جواهر الكلام - ج ٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

إليها من غير أن يجدد اجتهاده في طلب الامارات ، وقد استدل له بما سمعت ، وبوجوب السعي في طلب الحق أبدا ، لكن في كشف اللثام قلنا : نعم إذا لم يكن سعى أو احتمل حصول العلم أو ظن أقوى مما قد حصله موافق أو مخالف له.

قلت : لا يخفى استلزام كلام الشيخ الثاني ، ومقتضاه حينئذ التكرير الصلاة واحدة إذا أخرها عن اجتهاده لها واحتمل تغير الأمارات أو حدوث غيرها ، كطلب الماء عند إرادة التيمم ، إذ هما من واد واحد ، نعم قد يفرق بينهما بتغير المكان وعدمه ، إذ أدلة القبلة لا تختلف بحسب المكان بخلاف التيمم لكن ومع ذلك كله فقد يفرق في المقام بين العلم بحدوث الأمارات أو تغيرها وبين احتمال ذلك ، فيجب تجديد الاجتهاد في الأول بخلاف الثاني ، استصحابا للظن المجزي ، وصدق الصلاة باجتهاد ، فهو كالمجتهد في الأحكام الذي لا يجب عليه بمجرد احتمال التغير أو قوة الظن تجديد الاجتهاد قطعا ، إذ أقصى ما حكي عن جماعة من المحققين وجوب النظر على المجتهد فيما اجتهد فيه إذا لم يكن الدليل حاضرا ، مع أن فيه للنظر مجالا ، اللهم إلا أن يفرق بينهما بأن وجوب التجديد في الثاني بمجرد الاحتمال مستلزم للعسر والحرج المنفيين آية ورواية بخلاف المقام ، وعلى كل حال فقد ظهر لك أن إطلاق المتن والفاضل وبعض من تأخر عنه عدم التجديد كإطلاق المبسوط وجوبه ولا يخلو من بحث ، وطريق الاحتياط غير خفي.

المسألة الرابعة لا إعادة فضلا عن القضاء لو ظهر خطأ الاجتهاد‌ بالاجتهاد وإن كان كثيرا ، كأن رأى نجما فظنه سهيلا ثم ظنه جديا ، أو رأى قبرا فظن أحد طرفيه رأسه ثم ظنه رجليه ، أو رأى محرابا ظنه كنيسة ثم ظنه بيعة أو محرابا لنا ، أو هبت ريح فظنها صباء ثم ظنها دبورا كما صرح به جماعة ، بل عن الفاضل أنه لا يعرف فيه خلافا ، للأصل بعد اختصاص أدلة الإعادة في الظاهر بمن بان له بغير الاجتهاد ، ولقاعدة الاجزاء‌

٤١

ولأن نقض الأول بالثاني ليس بأولى من العكس ، فهو حينئذ كالاجتهاد في الأحكام بل ما نحن فيه أولى ، ضرورة ظهور النص (١) في بدلية الظن لقاعدة الاجزاء ، بخلافه في الأحكام ، لاحتمال العذرية فيه إن لم يكن الأقوى ، لعدم دليل لفظي يقتضي بظاهره البدلية

ومن هنا لو علم المجتهد في الحكم خطأه بدليل قطعي قضى في خارج الوقت بخلافه هنا كما عرفت ، فلو صلى حينئذ أربع صلوات بأربع اجتهادات لم يجب عليه فعل واحدة منهن ، لأن كل واحدة قد صليت باجتهاد لم يتبين فيه الخطأ ، فما عن نهاية الأحكام من احتمال قضاء الجميع ، لأن الخطأ متيقن في ثلاث صلوات منها وان لم يتعين ، فأشبه ما لو فسدت صلاة من صلوات ، واحتمال قضاء ما سوى الأخيرة لكون الاجتهاد الأخير ناسخا لما قبله ضعيف ، لما عرفت من عدم مدخلية الواقع ، ودعوى الاندراج في الأدلة للعلم بالخطإ في الجملة يدفعها ظهورها في العلم بالخطإ بالخصوص كما لا يخفى ، فالاحتمالان حينئذ في غاية الضعف ، خصوصا الثاني الذي هو تحكم ، إذ الاجتهادات متعاقبة متنافية ، ورد أولهما في الذكرى بأنه لو وجبت الإعادة لم يؤمر بالصلاة مع تغير الاجتهاد ، ولعله أراد ما أشرنا إليه من عدم أولية نقض الأول بالثاني من العكس ، إذ صيرورته الآن وهما لا يقدح فيما وقع فيه حال كون الثاني وهما ، نعم هو أرجح منه بالنسبة الى ما يأتي من الافعال ، كرجحان الأول قبل أن ينقلب وهما.

ومن ذلك يعلم ما في الذكرى من أنه يحتمل قويا مع تغير الاجتهاد أن يؤمر بالصلاة إلى أربع ، لأن الاجتهاد عارضه الاجتهاد فيتساقطان فيتحير ، ولا يجب إعادة ما صلاة أولا ، لإمكان صحته ودخوله مشروعا ، إذ هو كما ترى ضعيف جدا ، كالإشكال في القواعد في أصل الحكم ، قال : لو ظهر خطأ الاجتهاد بالاجتهاد ففي القضاء أي إعادة ما صلى بالأول مطلقا أو بالوقت خاصة على حسب ما مر من وجوه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ من أبواب القبلة.

٤٢

الخطأ إشكال ، ولعله مما عرفت ومن احتمال أن الشرط التوجه إلى القبلة لا ما ظنها ، وقد ظن اختلال الشرط فظن انه لم يخرج عن العهدة ، وعلى المكلف أن يعلم خروجه عنها أو يظنه إن لم يمكنه العلم ، أو يقال شرط الصلاة استقبال ما يعلمه أو يظنه قبلة بشرط استمراره ، ولذا يعيد إذا علم الخطأ ولم يستمر الظن هنا ، وأيضا فتعارض الظنان فيجب عليه الصلاة مرتين وإن خرج الوقت ، لوجوب قضاء الفائتة إجماعا ، وقد فاتته إحدى الصلاتين الواجبتين عليه ، قال في كشف اللثام : « وفي الأول ان على المكلف علم الخروج أو ظنه عند الفعل لا أبدا ، وخصوصا بعد خروج الوقت » قلت : قد يناقش بأن مقتضاه حينئذ عدم الإعادة حتى لو علم الخطأ بعد ذلك ، فينبغي تقييده حينئذ بما إذا لم يعلم الخطأ في الوقت ، والأمر سهل ، وفي الثاني انا انما نسلم اشتراط عدم ظهور الخطأ والعلم به وخصوصا إذا خرج الوقت ، وفي الأخير أن الصلاتين انما تجبان لو تعارض الظنان في الوقت : أي قبل وقوع الفعل بحيث آل الأمر إلى الشك بسبب التعارض.

هذا كله لو ظهر خطأ اجتهاده بالاجتهاد ، أما لو علم خطأه في الوقت بما يوجب الإعادة أو ظنه وقلنا إنه كالعلم ولم يترجح عنده جهة بل بقي متحيرا لا انه اجتهد الى غير الجهة فعليه الإعادة ثلاث مرات الى ثلاث جهات أخرى ، وفي خارج الوقت وجهان ، أصحهما عندنا العدم ، خصوصا مع احتمال كون الخطأ مما يوجب الإعادة في الوقت فالأصل البراءة ، قال في كشف اللثام : وإن شك في اجتهاده ضعف الإعادة جدا ، وخصوصا القضاء ، قلت : بل لا وجه لها بعد ما عرفت من عدم نقضه بالظن فضلا عن الشك ، فلم يظهر له خطأ فعله أصلا ، فلا يندرج في نصوص الإعادة ، ثم قال : وإن شك أو ظن الخطأ في أثناء الصلاة ولم يترجح عنده جهة وأمكنه استئناف الاجتهاد في الصلاة استأنفه ، فإن وافق الأول استمر ، وإن خالفه يسيرا استقام وأتم ، وإن‌

٤٣

خالفه كثيرا كان كظهور الخطأ بالاجتهاد بعد الفراغ ، وإن لم يمكنه استئناف الاجتهاد فيها أتمها ولم يلتفت الى شكه أو ظنه ، فإذا فرغ استأنف الاجتهاد ، قلت : قد عرفت في المسألة السابقة أن الاشكال في وجوب الاجتهاد عليه في الأثناء مع لتمكن وفي جواز الإتمام والاجتزاء به مع عدم التمكن ، ثم قال : وإن تيقن الخطأ في الأثناء ولم يترجح عنده جهة ولا يمكنه الاجتهاد وهو في الصلاة فإن ضاق الوقت أتمها ، وإلا استأنف الصلاة إن علم أن له أن يجتهد أو يحصل العلم إذا أبطل الصلاة ، وإلا احتمل إتمامها ثم السعي في تحصيل القبلة ، فإن حصلها وإلا كانت هذه إحدى الأربع ، قلت : لا يخفى عدم خلوه عن البحث في الجملة بعد تقييد الإتمام في كلامه بأن يكون على غير تلك الجهة التي علم خطأها ، هذا.

وفي المحكي عن التحرير والمنتهى أنه لو بان له الخطأ في الأثناء ولم يعرف القبلة إلا بالاجتهاد المحوج الى الفعل الكثير فإنه يقطع ويجتهد ، ولعل ظاهرهما سعة الوقت والعلم بحصول الاجتهاد مع الابطال ، فلا منافاة حينئذ بينهما وبين ما في الكشف ، نعم أطلق في الذكرى أنه إن لم يمكن تحصيله حال الصلاة فالأجود البطلان ، لامتناع الاستمرار على الخطأ وعدم علم الجهة وظنها ، قلت : قد يحتمل أنه يكون متحيرا باعتبار حرمة قطع الصلاة ، فيعدل عن جهة الخطأ ويتمها ، وإن كان الأقوى ما ذكره ، ثم قال : ولو تحير الشامي أو اليمني فاجتهد وصلى إلى جهة فانكشف الغيم فإذا كوكب في الأفق يقطع بأنه إما في المشرق ، أو المغرب وهو بإزائه فإنه يتبين الخطأ قطعا ، ويحكم هنا ببطلان الصلاة في الحال ، فان رأى الكوكب ينحط علم به المغرب ، وإن رآه يرتفع علم به المشرق ، وان أطبق الغيم في الحال فالتحيير باق إلا أنه في جهتين ، فان انكشف فيما بعد وإلا صلى إليهما لا غير ، ولو كان المصلي مشرقيا أو مغربيا لم يحكم ببطلان صلاته في الحال بظهور الكوكب الأفقي ، بل يتربص فينتظر علوه وعدمه فيبني على‌

٤٤

ما علمه ، ولو عاد الغيم في الحال لم يحكم هنا ببطلان الصلاة الى الجهة الأخرى ، ويمكن ذلك إن لم يكن الاجتهاد الأول باقيا ولا يجدد غيره ، وإن كان باقيا فلا ، وان تجدد غيره استأنف ، ولو كان المصلي في إحدى الزوايا التي بين الجهات الأربع فظهور الكوكب الأفقي لا يبطل استمراره أيضا في الحال ، بل بعد اعتبار العلو والانخفاض مراعيا ما سلف ، فيستمر مع إصابة القبلة وما في حكمها ، ويستأنف مع عدمها إن بقي الوقت أو مطلقا لو كان مستدبرا على القول به ، ولو عاد الغيم فان قطع على مخالفة قبلته وما في حكمها أعاد إلى الجهات التي يعلم معها إصابة القبلة ، وإن لم يقطع على المخالفة فالبناء متعين وفي الصلاة الى جهة أخرى الاحتمال ، فيراعي جهتين ليس فيهما محض المشرق والمغرب ، والله أعلم.

المسألة الخامسة قد ظهر مما قدمنا أنه لا بأس بائتمام المجتهدين بعضهم ببعض‌ وإن تضادوا في الاجتهاد أو اختلفوا بالكثير فضلا عن الاختلاف اليسير ، لصحة صلاة كل واحد منهم واقعا بقاعدة الاجزاء وغيرها مما عرفته سابقا وفاقا لكشف اللثام ، ولم يستبعده في التذكرة والمدارك ، وخلافا للشيخ وجماعة ، بل قيل الأكثر كالفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم ، فهو حينئذ كالجماعة حول الكعبة أو في شدة الخوف ، وما في الذكرى ـ من منع الاقتداء حالة الشدة مع اختلاف الجهة ، ولو سلم فالاستقبال فيه ساقط بالكلية بخلاف المقام ، ومن ظهور الفرق بين المصلين إلى نواحي الكعبة وبين المجتهدين بالقطع بأن كل جهة قبلة هناك والقطع بالخطإ هنا ، وكذا نقول في صلاة الشدة ان كل جهة قبلة ـ كما ترى في غاية الضعف ، ضرورة اشتراك الجميع في ذلك ، فكما أن كل جهة من الكعبة قبلة فكذا قبلة كل مجتهد ما أداه إليه اجتهاده ، فكما تصح صلاة كل ممن حول الكعبة قطعا للاستقبال تصح صلاة هؤلاء قطعا ، وكما يقطع بصحة صلاة المصلين في شدة الخوف للاستقبال أو لعدم اشتراطه في حقهم فكذا صلاة هؤلاء ،

٤٥

ولا يضر الافتراق بأن كل جهة من الكعبة قبلة على العموم بخلاف ما أدى اليه الاجتهاد فإنما هو قبلة لهذا المجتهد.

وكذا الكلام إذا علم أحدهما واجتهد الآخر وتخالفا وإن لم يذكروه من غير فرق بين اقتداء العالم بالمجتهد والعكس ، وإن كان الأول أبعد ، إلا أنه لا بأس به عند التحقيق ، لصحة صلاته واقعا في حقه لا عذرا ، ولا يجب في الائتمام أزيد من ذلك ، ومن الغريب تعليل الذكرى عدم الجواز في أصل المسألة بأن المأموم إن كان محقا في الجهة فسدت صلاة إمامه ، وإلا فصلاته ، فيقطع بفساد صلاة المأموم على التقديرين ، إذ قد عرفت أنه لا فساد في شي‌ء من صلاتهما بعد بدلية الظن شرعا ، كالتيمم ، وأضعف من ذلك احتمال البطلان في الخطأ اليسير في التذكرة ، ثم قال : وهو أحد وجهي الشافعية ، ولثاني له ، ذلك لقلة الانحراف ، ثم قال : وهما مبنيان على أن الواجب إصابة العين أو الجهة ، ونحوه عن نهاية الأحكام ، إذ فيه مع أنك قد عرفت فيما تقدم كون فرض البعيد الجهة عنده وعند غيره أنه لا وجه لهذا البناء ، ضرورة عدم حصول الجهة فيه أيضا ، وإلا لجاز اختيارا التوجه الى ما بين المشرق والمغرب ، لأن الواجب الجهة ، والفرض حصوله ، بل هو ليس إلا لتنزيل الشارع له منزلة القبلة مع العذر ، فصلاة كل منهما صحيحة واقعا نحو ما قلناه في التخالف الكثير ، فالقول بالصحة هنا عند التأمل لازمة لها هناك ، مع أن الشهيد استقرب الجواز فيها ومنع في تلك ، وفيه ما لا يخفى.

ومن ذلك كله يظهر لك الحال فيما ذكروه هنا من أنه لو صلى جماعة جماعة في ظلمة بالاجتهاد فلما أصبحوا علموا الاختلاف ولم يعلموا جهة الإمام صحت صلاتهم عندنا ولا قضاء ، بل يمكن ذلك على القول الآخر أيضا ، إذ لم يعلم أحد منهم مخالفة الإمام كما استوجهه في التذكرة لكن في الذكرى أن الأقرب أنه إن كانت الصلاة مغنية عن القضاء بأن لم يكن في الجهة استدبار ، أو قلنا إنه لا يوجب القضاء فصلاتهم صحيحة ، والتخالف‌

٤٦

هنا في الجهة مع الامام غير ضائر لأن غايته الصلاة خلف من صلاته فاسدة في نفس الأمر وهو لا يعلم الفساد. وإلا قضى كل من علم انه صلى إلى جهة توجب ذلك ، وكذا عليه الإعادة إن علم ما يوجبها والوقت باق دون من علم خلافه أو جهل الحال ، ولو جهلوا أجمع فلا إعادة ولا قضاء ، ولو علموا أن فيهم من عليه القضاء أو الإعادة ولم يتعين فالأقرب ان لا قضاء ولا إعادة كواجدي مني في ثوب مشترك بينهما ، لأصل صحة الصلاة ، ويحتمل أن يكون عليهم الإعادة ليتيقنوا الخروج عن العهدة ، قلت : لا يخفى عليك ما في هذا الاحتمال خصوصا في المقام ، كما أنه لا يخفى عليك ما في كلامه بناء على المختار ، بل في كشف اللثام وهذا موافق للتذكرة في أن هذا التخالف لا يوجب القضاء ولا الإعادة لتخالف الامام والمأموم ، وانما وجب أحدهما فيما فرضه بسبب آخر.

ثم لا يخفى عليك أن امتناع اقتداء أحد المتخالفين بالآخر لو قلنا به لا يقتضي امتناع اعتداده بقبلة الآخر في كل أمر ، بل يحل له ذبيحته ، لأنا لا نعرف خلافا كما في كشف اللثام في أن من أجل بالاستقبال بها ناسيا أو جاهلا بالجهة حلت ذبيحته كما يأتي ، وتجتزى بصلاته على الميت وإن كان مستدبرا ، لأن المسقط لها عن سائر المكلفين انما هي صلاة صحيحة جامعة للشرائط عند مصليها لا مطلقا ، وإلا وجب على كل من سمع بموت مسلم أن يجتهد في تحصيل علمه بوقوع صلاة جامعة للشرائط عنده ليخرج عن العهدة ، ولا قائل به كما في الكشف.

نعم لا يكمل عدد أحدهما بالآخر في صلاة الجمعة بناء على ذلك ، ولم يجز لهما أن يصليا جمعة واحدة ، بل أطلق في القواعد أنهما يصليان جمعتين ، ولعله لأصل البراءة من التباعد مع اعتقاد كل بطلان صلاة الآخر ، وفيه نظر ظاهر ، نعم إن تعذر لضيق وقت أو غيره ووجبت عليهما عينا صليا كذلك ، وان وجبت تخييرا قال في كشف اللثام احتمل عندي ضعيفا ، وكيف كان فإذا صليا معا ففي القواعد اكتفيا بخطبة واحدة‌

٤٧

يسمعها الجميع ، اتفقا في الصلاة أو سبق أحدهما الآخر ، فلا يتوهم أن الخطبة الواحدة إنما تكفي مع اتفاقهما ، خصوصا إذا طال الفصل ، ولا أن عليهما الاتفاق في الصلاة ليعقد كل منهما صلاته ولما تنعقد صلاة أخرى صحيحة شرعا ، عند مصليها ، لكن في كشف اللثام ان الاحتياط عندي الاتفاق إن جازت صلاتهما ، لما أشرت إليه من ضعف الدليل.

قلت لا يخفى عليك سقوط ذلك كله عندنا ، وانه لا مانع من الائتمام من هذه الجهة ، نعم قد يشك فيها باعتبار عدم كونها من الهيئة المعلومة للجماعة ، وخروج الاستدارة حول الكعبة بالإجماع المدعى في الذكرى وغيره لا يقضي بخروج غيرها ، لحرمة القياس ، فلا ينبغي حينئذ ترك الاحتياط الذي هو ساحل بحر الهلكة ، كما انه لا يخفى عليك أيضا بعد ما ذكرنا ما في الذكرى من انه لو تغير اجتهاد أحد المأمومين انحرف ونوى الانفراد إذا كان ذلك غير يسير ، ولو تغير اجتهاد الامام انحرف وأتم المأمومون منفردين أو مؤتمين ببعضهم ، نعم ما ذكره فيها هنا بعد ذلك جيد جدا كما لا يخفى على من أحاط بما أسلفناه في المباحث السابقة ، ثم قال : ولو ضاق الوقت إلا عن صلاة وأدى اجتهاد أحدهم إلى جهة جاز للآخر الاقتداء به إذا قلده وان كان مجتهدا ، لتعذره حينئذ. وهل يجب عليه تقليده؟ الأقرب نعم ، لعجزه وظن صدق الآخر ، ووجه المنع ان الشرع جعل فرضه عند ضيق الوقت التخيير ، فليس عليه سواه ، وفيه منع ظاهر ، إذ التخيير انما يكون عند عدم المرجح ، والله أعلم.

( المقدمة الرابعة )

من مقدمات الصلاة

( في ) البحث عن ( لباس المصلي )

( وفيه مسائل : المسألة الأولى لا يجوز الصلاة في جلد الميتة ) وغيره من أجزائها‌

٤٨

ولو كان مما يؤكل لحمه ، سواء دبغ أو لم يدبغ إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا أو متواترا كالنصوص (١) التي‌ في بعضها (٢) « لا يلبس في الصلاة ولو دبغ سبعين مرة » فضلا عما دل منها على النهي (٣) عن استعمال الميتة ومطلق الانتفاع بها حتى الآية (٤) بناء على عدم إرادة خصوص الأكل منها ، وما في الذكرى من استثناء من شذ منا من اتفاق الأصحاب على عدم جواز الصلاة فيه لم نتحققه ، ولعله الشلمغاني الذي حكي عن ظاهره الجواز ، لكن لم يثبت انه منا ، لما قيل من انحرافه ، ولذا رفضت كتبه ، وأما احتمال أنه الصدوق والكاتب ففيه أنهما وإن قالا بطهارته إلا أنهما وافقا على المنع من الصلاة ، ومن هنا حكي عن المجمع الإجماع من أصحابنا حتى القائلين بطهارته ، ومنه يعلم حينئذ عدم انحصار المانعية فيه بالنجاسة ، بل الموت من حيث أنه موت مانع لها أيضا ، لظاهر النصوص (٥) ولذا ذكر بالخصوص ، ولم يكتفوا عنه باشتراط الطهارة في اللباس ، قيل كما أنه لم يكتفوا عنه باشتراط كونه من مأكول اللحم باعتبار كونه ولو للموت من غيره ، فتجتمع حينئذ فيه عندنا ثلاث جهات للمنع ، لكن فيه أن مثله لا يندرج في إطلاق غير مأكول اللحم المنصرف بالتبادر إلى ما لا يكون كذلك بغير الموت ، كما أن مأكول اللحم يكفي في صدقه تقدير التذكية ، ولذا جاز الصلاة في فضلاته التي لم تنجس بملاقاته كالشعر والصوف ونحوهما ، فينحصر المنع حينئذ في جهتين.

وكيف كان فلا إشكال في مانعية الموت للصلاة ، بل‌ قول الصادق عليه‌السلام لزرارة (٦) في صحيح ابن بكير : « وإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وشعره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ من أبواب لباس المصلي.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ٣٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٤) سورة المائدة ـ الآية ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ من أبواب لباس المصلي.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ١.

٤٩

وبوله وروثه وألبانه وكل شي‌ء منه جائزة إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح » ظاهر في اشتراط التذكية ، كخبر علي بن أبي حمزة (١) « سألت أبا عبد الله وأبا الحسن عليهما‌السلام عن لباس الفراء والصلاة فيها فقال : لا تصل فيها إلا فيما كان منه ذكيا ، قلت : أو ليس الذكي ما ذكي بالحديد؟ فقال : بلى إذا كان مما يؤكل لحمه. » وغيرهما ، فكان الأولى تعبير المصنف وغيره باشتراط التذكية لا بأن لا يكون جلد ميتة ، اللهم إلا أن يراد العلم بعدم كونه جلد ميتة ، فيكون حينئذ بمعنى اشتراط التذكية ، ولعله كذلك ، لظهور اتفاق الأصحاب على عدم الواسطة بين الحكم بالتذكية والحكم بالميتة ، فلا تفاوت حينئذ بين اشتراط التذكية وبين اشتراط عدم كونه ميتة ، إذ المشكوك فيه باعتبار عدم العلم بتذكيته وعدم أمارة شرعية تدل عليها محكوم بأنه ميتة لأصالة عدم التذكية ، ومعروفية الفرق بين الشرط والمانع بالاكتفاء في نفي الثاني بالأصل دون الأول انما هي حيث يكون نفي الثاني مقتضى الأصل ، لا نحو المقام الذي مقتضى الأصل تحققه ، والمناقشة في حجية الأصل وغيره من أقسام الاستصحاب مفروغ من فسادها في محله ، كالمناقشة فيه بأنه معارض بأصالة عدم الموت حتف أنفه ، فتبقى كل من أصالة عدم الاجتناب وقاعدة الطهارة واستصحاب حالة الحياة وطهارة الملاقي سالمة عن المعارض ، إذ قد سبق في كتاب الطهارة أنه لا معنى لأصالة عدم الموت حتف أنفه ، بل الأصل بقاؤه إلى الغاية التي أجلها الله له ، والأصل عدم عروض شي‌ء غيرها ، وبه ينقطع أصالة الطهارة وقاعدة فضلا عن أصالة طهارة الملاقي وعدم الاجتناب ، خصوصا بعد اشتراط الشارع بقاءها بالتذكية المشكوك فيها الذي مقتضى الأصل عدمها ، فلا معنى لاستصحاب حال الحياة لما بعد الموت الذي هو حالة أخرى ، وثبوت الطهارة فيه للتذكية لا للحياة السابقة ، ولو سلم أنها تلك الطهارة فهي مشروطة بالتذكية التي قد عرفت اقتضاء الأصل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ٣.

٥٠

نفيها ، على أنه لو أغضي عن ذلك كله لم تثبت التذكية التي هي شرط الصلاة كما عرفت بنحو ذلك ، ضرورة الاكتفاء في بقاء الطهارة باحتمال التذكية لا ثبوتها قطعا ، إذ هي من لوازم الطهارة الواقعية ، لا الثابتة بالأصل الذي لا دليل على حجيته بالنسبة إلى أمثال هذه اللوازم للواقع ، بل الدليل على خلافها قائم كما لا يخفى على من له أدنى معرفة ، فما في المدارك وتبعه غيره من المناقشة فيما ذكرنا بنحو ما عرفت في غير محلها.

نعم قد يناقش بأن ظاهر النصوص الحكم بالتذكية حتى يعلم كونه ميتة ، قال سماعة (١) في الموثق : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تقليد السيف في الصلاة فيه الفراء والكيمخت فقال : لا بأس ما لم يعلم أنه ميتة » وقال الحلبي (٢) في الصحيح : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف التي تباع في السوق فنشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال : اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميت بعينه » وفي‌ صحيحه الآخر (٣) « حدثني علي ابن أبي حمزة أن رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن الرجل يتقلد السيف ويصلي فيه قال : نعم ، فقال الرجل : إن فيه الكيمخت ، فقال : وما الكيمخت؟ فقال : جلود الدواب منه ما يكون ذكيا ومنه ما يكون ميتة ، فقال : ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه » وقول الصادق عليه‌السلام أيضا في الحسن (٤) :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢ والباب ٣٨ من أبواب الباس المصلي ـ الحديث ٢ لكن بإسقاط جملة‌ « فنشتريها فما ترى في الصلاة فيها ».

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤ عن عبد الله ابن المغيرة عن علي بن أبي حمزة وفي الباب ٥٥ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ٢ عن عبد الله بن مسكان عن علي بن أبي حمزة ولكن في التهذيب ج ٢ ص ٣٦٨ ـ الرقم. ١٥٣ من طبعة النجف عن عبد الله بن مسكان عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه‌السلام الى أن قال : « قال عبد الله : حدثني علي بن أبي حمزة ان رجلا… إلخ » والمراد من عبد الله الحلبي.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ١.

٥١

« ويكره الصلاة في الفراء إلا ما صنع في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة » بناء على إرادة المعنى الأخص من الكراهة فيه لا الحرمة ، وفي الفقيه (١) « روي عن جعفر ابن محمد بن يونس أن أباه كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام يسأله عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا أعلم أنه ذكي فكتب لا بأس به » مضافا إلى خبر السكوني (٢) المتقدم في كتاب الطهارة في السفرة المطروحة في الطريق وفيها لحم ولم يعلم أنها لمسلم أو ذمي وخبر الهدي (٣) المذكور في كتاب الطهارة أيضا ، وغيرها من النصوص ، وإلى قاعدة كل شي‌ء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ، وقاعدة كل شي‌ء ، لك طاهرة حتى تعرف أنه قذر ، وغيرها.

وتدفع بأن المراد بهذه النصوص ما هو الأصح عندنا من الحكم بتذكية المأخوذ من يد المسلم مستحلا للميتة بالدبغ وذبائح أهل الكتاب أولا ، أخبر بالتذكية أولا ، في السوق كان أولا ، بل ومن يد من لم يعلم إسلامه إذا كان في بلاد المسلمين فضلا عمن علم وجهل استحلاله ، بل والمطروح في أرض المسلمين إذا كان عليه أثر الاستعمال ككونه فعلا أو خفا حتى يعلم أنه ميتة ، لا أن المراد الحكم بتذكيته مع فقد سائر هذه الامارات كالجلد في يد الكافر أو سوقه أو أرضه أو أرض المسلمين وليس عليه أثر الاستعمال ، وأن الأصل فيه التذكية على كل حال حتى يعلم أنه ميتة بغير أصالة عدم التذكية ، لعدم الدليل الصالح القطع الأصل المزبور ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، بخلاف ما حكمنا فيه بالتذكية لظاهر النصوص المتقدم بعضها المنزل إطلاقها على ما في غيرها من النصوص ، ضرورة كونها من مذاق واحد كما لا يخفى على من رزقه الله معرفة لسان‌

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ١٦٧ ـ الرقم ٧٨٩ من طبعة النجف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الذبح ـ الحديث ١ من كتاب الحج.

٥٢

أهل العصمة عليهم‌السلام ، ففي‌ صحيح الحلبي (١) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال : صل فيها حتى يقال لك إنها ميتة بعينها » ومرسل ابن الجهم (٢) « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أعترض السوق فأشتري خفا لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال : صل فيه ، قلت : فالنعل قال : مثل ذلك ، قلت : إني أضيق من هذا قال : أترغب عما كان أبو الحسن عليه‌السلام يفعله؟ » وصحيح البزنطي (٣) « سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال : نعم ، ليس عليكم المسألة ، إن أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وإن الدين أوسع من ذلك » وفي‌ الفقيه (٤) « سأل الجعفري العبد الصالح موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن رجل يأتي السوق » الحديث. وخبر إسحاق بن عمار (٥) عن العبد الصالح عليه‌السلام « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام ، قلت : فان كان فيها غير أهل الإسلام قال : إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » وخبر إسماعيل ابن موسى عن أبيه (٦) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء أيشتريها الرجل في سوق من أسواق الجيل (٧) أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟

__________________

(١) فروع الكافي ج ١ ص ٤٠٣ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

(٤) الفقيه ج ١ ص ١٦٧ ـ الرقم ٧٨٧ من طبعة النجف.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧ لكن رواه عن سعد بن إسماعيل عن أبيه إسماعيل بن عيسى كما في التهذيب ج ٢ ص ٣٧٠ ـ الرقم ١٥٤٠ من طبعة النجف وهو الصحيح.

(٧) في الوسائل من طبعة عين الدولة « الجيل » لكن في التهذيب « الجبل » كما في الفقيه وكذا تقدم في ج ٦ ص ٢٤٦ من الجواهر.

والجيل : بالجيم والياء المثناة التحتانية : الصنف من الناس.

٥٣

قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه » بل عن‌ الفقيه (١) « سأل إسماعيل بن عيسى أبا الحسن الرضا عليه‌السلام الحديث. وخبر البزنطي (٢) عن الرضا عليه‌السلام « سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلي فيه؟ قال : نعم ، أنا أشتري الخف من السوق ويصنع لي وأصلي فيه ، وليس عليكم المسألة » إلى غير ذلك مما هو ظاهر أو صريح في جميع ما ذكرنا بعد تنزيل مطلقا على مقيدها ، فما عساه يتوهم من حلية ما في سوق المسلمين وإن كان في يد كافر لإطلاق بعض هذه النصوص يدفعه‌ قوله عليه‌السلام : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه » إلى آخره.

ودعوى كون التعارض بينهما من وجه يدفعها ـ بعد إمكان دعوى ظهور سوق المسلمين فيه ـ الترجيح بالشهرة بين الأصحاب أو الإجماع إلا ممن لا يعتد بخلافه ، كما أن خبر إسحاق بن عمار ظاهر في الحكم بميتة ما هو في أرض الكفار ، بل لعل منه مع خبر إسماعيل يستفاد كون يد الكافر وأرضه إمارة على عدم التذكية معاضدة للأصل ، لا أنها لا أثر لها أصلا ، ومن هنا حكم بعدم التذكية لما في يده وإن كان في أرض المسلمين التي هي إمارة على التذكية لولاها ، وقاطعة للأصل ترجيحا لها عليها ، بل هو الداعي لذكر بعض الأصحاب الحكم بميتة خصوص ما في يده ، خصوصا من علله بالعمل الظاهر كما في الذكرى ، ولا ينافي ذلك ما سبق منا في كتاب الطهارة من الحكم بتذكية ما في يد المسلم وإن سبقتها يد الكافر ، إذ يمكن القول برجحانها عليها وإن قلنا بأنها إمارة ، استظهارا من النصوص المزبورة قوة يد المسلم ، وأنها مع وجودها‌

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ١٦٧ ـ الرقم ٧٨٨ من طبعة النجف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

٥٤

لا يلتفت إلى غيرها.

ودعوى تعارض العموم من وجه بين دليلي كل من اليدين يدفعها أولا أن المعلوم من مراعاة الترجيح بين المتعارضين ما كان بينهما نفسيهما لا دليليهما ، اللهم إلا أن يفرق بانحصار طريق الترجيح في المقام بين الأدلة ، فتأمل. وثانيا أنه لا ريب في رجحان دليل يد المسلم بالتعدد ووضوح الدلالة ومعلومية أصالة الصحة في فعل المسلم ، بخلاف أصالة الفساد في فعل غيره ، مع أنه قد يقال في المقام : إن التعارض بين استصحاب حكم يد الكافر ونفس يد المسلم ، نعم لو فرض كونه في يديهما معا لشركة أو غيرها تحقق التعارض بينهما ، والترجيح ليد المسلم أيضا بما عرفت ، بل الظاهر ترجيح استصحاب حكم يد المسلم على خصوص يد الكافر بما سمعت ، أما يد الكافر على سوق المسلم وأرضه فلا ريب في رجحانها عليهما لإطلاق النص والفتوى ، بل يمكن دعوى ترجيح استصحاب حكمها عليهما فضلا عنها على إشكال ، كما أن الظاهر ترجيح أرض المسلم وسوقه ولو استصحابا على أرض الكافر وسوقه ولو شخصا ، ضرورة ظهورهما في اليد للمسلمين وإن لم تكن في القوة بمنزلة اليد الشخصية ، هذا لو قلنا بكون أرض الكافر وسوقه إمارة على عدم التذكية ، وإلا فلا معارض حينئذ إلا الأصل الذي قد عرفت قطع اليد له وإن سبق الحكم ظاهرا بمقتضاه ، فلو اشترك السوق والأرض حينئذ فهو كاشتراك اليدين يقدم الإسلام ، هذا.

وفي كشف الأستاذ « انه لو علم وجوده في السوقين أو اليدين علم التاريخ أو جهل بني على التذكية ، وفي الأرضين مع سبق الإسلام يقوى ذلك ، وفي خلافه يقوى خلافه » وظاهره الفرق بين الأرض والسوق ، وهو لا يخلو من نظر ، كما أن ما فيه ـ من أنه لو ترافع الكافر والمسلم فيه وكل يدعيه بقي على الحكم بعدم التذكية ، ولا يبنى هنا على ترجيح الأرض والسوق ـ لا يخلو منه أيضا ، فتأمل.

٥٥

وعلى كل حال فحيث يحكم بالتذكية لحصول إمارتها الشرعية بعد الحكم بالميتية للأصل أو لليد أو بالعكس فهل هو على الكشف بمعنى جريان الحكم المذكى عليه مثلا فيما مضى من الأفعال والمباشرة لو كانت أولا بل من حين تحقق الامارة؟ وجهان ، أوفقهما بالأصل والاحتياط الثاني ، ولا ينافيه عدم تصور التذكية له الآن ، ضرورة كون المراد جريان الأحكام لا التذكية حقيقة ، وربما يؤيده في الجملة ما قيل من وجوب الوضوء للعصر مثلا على من شك فيه بعد الفراغ من الظهر ، وإن حكم بصحة الظهر بناء على أن الدليل فيها صحة فعل المسلم ، فهي حينئذ وإن ثبتت في الظهر لكن لا يثبت بها كونه متوضئ حقيقة ، فتأمل جيدا.

والمراد باليد للمسلم التصرف فيه على الوجه الممنوع في الميتة ، أو اتخاذه لذلك ، وهل يكفي في الثاني مجرد كونه في يده وإن احتمل فيه لإرادة الإلقاء مثلا؟ إشكال ، أقواه العدم ، لأصالة عدم التذكية ، والشك في انقطاعها بذلك ، إذ ليس ما نحن فيه بعد التأمل في النصوص والفتاوى إلا من جزئيات أصالة صحة فعل المسلم ، ولا ينافيه الحكم سابقا بتذكية مجهول الإسلام إذا كان في بلاد المسلمين ، لأنه محكوم عليه شرعا بأنه منهم ، ولذا يجب تغسيله ودفنه وغيرهما من أحكام المسلمين ، ومنها صحة فعله الذي نحن فيه ، كما أنه لا ينافيه الحكم بتذكية ما عليه أثر الاستعمال في أرضهم وسوقهم (١) إذ هو لظهور كون يدهم عليه ، فان أرضهم بالنسبة إليهم جميعا كدار كل واحد بالنسبة اليه ، وعليه جرى حكم القطعات وغيرها ، فالجميع حينئذ راجع إلى أصالة صحة فعل المسلم ،

__________________

(١) هذا يخرج المسألة عن محل النزاع الذي هو في الأرض والسوق من حيث هما كذلك ولو كان خاصا في ذي الأثر فلا معنى للرد على المحدث البحراني كما سيأتي إلا أن يدعى إرادة المحدث الحل مطلقا ( منه رحمه‌الله ).

٥٦

وحينئذ قد يتوقف في الحكم بالتذكية بمجرد كونه في يد المسلم وإن ظن أو احتمل إرادة الإلقاء ، بل ظاهر بعض عبارات الأستاذ في كشفه الجزم بالعدم ، ودعوى ظهور القبض في التصرف المحرم بالميتة ظهورا معتبرا شرعا يمكن منعها ، خصوصا مع ملاحظة أصالة عدم التذكية التي لم يعلم انقطاعها بمثل ذلك ، ضرورة كون المعلوم من الأدلة فعل المسلم كبيع ونحوه ، ومن ذلك يمكن استفادة كون المراد بأصالة صحة فعل المسلم الحكم بالصحة واقعا لا في حقه خاصة ، ولعله كذلك بالنسبة إلى كل ما علم حصول الفساد بسببه ، أما مع اختلاف الاجتهاد أو التقليد فحمل الفعل فيه على الصحة حينئذ في حق المخالف بالاجتهاد لا يخلو من تأمل ، إذ كل منهما صحيح وإن كانت السيرة والعمل على ذلك أيضا ، كما هو واضح ، لكن لا يخلو من إشكال ، بل قد يشعر خبر أبي بصير (١) الآتي باعتبار عدم اعتقاد الفساد في أصالة صحة القول والفعل ، وهو لا يخلو من وجه في غير الأمور العامة البلوى التي قضت السيرة فيها بالصحة واقعا وإن كان مخالفا في الاعتقاد ، ولتحقيق المسألة محل آخر.

وكيف كان فقد ظهر من النصوص المزبورة صحة ما ذكرناه جميعه ، ومن الغريب طرح جماعة منهم الشيخ على ما قيل والفاضل والمحقق الثاني بعض النصوص السابقة ، وتقييد آخر في مقابلة أصالة عدم التذكية ، فمنع من إباحة ما في يد مستحل الميتة بالدبغ وإن أخبر بالتذكية كما عن صريح الثاني منهم وغيرهم ، بل صريح الأولين المتهم بذلك أيضا ، كالمحكي عن نهاية الأحكام وكشف اللثام أن الأقرب عدم إباحة ما في يد المسلم المجهور حاله بعد أن ذكرا فيه وجهين كالتذكرة ، كل ذلك للأصل الذي يقطعه أدنى دليل فضلا عن تلك النصوص الواضحة الدلالة المعتضدة بفتوى الأكثر كما عن كشف الالتباس ، والمشهور فتوى ورواية كما عن روض الجنان ، وعليه عمل الأصحاب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ٢.

٥٧

وفتواهم كما في المدارك ، قلت : بل عليه السيرة المعلومة التي هي فوق الإجماع ، خصوصا في مجهول الحال.

و‌خبر أبي بصير (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « كان علي بن الحسين عليهما‌السلام رجلا صردا فلا تدفئه فراء الحجاز ، لأن دباغها بالقرظ ، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو وفيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه ، وكان يسأل عن ذلك فيقول : إن أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ، ويزعمون أن دباغه ذكاته » مع الطعن في سنده وقصوره عن معارضة غيره ظاهر بقرينة لبسه إياها في إرادة الاحتياط من جهة الموضوع الذي لا ينافي الاحتياط فيه العصمة ، وأما احتمال الفرق بين الصلاة وغيرها بكفاية عدم العلم بالميتة في الثاني دون الأول كما أومأ إليه في الذكرى حيث قال بعد نقله : وفيه دلالة على جواز لبسه في غير الصلاة ، وكذا مفهوم‌ خبر ابن مسلم (٢) عن الباقر عليه‌السلام قال : « سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ فقال : لا ولو دبغ سبعين مرة » فيرده الإجماع على عدم الفرق ، وأنه لا واسطة بين المحكوم بتذكيته وميتته ، ومن الغريب دعواه دلالة مفهوم سؤال ابن مسلم على ذلك ، ومن هنا اعترف بعد ذلك بضعفه.

وما أبعد ما بين دعوى الجمود على الأصل المزبور وبين دعوى جواز الاستعمال إذا لم يعلم كونه ميتة كما ذهب إليه جماعة من متأخري المتأخرين على ما سمعت ، بل ظاهر المحدث البحراني منهم عدم الفرق في ذلك بين ما في يد الكافر وغيره ، أخذا بعموم‌ قوله عليه‌السلام (٣) : « كل شي‌ء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك حتى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ١ من كتاب التجارة مع اختلاف يسير.

٥٨

تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » الذي قد عرفت إرادة تلك الأفراد منه ، خصوصا مع ملاحظة الأمثلة منهم في نصوص الشبهة بالموضوع التي حكموا فيها بالحل حتى يعرف الحرام منه بعينه ، إذ هي ظاهرة في إرادة حل ذلك عند حصول الامارة الشرعية عليه كسوق المسلمين ونحوه ، أو لم يكن هناك أصل يقتضي عدم الحل وكانت الشبهة غير محصورة ، وإلا فمع فرض كونه حجة شرعية ولا قاطع له قد عرفت الحرام بعينه من جهته ، كما هو واضح ، على أنه لو سلم العموم المزبور أمكن الخروج عنه بالنسبة إلى خصوص ما في يد الكافر وسوقه وأرضه بظاهر بعض النصوص المزبورة ، كخبري إسحاق (١) وإسماعيل (٢) وغيرهما ، فلا ريب حينئذ في ضعف هذا القول أيضا كسابقه كما عرفت.

ومثله ما يحكي عن الشهيد في الذكرى والدروس وبعض من تأخر عنه من التفصيل فيما في يد المستحل بين الاخبار بالتذكية وعدمه ، فيقبل في الأول لأنه ذو يد دون الثاني ضرورة منافاته لإطلاق النصوص السابقة بل صريح بعضها من غير شاهد معتد به ، مع أن الموجود في الذكرى غير صريح فيما حكي عنها ، قال : ما حاصله ولو وجد في يد مستحل الميتة بالدبغ ففيه صور ثلاث : الأولى أن يخبر بأنه ميتة ، فليجتنب ، الثانية أن يخبر بأنه مذكى ، والأقرب القبول ، لكونه ذا يد عليه فيقبل قوله كما يقبل في تطهير الثوب النجس ، ويمكن المنع العموم ( فَتَبَيَّنُوا ) (٣) ولأن الصلاة ثابتة في الذمة بيقين فلا يزول بدونه ، الثالثة أن يسكت ، ففي الحمل على الأغلب من التذكية أو على الأصل من عدمها الوجهان ، وقد روي في‌ التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج (٤) « قلت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

(٣) سورة الحجرات ـ الآية ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

٥٩

لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني أدخل سوق المسلمين أعني هذا الخلق الذين يدعون الإسلام فأشتري منهم الفراء للتجارة ، فأقول لصاحبها : هي ذكية فيقول : بلى ، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال : لا ، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول : قد شرط الذي اشتريتها منه أنها ذكية ، قلت : وما أفسد ذلك؟ قال : استحلال أهل العراق الميتة ، وزعموا أن دباغ الجلد ذكاته ، ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » وفيه دلالة على أنه لو أخبر المستحل بالذكاة لا يقبل منه ، لأن المسؤول في الخبر إن كان مستحلا فذاك ، وإلا فبطريق الأولى.

وهو كما ترى لا ظهور فيه في التفصيل ، بل قد اعترف بعد ذلك عند روايته خبر علي بن أبي حمزة (١) المتقدم سابقا بأن فيه دلالة على تغليب الذكاة عند الشك ، وهو يشمل المستحل وغيره ، وعند روايته خبر البزنطي (٢) المتقدم أيضا بأن يدل على الأخذ بظاهر الحال على الإطلاق ، وهو شامل للأخذ من المستحل وغيره ، بل قال : ويؤيده أن أكثر العامة لا يراعي في الذبيحة الشروط التي اعتبرناها مع الحكم بحل ما يذكونه بناء على الغالب من القيام بتلك ، وأيضا فهم مجمعون على استحلال ذبائح أهل الكتاب واستعمال جلودها ، ولم يعتبر الأصحاب ذلك أخذا بالأغلب في بلاد الإسلام من استعمال ما ذكاة المسلمون ، وظاهره الميل إلى ما ذكرناه من الإطلاق.

وإن كان بعض كلامه لا يخلو من مناقشة ، كدعواه دلالة خبر ابن الحجاج على ما ذكره ، إذ من المحتمل إرادة عدم صلاح بيعها كذلك لظهور الاخبار به في العلم به ، ولأن قول المخبر : هو ذكي يحتمل لإرادة الذكاة ولو بالدبغ ، لأن من ذكاة الجلد عندهم دباغه ، بل لعل تعليل الامام عليه‌السلام بما سمعت يومي إلى ذلك ، وهذا غير الأخبار بالتذكية بمعنى الذبح ، فلا يكون في الأخبار دلالة على عدم قبوله منه لو وقع ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

٦٠