جواهر الكلام - ج ٩

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بناء على عدم اختصاص ذلك في أذان الإعلام ، لعدم انحصار فرضها في ذلك قطعا ، إذ من صورها تعددهم ولم يسمع كل منهم الآخر كما لو جاءوا مترتبين ، ومن صورها حال عدم وجود الامام ، فما عن الروض ـ من الميل إلى استحبابه ، والمفاتيح من التأمل فيه حيث نسبه إلى القيل ، بل قيل : إنه يمكن أن يقال : إنه لا يقصر عن تعدد المؤذنين مجتمعين أو مترتبين وقد أجمعوا على جوازه ، واقتصار السلف على الأذان الواحد لتأدي السنة به ، إذ الركن الأعظم فيه الاعلام وقد حصل ، فاشتغلوا بما هو أهم منه وإن بقي الاستحباب ـ لا يخفى ما فيه.

وكذا ينبغي استثناء الداخل على الجماعة الحاضر إمامها بعد سماع أذانها وإن لم يرد الصلاة معهم ، بناء على عدم استحباب الأذان لمن أدرك الجماعة قبل أن تتفرق ، ضرورة كون الفرض أولى منه بذلك ، لزيادته عليه بالسماع كما هو واضح ، والله أعلم.

المسألة التاسعة من أحدث في أثناء الأذان أو الإقامة تطهر وجوبا أو ندبا وبنى إذا لم تفت الموالاة ، لعدم ثبوت الفساد بتخلل الحدث في الأثناء حتى على القول باشتراط الطهارة فيهما ، إذ لا يراد منه إلا إيقاع فصولهما مقارنا للطهارة لا إرادة اعتبار حصولها في الفواصل بين الفصول ، ودعوى كونها عبادة مركبة ذات أجزاء لا تقتضي ذلك قطعا كما أوضحناه سابقا وأما أن الأفضل له أن يعيد الإقامة فقد ذكره المصنف وغيره ، وعلل بتأكد استحباب الطهارة فيها ، وهو كما ترى ، وفي المدارك « أنه يمكن الاستدلال بخبر هارون المكفوف (١) وغيره مما تضمن كونها من الصلاة ، ومن أحكام الصلاة الإعادة بالحدث فيها ، فالإقامة كذلك » قلت : وأولى منه الاستدلال بقول الكاظم عليه‌السلام في خبر قرب الاسناد للحميري (٢) لما سأله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٧.

١٤١

أخوه عن المؤذن يحدث في أذانه وفي إقامته : « إن كان الحدث في الأذان فلا بأس ، وإن كان في الإقامة فليتوضأ وليقم إقامته » فان الظاهر إرادة استيناف الإقامة ، وإلا لأمره بالإتمام لا بالإقامة كما في ما حضرني من نسخة قرب الاسناد وغيره ممن حكاه عنه والله أعلم.

المسألة العاشرة من أحدث في أثناء الصلاة تطهر وأعادها كما تسمع البحث فيه في محله ولا يستحب له أن يعيد الإقامة إلا أن يتكلم أو يحصل فصل معتد به أو نحو ذلك فيعيدها حينئذ ، بل يعيد الأذان أيضا مع الفصل ونحوه لحصول المقتضي ، ففي‌ صحيح ابن مسلم (١) « لا تتكلم إذا أقمت الصلاة ، فإنك إذا تكلمت أعدت الإقامة » أما بدونه فلا ، للأصل وحصول الامتثال ، لكن في المدارك « انه مناف لما ذكره في المسألة السابقة ، إلا أن يفرق بين الحدث في أثناء الإقامة وأثناء الصلاة ، وهو بعيد ، بل عن ظاهر ثانيي المحققين والشهيدين الحكم بعدم الفرق » وفيه ما لا يخفى بعد ما عرفت من الدليل على الحدث في الأثناء الذي يمكن تأييده بالفرق بين حالي الفراغ من العمل والتشاغل فيه كالصلاة التي قد أعطيت الإقامة حكمها ، فهي حينئذ مركبة مستقلة يراعى فيها الأمران ، وإعادتها بالكلام للدليل ، ولذا قال في كشف اللثام : إن الفرق بينهما ظاهر ، نعم قد يشكل الحكم المزبور بخبر عمار (٢) قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل إذا أعاد الصلاة هل يعيد الأذان والإقامة؟ قال : نعم » والصحيح (٣) إلى موسى بن عيسى عم أحمد بن عيسى الذي أشهده الرضا عليه‌السلام على طلاق وأمره أن يحج عنه ، قال : « كتبت اليه رجل تجب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب قضاء الصلوات ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٢.

١٤٢

عليه إعادة الصلاة أيعيدها بأذان وإقامة؟ فكتب يعيدها بإقامة » لكن عدم تعرض الأصحاب لهما مع اشتمال أولهما على إعادة الأذان يهون الاشكال المزبور ، بل يوجب حملهما على صورة القضاء ، أو على تبين فساد الصلاة بعد الفراغ منها كما هو ظاهر لفظ الإعادة ، وحينئذ يحصل الفصل المعتد به ، إذ احتمال عدم القدح بفصل الصلاة وإن تبين بعد ذلك بطلانها في غاية الضعف ، ضرورة كون ما وقع من الأذان والإقامة مقدمة للصلاة المستأنفة لا الباطلة كما هو واضح ، فتأمل.

المسألة الحادية عشر من صلى خلف إمام لا يقتدى به وكان مؤذن جماعته مخالفا أو مؤمنا ولم يسمع أذانه أذن لنفسه وأقام لعدم حصول المسقط لهما بناء على اشتراط الايمان في الأذان ، فإطلاق الأدلة حينئذ بحاله ، وسقوطهما بإدراك الجماعة انما هو في الجماعة الصحيحة ، مضافا إلى الأمر في المرسل (١) وخبر محمد بن عذافر (٢) بالأذان خلف من قرأت خلفه ، وإلى ما تقدم سابقا مما يدل على اشتراط إيمان المؤذن وإن كان مما ذكرنا يظهر أن المسألة لا ينحصر فرضها في البناء على اشتراط الايمان في الأذان ، بل وإن لم نقل به فان عليه الأذان والإقامة إذا جاء إلى الجماعة المزبورة ولم يكن قد سمع أذانها ، لعدم تحمل الإمام حينئذ الأذان عنه باعتبار عدم جامعيته لشرائط الإمامة ، فلا يكفي حينئذ سماعه ، بل منه ينقدح احتمال عدم الاجتزاء بإدراك جماعة لم يثق بامامها وإن كان غير مخالف ، ولعل عبارة المصنف وغيرها تشمله وإن كان الظاهر منها بقرينة ما بعده إرادة المخالف.

وعلى كل حال فإن خشي بفعل الأذان والإقامة فوات الصلاة التي لو لم يظهر الائتمام بها خالف التقية اقتصر على تكبيرتين وعلى قول : قد قامت الصلاة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٢.

١٤٣

مرتين مقدما لهما على التكبيرتين مضيفا إليهما التهليلة ، لقول الصادق عليه‌السلام في خبر معاذ بن كثير (١) الذي هو المستند في المقام على الظاهر « إذا دخل الرجل المسجد وهو لا يأتم بصاحبه وقد بقي على الإمام آية أو آيتان فخشي إن هو أذن وأقام أن يركع الامام فليقل : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، وليدخل في الصلاة » بل ظاهره ذلك إذا خاف فوت الركعة فضلا عن الصلاة ، ولعله المراد من خوف فوات الصلاة في المتن وغيره والفوات في الإرشاد ، كما أن المراد على الظاهر من الفوات رفع رأس الإمام من الركوع المفوت لصورة الاقتداء بالركعة ، وما في المدارك ـ من المناقشة بضعف السند التي يدفعها الانجبار ، وبأن مقتضاه تقديم الذكر المستحب على القراءة الواجبة التي كالاجتهاد في مقابلة النص ـ في غير محله ، على أن القراءة انما تجب عليه بعد الدخول لا قبله ، فله حينئذ إظهار صورة الائتمام معه في الحال التي لا يسعه القراءة فيها ، فتسقط حينئذ عنه كالائتمام الصحيح الذي نزل هذا الائتمام للتقية منزلته ، وفي‌ خبر أحمد بن عائذ (٢) قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : « إني أدخل مع هؤلاء في صلاة المغرب فيعجلوني إلى ما أن أؤذن وأقيم فلا أقرأ شيئا حتى إذا ركعوا فأركع معهم أفيجزي مني ذلك؟ فقال : نعم » فلا حاجة حينئذ الى ما عن الشهيد الثاني وغيره من أن المراد بفوات الصلاة فوات ما يعتبر في الركعة من القراءة وغيرها.

نعم قد يشكل ما في المتن وغيره الذي هو عين ما عن المبسوط بأنه غير موافق للخبر المزبور الذي هو مستند المقام على الظاهر لا في الفصول ولا في الترتيب ، ويمكن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ١.

(٢) التهذيب ج ٣ ص ٣٧ الرقم ١٣١ من طبعة النجف.

١٤٤

الاعتذار عن الثاني بعدم إرادة الترتيب من الواو في العبارات لا الخبر الذي ظاهره إرادة الاجتزاء بهذا المقدار من الإقامة المعلوم اعتبار الترتيب فيها من الأدلة السابقة ، وعن الأول بإرادة التهليل أيضا من التكبيرتين تغليبا ، أو للتنبيه بذلك على إرادة إلى آخر الإقامة ، لكن الإنصاف أن العبارة المزبورة بعيدة عن ذلك ، بل مقطوع بعدم إرادة ذلك منها ، ولعل لهم دليلا آخر لم نقف عليه ، وربما قيل : إنهم نبهوا بذلك على أهمية التكبير من غيره ، وأنه مع الضيق يقتصر عليه ، وفيه أولا منع ثبوت أهميته هنا ، واستنباطها من زيادة تكراره في الأذان والإقامة كما ترى ، وثانيا أنها لا تقتضي تقديمه على « قد قامت الصلاة » مع الجمع بينهما. وثالثا أن ثبوت مثل هذه الأحكام بمثل هذه التهجسات بل الخرافات لا يجترئ عليه ذو دين ، ضرورة كون مقتضى الخبر المزبور استحباب هذه الصورة من الإقامة والسقوط مع التعذر لا الاقتصار على ما يتمكن منها ، ومن هنا ذكر المصنف والشهيد وغيرهما أنه ينبغي المحافظة على صورة ما في الخبر المزبور ، نعم يمكن القول بإضافة : « حي على خير العمل » اليه مقدما له على « قد قامت » لمعلومية ترك المؤذن له إذا كان مخالفا ، فيشمله حينئذ صحيح ابن سنان الآمر بإتمام ما نقص ، ولما عن المبسوط وجامع الشرائع من أنه قد‌ روي (١) أنه يقول : « حي على خير العمل » دفعتين ، لأن المؤذن لم يقل ذلك ، والأولى قولها حينئذ كما ذكرنا مراعيا فيها الترتيب بين الفصول وإن كان مقتضى هذا المرسل الإطلاق.

وكيف كان فقد ذكر المصنف وغيره أنه إن أخل المؤذن بشي‌ء من فصول الأذان استحب للمأموم التلفظ به وظاهر السياق كونه من تتمة المسألة السابقة وأشكله في المدارك أما أولا فبأنه خلاف مدلول النص ، وهو‌ صحيح ابن سنان (٢)

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ١.

١٤٥

« إذا أذن مؤذن فنقص الأذان وأنت تريد أن تصلي بأذانه فأتم ما نقض هو من أذانه » وأما ثانيا فلما صرح به الأصحاب ودلت عليه الأخبار (١) من عدم الاعتداد بأذان المخالف ، فلا فائدة في إتيان المأموم بما تركه الامام من الفصول ، اللهم إلا أن يقال : إن ذلك مستحب برأسه وإن كان الأذان غير معتد به ، وهو حسن لو ثبت دليله ، واحتمل الشارح قدس‌سره جعل هذه المسألة منفصلة عن الكلام السابق ، وأنها محمولة على غير المخالف كناسي بعض فصول الأذان أو تاركه أو تارك الجهر به تقية ، وهو جيد من حيث المعنى ، لكنه بعيد من حيث اللفظ ، قلت : قد تقدم لنا بعض الكلام في ذلك عند البحث عن اشتراط الايمان في الأذان ، ونقول هنا : إن الاشكال المتصور في المقام إما في الجمع بين النصوص أو في عبارات الأصحاب ، والأول يدفعه أنه لا منافاة بين صحيح ابن سنان المزبور وبين ما دل على اشتراط الايمان في الأذان بعد حمله على إرادة بيان اجتزاء السامع للأذان إذا أتم ما نقصه المؤذن كي يتلفق مجموع الأذان من السماع والقول ، فيكون حينئذ مساقة لبيان ذلك ، وهذا متصور في المؤذن المؤمن إذا نقص عمدا لتقية أو سهوا ، بل فيه وفي المخالف في خصوص أذان الإعلام منه بناء على عدم اشتراط الايمان فيه ، فلا ينافي تلك الأدلة ، وحمله على إرادة ما يشمل المخالف مطلقا ، ويكون عدم الاعتداد بأذانه لأنه ناقص ، فإذا تمم ارتفع المانع قد عرفت ما فيه سابقا ، وأنه مخالف لظاهر أدلة الاشتراط ، وأما بالنسبة إلى عبارات الأصحاب فاعلم انهم في ذكر هذا الحكم على أقسام ثلاثة ، فمنهم من ذكره في سياق استحباب الحكاية ، وقد ذكرنا هناك أنه لا دليل على اختصاص استحباب ذلك للحاكي لكن عليه لا منافاة بينه وبين ما ذكروه من اشتراط الايمان ، ومنهم من ذكره في سياق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الأذان والإقامة والباب ٣٣ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢ و ٨.

١٤٦

هذه المسألة ، ولا بد من حمله على إرادة كونه مستحبا برأسه ، لتصريحهم فيها بعدم الاعتداد بأذان المخالف ، ولعل دليل الاستحباب المزبور ما سمعته من مرسل الشيخ ، ومنهم من ذكرها مستقلة لا في سياق إحدى المسألتين ، والأولى إرادتهم ذلك أيضا ، وعلى كل حال فالأمر سهل بعد تنقيح الأدلة وعدم الاشكال فيها ، هذا.

وقد ترك المصنف التعرض لاستحباب الأذان وحده أو مع الإقامة في غير الصلاة مع أن‌ الصدوق رحمه‌الله أرسل (١) عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : « إذا تولعت بكم الغول فأذنوا » وفي‌ خبر جابر الجعفي المروي (٢) عن محاسن البرقي عن محمد بن علي عليهما‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا تغولت بكم الغيلان فأذنوا بأذان الصلاة » وعن دعائم الإسلام روايته عن علي عليه‌السلام (٣) ورواه في الذكرى عن الجعفريات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) قال : ورواه العامة (٥) وفسره الهروي بأن العرب تقول بأن الغيلان في الفلوات تراءى للناس تتغول تغولا أي تلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم ، وروي في الحديث « لا غول » وفيه إبطال لكلام العرب ، فيمكن أن يكون الأذان لدفع الخيال الذي يحصل في الفلوات وإن لم يكن له حقيقة ، قلت : لكن في الحدائق عن النهاية الأثيرية أن الغول لا تستطيع أن تضل أحدا ، ويشهد له‌ الحديث « لا غول ولكن السعالى سحرة الجن » أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل ، ومنه الحديث « إذا » إلى آخره أي ادفعوا شرها بذكر الله تعالى ، وعلى كل حال فلا إشكال في استحباب الأذان في الحال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٤.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٤.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٢.

(٥) نهاية ابن الأثير مادة « غول ».

١٤٧

المزبور ، واليه أشار العلامة الطباطبائي بقوله :

وسن في تغول الغيلان

بالموحشات الجهر بالأذان

ويستحب الأذان في أذن المولود اليمنى ، والإقامة في اليسرى كما أرسله الصدوق (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « المولود إذا ولد يؤذن في أذنه اليمنى ويقام في اليسرى » وأشار إليه في المنظومة بقوله :

واستفتح المولود بالأذان

يعصم من طوارق الشيطان

أذن بيمناه وباليسرى أقم

كي يقرع الأذنين طيب الكلم

وكذا يستحب في أذن من ساء خلقه لما أرسله الصدوق أيضا (٢) عن الصادق عليه‌السلام « من لم يأكل اللحم أربعين يوما فقد ساء خلقه ، ومن ساء خلقه فأذنوا في أذنه » قيل ومثله رواه في الكافي عن هشام بن سالم (٣) في الصحيح أو الحسن ، وينبغي أن يكون اليمنى ، لخبر أبان الواسطي (٤) عن الصادق عليه‌السلام « ان لكل شي‌ء قوتا وقوت الرجال اللحم ، ومن تركه أربعين يوما فقد ساء خلقه ، ومن ساء خلقه فأذنوا في أذنه اليمنى » وظاهر هذه الأخبار أن المدار على سوء الخلق مطلقا بل في‌ خبر حفص (٥) عن الصادق عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال : « كلوا اللحم فان اللحم من اللحم ، ومن لم يأكل اللحم أربعين يوما ساء خلقه ، ومتى ساء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الأطعمة المباحة ـ الحديث ١ من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الأطعمة المباحة ـ الحديث ٧ رواه في الوسائل عن أبان عن الواسطي وفيه‌ « لكل شي‌ء قرما وان قرم » إلخ.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الأطعمة المباحة ـ الحديث ٨ رواه في الوسائل عن أبى حفص الابار.

١٤٨

خلق أحد من إنسان أو دابة فأذنوا في أذنه الأذان » ولقد أجاد العلامة الطباطبائي في الإشارة إلى ذلك بقوله :

وقرماً لأربعين يوماً

أيقظ به فقد أطال نوما

قد ساء خلقاً حين خف إربه

ومن يسوء خلقاً فهذا أدبه

قيل وكذا يستحب في البيت لخبر سليمان بن جعفر الحميري (١) قال : « سمعته يقول : أذن في بيتك فإنه يطرد الشيطان ، ويستحب من أجل الصبيان » قلت : لكن قد عرفت سابقا أنه يمكن إرادة الأذان الموظف لا أنه أذان مخصوص لذلك ، لأصالة عدم التعدد ، اللهم إلا أن يكون منشأه قاعدة التسامح ، وقاعدة عدم حمل المطلق على المقيد ، والأمر سهل ، وفي الذكرى أن منها الأذان المقدم على الصبح ، قلت : قد عرفت تحقيق البحث فيه بما لا مزيد عليه ، هذا. وقد شاع في زماننا الأذان والإقامة خلف المسافر حتى استعمله علماء العصر فعلا وتقريرا ، إلا أني لم أجد به خبرا ، ولا من ذكره من الأصحاب ، والله أعلم.

( الركن الثاني )

في أفعال مجموعها يسمى بالصلاة ، وهي واجبة لا يجوز تركها ومسنونة يجوز ترك الفرد الذي قد اشتمل عليها إلى الفاقد ، بناء على عدم تصور الندب في أجزاء الواجب كما تسمع تحقيقه في المباحث الآتية إن شاء الله‌ فالواجبات ثمانية أو عشرة بإضافة الترتيب والموالاة إلى الأفعال والأقوال.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الأذان والإقامة ـ الحديث ٢ رواه في الوسائل عن سليمان الجعفري ولعله الصحيح.

١٤٩

( الأول النية )

بناء على أنها جزء كما في الذكرى وعن الموجز ، بل هو ظاهر المتن ، وإن أمكن إرادته من الركن خصوص المبطل عمدا وسهوا كما وقع ذلك ممن قال بشرطيتها ، كما أن المراد بالفعل الأعم من الجزء ، وخصت من بين الشرائط بأمثال هذه التجوزات لمقارنتها للجزء وشدة اتصالها بالفعل حتى صارت كالجزء منه ، إلا أنه لا ريب في كونه خلاف الظاهر ، وإن كان هو الموافق لصدق اسم الصلاة بدونها حتى على القول بالحقيقة الشرعية وإن اسم العبادة لخصوص الصحيح منها ، لأن الظاهر جريان الشارع في كيفية الوضع على حسب باقي الأوضاع ، ولم يعهد في شي‌ء منها أخذ القصد في صدق أسماء الأفعال ، ولأن عنوان الحقيقة الشرعية المتشرعية والذي في أيديهم معاملة نية الصلاة كمعاملة القصد في غيرها ، فيقال : نويت الصلاة وما نواها وهي منوية أو غير منوية ونحو ذلك مما هو كالصريح في خروجها عنها ، وأنها نحو نية الضرب والأكل وغيرهما ، بل قيل : إن‌ قولهم عليهم‌السلام (١) : « لا عمل إلا بنية » ظاهر في أن العمل غير نيته ، خصوصا بعد عدم ثبوت الحقيقة الشرعية في لفظ العمل ، وبعد تعارف هذا التركيب في إرادة نفي الصحة مثلا منه لا الحقيقة ، وإن كان قد يناقش بأن المغايرة حاصلة بين الجزء والكل ، وبأن صدق اسم العمل على الفاقد لا يقتضي صدق اسم الصلاة ونحوها ، وهو محل البحث ، فلا دلالة في صدقه على الفاقد على الخروج عن الصلاة.

كما أنه لا ينبغي الاستدلال عليه بالأصل ، لعدم جريانه في أجزاء الموضوع أو المراد ، وب‌ قوله عليه‌السلام : « أولها التكبير » إذ هو بعد تسليم كون الخبر بلفظ الأول لا التحريم لا ينافي دخولها أيضا باعتبار مقارنتها للتكبير تقارن معية لا سبق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١ و ٢ و ٣.

١٥٠

ولحوق ، على انه يمكن كون المراد أول الأفعال الظاهرة لا ما يشمل القلبي ، وبأنها لو كانت جزءا لافتقرت إلى نية أخرى ويتسلسل ، ليمنع الملازمة أولا والتسلسل ثانيا ، وبأنها تتعلق بالصلاة ، فلو كانت جزءا لتعلق الشي‌ء بنفسه ، إذ تعلقها بباقي أفعال الصلاة لا ينافي كونها جزء منها ، إذ لا يقتضي التعلق إلا مغايرة المتعلق بالكسر للمتعلق بالفتح ، وهي حاصلة ، ودعوى أن الثاني هو مسمى الصلاة رجوع إلى ما استدللنا به أولا أو مصادرة ، كالاستدلال بأن الشرط ما يقف عليه تأثير المؤثر أو صحة الفعل ، وكلاهما صادق على النية.

ومن الغريب اعتماده في الذكرى في دعوى الجزئية على أنها مقارنة للتكبير الذي هو جزء وركن ، فتكون جزءا خصوصا عند من أوجب بسطها عليه أو خطورها من أوله إلى آخره ، وعلى أن قوله تعالى (١) ( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) مشعر باعتبار العبادة حال الإخلاص ، وهو المراد بالنية ، ولا نعني بالجزء إلا ما كان منتظما مع الشي‌ء بحيث يشمل الكل حقيقة واحدة ، وفيه أن اعتبار المقارنة على سائر التقادير لا يقتضي ذلك قطعا ، إذ المراد بالجزء ما توقف صدق اسم الكل عليه بخلاف الشرط ، ونفي الصحيحي اسم الصلاة عن فاقدة الطهارة والستر لفقد الاشتراط الداخل في الموضوع له وإن خرج فعل الوضوء الذي هو مقدمته وشرطه ، بل خرج الأثر الحاصل منه المقدم على الصلاة والمقارن لها ، نعم المقارنة داخلة في ماهيتها لا المقارن بالفتح الذي هو الطهارة التي هي أثر فعل الوضوء ، وبعبارة أخرى الاتصاف داخل والوصف خارج ، وعلى كل حال فالمقارنة المزبورة لا تقتضي الجزئية المذكورة قطعا ، ضرورة أنه لا مانع من كون اسم الصلاة لهذه الأفعال دون ما قارنها.

ودعوى أن الشرط ما تقدم على الماهية كالطهارة والستر ، والجزء ما تلتئم منه‌

__________________

(١) سورة البينة ـ الآية ٤.

١٥١

كالركوع والسجود أو ما اشتمل عليه الماهية من الأمور الوجودية المتلاحقة ، فلا ينتقض بترك الكلام ونحوه مما هو أمر عدمي لا تلاحق فيه ، أو أن الشرط ما يساوق جميع أفعال الصلاة كالطهارة والاستقبال ، بخلاف الجزء كالركوع ونحوه ، والنية ليست متقدمة ولا مساوقة لجميع أفعال الصلاة ، بل هي مما تلتئم منه الماهية ومن الأمور الوجودية المتلاحقة واضحة المصادرة أو المنع أو مما لا يفيد المطلوب ، لأنه اصطلاح ولا مشاحة فيه ، كوضوح عدم دلالة إشعار الآية باعتبار العبادة حال الإخلاص على دخول الإخلاص في العبادة على وجه الجزئية ، بل ربما أشعر بخروج الحال عنها.

وقد ظهر لك من ذلك كله أن القول بكونها شرطا أقوى وفاقا للمعتبر والمدارك والمنظومة والمحكي عن كشف الرموز والمنتهى والروض وغيرها ، بل والجعفرية والمقاصد العلية وإن قال في الأولى : « إن شبهها بالشرط أكثر » والثانية « أنها بالشرط أشبه » واستشكل فيهما في التذكرة كظاهر المحكي عن جماعة من ذكر القولين بلا ترجيح ، وفي جامع المقاصد « ان الذي يختلج في خاطري أن خاصة الشرط والجزء معا قد اجتمعا في النية ، فإن تقدمها على جميع الأفعال حتى التكبير الذي هو أول الصلاة يلحقها بالشروط ولا يقدح في ذلك مقارنتها له أو لشي‌ء منه ، لأنها تتقدمه وتقارنه ، وهكذا يكون الشرط ، واعتبار ما يعتبر في الصلاة فيها بخلاف باقي الشروط إن تحقق ذلك يلحقها بالأجزاء ، وحينئذ فلا تكون على نهج الشروط والأجزاء بل تكون مترددة بين الأمرين وإن كان شبهها بالشروط أكثر » ويقرب منه ما في المسالك.

وفيه أنه لا يعقل التردد بين الجزء والشرط ، نعم قد يكون الشي‌ء جزءا لشي‌ء وهو شرط كالقيام في الصلاة حال القراءة ، لا أن الشي‌ء الواحد متردد بين الجزئية والشرطية ، اللهم إلا أن يكون مراده التردد باعتبار تعارض الامارات والخواص عليه‌

١٥٢

وفيه حينئذ أنه لا تعارض موجب لذلك كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكرنا ، خصوصا ما ذكره أخيرا مما يقتضي الجزئية من اعتبار ما يعتبر في الصلاة فيها ، إذ هو واضح المنع على تقدير عدم الجزئية ، ضرورة ظهور ما دل على اعتبارها في الصلاة ، فمع فرض خروجها عنها تحتاج إلى دليل بالخصوص ، وليس قطعا ، بل لم أعرف أحدا اعتبرها فيها وإن كانت شرطا.

نعم في الذكرى ـ بعد أن ذكر أن هذه المسألة لا جدوى لها إلا فيما ندر ، كالنذر لمن يصلي في وقت كذا أو ابتداء الصلاة في وقت كذا ، فان جعلناها جزءا استحق وبر ، وإلا فلا ثمرة لها في الغالب ، للاتفاق على بطلان الصلاة بفواتها ولو نسيانا سواء جعلناها شرطا أو جزء ـ قال : « وأما ما يتخيل من أن القول بالشرطية يستلزم جواز إيقاعها قاعدا وغير مستقبل ، بل وغير متطهر ولا مستور العورة فليس بسديد ، إذ المقارنة المعتبرة للجزء تنفي هذه الاحتمالات ولو جعلناها شرطا » وهو كالصريح في أن اعتبار ذلك على تقدير الشرطية لما يقارنها لا لها وإن كان قد يناقش فيه بأنه مع فرض سبقها على التكبير وأنها عبارة عن تصور ما ستعرفه مما يحتاج إلى امتداد زمان يتصور حينئذ الثمرة المزبورة ، نعم بناء على كون المعتبر مقارنة المعية يتجه ما ذكره ، لكن قد سمعت التصريح منه ومن غيره بأن مقارنتها على وجهين سبق ومعية ، وفي جامع المقاصد عن بعض المتأخرين أن فائدة القولين تظهر فيمن سها عن فعل النية بعد التكبير ففعلها ثم تذكر فعلها سابقه بطلت على الثاني خاصة لزيادة الركن ، قال : « وظني أن هذا ليس بشي‌ء ، لأن استحضار النية في مجموع الصلاة هو المعتبر لولا المشقة ، ولأن الاكتفاء بالاستدامة إرفاقا بالمكلف ، فلا يكون استحضارها في أثناء الصلاة عمدا وسهوا منافيا بوجه من الوجوه ، فان قيل : إن القصد إلى استينافها يقتضي بطلان الأولى قلنا هذا لا يختص بكونها ركنا » قلت : قد يفرق بينهما في الفرض ، بل قد يفرق بينهما في صورة‌

١٥٣

العمد أيضا لا بقصد الاستيناف ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فـ ( ـهي ركن في الصلاة ) إجماعا منا محصلا ومنقولا مستفيضا أو متواترا ، بل من العلماء كافة في المحكي عن المنتهى والتذكرة ، بل عن التنقيح « لم يقل أحد بأنها ليست بركن » ولكن بمعنى أنه « لو أخل بها عامدا أو ناسيا لم تنعقد صلاته » فلا ينافي الخلاف حينئذ في الجزئية والشرطية ، كما أنه لا تعرض فيه لزيادتها إما لعدم تصورها أو عدم ثبوت قدحها ، لأن الثابت من الإجماع ما عرفت ، كما أنه هو مقتضى‌ قولهم عليهم‌السلام : « لا عمل إلا بنية » ونحوه.

وأما حقيقتها فعند المصنف استحضار صفة الصلاة في الذهن والقصد بها إلى أمور أربعة : الوجوب أو الندب والقربة والتعيين وكونها أداء أو قضاء وفيه من القصور والاجمال والفساد ما لا يخفى ، إذ قد عرفت في بحث الوضوء من كتاب الطهارة أنه لا حقيقة شرعية للنية ، للأصل ، ولأن عنوانها الحقيقة المتشرعية ، وهو مفقود ، ضرورة كون المراد بالمتشرعة المتدينين بدين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن المعلوم عدم كون النية عندهم كلفظ الصلاة والزكاة والحج ، وشيوع التعبير في لسان العلماء منهم بأن النية معتبرة في العبادة دون المعاملة لا يقضي بالحقيقة المتشرعية فضلا عن الشرعية ، لأعمية الاستعمال منها ، ووضوح القرينة على إرادة نية القربة والإخلاص فمن الغريب دعوى بعض فحول متأخري المتأخرين ذلك فيها مستشهدا له بما سمعت ، وبما وقع من المصنف وبعض من تأخر عنه في تعريفها وكيفيتها ، مع أن القدماء من الأصحاب تركوا التعرض لها واكتفوا بذكر اعتبار الإخلاص في العبادة عنها ، وكذلك النصوص البيانية للصلاة (١) والوضوء (٢) وغيرهما من العبادات ، وما هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء من كتاب الطهارة.

١٥٤

إلا لأن النية فيها كالنية في غيرها من أفعال العقلاء ، وقولهم عليهم‌السلام (١) : « إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى » إن لم يكن فيه دلالة على ما قلناه من صدق النية على القصد الخالي عن الإخلاص فلا دلالة فيه على خلافه كما هو واضح.

نعم يعتبر الإخلاص في العبادة الذي هو عبارة عن وقوع الفعل بقصد الامتثال للسيد المنعم باعتبار ما قام في النفس ودعاها إلى الفعل من الألطاف ورجاء الثواب ودفع العقاب ، وهو أمر آخر خارج عن النية التي هي بمعنى القصد للفعل الذي لو كلف الله بالفعل بدونه لكان كالتكليف بما لا يطاق ، ضرورة خروج صدور الفعل مع الغفلة عن القدرة ، ولذا قبح تكليف الغافل ونحوه ، أما هو ففي غاية الصعوبة في بعض العبادات ، لاحتياجه إلى الرياضة التامة القالعة للقوى النفسانية وآثارها من حيث الشهرة والرئاسة وغيرهما من الآفات المهلكة والأمراض القاتلة ، نسأل الله العافية منها ، وإلا فوجوب القصد المزبور الذي يخرج به الفعل عن كونه فعل غافل ضروري في المعاملة ، فضلا عن العبادة التي من مقوماتها تعلق الأمر بها ، والاجتزاء ببعض الأفعال من الغافلين ـ كحفر القبر ونقل الميت ونحوهما للدليل الخاص الظاهر في أن المراد وجودها في الخارج كيفما كان وإن لم يعد مثله امتثالا وطاعة ـ غير قادح في قاعدة اعتبار القصد في كل فعل تعلق به حكم شرعي بناء على ثبوتها وإن كان إقعادها في سائر الأفعال التي منها حيازة المباحات وتفرق المجلس في الصرف لا يخلو من نظر ، أما العبادات فلا إشكال في اعتبار القصد فيها ، لعدم صدق الامتثال والطاعة بدونه ، واعتبارهما في كل أمر صدر من الشارع معلوم بالعقل والنقل كتابا وسنة بل ضرورة من الدين ، بل لا يصدقان إلا بالإتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر فضلا عن مطلق القصد ، ضرورة عدم تشخص الأفعال بالنسبة إلى ذلك عرفا إلا بالنية ، فالخالي منها عن قصد الامتثال والطاعة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١٠.

١٥٥

لا ينصرف إلى ما تعلق به الأمر ، إذ الأمر والعبثية فضلا عن غيرها على حد سواء بالنسبة اليه ، ومن هنا إذا كان الأمر متعددا توقف صدق الامتثال على قصد التعيين ، لعدم انصراف الفعل بدونه إلى أحدهما ، واحتمال الاجتزاء بالإتيان بالفعل بقصد امتثال كلي الأمر فيكون كالأمر المتحد بمأمور به متعدد يدفعه أن العقل والنقل قد تطابقا على وجوب امتثال كل أمر أمر للشارع بخصوصه ، ولا ريب في عدم صدق امتثال خصوص كل منهما في الفرض ، لما عرفت من عدم انصراف الفعل بدون النية ، ولذا لم يحكم به لأحدهما بالخصوص فيما لو أوقع الفعل مرة واحدة لا ظاهرا ولا واقعا ، نعم لو فهم من الأدلة عدم إرادة الخصوصية من التعدد ، وأنه كالأمر المتحد بتكرار الفعل لم يحتج في الامتثال حينئذ إلى أزيد من قصد الفعل بعنوان الامتثال.

فاتضح من ذلك كله أن المدار على صدق الامتثال من غير فرق بين تعدد الأمر واتحاده سوى أنه يتوقف في الأول على تعيين الأمر بخلاف الثاني الذي اتحاده مع قصد امتثاله يكفي في تعيينه ، نعم قيل : الظاهر عدم كفاية الاتحاد واقعا فيه مع التعدد بزعم المكلف جهلا أو نسيانا أو عصيانا ، لعدم صدق الامتثال عرفا لو أوقعه مرددا أو بعنوان ما زعمه من الأمر ، وتسمعه تحقيق الحال فيه إن شاء الله عن قريب.

وعلى كل حال فلا إشكال في اعتبار قصد الامتثال والتعيين على الوجه الذي ذكرناه ، والظاهر أن الأول هو مراد الأصحاب بنية القربة التي لا خلاف معتد به في وجوبها ، ولذا حكي الإجماع عليها في صريح المدارك والمحكي عن الإيضاح وظاهر التذكرة والمنتهى ، بل اعتمادا على ضروريته ترك ذكرها في الخلاف والمبسوط كما قيل ، فما عن ابن الجنيد من الاستحباب ـ مع أنه غير ثابت ـ غير معتد به ، لكثرة موافقته للعامة كما أن ما في انتصار المرتضى ـ من صحة الصلاة المقصود بها الرياء وإن لم يكن عليها ثواب ـ يمكن أن لا يكون خلافا في ذلك ، وإن مراده عدم قدح ضم الرياء إليها في‌

١٥٦

الصحة الموجبة للإعادة ضما لا ينافي نية التقرب معه وإن كان ما تسمعه مما ذكر دليلا له ينافي ذلك ، بل مطلق الإخلاص واجب في نفسه شرط لحصول الثواب لا للصحة ، إذ الشرطية حكم آخر محتاج إلى دليل غير اعتبار الإخلاص في نفسه ، على أنه إن أراد غير ما ذكرنا من صحة الصلاة بقصد الرياء مع الخلو عن قصد الامتثال كان خلافه غير معتد به أيضا ، لما عرفت من توقف الصدق عليه ، وتوقف الصحة على الصدق المزبور والمقدمتان معلومتان ، فالنتيجة كذلك.

أما القربة بمعنى القرب الروحاني الذي هو شبيه بالقرب المكاني فهو من غايات قصد الامتثال المزبور ودواعيه ، ولا يجب نية ذلك وقصده قطعا ، للأصل وإطلاق الأدلة ، ودعوى الإجماع عليه ممنوعة ، سيما بعد تفسير جملة منهم القربة بما ذكرنا ، فما يظهر من بعض العبارات من وجوبه بالخصوص كعبارة الغنية وغيرها واضح الفساد ، بل إن نواه مع عدم قصد الامتثال يقوى البطلان كما ذكرنا ذلك مفصلا ، ولعل ذلك هو المراد بالداعي في قولهم : إن النية هو الداعي مقابل القول بالإخطار ، لا أن المراد به ما هو المنساق إلى الذهن من العلة الغائية ، وإن كان قد يجزي خطور الداعي بهذا المعنى عن النية لا لأنه من الأمور المترتبة عليه ، فيكون قصده قصده ، ضرورة عدم استلزام نية المترتب على شي‌ء نية ذلك الشي‌ء ، وإلا لاكتفي بقصد رفع الحدث في الوضوء مثلا عن نية قصد الامتثال ، بل غير ذلك من الأمور التي رتبها الشارع على صحة عبادة ، بل كان يجتزى في المعاملات بقصد آثارها المترتبة عليها عن قصدها ، وهو معلوم البطلان ولا لأنه من اللوازم ، ضرورة لزوم قصد الامتثال حصوله لا قصده لقصد الامتثال ، فان الجاهل مثلا قد يتخيل ترتب الآثار على الأفعال من دون قصد الامتثال ، وأنها من قبيل الأسباب والمسببات التي ليست بعبادة ، بل لأن الغالب ممن كان الداعي في نفسه الذي هو العلة الغائية وكان عالما عاقلا غير غافل ولا عاص أن يكون قاصدا‌

١٥٧

لذي الغاية ، إلا أن ذلك لما كان ليس من الأمور المنضبطة لعامة المكلفين ـ وقد عرفت عدم اللزوم العقلي فيه ، وشدة الاحتياط في العبادة ، مضافا إلى أن الغالب حصول الداعي في أنفس المكلفين لكلي العبادة ، فلا يكفي عن خصوص العبادة ـ لم يطلق الأصحاب الاجتزاء به ، بل أناطوا الحكم بحصول قصد الامتثال بالعبادة المخصوصة حال إرادة فعلها ، سواء حصل بملاحظته أو بغيره بأن استحضر ذلك حالها.

فمن الغريب تبجح بعض متأخري المتأخرين في المقام بذلك حتى أنه أساء الأدب ، وظن أنه قد جاء بما فيه العجب ، وأنه قد تنبه لما قد غفلوا عنه ، وكل ذلك ناش من بعض الملكات الردية المفسدة للعمل بفساد النية ، نسأل الله العافية عنها ، نعم ستسمع ما في القول بالإخطار وعدم الاجتزاء بالداعي بالمعنى الذي ذكرناه ، وأنهم مطالبون بدليله.

وأما الثاني أي التعيين فقد عرفت ما يدل عليه ، مضافا إلى عدم معروفية الخلاف فيه ، بل نفاه عنه في المحكي عن المنتهى ، بل في التذكرة والمدارك الإجماع عليه ، لكن عن الكفاية أنه المشهور وأنه قريب ، وفيه إشعار بوجود المخالف بل بالتأمل فيه ، إلا أنه لم نتحققه ، كما أنا لم نجد وجها للتأمل فيه بعد ما عرفت ، بل لعل لذلك أوجب الأصحاب من غير خلاف معتد به يعرف بينهم التعرض للأسباب في ذواتها من النوافل ، ضرورة اشتراكها بينها وبين غيرها مما ليست بذات سبب ، مضافا إلى اشتراكها بينها ونحوها الموقتة لا بد من تعيينها بالإضافة إلى الوقت ونحوه ، ضرورة عدم اقتضاء التوقيت نفي مشروعية غيرها كي يكتفي بقصد وقوع الصلاة فيه عن ذلك ، بل أقصاه عدم صحتها في غيره ، وهو لا ينفي الاشتراك المحتاج إلى التعيين ، فما عن التذكرة ـ من أن غير المقيدة يعني بسبب وإن تقيدت بوقت كصلاة الليل وسائر النوافل يكفي نية الفعل عن القيد ، ونحوه ما تسمعه في كشف اللثام ـ في غير محله ، بل وكذا‌

١٥٨

استشكاله في المحكي من نهايته إن أراد به ما يشمل ذلك ، قال : « أما النوافل فأما مطلقة يعني من السبب والوقت ، ويكفي فيها نية فعل الصلاة لأنها أدنى درجات الصلاة فإذا قصد الصلاة وجب أن تحصل له ، ولا بد من التعرض للنفلية على إشكال ينشأ من الأصالة والشركة ، ولا يشترط التعرض لخاصتها ، وهي الإطلاق والانفكاك عن الأسباب والأوقات ، وإما معلقة بوقت أو سبب ، والأقرب اشتراط نية الصلاة والتعيين والنفل فينوي صلاة الاستسقاء والعيد المندوب وصلاة الليل وراتبة الظهر على إشكال » وقد يكون إشكاله راجعا إلى نية النفل الذي مرجعه إلى نية الوجه ، فيكون في محله ، بل ستعرف أن الأقوى عدم وجوبها ، ولعله لذا قد استوجه العدم كاشف اللثام في إشكاله الأول ، ضرورة كون الحال كما استوجهه من حيث نية الوجه لا من حيث نية التعيين مع فرض الاحتياج اليه له ، كما لو كان عليه غير النفل ، فان دعوى الاجتزاء حينئذ بنية الصلاة أيضا لأصالة النفل كما ترى.

نعم يمكن الاعتماد على نحو هذا الأصل في عدم وجوب التعرض للإطلاق في المطلقة ، إذ الظاهر عدم كون الإطلاق قيدا لها كي يتعرض له كباقي الأسباب ، وإلا فلا تشرع ، بل يكفي في مشروعيتها وتحقق كونها مطلقة عدم التعرض للسبب ، نعم قال في كشف اللثام : لكن إذا أراد فعل ما له كيفية مخصوصة كصلاة الحبوة وصلوات الأئمة عليهم‌السلام عينها ، مع أنه يمكن أن لا يكون ذلك مما نحن فيه من التعيين لتمييز المشترك ، بل هو من تصور العمل في نفسه حتى يكون منويا له مقصودا ، بل لو قلنا بأن هذه الهيئات المخصوصة من كيفيات النافلة المطلقة أمكن حينئذ عدم وجوب التعرض لنيتها ، وكان يجزي فعلها في أثناء ما قصد به مطلق النافلة ، ضرورة كون الكيفية المخصوصة أحد أفراد المخير ، فلا يحتاج إلى نية ، بل يجزي عنه نية الكلي ، فتأمل جيدا ، فلا يتم حينئذ استثناؤه المزبور ، كما أن قوله ـ بعد ذلك : « الأقرب‌

١٥٩

عندي اشتراط التعيين بالسبب في بعض ذوات الأسباب كصلاة الطواف والزيارة والشكر ، دون بعض كالحاجة والاستخارة ، ودون ذوات الأوقات إلا أن يكون لها هيئات مخصوصة كصلاة العيد والغدير والمبعث ، فيضيفها إليها لتتعين ، ولا يشترط التعرض للنفل إلا إذا أضافها إلى الوقت وللوقت فرض ونفل فلا بد إما من التعرض له أو العدد ليتميز ، فينوي الحاضر في الظهر مثلا أصلي ركعتين قربة إلى الله تعالى ، وفي الفجر أصلي نافلة الفجر » ـ غير تام أيضا ، ضرورة عدم الفرق في الأسباب كما عرفت ، ودعوى الاكتفاء في صلاة الحاجة والاستخارة بطلبهما في أثناء النافلة المطلقة يدفعها أن ذلك إخراج لهما عن السببية في الحقيقة ، وهو خلاف ظاهر الأدلة ، إذ من الواضح استفادة التنويع منها ، وان صلاة الحاجة والاستخارة نوع مستقل عن النفل المطلق كما هو واضح بأدنى تأمل ، كوضوح احتياج التعيين لذوات الأوقات من غير فرق بين أن يكون لها هيئات مخصوصة أو لا ، وبين إضافتها للوقت وكان له فرض ونفل أو لا ، لما عرفته سابقا ، وبالجملة لا إشكال في وجوب نية التعيين.

نعم قد يشتبه بعض أفراده كنية الوجه الذي هو الوجوب أو الندب عند كثير من أساطين الأصحاب على ما حكي عن البعض ، كالشيخ وبني زهرة وإدريس وفهد وسعيد والفاضل والشهيدين والعليين وغيرهم ممن تقدم ذكره في الوضوء ، إذ القول به هنا أولى منه ، ولذا قال به من لم يقل به هناك ، بل قيل : إنه المشهور ، بل قد يظهر من التذكرة الإجماع عليه ، بل عن الكتب الكلامية أن مذهب العدلية اشتراط استحقاق الثواب على واجب أن يوقعه لوجوبه أو وجه وجوبه ، وظاهرهم الإجماع أو صريحهم ، وقد عرفت في الوضوء المراد بوجه الوجوب ، بل ربما استظهر منهم وجوب نية الوجه وصفا وغاية ، كما عن الروض أنه المشهور وإن كنا لم نتحققه ، وقد صرح بعضهم باعتبار‌

١٦٠