جواهر الكلام - ج ٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

يصيره كعدم القبر نحو ما سمعته في الحائل ، وإلا لاجتزي في المربعة بعشرين ، عشرة في الإمام ، وعشرة في أحد الجانبين ، ضرورة أنك عرفت سابقا عدم الكراهة في القبر في الخلف أو أحد الجانبين ، فما في التذكرة والوسيلة والمحكي عن النهاية والمبسوط والجامع والإصباح ونهاية الأحكام من اعتبار العشر في غير جهة الخلف في غير محله ، بل لعله اجتهاد في مقابلة النص ، وإن وجه في المحكي عن الروض بأنه إذا بعد عن القبور بعشرة أذرع في الجهات الثلاث لم يكن بين القبور ولا إلى القبر ، لكن فيه ما أومأنا إليه سابقا من أن مقتضى ذلك عدم اختصاص الخلف ، بل يجزي العشرون كما عرفت ، وهو واضح الفساد بعد الموثق المزبور.

واحتمال أن ذلك بناء منهم على عدم الصلاة خلف القبر ويمينه ويساره ولو كان متحدا دون ما إذا كان خلفا ، فاعتبار الثلاثين حينئذ في محله يدفعه أولا ما عرفت من عدم الدليل على اليمين واليسار في القبر الواحد ، واستنباطه من موثق عمار بالوجه الذي ذكرناه سابقا يقتضي اعتبار الخلف أيضا ، لذكره في الموثق المزبور. وثانيا أنه لا تلازم بين عدم الكراهة مع الوقوع خلفا مع عدم كونه أحد طرفي البينية وبين ثبوتها فيه حال كونه أحد طرفيها ، فيحتاج حينئذ في رفع الكراهة عنه إلى البعد المزبور كما هو مضمون الموثق ، وحيث قد عرفت سابقا عدم اعتبار التربيع فيه في الكراهة وجب حينئذ الاجتزاء في رفعها بالعشرين في المثناة.

هذا كله في رفع كراهة « بين » بذلك ، أما « في » و « على » فلا يرتفعان بهذا البعد قطعا ، بمعنى أنه لو فرض كونه على قبر أو في المقبرة وقد بعد عن القبور التي في جهاته الأربعة بالمقدار المذكور لم يجد في رفع كراهة كونه في المقبرة وعلى القبر ، أما « إلى » فقد يقوى بملاحظة عبارات الأصحاب وذيل الموثق ارتفاعها ، مع احتمال البقاء ، لأن الرفع من حيثية لا يلزمه الرفع من حيثية أخرى ، لكن على الأول حينئذ‌

٣٦١

يتجه استفادة ارتفاعها في المتحد المستقبل ، ضرورة لزوم ارتفاعها مع البينية لارتفاعها بدونها ، بخلاف الثاني ، فيشكل حينئذ ارتفاعها بغير البعد الذي لا يجامع صدق الصلاة اليه ، واحتمال أن التقدير في الموثق للكشف عن عدم صدق ذلك ، وعدم صدق البينية عرفا مما يؤيد الأول ، بل قد يؤيده غير ذلك أيضا مما يظهر بالتأمل ، كما أنه به لا يحتاج إلى تكرار ما ذكرنا سابقا في نحو هذا التقدير في محاذاة النساء مما له تعلق في المقام ، بل ولا يحتاج إلى بعض ما يذكر هنا في موضوع القبر والمعتبر فيه من السقط والاجزاء ونحوها مما لا ينبغي للفقيه تضييع العمر في أمثالها ، وترك تحرير المهم مما تعرضت له النصوص والفتاوى.

هذا كله في قبور غير الأئمة عليهم‌السلام ، بل لعلها لا تندرج لمكان مزيد مزيتها في إطلاق القبور نصا وفتوى ، فيبقى حينئذ حكمها مقصورا على الأصل وما تقتضيه الأدلة بالخصوص ، وتفصيل البحث فيها حينئذ أن الذي يظهر من الأصل وإطلاق الأدلة عدم البطلان بالتقدم عليها ، بل لعل سكوت المعظم عن ذكر ذلك مع ظهور استقصائهم في المندوبات والمكروهات كالصريح في ذلك ، على أنه لم نجد في الأدلة ما يقتضيه سوى النهي في صحيح الحميري (١) السابق المعتضد بما سمعته في خبر هشام ابن سالم (٢) المروي عن مزار ابن قولويه ، بل وبالأمر بالصلاة خلفه أو عند الرأس في غيره من النصوص المتقدم بعضها (٣) ويأتي الآخر (٤) لكن التعويل عليه في قطع ما عرفت ـ بعد ظهور إعراض الأساطين عنه ، إذ هم كما ستعرف بين راد للخبر من أصله ، وبين حامل له على الكراهة ـ مما لا يلائم أصول المذهب ، خصوصا مع ظهور‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٦ و ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦٩ ـ من كتاب المزار ـ الحديث ٥.

٣٦٢

التعليل فيه في غير الواجب من الأدب إن كان المراد من الامام فيه المعصوم عليه‌السلام إذ حرمة التقدم عليه في المكان الذي هو غير مناف للاحترام الواجب في زمن الحياة غير معلومة ، فضلا عما بعد الموت ، وفضلا عن كونه شرطا في صحة الصلاة ، بل معلوم عدمها ، وإن كان المراد إمام الجماعة فغرابة انطباقه على المعلل واضحة ، ومن هنا كان الأليق إرادة الأول ، خلافا لما يظهر من غير واحد من الأصحاب ، وحينئذ فيراد غير الواجب من الأدب منه كما عرفت ، وعليه حينئذ يتم القول بكراهة التقدم.

واستحباب تركه باعتبار كونه من الآداب المندوب إليها ، فمن الغريب ركون جماعة من متأخري المتأخرين إلى البطلان كالبهائي وغيره للصحيح (١) المزبور الذي لم يخص الصلاة بالنهي ، بل مقتضاه مطلق التقدم وإن لم يكن في الصلاة ، ولا غر ممن لم يتحرر عنده الطريقة منهم ، أو لم يعض عليها بضرس قاطع ، وعليه قد يقال بعدم البطلان في هذه الأزمنة لوجود الحائل من الصندوق والثياب والشبابيك ونحوها ، واحتمال سريان حكم القبر إليها باعتبار معاملتها معاملته في التعظيم وغيره لا تساعده الأدلة.

وأما المحاذاة فهي أولى بالصحة من التقدم ، خصوصا بعد صحيح الحميري الآمر فيه بالصلاة عن اليمين والشمال ، إذ احتمال عطف قوله عليه‌السلام : « يصلي » فيه على « يتقدم » أو « يصلي » الأولى فلا يكون دالا على ذلك كما ترى مخالف للمعروف في تأدية هذا المعنى بإعادة النفي ، وعدم الاتكال على النفي الأول بل تركه فيه قرينة على إرادة الإثبات من المعطوف ، ودعوى أن رواية الاحتجاج (٢) قرينة على إرادة ذلك منه يدفعها أولا أن المعنى المذكور مما لم يتعارف إرادته من مثل العبارة المزبورة اعتمادا على أمثال هذه القرائن. وثانيا أن اليمين والشمال في الصحيح أعم من المساواة في خبر الاحتجاج ، فنفيها فيه لا يصلح قرينة على إرادة النفي من اليمين والشمال فيه ، نعم لو لا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢.

٣٦٣

أنه قاصر أمكن تقييد الصحيح به ، لكن لا ريب في قصوره ، لضعفه ، واعتضاد الصحيح بإطلاق‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح جعفر بن ناجية (١) : « صل عند رأس الحسين عليه‌السلام » وفي‌ خبر الثمالي (٢) « ثم تدور من خلفه إلى عند الرأس ، وصل عنده ركعتين ـ إلى أن قال ـ : وإن شئت صليت خلفه ، وعند رأسه أفضل » وفي‌ خبر صفوان (٣) « ثم تصلي ركعتين عند الرأس » وفي‌ خبره الآخر (٤) « ثم صل عند الرأس ركعتين » وفي المروي‌ عن العيون مسندا إلى ابن فضال (٥) قال : « رأيت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام وهو يريد أن يودع للخروج إلى العمرة ، فأتى القبر من موضع رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد المغرب فسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولزق بالقبر ثم انصرف حتى أتى القبر فقام إلى جانبه يصلي ، فألزق منكبه الأيسر بالقبر قريبا من الأسطوانة التي عند رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلى ست ركعات أو ثمان ركعات » إلى غير ذلك من النصوص التي أفتى بمضمونها جماعة من الأصحاب في آداب الزيارة ، فرفع اليد عن إطلاقها الذي يمكن دعوى أن أظهر أفراده المحاذاة لمكاتبة الحميري (٦) الضعيفة كما ترى.

ومن الغريب ما عن بعض متأخري المتأخرين من تحريم المساواة كالتقدم ، للخبر المزبور (٧) المعارض بما عرفت ، والجاري في تعليله ما سمعت ، والمخالف للمشهور من جواز المساواة إن أريد من الامام فيه إمام الجماعة ، على أنك قد عرفت عدم الحرمة في التقديم الذي هو أقوى شبهة منه من وجوه فضلا عنه ، بل حمله على الكراهة كالتقدم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٩ ـ من كتاب المزار ـ الحديث ٥.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب المزار ـ الحديث ٣ من كتاب الحج.

(٣) البحار ـ ج ٢٢ ـ ص ١٥٩ ـ ١٧٩ من طبعة الكمباني.

(٤) البحار ـ ج ٢٢ ـ ص ١٥٩ ـ ١٧٩ من طبعة الكمباني.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من كتاب المزار ـ الحديث ٣ مع نقصان في الجواهر.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢.

٣٦٤

بعد المعارضة بما سمعت لا يخلو من إشكال وإن كان مما يتسامح فيها ، لأن معارضها أيضا الاستحباب وهو مما يتسامح فيه ، ولكن لا ريب في أن الأحوط في تحصيل الندب والتجنب عن احتمال الكراهة الصلاة في جهة الرأس لكن لا على وجه المحاذاة والمساواة ، ولعله هو الذي أومأ إليه في خبر أبي اليسع (١) السابق بالأمر بالتنحي عن الخلف ناحية.

أما الصلاة خلفها فقد يظهر من المفيد وغيره المنع ، كما أن الذي يظهر من غيره من القائلين بالكراهة الكراهة فيها ، وربما أشكل على الجميع بالصحيح المزبور ، ودفع بأنه ضعيف شاذ مضطرب اللفظ ، ولعل الضعف لأن الشيخ رواه عن محمد بن أحمد بن داود عن الحميري ، ولم يبين طريقه اليه ، ورواه في الاحتجاج مرسلا عن الحميري ، والاضطراب لأنه في التهذيب ظاهر في الأمر بالصلاة عن يمينه وشماله وفي الاحتجاج نهي فيه عن التقدم والمساواة ، ولأنه في التهذيب كتابه إلى الفقيه ، وفي الاحتجاج إلى صاحب الأمر عليه‌السلام ، وقد يجاب بأن الظاهر من الشيخ في الفهرست كون الواسطة بينه وبين الراوي جماعة المفيد والحسين بن عبد الله وأحمد بن عبدون ، فيكون الخبر صحيحا كما وصفه غير واحد ، كما أن الظاهر تعدد الخبرين لا أنه خبر واحد مضطرب اللفظ ، أقصاهما المخالفة بالإطلاق والتقييد ، فطرحه حينئذ حتى بالنسبة إلى الحكم بندب الخلف أو جوازه من غير كراهة ـ مع اعتضاده بما سمعته من النصوص وفتوى جماعة لنصوص النهي عن الاتخاذ قبلة التي بعضها يمكن دعوى عدم شموله لقبورهم عليهم‌السلام فليس حينئذ إلا المرسل النبوي الواقع في ذيل صحيح زرارة (٢) الذي قد ذكرنا احتماله كغيره من نصوص الاتخاذ إرادة المعاملة معاملة الكعبة ، بل قيل بموافقته لروايات العامة وفتوى بعضهم بالحرمة ، وقد جعل الله الرشد في خلافهم ـ مخالف لأصول المذهب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٩ ـ من كتاب المزار ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٥.

٣٦٥

وطريقته ، على أنه ربما احتمل الفرق بين قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من الأئمة عليهم‌السلام ، فيقتصر في النهي عن الاستقبال على الأول ، لأنه مضمون المرسل ، ولأن الشبه بالمعبودية فيه أتم ، وكونه كفعل السابقين بأئمتهم ، وإن كان هو في غاية البعد ، بل ظاهر التعليل في ذيل خبر زرارة خلافه ، بل صورة المعبودية في أمير المؤمنين عليه‌السلام أتم باعتبار ضلال جمع من الناس ودعواهم فيه الربوبية.

فالقول حينئذ بعدم الكراهة في الجميع هو المتجه ، وكأنه لخصوصيتهم عليهم‌السلام على باقي الناس ، فاغتفر صورة معبوديتهم دون غيرهم ، بل قد يظهر من الأمر به في النصوص السابقة ندبه ، بل هو كالصريح من بعض أخبار الحسين عليه‌السلام بل في منظومة الطباطبائي أن الصحيح وغيره صريح في ذلك ، لكن الجزم به ـ مع احتمال كون المراد من الأمر به رفع الكراهة ، لأنه في مقام توهمها أو عدم التقدم ، خصوصا مع ملاحظة خبر أبي اليسع المشتمل على الأمر بالتنحي عنه ناحية ـ لا يخلو من إشكال ، وربما احتمال اختصاص قبر الحسين عليه‌السلام بالندبية ، للأخبار السابقة فيه ، ولا ريب في أن الأحوط في تحصيل المندوب وفي غيره الصلاة في جهة الرأس من غيره محاذاة.

والظاهر عدم الفرق فيما ذكرنا بين الفريضة والنافلة ركعتي الزيارة وغيرها ، لإطلاق الصحيح المنبئ عن الحكمة التي ذكرناها ، فما يظهر من بعض الأصحاب من قصر موضوع البحث على النافلة في غير محله ، خصوصا بعد ملاحظة معلومية الفرق بين قبورهم عليهم‌السلام وقبور غيرهم ، فإنه لا مجال حينئذ لتوهم المشاركة ، والله أعلم.

وكذا تكره الصلاة في بيوت النيران على المشهور بين الأصحاب ، بل عن الذكرى وجامع المقاصد نسبته إليهم ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، لكن ظاهرها إرادة المعابد منها ولذا عمم الحكم مدعيا الإجماع عليه لغيرها من معابدهم ، بل في‌

٣٦٦

كشف اللثام أنه ظاهر المعتبر ، لقوله : « وفي بيوت النيران والمجوس إلا أن ترش » وفي المدارك « ان الأصح اختصاص الكراهة بموضع عبادة النيران ، لأنها ليست مواضع رحمة ، فلا تصلح لعبادة الله » قلت : ولعله يمكن تنزيل المطلق من عبارات الأصحاب عليه ، لكن صرح ثاني المحققين والشهيدين وسيد المدارك بأن المراد المعدة لإضرام النار بها عادة وإن لم تكن موضع عبادة ، بل صرح الأولان بأنه على ذلك لا فرق بين وجود النار حال الصلاة وعدمه ، وكأنهم أخذوه من إطلاق اللفظ ، وتعليل المشهور الكراهة كما قيل بأنه تشتبه بعبادها ، وإن استضعفه في المدارك ، وفيه أن الإطلاق منصرف إلى الأول ، والتعليل لا ينافي الاختصاص ، بل ظاهر كشف اللثام أن مفاده الاختصاص ، وحينئذ يتجه الحكم بالكراهة للإجماع المزبور والمعتضد بما عرفت ، وبتعليلي المشهور والمدارك ، بل وبالمحكي من علل محمد بن علي بن إبراهيم من أن العلة في كراهة الصلاة في بيت فيه صلبان أنها شركاء يعبدون من دون الله ، فينزه الله تعالى أن يعبد في بيت يعبد فيه من دون الله ، على أنه يمكن القول بالتعميم بعد التسامح بأن الصلاة في غير المعابد من بيوت النيران كالفرق والأتون والمطابخ ونحوها أقرب إلى معنى التشبه بهم من الصلاة في نفس المعابد ، فمع فرض كراهة التشبه بهم ـ كما يظهر معلوميته بين الأصحاب من التعليل المزبور ، بل يومي اليه في الجملة ما تقدم في أخبار الجنائز (١) من تعليل النهي عن اتباع الجنازة المشيع بأنه من عمل المجوس الكاشف من أن المراد في الأمر بمخالفة أهل الكتاب في غيرها من أخبارها كراهية المشابهة لهم ـ يتجه حينئذ الحكم بتعميم الكراهة ، لكن مع عدم إرادة خصوص الصلاة من بين أفراد المشابهة ، اللهم إلا أن يدعى من مرجوحية التشبه بهم فيها بالخصوص ، أو يستند في الكراهة إلى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الدفن ـ الحديث ٦ من كتاب الطهارة.

٣٦٧

فحوى ما تسمعه من النهي (١) عن الصلاة إلى النار المضرمة المستفاد من بعض النصوص فضلا عن الانسياق أن الحكمة فيه صورة عبادة النار ، فلعل مثلها يتأتى في المقام ، لكن من المعلوم زوال الكراهة بزوال نسبة الإضافة ، كما أن المعلوم ثبوتها على التقدير المزبور فيما اعتيد إضرام النار فيه وإن لم يكن أحد من أول الأمر له ، نعم يعتبر في صدق النسبة فيه على الظاهر تكرر الاضرام فيه حتى يصلى إلى حد النسبة عرفا ، أما المعد فقد يحتمل الاكتفاء بإعداده وكونه مما يضرم فيه النار عرفا عن الاضرام فيه ، فضلا عن تكرره ما لم يعدل بالقصد فيه إلى أمر آخر غيرها بحيث تنتفي النسبة عرفا ، وفي إلحاق أمكنة النار عرفا في الصحراء ونحوها مما لا يسمى بيتا بالبيوت وجه.

وعلى كل حال فيما عن المقنعة والنهاية من التعبير بلا يجوز يظن إرادة الكراهة منه ، إذ قد عرفت التكلف في دليلها فضلا عن عدم الجواز ، واحتمال خفاء الدليل في زماننا دون زمانهم مستبعد جدا ، ومنه ينقدح عدم خلافهما في جملة مما نسب إليهما لهذا التعبير ، كما أن مما ذكرنا يعلم ما في المحكي عن الحلبي من التعبير بعدم حل الوقوف فيها ، وأن له في الفساد نظرا ، والديلمي من عدها في الضرب الذي لا تجوز فيه الصلاة بل تفسد ، والصدوق من الحرمة ، مع أن الأخير لم يثبت ، والجمع بين الحرمة واحتمال عدم الفساد من الأول معلوم البطلان عندنا ، وضعف الجميع بعدم الدليل على ذلك واضح ، لما عرفت من أنه لا دليل إلا على كراهة ما سمعت بالتكلف المزبور.

وعلى كل حال هو لا يشمل سطوحها ، ولذا حكي عن غير واحد التصريح بنفيها عن الصلاة عليها ، نعم مقتضاه كإطلاق الفتاوى بقاؤها ولو مع الرش ، فما سمعته عن المعتبر ـ بناء على رجوع الاستثناء فيه إلى ما يشمله ، ولذا استظهر منه ما عرفت ـ

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١ و ٢.

٣٦٨

لم نقف له على دليل ، ولعل هذا يؤيد رجوعه إلى الأخير ، فيكون الاستظهار السابق منه لا يخلو من منع ، والأمر سهل.

وكذا في بيوت الخمور إذا لم تتعد اليه نجاستها أي إلى ما يشترط طهارته فيها على المشهور نقلا في المحكي عن المختلف وتخليص التلخيص إن لم يكن تحصيلا ، لكن الموجود في‌ موثق عمار (١) عن الصادق عليه‌السلام الذي هو المستند على الظاهر « لا يصلى في بيت فيه خمر أو مسكر ، لأن الملائكة لا تدخله » فكان الأولى التعبير به كما عن الدروس وإرشاد الجعفرية ، إذ الخمر في المتن وغيره وإن أمكن إرادة ما يشمل المسكر منه إلا أن من الواضح صدق ما في النص على غير المعتاد لذلك ، كصدق ما في المتن على المعتاد المعد له غير الموجود فيه فعلا ، ولو تكلف لكراهة الأخير بأنه من مظان النجاسة ، وبعيد عنه الرحمة ، وأنه عبر بذلك لشموله ففيه بعد التسليم أنه مفوت لكراهة غير المعد من البيوت وفيه الخمر المستفاد من الموثق المزبور ، فهو أولى بالتعرض منه ، اللهم إلا أن يكونوا قد فهموا من قوله (ع) : « فيه خمر » الدوام والاتصال والاعتياد نحو ما تسمعه إن شاء الله في بيت فيه مجوسي ، فيحسن حينئذ منهم التعبير بيوت الخمر ، كقولهم : بيوت المجوس.

وفي إلحاق بيت الفقاع أو بيت فيه الفقاع احتمال ينشأ مما في النصوص (٢) من خمر مجهول ، فهو مندرج فيه فيما جاء من الشارع ، أو ثابتة له أحكامه التي منها ما نحن فيه ، وعلى كل حال فالموثق المزبور بعد ظهور الكراهة من تعليله وإعراض المعظم عن ظهور التحريم منه قاصر عن تقييد إطلاقات الجواز وعموماته ، خصوصا بعد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٩ و ١٢ والباب ٢٨ ـ الحديث ٢ من كتاب الأطعمة والأشربة.

٣٦٩

اعتضادها بما عن المقنع من أنه روي (١) أنه يجوز ، فما عن الفقيه والمقنع والمقنعة والنهاية والمراسم من التعبير بلا يجوز ، بل عن المراسم منها التعبير بالفساد مع ذلك لا ريب في ضعفه إن لم يرد منه الكراهة ، وإن كان المحكي من عبارة فقه الرضا عليه‌السلام (٢) نحو ما عن الصدوق من النهي عن الصلاة في بيت فيه خمر محصور في آنية (٣) لكنه مع إمكان حمله على الكراهة أيضا غير حجة عندنا ، على أنه قد يستبعد من الصدوق إرادة الحرمة مع تجويزه الصلاة في الثوب الذي فيه الخمر لطهارته عنده ، واحتمال عدم البعد مع النص يدفعه أنه هو مما يدل على نجاسة الخمر كغيره من نصوصها ، إذ لا صراحة فيه بذلك مع الحكم بالطهارة كي يلتزم به ، فكان الواجب عليه بعد اختياره الطهارة طرحه كغيره من نصوص النجاسة ، لا التزام البطلان مع القول بالطهارة الذي هو في غاية البعد عن مذاق قواعد الشريعة ، والله أعلم.

وكذا تكره الصلاة في جواد الطرق على المشهور بين الأصحاب ، بل عن الغنية والمنتهى وظاهر التذكرة الإجماع عليه ، لقول الصادق عليه‌السلام في صحيح معاوية (٤) : « لا بأس أن يصلى بين الظواهر وهي الجواد جواد الطرق ، ويكره أن يصلى في الجواد » وصحيح الحلبي أو حسنه (٥) « لا بأس أن تصلي في الظواهر التي بين الجواد ، فأما الجواد فلا تصل فيها » جواب سؤاله عن الصلاة في ظهر الطريق ، ومحمد بن مسلم (٦) « لا تصل على الجادة واعتزل على جانبيها » جواب سؤاله عن الصلاة في السفر ، كقوله عليه‌السلام (٧) في خبره أيضا : « لا تصل على الجادة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٣.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٥.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي الحديث ٨.

٣٧٠

وصلى على جانبيها » جواب سؤاله عن الصلاة على ظهر الطريق أيضا ، وخبر الفضيل ابن يسار (١) « لا تصل على الجواد » ولعلها المراد من مسان الطرق في مرسلي العشرة (٢) ومن قارعته في‌ مرسل الخصال (٣) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ثلاثة لا يتقبل الله لهم بالحفظ : رجل نزل في بيت خرب ، ورجل صلى على قارعة الطريق ، ورجل أرسل راحلته ولم يستوثق منها » وفي‌ خبر علي بن مهزيار (٤) « ويتجنب قارعة الطريق » وبها عبر في المحكي عن نهاية الأحكام ، بل ومن الطرق في مرسلي العشرة (٥) وخبر المناهي (٦) والبيان واللمعة والمنظومة ، لكن‌ قال الرضا عليه‌السلام في خبر محمد بن الفضيل (٧) « كل طريق يوطأ ويتطرق كانت فيه جادة أم لم تكن لا ينبغي الصلاة فيه ، قلت ، فأين أصلي؟ قال : يمنة ويسرة » وموثق ابن الجهم (٨) « كل طريق يوطأ فلا تصل عليه ، قال : قلت : إنه روي عن جدك أن الصلاة على الظواهر لا بأس بها ، قال : ذلك ربما سايرني عليه الرجل ، قال : قلت : فان خاف الرجل على متاعه قال : فأن خاف فليصل ».

قلت : ومنه يعلم أن المراد بالظواهر التي نفي البأس عن الصلاة فيها في الصحيح السابق ـ بل وفي القواعد والمحكي عن المبسوط والوسيلة والتذكرة ونهاية الأحكام والمنتهى وغيرها ـ الأراضي المرتفعة عن الطريق حسا أو جهة التي لا تندرج تحت اسم الطريق وإن كانت بينه ، وكأنه أحد الإطلاقين لها ، وإلا فقد صرح في صحيح معاوية بأنها الجواد ، والمراد بها حينئذ الطرق الواضحة ، نعم قد يستفاد شدة الكراهة في الجواد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٤.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٣.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٦.

٣٧١

باعتبار اختصاصها بالنهي في النصوص المزبورة ، مع أنها من الطريق الذي تكره الصلاة فيه ، هذا إن لم نقل بشهادة العرف ، ولا ينافيه الأمر بالصلاة على الجانبين ويمنة ويسرة بعد إمكان إرادة ما يوافق ذلك منها لا ما كان متصلا بالجادة منهما مما قد يستطرق ، فلا معارضة حينئذ بين نفي البأس عن الظواهر والنهي عن مطلق الطريق حتى يحتاج إلى ما في الرياض من الجمع بتفاوت مراتب الكراهة بالنسبة إلى الجادة والظواهر المنافي بحسب الظاهر نفي البأس المزبور في النص والفتوى ، ضرورة أولوية ما أشار إليه الرضا عليه‌السلام (١) من الجمع مما سمعت منه ، ( بل يقوى ) (٢) أن المراد بالجواد بل والقارعة والمسان الطرق ، وإلا كانت الكراهة في الجميع على مرتبة واحدة ، بل به تجتمع حينئذ جميع النصوص والفتاوى ، وربما يشهد له في الجملة ما عن ابن الأثير من تفسيره القارعة في خصوص خبر النهي بنفس الطريق بعد أن فسرها بالوسط في غيره ، بل قال : ومسان الطرق ما يستطرق منها ، لكن عن القاموس والديوان تفسير الجادة بمعظم الطريق ، وفي كشف اللثام أي الطريق الأعظم المشتمل على جدد : أي طرق كما حكاه الأزهري عن الأصمعي ، وفي المغرب المعجم أنها معظم الطريق ووسطه ، فيحتمل تفسير المعظم بالوسط ، ونحو منه المصباح المنير ، قلت : فيوافق حينئذ ما حكاه هو أيضا عن المجمل والمقاييس والشمس والنهاية والجزرية من تفسير جواد الطرق بسوائها : أي وسطها المسلوك أيضا من الجد : أي القطع ، لانقطاعه مما يليه ، أو من الجدد : أي الواضح كما عن العين والمحيط والسامي ، وفي المدارك وعن غيرها جواد الطرق هي العظمى منها التي يكثر سلوكها إلا أنه على ذلك ينبغي تخصيص الكراهة في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٣.

(٢) ليس كلمة « بل يقوى » في النسخة الأصلية المبيضة ، ولكنها موجودة في النسخة الأصلية المسودة ، إلا أنه شطب عليها تبعا لما قبلها سهوا ، ولكنه محتاج إليها.

٣٧٢

عبارة الأكثر بوسط الطريق ، لاقتصارهم على ذكر الجواد ، فالصلاة في نفس الطريق الخارج عن الوسط حقيقة أو عرفا لا كراهة ، فيها ، وهو كما ترى يمكن القطع بخلافه من النصوص ومن حكمة الكراهة في المقام.

ومن هنا لم يبعد إرادتهم الطريق من الجهادة ، بل قد يشهد له أيضا مضافا إلى ما عرفت ظهور النصوص في مقابلة الجواد بالظواهر ، وقد بان من موثق ابن الجهم (١) أن المراد بالظواهر المنفي عنها البأس ما لا تدخل تحت اسم الطريق ، فالمراد بالجواد حينئذ ما دخل تحت اسمه.

وكيف كان فلا ريب في إرادة الكراهة من النهي المزبور بعد الأصل وإطلاقات الصلاة وعموم مسجدية الأرض والإجماعات المحكية المعتضدة بالشهرة العظيمة ، والتعبير بلفظ « يكره » و « لا ينبغي » في الخبرين السابقين الذي إن لم يكن حقيقة في إرادة المعنى المصطلح فلا ريب في ظهوره فيه ولو بضميمة ما عرفت ، ودرجة في معلوم الكراهة عندنا في مرسلي العشرة وخبر المناهي ومرسل الخصال ، بل لا ينكر ظهور الأخير كما لا يخفى على العارف بلغاتهم عليهم‌السلام ، فما عن الفقيه « لا تجوز في مسان الطرق وجواده » والمقنعة والنهاية « لا تجوز في جواد الطرق ، وأما الظواهر فلا بأس » ضعيف إن لم يريدوا بذلك الكراهة أيضا ، وإن احتج لهم في كشف اللثام بظاهر الأخبار الكثيرة التي لم يظفر بمعارض لها إلا عموم مسجدية الأرض في خبري النوفلي (٢) وعبيد بن زرارة (٣) إلا أنك قد عرفت غير ذلك مما يعارضها.

ثم لا يخفى أن مقتضى إطلاق النص والفتوى عدم الفرق في الجواد أو الطرق بين كثرة الاستطراق وقلته ، إلا أن يهجر ، فلا يطلق عليه اسم الطريق والجهادة فعلا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٤.

٣٧٣

ولا بين وجود المارة أو ترقبها وعدمهما ، وحكمة الحكم لا يجب اطرادها ولا يدور عليها ، خصوصا مع عدم ذكر النصوص لها في صورة العلة ، نعم عن كشف الالتباس والروض والمسالك والبحار انه لو تعطلت المارة اتجه التحريم والفساد ، وقيده في المدارك بما إذا كانت موقوفة لا محياة لأجل المرور ، ثم قال : ويحتمل عدم الفرق ، قلت : كأنه لحظ في الأول أن له التصرف بما يريد وإن حرم عليه منع الغير من الاستطراق ، وإثمه في الثاني لا يرفع الاذن في الأول وإن كان هو مقدمة له ، ولا دليل على حرمة التصرف عليه في هذا الحال ، ولذا لو منع المارة بغير فعل الصلاة ثم صلى حاله لم يكن إشكال في الصحة ، لكن ذلك كله في المحياة ، أما الموقوفة للاستطراق فلا ريب في تحقق الغصبية فيها ، ضرورة كون صلاته في هذا الحال تصرفا منافيا لغرض الواقف ، فيحرم الكون حينئذ كالدار المغصوبة ، قلت : يمكن دعوى مثله في الأول أيضا بأن يقال أن له التصرف غير المنافي للاستطراق ، أما هو فمحرم أيضا ، فتبطل الصلاة كالكون في الدار المغصوبة ، ويكفي في الدليل على ذلك حرمة الضرر والإضرار فضلا عن غيره ، وفرق واضح في المقدمات بين كونها أفرادا للمنهي عنه وعدمه ، ولعل ما نحن فيه من الأول ، وبالجملة فالمسألة مبنية على كون المقام من مسألة الضد أو الصلاة في الدار المغصوبة ، لا أنه المحرم أمر خارجي عن الصلاة ، كما يقال مثله في المسجد على ما عرفت سابقا.

وكيف كان فالمنساق من النصوص كون المراد بالطرق في البراري ونحوها لا المدن ، إلا أن ظاهر بعض الأصحاب بل صريح آخر عدم الفرق ، ويؤيده أنه مقتضى الحكمة المفهومة في المقام ، بل فيها أشد ، بل هو مقتضى عموم الخبرين السابقين وغيرهما بل لذلك قيل بشمول الحكم للطرق المرفوعة مع إذن أربابها وإن كان لا يخلو من إشكال ، وأشكل منه تعدية الحكم لبعض الطرق في الدار ونحوها ، لعدم انسياقه من الطريق ، وإن كان التعميم للخبرين مع التسامح في الكراهة لا يخلو من وجه ، اللهم إلا أن‌

٣٧٤

يكون مثله تسامحا في التسامح ، والله أعلم.

وكذا تكره الصلاة في بيوت المحبوس على المشهور بين الأصحاب ، بل عن جامع المقاصد نسبته إليهم في أثناء كلامه ، كما أن فيه نسبة تعليل ذلك بأنها لا تنفك عن النجاسة إليهم أيضا ، لكن لا يخفى عليك أن مقتضاه عدم الاختصاص بالمجوس ، بل وعدمها على فراش المصلي ونحوه ، وهو مخالف لظاهر العبارات ، ومن هنا ربما توقف بعضهم فيها ، بل كأنه ظاهر كشف اللثام حيث قال : إنما ظفرت‌ بأخبار سئل فيها الصادق عليه‌السلام عن الصلاة (١) فقال : « رش وصل » أي وهي لا تقضي بالكراهة بل باستحباب الرش.

ولذا كان لا بأس ولا كراهة بالبيع والكنائس عند المشهور بين الأصحاب نقلا إن لم يكن تحصيلا ، بل عن المنتهى نسبته إلى علمائنا ، مع أنه ورد (٢) في نصوصهما مثل ذلك ، بل‌ سأل عبد الله بن سنان (٣) الصادق عليه‌السلام في الصحيح « عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس فقال : رش وصل » فلو اقتضى مثل ذلك الكراهة لاقتضاها في الجميع ، وليس ، كما عرفت ، نعم عن جماعة منهم الفاضل وثاني المحققين والشهيدين أنه يستحب الرش فيهما كما هو مقتضى الأمر المزبور ، ومن هنا قد استغرب بعض متأخري المتأخرين الفرق بين المقامين في الكراهة وعدمها مع استحباب الرش ، والدليل واحد ، بل لم يذكروا استحباب الرش في بيوت المجوس عدا ما تسمعه من البحار ، وإنما حكي عن المبسوط بعد الحكم بالكراهة انه إن فعل رش الموضع بالماء ، فإذا جف صلى فيه ، واستحسنه المحقق الثاني ، والوسيلة « تكره في بيوت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢ و ٤ والباب ١٤ منها.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢ و ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢.

٣٧٥

المجوس اختيارا ، فان اضطر رش الموضع أولا بالماء » والمعتبر « إلا أن يرش بالماء » وجملة من كتب الفاضل « لو اضطر رشه بالماء استحبابا » والبيان « لو اضطر رشه بالماء وفرش وصلى أو تركه حتى يجف » وجامع المقاصد وفوائد الشرائع « إذا رش زالت الكراهة » بل في المدارك « قطع بذلك الأصحاب ».

قلت : يمكن بعد التسامح والشهرة العظيمة بل ظاهر الإجماع الاستناد فيها إلى‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي أسامة (١) : « لا تصل في بيت فيه مجوسي ، ولا بأس أن تصلي وفيه يهودي أو نصراني » بناء ولو بمعونة فهم الأكثر على إرادة استقرار المجوسي فيه ، كما يقال في العرف هذا بيت فيه فلان ، بل قد عرفت احتماله سابقا في بيت فيه خمر ، بل لعله المراد من نحو‌ « إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب » وحينئذ يتجه اقتصار المشهور في الكراهة على بيوت المجوس ، بل لعله المراد أيضا مما عن الكفاية والمفاتيح من التعبير بلفظ الخبر ، لكن في القواعد كالمتن فيما يأتي ، والمحكي عن الوسيلة والبيان والدروس بل ومجمع البرهان ذكر الكراهة فيهما معا ، إلا أنه لعله لصدق الخبر المزبور على بيوت المجوس وإن لم يكونوا فيها ، وعلى بيت هم فيه وإن لم يكن من بيوتهم على التواطؤ أو عموم المجاز.

وعلى كل حال فما عن المحكي عن البحار ـ من أن ظاهر الأخبار كراهية الصلاة في البيت الذي فيه مجوسي سواء كان بيته أم لا ، وعدم كراهيتها في بيته إن لم يكن فيه ، لكن يستحب الرش ـ لا يخلو من نظر ، إذ مرجعه إلى ما قلناه أولا ، على أنه يمكن استفادة الكراهة من نصوص الرش أيضا بتقريب أن ظاهره شرطية صحة الصلاة بالرش ، فمع فرض معلومية الصحة بدون ذلك وجب إرادة ما يشابه الفاسد ، وليس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١.

٣٧٦

إلا المكروه ، وبتقرير آخر أنه لا يخفى ظهوره في معنى إن رششت صل ، والأمر بالصلاة مراد منه إباحة الإيقاع في المكان الخاص بالمعنى الأخص ، لأنه في مقام توهم الحرمة أو الكراهة ، فيكون المفهوم إن لم ترش لا يأذن لك في الصلاة ، فمع فرض معلومية الإذن يجب تنزيله على الكراهة ، ولا يختص مفهوم الشرط في خصوص التعليق بلفظ « إن » والحاصل أنه مع الرش تكون الصلاة كغيره من الأماكن ، ومع عدمه ينقص ما أعد لطبيعة الصلاة من الثواب ، وإن استصعب جميع ذلك فلا ريب في ظهور النصوص في شرطية الصلاة بالرش لا شرطية استحباب الرش بالصلاة ، ومن أن المراد من الأمر بالصلاة الإذن الخاصة المزبورة ، ومقتضاه عدم المشروط بانعدام الشرط ، فثبتت الكراهة ، لا أقل من جبر ذلك كله بفتوى الأصحاب.

وكان وجه الفرق بين المقام والبيع والكنائس هو ظهور النصوص في عدم الكراهة فيهما ولو مع عدم الرش ، ففي‌ خبر حكم بن الحكم (١) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول وسئل عن الصلاة في البيع والكنائس : صل فيها قد رأيتها ما أنظفها ، قلت : أيصلى فيها وإن كانوا يصلون فيها؟ فقال : نعم ، أما تقرأ القرآن ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ )؟ (٢) » إلى آخرها وفي‌ صحيح العيص (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البيع والكنائس يصلى فيها فقال : نعم ، وسألته هل يصلح بعضها مسجدا؟ فقال : نعم » بل قد يستفاد من‌ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر أبي البختري (٤) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام : « لا بأس بالصلاة في البيعة والكنيسة الفريضة والتطوع ، والمسجد أفضل » ان الصلاة فيها لا تخلو من فضل إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة في عدم الكراهة التي من أجلها وجب حمل الأمر بالرش بالنسبة إليها على الندب ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٣.

(٢) سورة الإسراء ـ الآية ٨٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٦.

٣٧٧

بخلاف بيوت المجوس التي ليس في نصوصها شي‌ء مثل ذلك ، فصح حينئذ للأصحاب الفرق بين المقامين كما لا يخفى على من لاحظها مع التأمل ، ولا يقدح فيه الجواب عن الجميع بالأمر بالرش في الخبر المزبور ، لأنه يمكن دعوى ندبية الرش في الجميع وإن كان مع ذلك رافعا للكراهة في بيوت المجوس ، بل لا مانع في الجمع المزبور وإن لم نقل بذلك أيضا ، ومن أبى ذلك كله كان لا بأس عليه بالتزام الكراهة فيها أيضا لذلك كما عن المراسم والإصباح والمهذب والإشارة والدروس والبيان ، بل هو من المندرج في إجماع الغنية على الكراهة في معابد أهل الضلال ، ولتساوي الاحتمالين لم يرجح في المحكي عن الذكرى ، وقد اتضح بحمد الله الوجه في المسألة.

كما انه اتضح مما ذكرنا ان المتجه على تقدير الكراهة ارتفاعها بالرش كما سمعته سابقا ممن عرفت ، وانه نسبه في المدارك إلى قطع الأصحاب ، أما احتمال التجفيف أو التخصيص بحال الاضطرار فلم أقف على ما يشهد له من النصوص ، كما أنه ليس فيها مراعاة الجفاف إلا أنه قد يكون للتجنب عن النجاسة ، بل هو أولى مما قبل الرش ، لكن قد يناقش بأن المستفاد من النصوص زوال النفرة من جهة احتمال النجاسة بالرش من غير تقييد بالجفاف ، فلعله به دونه لم يبق لاحتمال النجاسة حينئذ أثر ، بل لو لا إطباق الأصحاب ظاهرا هنا على كون التجنب لاحتمال النجاسة أمكن حمل النصوص على إرادة الأمر بالأشد لرفع الوسوسة على معنى الاذن في الصلاة مع الرش الذي هو مظنة التعدي فضلا عن غيره ، بل ربما كان في‌ صحيح الحلبي (١) إيماء إليه ، قال : « سئل الصادق عليه‌السلام عن الصلاة في بيوت المجوس وهي ترش بالماء قال : لا بأس به » إلا أنه للاتفاق المزبور وجب إرادة المعنى المزبور من الرش.

ثم إن الظاهر المنساق إلى الذهن من بيوت المجوس دورهم من غير فرق بين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١.

٣٧٨

الحجر وغيرها ، وإطلاق البيت على الدار غير عزيز ، بل لعل منه قول الملائكة : « إنا لا ندخل بيتا فيه كلب » كما أن الظاهر زوال الكراهة من حيث كونها بيوت المجوس بالرش ، أما لو كان فيها مع ذلك مجوسي وقلنا بالكراهة فيه من حيث ذلك كما إذا كان في بيت غيره فلا تزول به ، لعدم الدليل وحرمة القياس ، هذا.

ولا يخفى أن مقتضى الأصل والسيرة وظاهر النصوص حتى ترك الاستفصال فيها بل هو كصريح بعضها (١) جواز الصلاة في البيع والكنائس من غير حاجة إلى إذن من أهل الذمة أو الناظر أو الواقف ، وأن حالها كالمساجد ، ومثل هذا يجري في مساجد المخالفين أيضا ، والظاهر أنه لا ينبغي التأمل في الجواز مع العلم بعدم إرادة الخصوصية من الواقف ، بل ومع الجهل ، أما معه فان وقف على المصلين مثلا وكان بزعمه أنهم هم فالظاهر الجواز أيضا ، إذ الغلط في الاعتقاد لا ينافي تعلق الحكم بمقتضى اللفظ ، بل لعل القول بالحرمة في الواقع بالنسبة إليهم متجه ، وإن وقف على وجه لا يحتمل إلا الخصوصية لفرقته مثلا فقد يقوى بطلان الشرط والوقف ، ويحتمل بطلان الأول خاصة ، وتسمع إن شاء الله في المساجد تمام الكلام ، وعلى كل حال فما عن الشهيد رحمه‌الله ـ من احتمال توقف الصلاة في البيع والكنائس على إذن أهل الذمة تبعا لغرض الواقف وعملا بالقرينة ـ لا ريب في ضعفه ، لما عرفت ، بل الأصل عدم ثبوت ملكهم عليها وعدم احترامها ، مع أنه لو ثبت مراعاة غرض الواقف اتجه المنع مطلقا إلا أن يعلم إناطة ذلك برأي الناظر ، فيتجه اعتبار إذنه خاصة ، والله أعلم.

وكذا يكره أن يكون في حال صلاته بين يديه نار مضرمة : أي مشعلة على الأظهر الأشهر ، بل هو المشهور نقلا إن لم يكن تحصيلا ، لكن الذي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب مكان المصلي.

٣٧٩

ظفرنا به في النصوص النار بلا قيد ، ففي‌ صحيح علي بن جعفر عليه‌السلام (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام « سألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلي والسراج موضوع بين يديه في القبلة؟ قال : لا يصلح له أن يستقبل النار » وفي‌ موثق عمار (٢) عن الصادق عليه‌السلام « لا يصلي الرجل وفي قبلته نار أو حديد ، قلت : إله أن يصلي وبين يديه مجمرة شبه؟ قال : نعم ، فان كان فيها نار فلا يصلي حتى ينحيها عن قبلته ، وعن الرجل يصلي وبين يديه قنديل معلق وفيه نار إلا أنه بحياله فقال : إذا ارتفع كان أشر لا يصلي بحياله » ولعله لذا ترك التقييد في المحكي عن المقنعة والخلاف والنهاية والكافي والإصباح والجامع والنزهة والوسيلة وبعض كتب الفاضل والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم ، بل قيل : إنه معقد شهرة المختلف وإجماع الخلاف ، اللهم إلا أن يدعى كون النار حقيقة أو ظاهرة في المضرمة ، لكن العرف شاهد عدل على خلافه ، أو يدعى أنه هو المشابه لعبادة أهل الضلال ، إذ الظاهر أن المجوس كانوا يعبدون النار المضرمة ، ولعلها نار فارس التي خمدت بمولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن فيه بعد التسليم أنه لا مانع من كون ذلك داعيا لكراهة استقبال مطلق النار لإطلاق النصوص.

نعم قد يقال بأشدية الكراهة فيها للشبه المزبور ، كالأشدية أيضا إذا كانت معلقة مرتفعة ، لقوله عليه‌السلام في الموثق : « أشر ».

وكيف كان فللإجماع المزبور ـ المعتضد بالشهرة العظيمة التي لا بأس بدعوى الإجماع معها كما وقع من بعض متأخري المتأخرين ، وبالإطلاقات والعمومات ، ومرفوع عمرو بن إبراهيم الهمداني (٣) المروي في التهذيب والفقيه والعلل بل والمقنع إن كان هو مراده بما أرسله ، وإلا كان خبرا‌ آخر (٤) عاضدا له عن الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٤.

(٤) المقنع ص ٢٥ المطبوع بطهران عام ١٣٧٧.

٣٨٠