرام ـ الحديث ١١.

١٧٣

ومن أن الإتيان به مع الدرج يستلزم إما مخالفة اللغة إن أثبت همزة لفظ الجلالة في تكبيرة الإحرام ، وفي الاجتزاء بها حينئذ منع ، لكونها ملحونة ، أو الشرع إن حذفها ، لأن الثابت من الإحرام بها مقطوعة الهمزة ـ يدفعه أنه لا تشريع فيه فيما سمعت ، واختصاص الثاني بحال الدرج ، مع أن مثله جار فيما ورد من الأدعية بين التكبيرات التي منها الدعاء المتصل بتكبيرة الإحرام ، أما إذا وقف فلا إشكال ، إذ احتمال فوات المقارنة بذلك كما ترى ، ضرورة أن مثل زمان الوقف لا يفوتها ، على أن المعتبر المقارنة القلبية ، والوقف على اللفظ لا ينافي حصولها ، فظهر لك أن التحقيق ما ذكرنا ، وكأن الذي حمل الأصحاب على التعرض لذلك ارادة الرد على المحكي عن أكثر أصحاب الشافعي من استحباب اللفظ بالنية بأنه لم يثبت رجحان له بالخصوص عندنا ، والله أعلم.

وكيف كان فـ ( وقتها عند أول جزء من التكبير ) لأن به تتحقق المقارنة التي لا ريب في اعتبارها ، بل الإجماع بقسميه عليها ، مضافا الى ظهورها من مثل‌ قوله عليه‌السلام (١) : « لا عمل إلا بنية » بل وقوله تعالى (٢) ( وَما أُمِرُوا ) الى آخره ، بل صدق الامتثال والمنوي من الأفعال موقوف عليها ، فما عن بعض العامة ـ من جواز التقدم يسيرا قياسا على الصوم الذي تتعذر أو تتعسر المقارنة فيه بناء على الإخطار ـ في غاية الضعف ، نعم الظاهر تحقق المقارنة فيما نحن فيه لو اتصلت به بحيث كان آخر جزء منها عند أول جزء منه ، بل في الرياض أنه يظهر من التذكرة دعوى الإجماع على صحة العبادة بالمقارنة بهذا المعنى ، ومنه يعلم ضعف المحكي عن بعض الأصحاب ـ وإن كنا لم نتحققه ـ من أن وقتها بين الألف والراء ، مضافا الى ما فيه من العسر وخلو أول التكبير من النية ، بل لو أريد من قوله : « بين » الى آخره الاجتزاء بها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النية ـ الحديث ١ و ٤.

(٢) سورة البينة ـ الآية ٤.

١٧٤

في هذا الوقت وإن كانت بين الباء والراء منه لزم خلو الأكثر من ذلك عن النية ، بل إن أريد البسط منه فكذلك أيضا ، ضرورة إمكان حصول تصور المنوي منه بمميزاته ثم يقصده بين الباء والراء ، ويحتمل أن يريد حصول تمام النية عند همزة لفظ الجلالة إلا أنها تبقى مستمرة إلى الراء ، فيكون المراد حضورها بين الألف والراء ، وهو كما ترى أيضا ، وكفى بإجمال المراد منه موهنا له.

ونحوه القول بأنها عند أول جزء من التكبير مستمرة إلى انتهائه كما عن العلامة في التذكرة والشهيد في الذكرى ، لأن الدخول في الصلاة انما يتحقق بتمام التكبير بدليل أن المتيمم لو وجد الماء قبل إتمامه وجب عليه استعماله ، بخلاف ما لو وجده بعد الإكمال والمقارنة معتبرة ، فلا تتحقق من دونها ، وفيه أنه لا يتأتى بناء على أن آخر التكبير كاشف عن الدخول في الصلاة في أوله ، بل لو لم نقل بذلك فلا ريب في تحقق الدخول بالشروع في التكبير الذي هو جزء من الصلاة بإجماعنا ، فإذا قارنت النية أوله فقد قارنت أول الصلاة ، لأن جزء الجزء جزء ، ولا ينافي ذلك توقف التحريم على انتهائه ووجوب استعمال الماء قبله ، لأن ذلك حكم آخر لا ينافي صدق المقارنة للأول.

وأما القول باعتبار حصولها مقارنة للأول الذي هو رابع الأقوال بمعنى اتحادهما في الزمان بحيث لا يجزي الاتصال الذي ذكرناه فهو ـ مع ما فيه من العسر بناء على إرادة إخطار القصد والمقصود بمميزاته ـ لا دليل على تعيينه ، هذا كله بناء على أن النية هي الاخطار ، أما على القول بالداعي على التفسير الذي سمعته سابقا فلا يحتاج إلى شي‌ء من هذه التكلفات ، ضرورة حصوله وعدم انفكاك فعل المختار غير الغافل عنه ، كما هو واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه هنا وفي باب الوضوء ، بل ذكرنا هناك ما يعلم منه قول المصنف هنا :

ويجب استمرار حكمها إلى آخر الصلاة ، وهو أن لا ينقض النية الأولى‌

١٧٥

بما لا مزيد عليه ، وقلنا أيضا إن الظاهر اختلاف الاستدامة باختلاف المعتبر في النية حتى أن من قال باعتبار نية الوجه والأداء والقضاء ينبغي أن يقول بالاستدامة فيه أيضا اللهم إلا أن يكون المدار عنده على أول الصلاة أخذا بما دلت عليه النصوص (١) من أن الصلاة على ما افتتحت عليه ، فحينئذ لو نوى الندب في الأثناء بعد أن نوى الفريضة صح فعله إذا كان ذلك خطأ منه بمعنى تخيل كون ما نواه ندبا كما صرح به في الذكرى قال : « لو نوى الفريضة ثم غربت النية لم يضر ، ولو نوى النفل حينئذ ببعض الأفعال أو بجميع الصلاة خطأ فالأقرب الإجزاء ، لاستتباع نية الفريضة باقي الأفعال ، فلا يضر خطأه في النية » قلت : وأولى منه بالصحة إذا كان ذلك منه مجرد اعتقاد أن ما نواه أولا نفل ، بل قد يتخيل أن ذلك مورد النصوص لا ما يشمل الصورة الأولى وإن كان فيه منع واضح ، ففي‌ حسن ابن المغيرة أو صحيحه في كتاب حريز (٢) انه قال : « إني نسيت أني في صلاة فريضة حتى ركعت وأنا أنويها تطوعا قال : فقال : هي التي قمت فيها ، إذا كنت قمت وأنت تنوي فريضة ثم دخلك الشك فأنت في الفريضة ، وإن كنت دخلت في نافلة فنويتها فريضة فأنت في النافلة ، وإن كنت دخلت في فريضة ثم ذكرت نافلة كانت عليك فامض في الفريضة » وفي‌ خبر يونس (٣) ان معاوية سأل أبا عبد الله عليه‌السلام « عن رجل قام في الصلاة المكتوبة فنسيها فظن أنها نافلة أو قام في النافلة فظن أنها مكتوبة فقال : هي على ما افتتح الصلاة عليه » وفي‌ خبر عبد الله بن أبي يعفور (٤) أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام « عن رجل قام في صلاة فريضة فصلى ركعة وهو ينوي أنها نافلة فقال : هي التي قمت فيها ولها ، وقال : إذا قمت وأنت تنوي الفريضة فدخلك الشك بعد فأنت في الفريضة على الذي قمت له‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النية.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النية ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النية ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النية ـ الحديث ٣.

١٧٦

وإن كنت دخلت فيها وأنت تنوي نافلة ثم أنك تنويها بعد فريضة فأنت في النافلة ، وانما يحسب للعبد من صلاته التي ابتدأ في أول صلاته » وظهور السؤال في بعضها في ذلك لا يقضي باختصاص إطلاق الجواب به أيضا ، بل يمكن دعوى شمول بعض هذه النصوص لصورة العمد فيما لو نوى ببعض الأجزاء غير ما نوى عليه الجملة من الوجه أو الأداء والقضاء تخيلا منه صحة ذلك أو عبثا أو جهلا منه بوجوب ذلك الجزء أو ندبه مثلا ، لإطلاق النصوص السابقة المؤيدة بأن الأجزاء ليست لها نية مستقلة ، بل نيتها تتبع نية الجملة الصالحة للتأثير فيها ، نعم لو نوى بالجزء أنه قضاء عن فعل آخر مثلا تخيلا منه صحة ذلك بعد رفع اليد عن كونه جزءا للكل الذي نواه أولا اتجه البطلان ، لأنه في الحقيقة كنية غير الصلاة ببعض الأفعال ، أما لو جمع بأن نوى به القضاء مثلا مع كونه جزءا مما في يده من الصلاة الأدائية تخيلا منه جواز ذلك أو كان لغوا فقد يقوى الصحة ، للأصل ، وتبعية نية الجزء لنية الكل ، فلا تؤثر فيه مثل هذه النية ، وقول أبي جعفر عليه‌السلام في خبر زرارة (١) المروي عن المستطرفات : « لا قران بين صومين ، ولا قران بين صلاتين ، ولا قران بين فريضة ونافلة » لو سلم إرادة الجمع بالنية بين الفرضين من القران فيه محمول على ابتداء الفعل لا ما إذا وقع ذلك في بعض الأجزاء ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فلا إشكال في وجوب الاستدامة لكن بمعنى عدم خلو جزء من الصلاة عنها ، فـ ( لو نوى الخروج ) حينئذ من الصلاة بعد أن حصلت النية الصحيحة منه ثم رفض ذلك قبل أن يقع منه شي‌ء من أفعال الصلاة وعاد إلى النية الأولى لم تبطل الصلاة على الأظهر وفاقا للمحكي عن الخلاف وغيره ، واختاره شيخنا في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النية ـ الحديث ٢.

١٧٧

كشفه ، للأصل والإطلاقات ، خصوصا مثل‌ قوله عليه‌السلام (١) : « لا تعاد الصلاة إلا من خمسة » إلى آخره ، ولعدم تصور مانع هنا عدا فقد النية ، والفرض وقوع جميع الصلاة بها ، ولظهور‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « تحريمها التكبير » إلى آخره. في حصول الحبس بتكبيرة الإحرام ، وأنه لا يفكه منه إلا ما جعله الشارع سببا للفك ، ودعوى كون ذلك من إبطال العمل كالحدث ونحوه فيرتفع الحبس الذي مداره العمل الصحيح محتاجة إلى الدليل على كون ذلك مبطلا ، بل قد يومي حصر التحليل بالتسليم باعتبار كونه منافيا للصلاة إلى عدم الخروج بنية الخروج به التي قيل بوجوبها مقارنة له ، فتأمل.

وخلافا لجماعة فتبطل ، بل المشهور نقلا إن لم يكن تحصيلا ، إذ هو خيرة المبسوط والخلاف في آخر كلامه والتحرير والإرشاد ونهاية الأحكام والمختلف والإيضاح والذكرى والدروس والألفية والموجز وكشف الالتباس وجامع المقاصد وفوائد الشرائع والجعفرية والغرية وإرشاد الجعفرية والميسية والمسالك والروضة والروض على ما حكي عن بعضها ، بل عن المنتهى قربه ، والمقاصد العلية تقويته لقاعدة الشغل الممنوعة عندنا ، ولأن نية الخروج تقتضي وقوع ما بعدها من الأفعال بغير نية ، فلا يكون مجزيا ، وهو كما ترى مخالف لمفروض المسألة ، بل قد ينقدح من استدلالهم بذلك لفظية النزاع ، وأن مراد القائل بالبطلان ما لو أوقع باقي أفعال الصلاة في هذا الحال ، ومراد الآخر عدم البطلان من حيث نية الخروج فقط لا مع خلو باقي الأفعال عن النية وحكمها ودعوى عدم انفكاك نية الخروج عن ذلك ، لعدم فترة في الصلاة ، فلا بد من وقوع استمرار القيام مثلا أو غيره بلا نية يدفعها أنه لا دليل على البطلان بخلو مثل هذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب القراءة في الصلاة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب تكبيرة الإحرام ـ الحديث ١٠.

١٧٨

الاستمرار من القيام عن النية ، ولا تبطل الصلاة بتخلله ، إذ هو ـ مع أنه ليس من الأفعال عرفا بل ولا عقلا ، بناء على عدم احتياج الباقي في بقائه إلى المؤثر ـ يمكن فرض المسألة حينئذ فيما إذا لم يطل بحيث يخرج عن كونه مصليا ، وعدم الفترة في الصلاة بحيث يشمل الفرض ممنوع ، كمنع اعتبار الاستدامة في الصلاة على وجه يكون العزم على الفعل متصلا ، بل المسلم منه عدم خلو شي‌ء من أفعال الصلاة عن النية.

فالاستدلال حينئذ على البطلان بأن الاستمرار على حكم النية السابقة واجب إجماعا كما تقدم ، ومع نية الخروج يرتفع الاستمرار غير متجه ، بل رده في المدارك بأن وجوب الاستدامة أمر خارج عن حقيقة الصلاة ، فلا يكون فوته مقتضيا لبطلانها ، إذ المعتبر وقوع الصلاة بأسرها مع النية كيف حصلت ، وقد اعترف الأصحاب بعدم بطلان ما مضى من الوضوء بنية القطع إذا جدد النية لما يقع منه من الأفعال قبل فوات الموالاة ، والحكم في المسألتين واحد ، والفرق بينهما بأن الصلاة عبادة واحدة ، ولا يصح تفريق النية على أجزائها بخلاف الوضوء ضعيف جدا ، فإنه دعوى مجردة عن الدليل ، والمتجه تساويهما في الصحة مع تجديد النية لما بقي من الأفعال ، لكن يعتبر في الصلاة عدم الإتيان بشي‌ء من أفعالها الواجبة قبل تجديد النية ، لعدم الاعتداد به ، واستلزام إعادته الزيادة في الصلاة ، وإن كان فيه نظر من وجوه : أحدها منع خروج وجوب الاستدامة عن حقيقة الصلاة ، ضرورة كونه عوضا عن النية التي من المعلوم توقف الصحة عليها ، نعم المتجه منع وجوب الاستدامة بمعنى الاتصال ، بل المسلم منه عدم خلو شي‌ء من الأفعال عن النية ، وثانيها وضوح الفرق بين الصلاة والوضوء بمراعاة الهيئة فيها دونه ، ولذا لا يجوز ارتفاع شي‌ء من الشرائط كالاستقبال والاستتار والطهارة ونحوها في شي‌ء منها ، بل التعبير عن ذلك فيها بالانقطاع بخلاف غيرها فبالبطلان أوضح شي‌ء في اعتبار الاتصال فيها ، كما أوضحنا ذلك في محله ، ثالثها كون المتجه على ما ذكره عدم‌

١٧٩

الفرق بينها وبين الوضوء مطلقا حتى لو فعل بعض أفعالها ، إذ دعوى استلزام الزيادة في الإعادة يدفعها عدم وقوع الأول من الصلاة ، إذ الفرض أنه جاء به حال نية الخروج فلا زيادة بالإعادة ، فالمتجه حينئذ تساويهما من هذه الجهة أيضا.

ومنه يعلم فساد ما في كشف اللثام من احتمال البطلان لكونه كتوزيع النية على الأجزاء ، ضرورة جريان مثله في الوضوء المعلوم عدم البطلان فيه بذلك ، فينحصر التوزيع المبطل فيما لا يشمل مثل ذلك ، نعم يمكن الفرق بينهما بما أشرنا إليه من اعتبار الاتصال في الصلاة وعدمه في الوضوء ، ولعل هذا هو مدار المسألة في المقام ، كما يومي اليه إطلاق البطلان بنية الخروج ممن قال به وعدمه بها من غير تقييد من كل منهما بإتيان بعض الأفعال وعدمه ، وما ذاك إلا لأن القائل بالأول يدعي بطلان الصلاة بمجرد فوات اتصال العزم الأول الذي هو معنى الاستدامة عنده ، فهو كفوات الاستقبال والطهارة مثلا وغيرهما من الشرائط ، فإنه لا يكفي في الصحة تلافيها لما بقي من الأجزاء فالاستدامة مثلها ، والقائل بالثاني لم يثبت شرطية ذلك عنده في خصوص الاستدامة ، والمسلم منه عنده عدم خلو شي‌ء من أجزاء الصلاة من النية الإجمالية أو التفصيلية ، كما أنه لم يثبت عنده البطلان بخلو الاستمرار القيامي مثلا المقارن لنية الخروج عن النية ، ولعله يفرق بين اتصال النية وباقي الشرائط بأنه قد ثبت البطلان بفقدها في أثناء الصلاة كباقي الموانع وإن لم يقارن جزءا من أجزاء الصلاة ، فلو كشف عورته أو استدبر القبلة مثل حال تشاغله ببعض الأفعال التي لا تقدح في الصلاة كقتل عقرب أو حية أو تناول حاجة بطلت صلاته وإن لم يقارن ذلك جزءا من أجزاء الصلاة حتى القيام ، لفرض عدم كونه قائما حاله ، لصدق الاستدبار والكشف مثلا وهو في الصلاة ، أي لم يتم الصلاة ، بخلاف اتصال النية ، فإنه ليس في الأدلة ما يقضي باعتباره كذلك ، إذ ليس فيها إلا‌ قوله عليه‌السلام : « لا عمل إلا بنية » وهو صادق مع فرض تجديد النية‌

١٨٠