جواهر الكلام - ج ٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

يدعى ظهوره في إرادة نفيه من حيث المحاذاة والتقدم لا من حيث المواجهة ، فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فتفصيل الحال في السترة أنه لا خلاف عندنا فيما أجد في عدم وجوب السترة ، بل عن المنتهى لا خلاف فيه بين علماء الإسلام ، كما في التذكرة والذكرى وعن التحرير والبيان الإجماع عليه ، وقال الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير (١) : « لا يقطع الصلاة شي‌ء لا كلب ولا حمار ولا امرأة ولكن استتروا بشي‌ء ، وإن كان بين يديك قدر ذراع رافع من الأرض فقد استترت ، والفضل في هذا أن تستتر بشي‌ء ، وتضع بين يديك ما تتقي به من المار ، فان لم تفعل فليس به بأس ، لأن الذي يصلي له المصلي أقرب إليه ممن يمر بين يديه ، ولكن ذلك أدب الصلاة وتوقيرها ».

نعم هي مستحبة بلا خلاف ، بل عليه الإجماع منقولا في جملة من كتب الأساطين إن لم يكن محصلا ، بل في التذكرة يستحب أن يصلى إلى سترة ، فان كان في مسجد أو بيت صلى إلى حائط أو سارية ، فإن صلى إلى فضاء أو طريق صلى إلى شي‌ء شاخص بين يديه ، أو نصب بين يديه عصا أو عنزة أو رحلا أو بعيرا معقولا بلا خلاف بين العلماء في ذلك ، وقال الصادق عليه‌السلام في خبر معاوية بن وهب (٢) : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجعل العنزة بين يديه إذا صلى » وقال (ع) أيضا في خبر أبي بصير (٣) : « كان طول رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذراعا ، فإذا كان صلى وضعه بين يديه يستتر به ممن يمر بين يديه » وقال عليه‌السلام أيضا في خبر غياث (٤) : « إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع قلنسوة وصلى إليها » وقال (ع) أيضا عن أبيه عليه‌السلام في خبر إسماعيل بن مسلم (٥) : « كانت لرسول الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٧.

٤٠١

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنزة في أسفلها عكازة يتوكأ عليها ويخرجها في العيدين يصلى إليها » وقد سمعت خبري السكوني (١) ومحمد بن إسماعيل (٢) في عبارة كشف اللثام السابقة ، وسأل علي بن جعفر (٣) أخاه موسى عليه‌السلام « عن الرجل يصلي وأمامه حمار واقف قال : يضع بينه وبينه قصبة أو عودا أو شيئا يقيمه ثم يصلي فلا بأس » وزاد فيما رواه‌ الحميري (٤) عنه كالمروي عن كتابه ، قلت : « فان لم يفعل وصلى أيعيد صلاته أم ما عليه؟ قال : لا يعيد صلاته وليس عليه شي‌ء » وفيه إيماء إلى مرجوحية ذلك مع عدم السترة ، وأن الغرض من وضعها رفع المرجوحية المزبورة بها ، بل قد يظهر من بعض النصوص (٥) معلومية ذلك في الزمن السابق ، بل كانوا يتوهمون خصوصا العامة منهم انقطاع الصلاة بالمرور بين يدي المصلي ، ولذا أكثروا عليهم‌السلام في بيان فساد الوهم المزبور ، وأن ذلك ليس من الأمور الواجبة ، بل هو من آداب الصلاة وتوقيرها ، وإلا فالله عز وجل أقرب إلى المصلي من كل ما يمر بين يديه ، فالصلاة له حينئذ لا للمار ، كما أوضح ذلك في خبر أبي بصير السابق وغيره مما سمعت ، وفي‌ خبر ابن أبي عمير (٦) المروي عن كتاب التوحيد « رأى سفيان الثوري أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام وهو غلام يصلي والناس يمرون بين يديه فقال له : إن الناس يمرون بين يديك وهم في الطواف ، فقال له : الذي أصلي له أقرب من هؤلاء » وفي‌ المرفوع إلى محمد بن مسلم (٧) انه « دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له : رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه فلا ينهاهم وفيه ما فيه ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ادعوا لي موسى عليه‌السلام فدعى ، فقال : يا بني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٣.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ١١.

٤٠٢

إن أبا حنيفة يذكر أنك صليت والناس يمرون بين يديك فلم تنههم ، فقال : نعم يا أبة ، إن الذي كنت أصلي له أقرب إلى منهم ، يقول الله عز وجل (١) ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فضمه أبو عبد الله عليه‌السلام إلى نفسه ، ثم قال : يا بني بأبي أنت وأمي يا مستودع الأسرار » وفي‌ خبر سيف (٢) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهما‌السلام قال : « كان الحسين بن علي عليهما‌السلام يصلي فمر بين يديه رجل فنهاه بعض جلسائه ، فلما انصرف قال له : لم نهيت الرجل؟ فقال : يا ابن رسول الله حضر فيما بينك وبين المحراب ، فقال : ويحك ان الله عز وجل أقرب من أن يحضر فيما بيني وبينه أحد » وفي‌ خبر سفيان بن خالد (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « انه كان يصلي ذات يوم إذ مر رجل قدامه وابنه موسى (ع) جالس ، فلما انصرف قال له ابنه : يا أبة ما رأيت الرجل مر قدامك؟ فقال له : يا بني ان الذي أصلي له أقرب إلى من الذي مر قدامي » وفي‌ خبر أبي سليمان (٤) مولى أبي الحسن العسكري عليه‌السلام « سأله بعض مواليه وأنا حاضر عن الصلاة يقطعها شي‌ء مما يمر بين يدي المصلي فقال : لا ليست الصلاة هكذا تذهب بحيال صاحبها ، إنما تذهب مساوية لوجه صاحبها » إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة فيما ذكرنا ، بل يكفي فيه ما سمعته في خبر أبي بصير السابق من أن السترة أدب الصلاة وتوقيرها الظاهر في أن عدمها مناف لذلك.

بل يستفاد من نصوص غير المقام النهي عن عدم توقيرها ، بل لا تخلو النصوص‌

__________________

(١) سورة ق ـ الآية ١٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٤ وفي الوسائل « خطر » و « يخطر » بدل « حضر » و « يحضر ».

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٥.

٤٠٣

المتضمنة للأمر بالادراء من إشعار بذلك أيضا ، ففي‌ صحيح الحلبي (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل أيقطع صلاته شي‌ء مما يمر بين يديه؟ فقال : لا يقطع صلاة المسلم شي‌ء ، ولكن ادرأ ما استطعت » وفي‌ خبر ابن أبي يعفور (٢) سأله أيضا « عن الرجل هل يقطع صلاته شي‌ء مما يمر بين يديه؟ فقال : لا يقطع صلاة المؤمن شي‌ء ، ولكن ادرؤا ما استطعتم » وفي‌ خبر الحسين بن علوان (٣) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « ان عليا عليه‌السلام سئل عن الرجل يصلي فيمر بين يديه الرجل والمرأة والكلب والحمار فقال : إن الصلاة لا يقطعها شي‌ء ، ولكن ادرؤا ما استطعتم ، هي أعم من ذلك » وقد فهم الشهيد في الذكرى وغيره من هذه النصوص استحباب الدفع للمصلي مضافا إلى استحباب السترة ، نعم قال بعد ذلك : « هل كراهة المرور وجواز الدفع مختص بمن استتر أو مطلق؟ نظر ، من حيث تقصيره وتضييعه حق نفسه ، وفي كثير من الأخبار التقييد بما إذا كان له سترة ثم لا يضره ما مر بين يديه ، ومن إطلاق باقي الأخبار ، ويمكن أن يقال بحمل المطلق على المقيد » بل قال أيضا : « لو احتاج في الدفع إلى القتال لم يجز ، ورواية أبي سعيد الخدري (٤) وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « فان أبى فليقاتله فإنما هو شيطان » للتغليظ أيضا ، أو يحمل على دفاع مغلظ لا يؤدي إلى حرج (٥) أو ضرر ».

قلت : يمكن أن يقال : إن المراد بالادراء الكناية عن التستر الذي هو المدافعة بالتي هي أحسن ، ضرورة ظهور النصوص بل صراحتها كما اعترف هو في أنه مع السترة لا يضره ، بعد مرور المار ، لكونه مستورا ولو شرعا كالتستر بالعنزة ونحوها ، واليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١٢.

(٤) صحيح البخاري ج ١ ص ١٠٤.

(٥) وفي النسخة الأصلية « جرح » بدل « حرج ».

٤٠٤

أومأ‌ الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير (١) السابق بقوله : « انه إن كان بين يديك قدر ذراع رافع من الأرض فقد استترت » ونحوه غيره ، فحينئذ لا يحتاج إلى الدفاع حتى لو مر فيما بينه وبين السترة فضلا عما لو مر من خلفها ، لأن ذلك المرور منه كعدمه بعد السترة ، أو لأنه إنما يقدح المرور المتعارف ، والفرض أنه قد توقي عنه ، وغيره لم يثبت الأمر بالتحرز عنه ، لإطلاق الأدلة الظاهر في الاجزاء ، ولعل الإنكار في النصوص السابقة على من نهي عن المرور إنما كان لوجود السترة منهم عليهم‌السلام بل قد يؤيد ذلك أن مرور المار إنما هو في أرض مباحة ونحوها مما يجوز له المرور فيه ، فلا يستحق الدفع والرمي بالحجر ونحوهما من أنواع الأذى المشهورة بين العامة العمياء حتى أنه يحصل منهم بذلك بعض الأحوال المشابهة لأحوال الكلاب والخنازير عند مزاحمتها ، بل ربما توصلوا إلى جواز المقاتلة معه لخبر أبي سعيد الخدري المتقدم الذي قد روي نحوه عن‌ دعائم الإسلام (٢) عن علي عليه‌السلام انه « سئل عن المرور بين يدي المصلي فقال : لا يقطع الصلاة شي‌ء ولا تدع من يمر بين يديك ولو قاتلته » وحمله في الحدائق على ما سمعته من الذكرى من التغليظ والمبالغة في الدفع ، ولعل ما نراه الآن من بعض السواد من الشيعة مأخوذ من أحوال العامة المزبورة ، ولا يخفى على الخبير بلسان الشرع العارف بأحكامه وسهولته وإرادته اليسر ويشرع أحكامه على ما يستحسن عند سائر العقول أن ذلك كله مما هو مناف لمذاق الشريعة.

فلا يبعد والله أعلم حمل نصوص الدرء على إرادة التستر لا المدافعة المزبورة التي ربما كانت محرمة على المصلي ، كما أن المرور ربما كان واجبا على المار أو مستحبا أو مباحا ، بل لا أجد في شي‌ء من نصوصنا كراهة المرور للمار بين يدي المصلي حتى خبر الدعائم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١٠.

(٢) البحار ج ١٨ ـ ص ١١٦ من طبعة الكمباني.

٤٠٥

المتضمن للنهي للمصلي ، بل ربما كان في سكوتهم عليهم‌السلام وعدم إنكارهم على المارين إيماء إلى عدم ذلك ، مضافا إلى الأصل وغيره ، لكن في الذكرى الجزم بكراهة المرور مع السترة وعدمها ، قال : لما فيه من شغل قلبه وتعريضه الدفع ، وحرمه بعض العامة لما‌ صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية أبي جهم الأنصاري (١) « لو يعلم المار بين يدي المصلي ما ذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه » وشك أحد الرواة بين اليوم أو الشهر أو السنة ، وهو محمول على التغليظ ، لأنه صح في‌ خبر ابن عباس (٢) أنه مر بين يدي الصف راكبا ولم ينكر عليه ذلك ، فان قلت في الرواية « وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام » فترك الإنكار لعدم البلوغ ، قلت : الصبي ينكر عليه المحرمات والمكروهات على سبيل التأديب.

قلت : لا يخفى عليك ما في الركون إلى هذه التعليلات وأمثال هذه الروايات في إثبات الأحكام الشرعية ولو على التسامح ، ضرورة كون مثله تسامحا في التسامح ، نعم قد يحتج للكراهة بنصوص الدرء وخبر الدعائم بدعوى أنها المناسبة لأمر المصلي بأن يدرأ ما استطاع ، ولنهيه عن دعة المار ، إذ من المستبعد إباحة المرور أو ندبه مع أمر المصلي بالدفع وأن لا يدعه ، وإن كان لا مانع منه عقلا ، لكن قد عرفت أن المراد بنصوص الدرء الكناية عن التستر ، كما أن الظاهر عامية خبر الدعائم ، فحينئذ يشكل الجزم بالكراهة للمار ، خصوصا إذا لم يضع المصلي سترة باعتبار أنه قد يقال هو ضيع حق صلاته ولم يجعل ما أعده الشارع رافعا لتأثير المرور فيها ، كما قال في الذكرى : إنه لو كان في الصف الأول وفرجة جاز التخطي بين الصف الثاني لتقصيرهم بإهمالها ، وإن كان لا يخلو من نظر ، بل وإن وضع سترة ، فإنه قد يقال حينئذ إنه بحكم المتستر ، فلا يكره المرور بين يديه ، بل قد يؤيد عدم الكراهة مطلق ظهور النصوص في أن السترة ترفع‌

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ ص ١٠٤.

(٢) صحيح البخاري ج ١ ص ١٠١.

٤٠٦

تأثير مرور كل حيوان بين يدي المصلي لا خصوص الإنسان منه ، فليس هو إلا كباقي الحيوانات التي من المعلوم عدم تعلق الكراهة بها ، فلا ينبغي الانتقال من الأمر بالدرء في النصوص إلى كراهة المرور.

كما أنه لا ينبغي تخصيص ثمرة السترة بمرور الإنسان خاصة ، مع أن في‌ صحيح الحلبي (١) المتقدم « مما يمر بين يديه » كخبر ابن أبي يعفور (٢) أيضا ، نعم في حاشية ما حضرني من الوسائل عن نسخة « ممن » وفي‌ خبر ابن علوان (٣) « الرجل والمرأة والكلب والحمار » وفي خبر علي بن جعفر (٤) السابق التصريح بوضع السترة بينه وبين الحمار.

بل الظاهر عدم اختصاص ثمرتها بالمرور خاصة ، بل له وللحضور بين يديه الذي هو أولى من المرور ، بل في خبر معاوية بن عمار (٥) الآتي إيماء اليه وإن كان ظاهره اغتفار ذلك في خصوص مكة ، بل لا يبعد كون ثمرة السترة التوقي عن المرور من جهته ، ولعله إليه أومأ العلامة الطباطبائي بقوله :

ويستحب الدرء والتستر

عمن يمر أو لديه يحضر

نعم يمكن اختصاص ذلك بمواجهته أو كمواجهته لا ما يشمل الخلف ونحوه ، لما يومي اليه الاكتفاء في السترة بالبعير المعقول ، كما أرسله في‌ الذكرى (٦) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « انه كان يعرض له البعير فيصلي إليه » بل هو من معقد نفي الخلاف بين العلماء الذي سمعته من التذكرة ، بل هو من معقد الإجماع في المحكي عن نهاية الأحكام ، ولما ذكره في الذكرى أيضا من أن ظهر كل واحد من المأمومين سترة لصاحبه ، إذ لو فرض الاحتياج إلى السترة عن الحيوان كيف كان لم يكتف بالبعير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ١٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٧.

(٦) صحيح مسلم ج ٢ ص ٥٥.

٤٠٧

أو الظاهر فيها ، بل عن جماعة لتصريح بجواز الاستتار بالحيوان والإنسان المستدبر ، وإن كان قد يناقش في ذلك بأن المرسل الأول غير ثابت من طرقنا ، ولعله عامي ، وبأنه لا دليل على كفاية الظهر ، بل لا دليل على ما ذكره فيها أيضا تبعا للتذكرة من أن سترة الإمام سترة لمن خلفه معللين له بعد دعوى الفاضل منهما الإجماع عليه بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأمر المأمومين بذلك ، وفيه أنه لعله اكتفى بالإطلاقات أو بفعله أو نحو ذلك مما يقتضي التعميم ، فارتباط صلاتهم بصلاته حتى أنه ربما أجرى عليهما حكم الواحدة في بعض الأحوال لا يقتضي ذلك بحيث يخرج به عن إطلاقات السترة ، لكن قد يدفع الأولى بعد الإجماع المحكي المعتضدة بنفي الخلاف بأنه لا حاجة إلى المرسل ، بل يكتفي فيه إطلاقات السترة ، بل لعله أولى من كومة التراب والخط والعنزة ونحوها ، وحينئذ فيتجه الاكتفاء بالبعير والظهر ونحوهما ، بل يكتفى بالإمام سترة لمن كان خلفه أيضا لذلك ، أما من كان على اليمين أو الشمال من الصف الأول فالاكتفاء به أو بسترته له إن لم يثبت الإجماع السابق لا يخلو من إشكال ، خصوصا على ما هو الظاهر من النصوص والفتاوى من كون وضع السترة بين يدي المصلي لا عن يمينه ولا عن شماله ، خلافا للمحكي عن ابن الجنيد تبعا لبعض العامة من الأمر بجعلها على أحدهما ، وأنه لا يتوسطها فيجعلها بقصده تمثيلا بالكعبة ، وكأنه اجتهاد في مقابلة النص ، على أنه قد يبعد المأمومون عن الامام بغير الموظف في السترة ، إذ الظاهر تقديره بمربض إلى مربط فرس كما صرح به بعضهم ، بل نسبه في المدارك إلى الأصحاب ، بل في الذكرى أن البعيد عن السترة كفاقدها ، بل لعله المراد من‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر ابن سنان (١) : « أقل ما يكون بينك وبين القبلة مربض عنز ، وأكثر ما يكون مربط فرس ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٦.

٤٠٨

والظاهر وفاقا لجماعة منهم الشهيد عدم الترتيب فيما يسمى سترة ولو بتنزيل من الشارع كالعنزة وكومة التراب والقلنسوة والسهم والخط ، لا طلاق الأدلة ، وخصوص خبر محمد بن إسماعيل السابق (١) وغيره ، وخبر السكوني (٢) وإن كان ظاهره الترتيب إلا أني لم أجد عاملا به ، فلعل حمله على إرادة الترتيب في الفضل ، أو على عدم إرادة حقيقة الشرطية منه ، بل المراد منه التنبيه على جواز ذلك كله ، وربما كان نظائر لهذا الخطاب في هذا المعنى في العرف ، بل لعل ما في التذكرة والمحكي عن نهاية الأحكام من أنه إن لم يجد سترة خط خطا مراد منه ذلك أيضا لا الترتيب حقيقة في الخط ، بل وكذا ما عن المنتهى والتحرير من أن مقدار السترة ذراع تقريبا ، ولو لم يجد المقدار استحب له الحجر والسهم وغيرهما ، ولو لم يجد شيئا استحب له أن يجعل بين يديه كومة من تراب ، أو يخط بين يديه خطا ، ولقد أجاد العلامة الطباطبائي في قوله بعد البيت السابق :

ولو بعود أو تراب جمعا

بين يديه أو بخط منعا

ولعل مراده بالمنع باعتبار وضعه للدلالة على المنع ، لا أنه يعتبر فيه كونه مانعا ، ضرورة منافاته إطلاق الأدلة.

والمنساق إلى الذهن من الخط ما صرح به في الذكرى من كونه عرضا ، خلافا لما عن بعض العامة من جعله طولا أو مدورا أو كالهلال ، وربما استفيد من فحواه الاجتزاء بوضع العنزة عرضا إذا لم يمكن نصبها كما في التذكرة ، لأنه أولى كما في الذكرى ، قلت : بل وإن أمكن ، لما عرفت من عدم الترتيب.

ولا يشترط الحلية في السترة على الأقوى وفاقا للشهيد وغيره ، لتحقق امتثال الأمر بالصلاة إلى سترة ، وخروجها عن الصلاة ، والأمر بها ليس عبادة مشروطة بنية القربة قطعا ، بل هو لتحصيل كون الصلاة إلى سترة ، فما في التذكرة والمحكي عن نهاية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٤.

٤٠٩

الأحكام ـ من عدم الاجتزاء ، لعدم الإتيان بالمأمور به شرعا ـ كما ترى ، اللهم إلا أن يريد أمر الاستتار الذي هو مقدمة ، أو يريد خصوص ما إذا كان هو الغاصب ، والفرض أنه مكلف بردها ، فكأنها باعتبار وجوب ذلك كالعدم ، لكن فيه أن أمر المقدمة لا يقدح فواته ، وكونه غاصبا لا يمنع الصدق قطعا ، والصلاة إليها ليس تصرفا فيها وإن كان انتفاعا.

وكذا لا يشترط طهارتها للإطلاق المزبور ، قال في الذكرى : « إلا مع نجاسة ظاهرة » قلت : أي يكره الصلاة إليها ، أما إذا لم تكن كذلك فيشكل عدم الاجتزاء بها ، بل قد يشكل في الظاهرة التي على ثوب ونحوه وإن كره استقبالها ، إذ لا مانع من اجتماع المكروه من جهة والمندوب من أخرى بعد تعدد المتعلقين ، كما هو واضح.

ثم إنه صرح جماعة بعدم الفرق بين مكة وغيرها في استحباب السترة ، بل ربما استظهر من المنتهى الإجماع عليه حيث نسب الخلاف فيه إلى أهل الظاهر ، ولعله لإطلاق الأدلة ، لكن في‌ خبر معاوية بن عمار (١) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « أقوم أصلي بمكة والمرأة بين يدي جالسة أو مارة فقال : لا بأس ، إنما سميت بكة لأنه يبك فيها الرجال والنساء » أي يزدحمون ، وفي التذكرة « لا بأس أن يصلي في مكة بغير سترة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى هناك وليس بينه وبين الطواف سترة ، ولأن الناس يكثرون هناك ، لأجل المناسك ويزدحمون ، وبه سميت بكة لتباك الناس فيها ، فلو منع المصلي من يجتاز بين يديه ضاق على الناس » ثم قال : « وحكم الحرم كله كذلك ، لأن ابن عباس قال : أقبلت راكبا على حمار أتان والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار ، ولأن الحرم محل المشارع والمناسك » قال في الذكرى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٧.

٤١٠

بعد نقل ذلك : « وقد‌ روي (١) في الصحاح « ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى بالأبطح فركزت له عنزة » رواه أنس وأبو حجيفة‌ ، ولو قيل السترة مستحبة مطلقا ولكن لا يمنع المار في هذه الأماكن لما ذكر كان وجها » قلت : العمدة ما سمعته من خبر معاوية ، وإلا فغيره أخبار عامية ، ومن الغريب ما في التذكرة والذكرى هنا من التمسك بأمثالها والركون إليها كما لا يخفى على من لاحظها في بحث السترة ، ولعل الجمع بينه وبين غيره بالتأكد وعدمه أو بغير ذلك.

ثم إن الظاهر كون المرور ونحوه حكمة في السترة لا علة بحيث لا تستحب السترة حيث يعلم عدم حضور أحد أو مروره ، ومن أراد تمام البحث في أحكام السترة فليرجع إلى مطولات كتب الأصحاب ، كما أن من أراد الاطلاع على باقي المكروهات كالتوجه إلى السلاح المشهور وغيره فعليه بملاحظتها وملاحظة النصوص ، بل ربما زاد ما فيها على ما تعرض له الأصحاب الذين ليس من عادتهم التعرض لذكري جميع المندوبات والمكروهات لأن الأمر في غيرها أهم ، والعمر أقصر من استيعاب البحث في الجميع ، والله المؤيد والمسدد.

( المقدمة السادسة فيما يسجد عليه )

لا يجوز السجود‌ اختيارا على ما ليس بأرض ولا نابتا فيها عدا بعض أفراد القرطاس كما ستعرف ، بل كان متكونا منها كالجلود والصوف والشعر والوبر والريش ونحوها إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا بل متواترا كالنصوص (٢) التي ستسمع في أثناء البحث جملة منها ، بل يمكن دعوى ضرورة المذهب عليه ، بل ولا على ما هو‌

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٢ ص ٥٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يسجد عليه.

٤١١

متكون من الأرض إلا أنه خرج عن مسماها عرفا ، كما إذا كان معدنا كالملح والعقيق والذهب والفضة والقير إلا عند الضرورة لما عرفت من استفاضة النصوص ومعاقد الإجماعات بعدم جواز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتت إلا ما أكل أو لبس ، ومنه حينئذ يعلم سقوط ثمرة البحث في تحقيق معنى المعدن الذي عرف في المحكي عن نهاية ابن الأثير والمنتهى والتذكرة والتحرير بكل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها مما له قيمة ، والمعتبر بما استخرج من الأرض مما كان فيها ، والبيان وتعليق النافع به أنه كل أرض فيها خصوصية يعظم الانتفاع بها ، والتنقيح بأنه ما أخرج من الأرض مع زيادة مما كانت أصله ثم اشتمل على خصوصية يعظم الانتفاع بها ، ونحوه المسالك من دون ذكر ما كانت أصله ، والقاموس بأنه منبت الجواهر من ذهب ونحوه ، ضرورة أنها متعبة بلا ثمرة ، إذ ليس في شي‌ء من الأدلة المعتد بها تعليق الحكم على المعدن ، بل ليس عدم السجود عليه إلا لأنه ليس بأرض ، وإلا فلو فرض منه ما كان يصدق عليه اسمها فلا ينبغي التوقف في جواز السجود عليه ، لتناول الأدلة له بلا معارض ، فما في المفاتيح ـ من أن في المغرة وطين الغسل وحجارة الرحى والجص والنورة إشكالا ، للشك في إطلاق اسم المعدن عليه وعدمه ـ في غير محله قطعا ، كالذي يظهر من بعض التعاريف السابقة من صدق اسم الأرضية على بعض أفراد المعدن إلا أنه امتنع السجود عليه لصدق اسم المعدنية ، إذ هو كما ترى قول بلا دليل ، بل خلاف مقتضى الأدلة ، نعم لو قيل بخروج كل مسمى معدن عن اسم الأرض كما يقتضيه بعض التعاريف السابقة عند التأمل كان ممكنا وإن كان هو لا يخلو من نظر خارج عن محل البحث الذي هو جواز السجود وعدمه ، هذا. وقد مر في باب التيمم ما له نفع في المقام ، بل مر فيه تحقيق حال جملة مما وقع الشك في خروجه عن الأرض وعدمه كالخزف والآجر والجص والنورة والرماد الكائن من الأرض وغير ذلك ، إذ المقام من واد واحد بعد أن كان المختار عندنا جواز التيمم‌

٤١٢

اختيارا بمسمى الأرض كالسجود ، ولا يختص بالتراب ، فلاحظ وتأمل.

ونزيد هنا أيضا ونقول قال في المدارك : « قطع الأصحاب بجواز السجود على الخزف » وعن الروض « لا نعلم في ذلك مخالفا » وعن مجمع البرهان « معلوم جواز السجود على الأرض وإن شويت لعدم الخروج عن الأرضية بصدق الاسم وللأصل » بل قد يستفاد من استدلال الفاضل على عدم خروجه بالطبخ عن اسم الأرض بجواز السجود عليه كونه مفروغا منه ، كما أنه قد يظهر من معتبر المصنف جواز السجود عليه وإن كان قد خرج عن اسم الأرض باسم الطبخ ، فإنه بعد أن منع من التيمم به لذلك قال : « ولا يعارض بجواز السجود عليه ، لأنه قد يجوز السجود على ما ليس بأرض كالكاغذ » بل في المحكي عن الروض « ربما قيل ببطلان القول بالمنع من السجود عليه وإن قيل بطهارته ، لعدم العلم بالقائل من الأصحاب ، فيكون القول بالمنع مخالف للإجماع إذ لا يكفي في المصير إلى قول وجود الدليل مع عدم الموافق ، والمسألة مما تعم به البلوى ، وليس من الجزئيات المتجددة ، ولم ينقل عن أحد ممن سلف المنع » وإن كان فيه مواضع للنظر ، بل وفيما سمعته من المعتبر أيضا تعرف بعضها فيما يأتي إن شاء الله.

وكيف كان فقد يدل عليه الأصل ، وما دل (١) على التيمم بالحجر الذي منه المشوي ، بل غير المشوي منه أشد تماسكا من الخزف ، فهو أولى منه بالجواز المستند إلى صدق اسم الأرض فيهما ، مضافا إلى معلومية صدق الأرض على المحترقة منها التي هي كالخزف أو أشد ، وإلى ما قيل من‌ صحيح الحسن بن محبوب (٢) سأل أبا الحسن عليه‌السلام « عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب عليه‌السلام اليه بخطه أن الماء والنار قد طهراه » باعتبار ظهوره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التيمم.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ١.

٤١٣

في جواز السجود على الجص الذي هو بمعنى الخزف ، قلت : أولى منه حينئذ الاستدلال بما تقدم في التيمم بالجص والنورة ، لما في مضمون الصحيح المزبور من التردد من حيث عدم ظهور الطهارة الماء له بل النار أيضا ، وإن كان يدفعه بعدم نجاسة الأرض قبل الإحراق لليبوسة ، ويكون المراد طهارة ما معه من العذرة التي احترقت وصارت دخانا أو رمادا أو غير ذلك.

لكن ومع ذلك كله فالمحكي عن رسالة صاحب المعالم أن الخزف ليس من الأرض ، وأن التربة المشوية من أصناف الخزف ، إلا أنه حكي عن الشيخ نجيب الدين تلميذه أنه قال : « إن الأستاذ بعد تصنيف الرسالة لم يمنع من السجود على التربة المشوية » كما عن المحقق الثاني أنه صنف رسالة في جواز السجود عليها ، وربما استظهر الخلاف أيضا من الشيخ القائل بطهارة الطين إذا صار خزفا للاستحالة ، لكن هو مع أنه في غاية الضعف كما اعترف به في الروضة يمكن أن لا يلزمه ذلك ، لعدم انحصار الاستحالة في الخروج عن اسم الأرض ، إذ قد يجتزي بالخروج عن اسم الطين ونحوه ، فتأمل. على أن المحكي عن نهايته ومبسوطة التصريح بجواز السجود على الجص والآجر ، بل عن جماعة من متأخري المتأخرين الميل اليه ، بل قيل : إنه ظاهر الأكثر في الآجر ، بل عن البحار أنهم لم ينقلوا فيه خلافا ، مع أن الشيخ جعل من الاستحالة المطهرة صيرورة التراب خزفا ، ولذا تردد فيه بعض المتأخرين ، قلت : قد عرفت إمكان عدم لزوم ذلك للخلاف هنا ، وعلى تقديره فهو ضعيف.

ومنه يعلم حينئذ جوازه أيضا على الآجر والجص والنورة ونحوها ، بل لا ينبغي التوقف في أرض الأخيرين كما أوضحناه في التيمم ، وبه صرح الفاضل هنا في المحكي عن نهاية الأحكام ، مضافا إلى ما سمعته من المبسوط والنهاية والمدارك في نفس الجص ، وما في التذكرة ـ من أنه يجوز على السبخة والرمل والنورة والجص ـ محتمل للأرض ولهما‌

٤١٤

نفسهما ، ولكن مع ذلك كله لا ريب في أن الأحوط الاجتناب في الجميع ، خصوصا في النورة ، لخبر عمرو بن سعيد (١) عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام « لا يسجد على القفر ولا على القير ولا على الصاروج » وفي وافي الكاشاني « إن الصاروج النورة باخلاطها فارسي معرب » وفي الذكرى أنه يستلزم المنع من النورة بطريق الأولى ، وخصوصا مع احتمال انصراف الأرض إلى غيرها من الأفراد الشائعة ، ولعله لذا أو للشك المقتضي لتعارض أصلي الشغل وبقاء حكم الأرضية ، وفلا يخرج عن يقين العهدة مال في الرياض إلى العدم وإن كان فيه منع واضح أطلنا الكلام فيه في التيمم وفي بحث النجاسات ، وقلنا هناك إن أصل الشغل لا يعارض أصالة بقاء حكم الأرض ، بل هو مقطوع به لوروده عليه ، كما أنه قلنا هناك أيضا لا مانع من استصحاب أحكام الأرض بل واستصحاب حقيقة الأرض بعد العلم بأن المدار عليها من غير مدخلية للعلم بالصدق عرفا وعدمه ، فالشك فيه حينئذ لا يقدح في جريان الاستصحابين كما أوضحناه في بحث الاستحالة وفي بحث العصير وفي بحث التيمم وفي أوائل كتاب الطهارة مفصلا ، من أراده فيلاحظه ، نعم لا بأس بالاحتياط من جهة ما سمعت ، بل عن جماعة التصريح بكراهته على الخزف ، كما عن‌ فقه الرضا عليه‌السلام (٢) « لا تسجد على الآجر ».

بل قد يقال بالكراهة في الرمل أيضا ، لما في‌ صحيح محمد بن الحسين (٣) من أن أبا الحسن عليه‌السلام كتب إلى بعض أصحابه « لا تصل على الزجاج وإن حدثتك نفسك أنه مما أنبتت الأرض ولكنه من الملح والرمل ، وهما ممسوخان » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ١ لكن رواه عن محمد بن عمرو بن سعيد.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ١.

٤١٥

ولا ينافيه اشتراكه مع الملح الذي مسخه منع من السجود عليه ، لخروجه به عن الأرض بخلاف الرمل الذي لم أجد أحدا من الأصحاب منع من السجود عليه ، بل ظاهر النصوص والفتاوى ومعاقد الإجماعات جوازه ، فوجب صرف المسخ فيه إلى ما ذكرنا من الكراهة ، ولا ينافيها إرادة الحرمة حقيقة من النهي عن الصلاة على الزجاج ، إذ لعله لمكان الخليط ، أو لأنه خرج عن مسمى الأرض أو غير ذلك ، بل لعل المراد من‌ قوله عليه‌السلام : « وهما ممسوخان » أنهما بالزجاجية قد تحولا عن صورتيهما ولم يبقيا على صرافتهما.

أما الرماد الكائن من النبات فالظاهر عدم جواز السجود عليه على ما صرح به غير واحد ، بل في كشف اللثام كأنه لا خلاف فيه ، لخروجه عن اسم الأرض وحقيقتها ، ولذا طهرت النجاسات بالاستحالة اليه ، وما عساه يفهم من اقتصار الفاضلين على نسبة المنع فيه إلى الشيخ من نوع تردد فيه في غير محله.

نعم قد يتردد في الفحم كما في كشف اللثام وإن كان قد يقوى الجواز فيه ، للأصل ، وعدم طهارة المتنجس بالاستحالة إليه ، كما أنه يقوى عدم الجواز فيما يفرض من الأرض المستحيلة رمادا ، لعين ما سمعته في النبات ، اللهم إلا أن يمنع استحالة الأرض اليه وإن كثر الحرق ، فيخرج حينئذ عن البحث ، إذ هو على فرضه.

ولا خلاف أجده بين الأصحاب قديما وحديثا في عدم جواز السجود على القير ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، مضافا إلى إطلاق النصوص ، ومعاقد الإجماعات عدم الجواز في غير الأرض ونباتها ، وخصوص خبر عمرو بن سعيد (١) المتقدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ١ لكن رواه عن محمد بن عمرو بن سعيد.

٤١٦

و‌صحيح زرارة (١) قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « أسجد على الزفت يعني القير فقال : لا ولا على الثوب الكرسف ولا على الصوف ولا على شي‌ء من الحيوان ولا على طعام ولا على شي‌ء من ثمار الأرض ولا على شي‌ء من الرياش » لكن في‌ خبر معاوية ابن عمار (٢) « انه سأل معلى بن الخنيس أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن السجود على القفر وعلى القير فقال : لا بأس به » بل رواه الصدوق بإسناد إلى المعلى المزبور ، وفي‌ صحيح معاوية بن عمار (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في السفينة ـ إلى أن قال ـ : يصلى على القير والقفر ويسجد عليه » وخبر إبراهيم ابن ميمون (٤) « انه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : « تسجد على ما في السفينة وعلى القير قال : لا بأس » بل‌ قال الصادق عليه‌السلام في خبر منصور بن حازم (٥) : « القير من نبات الأرض » وهي ـ مع قصورها عن معارضة ما تقدم من وجوه وعدم العمل بها من أحد فيما أجده ـ يجب طرحها أو حملها على الضرورة ، أو سجود ما عدا الجبهة ، كما في‌ خبر معاوية بن عمار (٦) الآخر سأل أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الصلاة على القار فقال : لا بأس » أو غير ذلك ، فما في المدارك ـ من أنه لو قيل بالجواز وحمل النهي على الكراهة أمكن إن لم ينعقد الإجماع على خلافه ـ في غير محله ، إذ لا ريب في قصورها عن إثبات ذلك وإن لم ينعقد الإجماع ، إذ الشهرة ، مع ما عرفت كافية.

وكذا لا يجوز السجود على ما ينبت من الأرض إذا كان مأكولا بالعادة كالخبز والفواكه بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه الحديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه الحديث ٨.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب ما يسجد عليه الحديث ٥.

٤١٧

منه صريحا وظاهرا معتضدا بنفي الخلاف ووجدانه مستفيض أو متواتر كالنصوص (١) بل يمكن دعوى ضروريته عند متشرعة الإمامية فضلا عن علمائها ، نعم في التذكرة والمحكي عن المنتهى ونهاية الأحكام والتحرير والموجز جوازه على الحنطة والشعير ، لأن القشر الذي ليس بمأكول حاجز بين المأكول ، والجبهة والسجود واقع عليه ، ولأنهما في هذا الحال غير مأكولين ، وأشكله في الذكرى يجريان العادة بأكلهما غير منخولين ، وخصوصا الحنطة ، وخصوصا في الصدر الأول ، قلت : ويشكل الثاني بأن المفهوم من المأكول المستثنى من النبات ما من شأنه أن يؤكل وإن احتاج إلى علاج من طبخ أو شي‌ء أو غيرهما ، خصوصا مع ملاحظة التعليل في‌ صحيح هشام (٢) « بأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده في عبادة الله عز وجل فلا ينبغي أن يضع جبهته على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها » وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر الأربعمائة المروي عن الخصال (٣) : « لا يسجد الرجل على كدس حنطة ولا شعير ولا على لون مما يؤكل ولا على الخبز » وليس هذا من إطلاق المشتق على المستقبل المعلوم مجازيته الذي قد أجيب عنه بما يرجع إلى ما ذكرنا من أن إطلاق المأكول والملبوس على ما أكل ولبس بالقوة القريبة من الفعل قد صار حقيقة عرفا ، وإلا لم يجز في العرف إطلاق اسم المأكول على الخبز قبل المضغ والازدراد ، على أن الموجود في أكثر النصوص « إلا ما أكل أو لبس » ولعله غير المشتق أيضا ، لا مكان دعوى عدم الإشكال في صدقه على ما يتحقق أكله ولو بالعلاج ، بل يمكن دعوى صدقه على المحتاج أكله إلى البقاء مدة ، فيشمل حينئذ سائر الثمار قبل أو ان أكلها ، وقد يؤيده‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما يسجد عليه.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ٤.

٤١٨

تعليق الحكم على الثمرة في المرسل السابق (١) وخبر ابن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « لا بأس بالصلاة على البوريا والخصفة وكل نبات إلا الثمرة » وصحيح زرارة السابق (٣) فإنه قد يدعى صدقها عليه قبل الوصول إلى أو ان الأكل ، بل يكفي فيها تحقق المبدأ ، فطلع النخل وغيره الذي يؤول إلى الثمرة لا يجوز السجود عليه ، بل قد يقال بصدقها على القشر وما فيه والثمرة وما فيها ، فيمتنع حينئذ السجود على قشور الرمان ونوى التمر ونحوها حال اتصالها به ، كما لو كشف بعض التمرة حتى خرجت النواة وهي فيها ، وربما كان في تعليل صحيح هشام شهادة على بعض ذلك ، بل قد يقال بعدم الجواز أيضا مع الانفصال ، لأنه بعض الثمرة ، ومعلوم إرادة النهي عن السجود على الثمرة وأبعاضها من النهي عنها ، خصوصا مع قاعدة الشغل ونحوها.

لكن الانصاف عدم خلو الجواز من قوة ، للشك في شمول المستثنى لمثله ، فيبقى مندرجا في المستثنى منه ، كما أن الانصاف انسياق المأكولة من الثمرة ، خصوصا مع ملاحظة التعليل ، فلا يشمل غير المأكول منها كثمرة الشكوك والحنظل ونحوهما من النباتات ، ولذا اقتصر الأصحاب على استثناء المأكول ، وإلا فلا تنافي بين ما استثني فيه المأكول من النصوص وما استثني فيه الثمرة ، إلا بالعموم والخصوص المطلق فلو لا انسياق ما ذكرنا من الثمرة لكان المتجه استثناءها لا خصوص المأكول منها ، بل الظاهر المنساق إلى الذهن سيما مع التعليل أن المراد مما أكل أو لبس الإشارة إلى ما في أيدي الناس من المآكل والملابس ، لا أن المراد التعليق على الاعتياد وعدمه كالمكيل والموزون المتجه فيه على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ١١ ولم يتقدم ذكر هذا المرسل عنه قدس‌سره.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يسجد عليه ـ الحديث ١.

٤١٩

هذا التقدير أحد الوجوه الثلاثة الذي هو الاختلاف باختلاف الأزمنة أو الأمكنة أو الأحوال حتى أنه لو فرض تعارف أكل نبات مدة من الزمان ثم تعارف عدمه تبعهما الجواز وعدمه في ذلك ، ولو كان في قطر دون الآخر جاز لأهل أحدهما دون الآخر ، ولو فرض اتفاق مرور أهل أحدهما بالآخر ففي كون المدار على الأرض أو الشخص وجهان ، حتى لو فرض اعتياده كأهل القطر في الأكل وعدمه ، إلى غير ذلك من الأحكام التي لا يخفى على من له أدنى درية في الفقه فسادها ، فما في التذكرة ـ « لو كان معتادا عند قوم دون آخرين عم التحريم » وجامع المقاصد « المراد بالمأكول ما صدق عليه اسم المأكول عرفا لكون الغالب أكله ولو في بعض الأقطار ـ إلى أن قال ـ : ولو أكل شائعا في قطر دون غيره فهو مأكول على الظاهر إذ لا يطرد أغلبية أكل شي‌ء في جميع الأقطار ، فإن الحنطة مثلا لا تؤكل في بعض البلاد إلا نادرا » ونحوه في فوائد الشرائع والمسالك والمدارك وغيرها ، مع احتمال اختصاص كل قطر بمقتضى عادته قويا في الأخير تبعا للمحكي عن مقاصد جده ومجمع أستاذه ـ إن أريد به ما ذكرنا فمرحبا بالوفاق ، وإلا كان للنظر فيه مجال ، كالمحكي عن السيد عميد الدين من أن المراد بالعادة العادة العامة ، فلو كان معتادا في بلد دون آخر ففيه وجهان ، أرجحهما جواز السجود ، وإلا فالبلاد الواحدة لا عبرة بها قطعا ، ولذا فرض موضوع المسألة القطر في كلام من عرفت ، وإن كان التحقيق عدم العبرة بكل منهما ، فإن المأكولية لا تتوقف على شي‌ء منهما ، فان المخلوقات للأكل معلومة لسائر الناس ، بل فطرت طبائعهم على معرفتها ، واتفاق عدم استعمال جملة من الناس لجملة منها استغناء منهم بغيرها مما هو أطيب منها لا يرفع وصف استعدادها للأكل ، وأنها مما خلقت واستعدت له ، كما أن أكل جملة من الناس لبعض النباتات في زمن الربيع أو غيره لا يصيرها منها ، ولعل منه أكل أصول البردي عند السواد.

٤٢٠