جواهر الكلام - ج ٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

قال : « قيل : لأبي جعفر عليه‌السلام : إن أصحابنا بالكوفة لجماعة كثيرة فلو أمرتهم لأطاعوك واتبعوك ، قال : يجي‌ء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته فقال : لا ، قال : هم بدمائهم أبخل ، ثم قال : إن الناس في هدنة تناكحهم وتوارثهم حتى إذا قام القائم عليه‌السلام جاءت المزايلة وأتى الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته فلا يمنعه » وتنزيلهما على صورة علم المالك به لا داعي اليه ، وإن كان في قوله عليه‌السلام : « يدفعه » و « يمنعه » نوع إيماء اليه ، ونصوص (١) عدم حل مال المسلم أو المؤمن إلا بطيب نفسه إن لم تشمل مثل الفرض يجب تخصيصها به.

ولا فرق في ذلك بين المكان وغيره من أموال المسلم ، ويمنع ثاني الشهيدين الاكتفاء بشاهد الحال في اللباس بخلاف المكان ، قال : اقتصارا فيما خالف الأصل ، وهو التصرف في مال الغير بغير إذنه على محل الوفاق قد لا يريد به ما يشمل الفرض ، وإلا كان واضح الفساد بما عرفت ، وكذا نظر في المدارك في اكتفائه في شاهد الحال بأن يكون هناك إمارة تشهد أن المالك لا يكره بأنه غير مستقيم ، لأن الامارة تصدق على ما يفيد الظن أو منحصرة فيه ، وهو غير كاف هنا ، بل لا بد من إفادتها العلم كما بيناه ، وظاهره المفروغية من عدم الاكتفاء بما لا يفيد القطع من شاهد الحال ، قلت : هذه العبارة كما وقعت للمصنف حكيت عن غيره ، فان كان ظاهرها ذلك فهو ظاهر الجميع ، بل قد عرفت أنه معقد وفاق الشهيد الثاني في خصوص المكان ، ولعل مرادهم منه ما جرت السيرة والطريقة في سائر الأعصار والأمصار على الأخذ به والتصرف معه مما نصب دلالة على الاذن ، كنصب المضايف والرباع ونحوها التي في كثير من الأحوال لم يحصل العلم بالرضا معها بل ولا الظن المعتد به ، بل يؤخذ بظاهر ما وقع منه مثلا مما هو منصوب الدلالة على الاذن من أفعاله ما لم يعلم الكراهة ، ولعل هذا الظاهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١ و ٣.

٢٨١

من الأفعال أو غيرها حجة كظاهر الأقوال ما لم يحصل الصارف المعتد به في صرف أمثاله ، لا أن المراد بشاهد الحال الكناية عن حصول الظن مطلقا وإن لم يكن بسبب فعل يعتاد التعويل عليه مثلا من المكلف ، أو اتساع في المتصرف به لم يعتد المنع عنه ، أو نحو ذلك ، فإنه لا يساعد عليه دليل بحيث يخرج به عما علم عقلا من قبح التصرف في مال الغير بدون طيب نفسه بخلاف الأول الذي قامت عليه السيرة المزبورة التي بالأقل منها يخرج عن ظاهر ذلك ، ولا قبح للعقل هنا قطعا ، فلعل المصنف وغيره ممن عبر بشاهد الحال يريد ذلك ، وهو شي‌ء غير مستنكر حتى يحتاج إلى التنزيل على إرادة ما يفيد العلم كما وقع من بعض متأخري المتأخرين ، بل لم يتعارف التعبير عن ذلك بهذه العبارة ، ولعله المراد مما حكي عن البحار والكفاية من جواز الصلاة في كل موضع لم يتضرر المالك بالكون فيه وجرت العادة بعدم المضايقة في أمثاله وإن فرضنا عدم العلم برضا المالك ، بل عن البحار منهما أن اعتبار العلم ينفي فائدة هذا الحكم ، إذ قلما يتحقق ذلك في مادة ، فاعتبار الظن أوفق بعمومات الأخبار ، وإلا فإن أرادا بذلك مطلق الظن كان فيه ما عرفت ، بل لعله مراد العلامة الطباطبائي بقوله :

والاذن بالنص وبالفحوى ومن

شواهد الأحوال في ذلك استبن

فكلما لم تجر فيه العادة

بالمنع لم تفسد به العبادة

بل يبنى بعضهم جواز الصلاة في الأراضي المتسعة على قيام شاهد الحال مصرحا بعدم اعتبار العلم فيه ، بل ظاهره أن مداره على عدم علم الكراهية ، ولعله كذلك حيث لا يقوم شاهد حال على الكراهة ، للسيرة القطعية على أمثال هذه التصرفات من غير مراعاة إذن المالك وأنه ممن له الاذن أو لا ، أو من أعداء الدين أو لا ، بل يمكن عدم مراعاة منعه فضلا عن إذنه فيما يلزم الحرج والعسر والضرر باجتنابه كما جزم به شيخنا في كشفه ، قال : لأن المالك ، للملك ومالكه أذن في ذلك باعتبار لزوم المنع للحرج العام ،

٢٨٢

فيسري إلى الخصوص كما في المياه إن لم يترتب ضرر على بعض الماكثين والعابرين ، وإن كان قد يناقش فيه بعدم اقتضاء نفي الحرج في الدين والضرر والضرار حل أموال المسلمين المحرمة في الكتاب والسنة وفطرة العقل مجانا بلا عوض ، وإلا لاقتضى ذلك إباحة كثير من المحرمات ، ولعله بعموم التحريم يستكشف أنه لا حرج لا يتحمل في الحرمة المزبورة ، وكأنه لذا وغيره أطلق غير واحد من الأصحاب كالشهيد في الذكرى وغيره حرمة التصرف مع العلم بالكراهة في الأراضي المتسعة ، بل هو المستفاد من جعل التصرف فيها بشاهد الحال ، بل يمكن تحصيل الإجماع على خلافه من ملاحظة حصرهم أسباب إباحة مال الغير في الاذن ولو بعوض أو الفحوى أو شاهد الحال ، ودعوى ان مالك الملك الأصلي أذن بذلك مصادرة واضحة ، لعدم الدليل على إذنه ، ضرورة أن الأصل في الحكم المزبور السيرة ، وهي غير معلومة في الفرض أو معلوم عدمها ، فحينئذ الاقتصار على المعلوم منها من الذي لم يعلم الكراهة فيه هو المتجه.

لكن الانصاف مع ذلك كله أنه يمكن دعوى تحقق السيرة في نحو الأراضي التي في غاية السعة التي كان بناء ملك المالك لها من المالك الأصلي على جواز هذه التصرفات من الاستطراق والمكث لقضاء الحوائج وأمثالها فيها ، نحو ملك المياه المحازة في الأنهار العظيمة التي لا ينكر تحقق السيرة على عدم الامتناع من الشرب منها ، ونقل المياه للمسافرين والمترددين ونحو ذلك وإن كره المالك ، فالتحقيق حينئذ التفصيل في الأفراد وتمييزها بحسب قيام السيرة ، فمنها ما يجوز التصرف فيه بالصلاة ونحوها وإن كره المالك ، ومنها ما قد عرفت من أن مقتضى السيرة فيه عدم مراعاة كون المالك مما له الاذن أو لا أو ممن يأذن أو لا ، بل المدار على عدم علم الكراهة ، ولعله كذلك في كل ما كان مستند التصرف فيه شاهد الحال كالمضايف والرباع ونحوها ، أما ما كان مستنده الفحوى : أي القطع بالاذن فلا بد من اعتبار حصول العلم بالاذن ممن له الاذن من مالك‌

٢٨٣

أو ولي إجباري أو شرعي مع المصلحة أو عدم المفسدة ، وإلا لم يجز التصرف قطعا ، ضرورة عدم الجدوى بالعلم بحصولها على تقدير من التقادير مع احتمال غيره كما هو واضح ، وحينئذ فلا فرق في هذا بين العلم بكونه لمولى عليه وعدمه ، أما الأول أي الذي قامت السيرة على التصرف فيه بدون مراعاة الاذن إذا علم كونه لمولى عليه ففي الذكرى أن الظاهر الجواز ، لإطلاق الأصحاب ، وعدم تخيل تحقق ضرر لاحق به كالاستظلال بحائطه ، ولو فرض ضرر امتنع منه ومن غيره ، ووجه المنع أن الاستناد إلى أن المالك أذن بشاهد الحال ، والمالك هنا ليس أهلا للإذن ، إلا أن يقال : إن الولي أذن هنا ، والطفل لا بد له من ولي ، قلت : لا يخفى عليك ما فيه وإن تبعه غيره عليه ، إذ لا إطلاق للأصحاب يطمأن به في إدراج هذه الصورة على وجه يصلح للعذر عن القول بغير علم ، وعدم الضرر لا يبيح التصرف في أموال الناس في الذي ليس منه الاستظلال بالحائط ، إذ هو انتفاع لا تصرف ، وقد يفرق بينهما ، وما ذكره في وجه المنع يدفعه ما عرفت سابقا من أنه ليس بناء التصرف على حصول الاذن ، وإلا لم يجز مع ظن عدمها أو الشك فيها ، بل مبناه السيرة القطعية ما دام لم يعلم الكراهية ، وأولياء الطفل منهم من له الاذن من غير اشتراط المصلحة ، وآخر ليس له ذلك إلا معها ، فالتحقيق بناء الحكم في الفرض المزبور على السيرة ، فإن كانت جاز التصرف بلا مراعاة شي‌ء من ذلك ، وإلا فلا ، والظاهر تحققها في نحو الأراضي المتسعة والأنهار والطرق المرفوعة وأمثالها وإن علم كونها لمولى عليه.

وكيف كان فـ ( ـالمكان المغصوب ) الذي هو غير ما عرفت لا تصح الصلاة فيه للغاصب ولا لغيره ممن علم بالغصب وكان مختارا ، فـ ( ـان صلى عامدا عالما ) والحال هذه كانت صلاته باطلة للإجماع محصله ومحكيه صريحا وظاهرا مستفيضا‌

٢٨٤

إن لم يكن متواترا ، ولبعض النصوص (١) المتقدمة في اللباس المنجبرة سندا ودلالة بما عرفت ، كبعض الأخبار (٢) الواردة في حق ما فيه الخمس من المساكن للشيعة لتصح عباداتهم ، ولإجماع المسلمين على حرمتها فيها ، لأن أكوانها حركات وسكنات بعض أفراد الغصب المعلوم حرمة ، فيمتنع الأمر الذي تتوقف عليه صحة العبادات بها ، ضرورة امتناع اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد شخصي عرفا ، لقبح التكليف بما لا يطاق عندنا ، بل يمكن دعوى استحالة أصل التكليف هنا باعتبار عدم تصور تحقق طلب الفعل وطلب تركه في وقت واحد من مكلف واحد ، وكون متعلق الأمر هنا الصلاة والنهي الغصب وهما كليان متغايران يجتمعان ويفترقان لا يجدي في رفع اتحاد الحركة والسكون الخارجيين اللذين هما محل تحقق الكليين معا ومتعلق خطاب الله ، كما أنه لا ينافي ما ذكرناه عدم كون التكليف بالكلي تكليفا بالفرد على ما هو التحقيق ، بل ولا أن مقدمة الواجب من التوصليات التي يمكن حصولها بالمحرم ، إذ الظاهر أن نحو ما نحن فيه من أفراد أمثال هذه الكليات لا إشكال في تعلق الأوامر بها تعلقا لا يحصل امتثاله بالمحرم ، والتدقيقات الحكمية التي هي عند التأمل خيالات وهمية بل شبيهة بالخرافات السوداوية لا يبنى عليها شي‌ء من الأحكام الشرعية ، على أنه قد كتبنا والله الحمد رسالة مستقلة في فسادها على التفصيل ، فما وقع من جماعة من متأخري المتأخرين ممن له أنس ببعض التدقيقات الكلامية من القول بالصحة تبعا للمحكي عن الفضل بن شاذان المحتمل صدور ذلك منه للإلزام للعامة على مقتضى قياسهم وأصولهم في غاية الضعف بل الفساد ، بل لو أغضي عن ذلك كله أمكن دعوى فهم أهل العرف من أمثال هذين الخطابين : أي « صل » و « لا تغصب » تحكيم خطاب النهي على الأمر ، فيراد الصلاة حينئذ في غير المغصوب ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأنفال ـ الحديث ١٢ من كتاب الخمس.

٢٨٥

كالعام والخاص المطلقين ، وتفصيل هذه الجملة ذكرناه في الأصول تحريرا وتقريرا ، والحمد لله رب العالمين.

ولا فرق في جميع ما ذكرنا بين مغصوب العين والمنفعة ولو بدعوى الاستيجار أو الوصية بها أو الوقف كذبا ، بل من الغصب التصرف في الأعيان التي تعلق بها حق مالي للغير كحق التحجير المانع من تصرف الغير بالمحجر وإن لم يدخل به في الملك ، أما حق السبق في المشتركات كالمسجد ونحوه ففي بطلان الصلاة بغصبه وعدمه وجهان بل قولان ، أقواهما الثاني وفاقا للعلامة الطباطبائي في منظومته ، لأصالة عدم تعلق الحق للسابق على وجه يمنع الغير بعد فرض دفعه عنه ، سواء كان هو الدافع أو غيره وإن أثم بالدفع المزبور ، لأولويته ، إذ هي أعم من ذلك قطعا ، وربما يؤيده عدم جواز نقله بعقد من عقود المعارضة ، مضافا إلى ما دل على الاشتراك الذي لم يثبت ارتفاعه بالسبق المزبور ، إذ عدم جواز المزاحمة أعم من ذلك ، فتأمل.

وكذا لا فرق في الصلاة بين اليومية وغيرها ، وما عن بعض العامة ـ من أنه يصلى الجمعة والعيد والجنازة في الموضع المغصوب ، لأن الإمام إذا صلى في موضع مغصوب فامتنع الناس فاتتهم الصلاة ، ولهذا أبيحت الجمعة خلف الخوارج والمبتدعة ـ غلط فاحش ، نحو ما يحكى عن المحقق منا ، وإن كان لم نتحققه من جواز النافلة في المغصوب ، لأن الكون ليس جزءا منها ولا شرطا فيها ، مع أنه قال في كشف اللثام يعني أنها تصح ماشيا مؤميا للركوع والسجود ، فيجوز فعلها في ضمن الخروج المأمور به ، والحق أنها تصح إن فعلها كذلك لا إن قام وركع وسجد ، فان هذه الأفعال وإن لم تتعين عليه فيها لكنها أحد أفراد الواجب فيها ، وقطع في التذكرة ونهاية الأحكام بتساوي الفرائض ، والنوافل في البطلان ، وكأنه يريد إذا قام وركع وسجد لا إذا مشى وأومأ ، وهو خارج ، قلت : لا ريب في البطلان حينئذ ، واحتمال أنها لا تتشخص‌

٢٨٦

بذلك ـ فلا يلزم من بطلان هذه الحركات والسكونات بطلانها ، بل أقصاه الانتقال إلى فردها المجرد عن هذه الأفعال ـ واضح الفساد ، ضرورة أنه يرجع إلى أن النافلة مجرد النية ونحوها من الأفعال القلبية ، أو هي والقراءة مثلا ، وهو خلاف المقطوع به من النصوص والفتاوى بل الضرورة ، مع أن القراءة في التحقيق أيضا من التصرف في الفراغ ، لأن حركات الفم تقومه الألفاظ التي هي عبارة عن الأصوات المقطعة لا مقدمة ، فيتجه اجتماع الأمر والنهي فيه ، ولعله لذا جزم ببطلان القراءة المنذورة في المكان المغصوب في المحكي عن نهاية الأحكام والدروس والموجز الحاوي والروض والمقاصد العلية ، خلافا لما عن مجمع البرهان من عدم البطلان ، وأما صحتها ماشيا خارجا مؤميا فقد يشهد لها ما تسمعه من صحة صلاة الغاصب عند الضيق ماشيا خارجا مؤميا ، إذ ليس مبناه إلا نفي الإثم في الكون الخروجي ، فلا مانع من وقوع الصلاة حاله فريضة كانت أو نافلة ، إلا أن الفرق بينهما عدم جواز الكيفية المزبورة في الأولى إلا في حال الاضطرار ولو للضيق ، بخلاف الثانية ، فيجوز فيها ذلك اختيارا ، وهو لا ريب فيه ، بناء على عدم اختصاص ذلك بدليل يختص به من إجماع ونحوه ، وستعرف البحث فيه ، لكن حمل كلام المصنف عليه كما ترى كاد يكون مقطوعا بعدم إرادته.

وأولى منه تنزيله على ما سمعته منه في القبلة سابقا مما يظهر منه أنه لا يعتبر في النافلة كون ولا استقبال ولا غيرهما ، فحينئذ له فعلها قائما وجالسا ومضطجعا وماشيا وراكبا ، ومحصله أن ذلك كله من ضروريات الجسم ، وإلا فلا يعتبر فيها شي‌ء من الكون وإن كان فرد من أفرادها كذلك ، فحينئذ له فعل ما لا مدخلية للكون فيه من أفرادها كالصلاة ماشيا وإن لم يكن خارجا من الدار الخروج المأمور به ، أو واقفا لا بقصد إرادة الفرد الوقوفي منها ، أو غير ذلك ، ولعله لا يعتبر الإيماء للركوع والسجود فيها كي يلزم به‌

٢٨٧

التصرف المنهي عنه ، بل يكتفي بالقصد القلبي مع الإتيان بذكرهما ، كما أنه لعله لا يرى كون النطق في المغصوب من التصرف فيه كما سمعت وجهه ، بل قواه شيخنا في كشفه ، فحينئذ يتم له القول بصحة النافلة في المغصوب بمعنى فعل غير ذات الكون منها ، فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع ، بل منه ومما تقدم يظهر أن البطلان الناشئ من القاعدة المزبورة لا يخص الصلاة ، بل هو ثابت في كل عبادة اتحد شي‌ء من أجزائها مع الكون الغصبي ، بخلاف ما إذا لم يتحد فلا فساد فيه من هذه الجهة.

ولعل منه عند الفاضلين في المحكي عن المعتبر والمنتهى والسيد في المدارك والبهائي في حبله الوضوء في المكان المغصوب ، فحكموا بصحته فيه ، وينبغي أن يكون مثله الأغسال الواجبة والمندوبة ، ضرورة اشتراك الجميع في ما ذكروه له من التعليل بأن الكون ليس جزء منها ولا شرطا فيها ، فلا يؤثر تعلق النهي به في فسادها ، بل يمكن أولويتها منه بالصحة باعتبار أن من أجزائه المسح دونها ، وهو إمرار الماسح على الممسوح الذي هو عين الحركة ، فيكون الكون حينئذ جزء ، نعم هما على حد سواء لو فرض إيقاع المسح في خارج المغصوب ، لكون الباقي حينئذ الغسل المشترك بين الجميع ، فمع فرض أن الكون ليس جزءا منه صح في الجميع ، وبه حصل الفرق بين ذلك وبين الصلاة التي قد عرفت جزئية الكون منها ، لكن في الحدائق « لا فرق بينهما في ذلك ، لأن المكان كما يطلق على ما استقل عليه الإنسان واعتمد عليه كذلك يطلق على الفراغ الذي يشغله بدن الإنسان كما عرفت في تعريفه ، فكما أن القيام في الصلاة منهي عنه باعتبار انه استقلال في المكان كذلك حركات اليد في الوضوء في هذا الفراغ ، وإذا بطلت بطل الوضوء » وهو كما ترى واضح الفساد ، ضرورة أن حركات اليد وإن كانت محرمة إلا انه لا يستلزم ذلك بطلان الوضوء ، لأنها ليست أجزاء ، بل هي‌

٢٨٨

مقدمة لخصوص فرد من أفراد الغسل الذي هو عبارة عن انتقال الماء من جزء إلى آخر ، فالنهي حينئذ عن أمر خارجي لا مدخلية له في العبادة ، بخلاف قيام الصلاة ونحوه من حركاتها وسكناتها ، ومثلها المناقشة من بعض مشايخنا أيضا بأن المقدمة إذا انحصرت في الحرام فالتكليف بذيها إن كان باقيا لزم التكليف بالمحال ، وإن لم يكن باقيا لزم أن لا تكون المقدمة واجبة مطلقا ، لأن وجوبها من جهة وجوب ذيها ، إذ هي أيضا كما ترى يدفعها فرض المسألة الوضوء مثلا بالمكان المغصوب مع القدرة على المباح ، فلا انحصار للمقدمة بالمحرم ، وأوضح منهما فسادا ما عن الذكرى من المناقشة بأن هذه الأفعال من ضرورتها المكان ، فالأمر بها أمر بالكون مع أنه منهي عنه ، إذ بعد تسليم التلازم بين هذين الأمرين لا يقتضي توقف امتثال الأمر بالأفعال على امتثال الأمر بالكون ، فالعصيان فيه حينئذ لا يقتضي بطلانا في الأفعال بعد عدم ثبوت اشتراط صحتها بعدم العصيان في الكون ، إذ التلازم بين الأمرين لا يقتضي ذلك قطعا ، كما هو واضح.

نعم قد يناقش بأن الغسل جريان الماء على المغسول ، وانتقال الماء من جزء إلى آخر ، وكل منهما حركة توليدية من المكلف في المغصوب ، فهي محرمة لا يصح تعلق الأمر بها فيبطل ، اللهم إلا أن يقال : إن الغسل عبارة عن نفس الأثر الحاصل من تلك الحركة ، فهي مقدمة له لا عينه ، فلا يقدح حرمتها حينئذ في صحة العبادة التي هي شي‌ء آخر غيرها ، أو يناقش بأن أهل العرف لا يتوقفون في صدق التصرف عرفا في المكان المغصوب بنفس الوضوء والغسل والانتفاع ، بل لو كان مسقط الماء مغصوبا كان كافيا في الصدق المزبور فضلا عن نفس الوضوء فيه مثلا ، والمدار في الحرمة على هذا الصدق لا على تلك التدقيقات الحكمية ، ولعله لذا جزم بالبطلان في المحكي عن نهاية الأحكام والذكرى والدروس والموجز الحاوي وكشف الالتباس والروض والمقاصد العلية ومجمع البرهان ، بل تسرى شيخنا وحيد عصره الشيخ جعفر إلى البطلان في كل‌

٢٨٩

ما يعد الوضوء فيه تصرفا فيه بحسب حاله حتى اللباس والنعل المغصوبين ونحوهما مما يصدق معه التصرف فيه بالوضوء ، لكنه كما ترى غريب ، والفرق بين ما يكون التصرف فيه حال الوضوء أو بنفس الوضوء في غاية الوضوء ، ولعله صدر ذلك منه رحمه‌الله لشدة تورعه عن اجتناب المحرمات. نعم لا يبعد القول بالبطلان في خصوص الوضوء بالفراغ المغصوب ، لما عرفت.

وقضاء الدين ليس من العبادات ، فلا ينبغي التأمل في صحته في المغصوب كغيره من أقسام المعاملات والإيقاعات فعلية وقولية ، إذ نحو هذه الحرمة فيها لا تستلزم البطلان ، بل وكذا الصوم من العبادات الذي لا تصرف في شي‌ء منه فيه ، والانتفاع به حاله لا يقتضي البطلان قطعا ، ولذا جزم بصحته وقضاء الدين في المحكي عن نهاية الأحكام والدروس والموجز ، فما عن الروض والمقاصد العلية من التردد في غير محله ، أما الزكاة والخمس والكفارة ونحوها ففي المحكي عن الروض والمقاصد الجزم بالبطلان فيها ، كالمحكي عن الكتب الثلاثة في خصوص الزكاة وإن كان يلزمه ذلك فيما بعدها ، ولعله لأن الدفع نفسه هو الإيتاء المشروط بنية القربة ، ويمكن أن يكون المراد منه الوصول والدفع مقدمة ، فحينئذ يتجه الصحة ، والله أعلم بتحقيق ذلك كله ، وربما يوفق الله لتفصيل البحث في جميع ذلك في محل آخر.

وكيف كان فقد عرفت أن مدار البطلان الناشئ من قاعدة الاجتماع الاتحاد المزبور ، فمع عدمه يكون المتجه الصحة ، فلو صلى تحت سقف مغصوب أو خيمة فقد جزم في جامع المقاصد بأنه لا بطلان فيه من حيث إباحة المكان ، لأنه لا يعد مكانا بوجه من الوجوه وإن كان المصلي متصرفا بكل منهما ومنتفعا به ، لأن التصرف في كل شي‌ء بحسب ما يليق به ، والانتفاع فيه بحسب ما أعد له ، قال : « لكن هل تبطل بهذا القدر من التصرف؟ لا أعلم لأحد من الأصحاب المعتبرين تصريحا في ذلك بصحة‌

٢٩٠

ولا فساد ، والتوقف موضع السلامة إلى أن يتضح الحال ».

قلت : قد يقوى الصحة وفاقا للشهيدين في البيان والمحكي عن الروض والمحقق الجزائري في شافيته والعلامة المجلسي في البحار ، للفرق الواضح بين الانتفاع حال الصلاة وبين كون الصلاة نفسها تصرفا منهيا عنه ، والمتحقق في الفرض الأول ، إذ الأكوان من الحركات والسكنات في الفضاء المحلل ، ويقارنها الانتفاع حالها بالمحرم ، وهو أمر خارج عن تلك الأكوان لا أنها أفراده ، ضرورة عدم حلول الانتفاع فيها حلول الكلي في أفراده ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، وقد مر في لباس المغصوب ما يزيد ذلك إيضاحا ، وربما اشتبه الحال على بعض الأعيان فحكم بالبطلان في ذلك وأشباهه حتى تعدى إلى الحجر الواحد في حائط الدار ، وقارب في ذلك ما يحكى عن أهل البحرين من بطلان الصلاة مع غصب الجدار ، بل أدرجوه في المكان بتقريب أنه ما أحاط بك ، والجدران محيطة وإن كان جدران سور البلد ، قال : « يعتبر في المكان الإباحة بحيث لا يتوجه اليه منع التصرف أو الانتفاع بوجه من الوجوه في أرض أو فضاء أو فراش أو خيمة أو صهوة أو أطناب أو حبال أو أوتاد أو خف أو نعل أو مركوب أو سرجه أو وطائه أو رحله أو نعله أو باقي ما اتصل به أو بعض منها مع الدخول في الاستعمال وإن قال أو سقف أو جدار أو بعض منهما ولو حجر واحد ، وإباحة البيت مع إحاطة جدار الدار المغصوب ، لا يخرجه من حكم المغصوب ، بخلاف سور البلد » وهو كما ترى وإن خالف المحكي عن أهل البحرين باستثناء سور البلد لكنه أيضا لا يوافق ما سمعته منا ، وكان استثناؤه للسور لعدم صدق الاستعمال ، أو لأن الغصب في مثل السور ونحوه مما يعسر التجنب عنه ، فهي كالأراضي المتسعة التي يشق على الناس التحرز عنها ، ولا يحتاج مثل هذا التصرف فيها إلى مراعاة إذن المالك الصوري ، بل لا فرق فيه بين الغاصب وغيره ، أو لغير ذلك مما لا حاجة إليه بعد ما عرفت من اشتراك الجميع‌

٢٩١

في الصحة ، لعدم اتحاد مورد النهي والأمر في شي‌ء من ذلك ، إذ من الواضح الفرق بين الانتفاع بالشي‌ء حال الصلاة وبين كون الصلاة نفسها استعمالا وتصرفا في الشي‌ء ، نعم لا ريب في تحقق الفساد في الثاني كما عرفته مفصلا.

وما عن المرتضى رحمه‌الله وأبي الفتح الكراجكي من الصحة في وجه في الصحاري المغصوبة استصحابا لما كانت الحال تشهد به من الاذن فيه ليس خلافا في ذلك قطعا ، على أنه بإطلاقه واضح الفساد ، ضرورة اختلاف الأمكنة والملاك والأحوال والمصلين والأوقات في منع الغصب من استصحاب الإذن الذي شهدت به الحال ، وإلا فمن الواضح الاكتفاء بمثله في التصرف في مال الغير في نحو المقام بعد التسليم تصور جريانه فيه ، ولا فرق في ذلك بين القول باستناد الجواز لشهادة الحال باذن المالك الصوري والمالك الحقيقي دفعا للحرج ، ضرورة كون الفرض في الجملة خارجا عن موضوع الجواز على كل حال ، فيبقى حينئذ على أصالة المنع كما هو واضح ، وإذن الغاصب بالتصرف كعدمها ، ولذا قال في المحكي عن المبسوط : « فان صلى في مكان مغصوب مع الاختيار لم تجز الصلاة فيه ، ولا فرق بين أن يكون هو الغاصب أو غيره ممن أذن له في الصلاة فيه ، لأنه إذا كان الأصل مغصوبا لم تجز الصلاة فيه » لكن عن المصنف أنه فهم منه إرادة إذن المالك لا الغاصب ، وأيده في الذكرى بأنه لا يذهب الوهم إلى احتمال جواز إذن الغاصب ، فكيف ينفيه الشيخ معللا له بما لا يطابق الحكم ، كما أنه قد يناقش في إرادة المالك بما عن معتبر المصنف من أن الوجه حينئذ الجواز لمن أذن له المالك ولو الغاصب لا المنع ، اللهم إلا أن يكون وجهه ما ذكره الشهيد من أن المالك لما لم يكن متمكنا من التصرف لم يفد إذنه الإباحة ، كما لو باعه فإنه باطل لا يبيح المشتري التصرف فيه ، وفيه أن الفرق واضح بين البيع وغيره باعتبار اشتراط القدرة على التسليم في صحة البيع وعدمه ، نعم قد يقال بعدم تأثير إذن المالك في خصوص الصلاة مثلا‌

٢٩٢

للغاصب الذي لم يرفع يده عن الغصب ، ضرورة صدق اسم الغاصب عليه في حال الصلاة التي أذن المالك فيها ، مع أن التحقيق خلافه ، إذ صدق اسم الغاصب عليه وكونه آثما باستمرار المنع على المالك لا يقتضي حرمة في نفس حركات الصلاة وسكناتها التي فرض الاذن فيها كي تبطل الصلاة بذلك ، هذا. وفي الذكرى أنه يجوز أن يقرأ « إذن » بصيغة المجهول ويراد به الاذن المطلق المستند إلى الشاهد الحال ، فان طريان الغصب يمنع من استصحابه كما صرح به ابن إدريس ، ويكون فيه التنبيه على مخالفة المرتضى رحمه‌الله وتعليل الشيخ مشعر بهذا ، قلت : لا يخفى بعده ، كما أنه لا يخفى قلة الجدوى في البحث عن مراده بعد معرفة الحكم على سائر التقادير.

وعلى كل حال فـ ( ـان كان ناسيا أو جاهلا بالغصب صحت صلاته ) بلا خلاف أجده في الثاني ، بل في المدارك والمحكي عن المنتهى الإجماع عليه ، لعدم النهي المقتضي للبطلان ، ضرورة تعلقه في معلوم الغصب لا مجهوله ، نعم لو انعكس الأمر بأن صلى فيه على أنه غصب فبان أنه له لم يبعد البطلان هنا ، لعدم تصوير نية القربة فيه ، فتأمل جيدا ، أما الناسي ففي القواعد إشكال ، ولعله لما مر في اللباس ، إلا أنه لم يقوى البطلان هنا كما قواه ثم ، وكأنه لأنه نزل الناسي فيه منزلة العاري ناسيا ، وهذا لا ينزل منزلة الناسي للكون ، لكن فيه أنه يمكن أن تنزل منزلة الناسي للقيام والركوع والسجود لأن هذه الأفعال إنما فعلت فيما لا يريد الشارع فعلها فيه ، على أن علة التنزيل بأن هذه الأفعال إنما فعلت فيما لا يريد الشارع فعلها فيه مشتركة وإن كان فيها مثل ما مر من أن الشارع إنما أنكر فعلها في معلوم الغصبية كما تقدم الكلام فيه مفصلا ، ولذا كان الأقوى الصحة هناك فضلا عن المقام من غير فرق بين الغاصب وغيره ، فلاحظ وتأمل.

وأما إن كان جاهلا بـ ( الحكم ) الشرعي ولو الوضعي كـ ( تحريم المغصوب ) وفساد الصلاة فيه وغصبية المأخوذ بالبيع الفاسد لم يعذر كغيره من الجاهل بالحكم‌

٢٩٣

الشرعي ، فلم يفد حينئذ هذا الجهل الصلاة صحة ، لتحقق النهي فيه ، نعم لو فرض جهله بحال لا عقاب ولا إثم عليه فيه وكان متمكنا من نية القربة معه اتجه الصحة ، لعدم النهي كما أوضحناه هناك بما لا مزيد عليه ، فما في كشف اللثام من الحكم بالبطلان مطلقا معللا ذلك بأنها صلاة لم يردها الشارع وإن لم يأثم إذا كان غافلا كما ترى ، وإن كان قد يشهد له إطلاق الفتاوى بطلان عبادة الجاهل ، وإلا أنه يجب تنزيله على غير الفرض ، لأن مدار البطلان وعدمه في المقام على تحقق النهي وعدمه كما سمعته غير مرة ، والله أعلم.

وإذا ضاقت الوقت وكان هو أي الغاصب آخذا في الخروج متشاغلا به صلى على هذا الحال وصحت صلاته وإن كان قد أثم بابتداء الكون واستدامته إلى الخروج ، أما هو فلا ريب في طاعته وعدم النهي له عنه ، وإلا كان تكليفا بما لا يطاق ، وربما ظهر من المحكي عن المنتهى الإجماع عليه كما ستسمع ، فالجمع حينئذ بين هذين الواجبين الفوريين ليس إلا بذلك ، لكن عن أبي هاشم أن الخروج أيضا تصرف في المغصوب فيكون معصية ، فلا تصح الصلاة حينئذ وهو خارج ، سواء تضيق الوقت أم لا ، وعن المنتهى « ان هذا القول عندنا باطل » بل في التحرير « أطبق العقلاء كافة على تخطئة أبي هاشم في هذا القول عندنا باطل » بل في التحرير « أطبق العقلاء كافة على تخطئة أبي هاشم في هذا المقام » قلت : لا ريب في صحة كلامه إذا كان الخروج لا عن ندم على الغصب ولا إعراض ، ضرورة كونه على هذا الفرض كالدخول تصرفا فيه ، أما إذا كان مع التوبة والندم وإرادة التخلص من الغصب فقد يقال أيضا : إن محل التوبة بعد التخلص ، والتخلص بلا إثم هنا غير ممكن بعد قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فلا قبح حينئذ في تكليفه بالخروج مع تحريمه عليه كما حقق في الأصول ، فيتجه حينئذ قول أبي هاشم بحرمة الصلاة.

نعم قد يقال : إن الكون حال تشاغله بالخروج ليس صلاتيا كي يقتضي حرمته فسادها ، بل الصلاة ليس إلا النية والأقوال بناء على أنها ليست من التصرف ،

٢٩٤

وحينئذ فلا بأس بتكليفه بالصلاة في هذا الحال ، لعدم سقوط الصلاة بحال ، والميسور بالمعسور.

لكن قد يشكل الاجتزاء بمثل هذه الصلاة بأنه مع فرض تكليفه بصلاة المختار لقاعدة الاختيار لا يصلح حينئذ الخطاب بالبدل معه ، وإلا كان جمعا بين العوض والمعوض عنه ، ولعله من هنا نسب يحيى بن سعيد على ما قيل صحة نحو هذه الصلاة كما ستسمع إلى القيل مشعرا بنوع توقف فيها ، اللهم إلا أن يقال : إنه لا خطاب بالمبدل بحيث يراد منه الأداء حقيقة ، بل أقصاه إجراء حكم ذي الخطاب عليه من العقاب ونحوه ، ومثله لا ينافي الخطاب بالبدل حقيقة ، ولا يناقش بعدم ثبوت بدلية هذا الفرد ، ضرورة أنه يكفي فيه قاعدة الميسور وما لا يدرك مع عدم سقوط الصلاة بحال.

وكذا قد يشكل بأن مقتضى ذلك أنه لو صلى هذه الصلاة من غير اشتغال بالخروج تصح صلاته وإن أثم بترك التشاغل ، وحينئذ فقول المصنف ولو صلى ولم يتشاغل بالخروج لم تصح صلاته في غير محله ، إلا أن يريد الصلاة المشتملة على الركوع والسجود مثلا ، وإلا فقد عرفت أن مقتضى ما ذكرنا صحة تلك الهيئة من الصلاة وإن لم يتشاغل ، بل مقتضاه صحة الصلاة جالسا مثلا لو فرض مساواته القيام في المبادرة للخروج من المغصوب ، ضرورة عدم مدخلية القيام وغيره من الأكوان في الصلاة على الفرض المزبور ، ويندفع بأنه لا مانع من التزام ذلك كله إن لم ينعقد إجماع على خلافه.

ولو حصل في ملك غيره باذنه ثم أمره بالخروج قبل التلبس بما يحرم بعده قطع الصلاة وجب عليه ذلك فورا مع التمكن ما لم يعلم الاذن في التراخي فيه فان صلى والحال هذه والوقت متسع كانت صلاته باطلة قطعا ، سواء صلاها مشتغلا بالخروج أو مستقرا كما هو واضح ومثله وضوحا ما ذكره المصنف وغيره من أنه يصلي وهو خارج إن كان الوقت ضيقا ترجيحا لحق الآدمي على حق الله تعالى‌

٢٩٥

مع عدم سقوط الصلاة بحال والميسور بالمعسور ونحو ذلك ، فيومي للركوع والسجود حينئذ ، ويراعي باقي الشرائط من الاستقبال ونحوه بمقدار المكنة من الإتيان مع مراعاة الخروج على حسب المعتاد ، فما عن المنتهى من أنه لا اعتبار بالقبلة منزل على ذلك ، كما أن ما عن نهاية الأحكام من أنه إن تمكن من القهقرى وجب كذلك أيضا ، لكن عن ابن سعيد أنه نسب صحة هذه الصلاة إلى القيل مشعرا بنوع توقف فيها ، ومثله العلامة الطباطبائي في منظومته ، ولعله لعدم ما يدل على صحتها ، بل قد يدعى وجود الدليل على العدم باعتبار معلومية اعتبار الاستقرار والركوع والسجود ونحو ذلك ولم يعلم سقوطها هنا ، والأمر بالخروج بعد الاذن في الكون وضيق الوقت وتحقق الخطاب بالصلاة غير مجد ، فهو كما لو أذن له في الصلاة وقد شرع فيها وكان الوقت ضيقا مما ستعرف عدم الإشكال في إتمام صلاته ، فالمتجه حينئذ عدم الالتفات إلى أمره بعد فرض كونه عند ضيق الوقت الذي هو محل الأمر بصلاة المختار المرجح على أمر المالك بسبق التعلق ، فلا جهة للجمع بينهما بما سمعت ، بل يصلي صلاة المختار مقتصرا فيها على الواجب مبادرا في أدائها على حسب التمكن ، لكن لم أجد قائلا بذلك ، بل ولا أحدا احتمله ممن تعرض للمسألة كالشيخ والفاضلين والشهيدين وغيرهم ، ولعله لأن الاذن في الكون ليس إذنا في الصلاة كي يكون الأمر بالخروج رجوعا عما أذن ، فلا يسمع بعد فرض تعلق الأمر بالصلاة عند ضيق الوقت ، ومشروعية الصلاة كما هو المفروض لعلها من جهة الاذن في الكون مع عدم المنع عن أفراد خاصة منه ، وبالجملة الأمر بالخروج ليس رجوعا عن الاذن في الصلاة قطعا حتى يتجه ما سمعت ، فتأمل جيدا.

وإن كان أمره بالخروج بعد التلبس بالصلاة مع اتساع الوقت ففي الإتمام والقطع والخروج مصليا وجوه أو أقوال ، أضعفها الأخير ، بل لم أعرفه لغير الفاضل‌

٢٩٦

في الإرشاد ، كما أني لم أعرف له وجها سوى تخيل أنه جمع بين امتثال النهي عن الابطال والتصرف في مال الغير ، وهو كما ترى فيه تغيير هيئة الصلاة من غير ضرورة ، للاتساع ، فهو في الحقيقة إسقاط لحق الله لا جمع بينه وبين حق الآدمي ، وحرمة القطع إن فرض تحققها هنا فليس حينئذ إلا الوجه الأول الذي قواه الشهيد في الذكرى والبيان ، والأستاذ الأكبر ، وهو الإتمام مستقرا بالاستصحاب ، وان الصلاة على ما افتتحت ، والمانع الشرعي كالعقلي ، مع أن المالك إن علم بتلبسه بها فهو آمر بالمنكر ، فلا ينفذ أمره ، لأن الفرض دخوله بوجه شرعي ، ولأن المالك بإذنه في الكون واللبث مثلا قادم على احتمال اشتغاله بما لا يمكنه قطعه لاحتمال القتل أو الضرر العظيم أو نحو ذلك. وإن لم تكن متحققة بل قلنا بانقطاع الصلاة كالحدث ونحوه مما لم يتمكن معه من الإتمام فليس حينئذ إلا الوجه الثاني الذي اختاره جماعة ، ترجيحا لحق الآدمي الذي لا يجامع أداؤه صلاة الاختيار التي لم يثبت التكليف بغيرها في هذا الحال ، بل التكليف بها ، وهو مقتضى الأدلة ، فلا محيص حينئذ عن إبطال المشغول بها وتخليص مال الغير ، ثم استيناف صلاة جديدة ، لفرض الاتساع ، والاذن في اللبث ليس إذنا في الصلاة ، ولا بد من خلو العبادة من المفاسد ، والتصرف في ملك الغير بغير إذنه مفسدة ، اللهم إلا أن يقال بترجيح نهي الابطال باعتبار سبق تعلقه ، لفرض الدخول الشرعي من المصلي ، فهو في الحقيقة كالعارية اللازمة بالعارض ، بل ما نحن فيه من ذلك ، ضرورة رجوع الاذن في الكون أو اللبث مثلا إلى الاذن في الصلاة ولو باعتبار كونها من أفراد المطلق المأذون فيه ، والفرض أن النهي عن اللبث رجوع عن الاذن الأولي لا كشف لإرادة غير هذا الفرد من المطلق ، ومثله الاذن في التصرف بمال مثلا فرهنه أو دفن فيه ميتا أو غير ذلك مما هو لازم شرعا.

وربما ينقدح من ذلك التفصيل بين الكشف والبداء ، فيقطع في الأول لعدم‌

٢٩٧

الاذن فيه ، وتخيلها يسوغ الاقدام لا أنه يذهب حرمة مال الغير ، بخلاف الثاني الذي لا فرق عند التأمل بينه وبين الاذن بخصوص الصلاة ، إذ الفرض تعلق الاذن بالمطلق الشامل ، والنهي رجوع لا كشف ، وأولى منه بذلك العموم في المأذون فيه ، فرجوعه حينئذ بعد التلبس في الصلاة التي نهاه الشارع عن قطعها في غير محله ، ولا يؤثر أثرا فضلا عن أن يعارض نهي المالك الأصلي ، ودعوى تقييد النهي عن الابطال بما إذا لم يرجع المالك تحكم محض ، بل لعل اللزوم في المقام من تسلط الناس على أموالها ، ضرورة اقتضائه ترتب أحكام كل ما أذنوا فيه من بيع أو رهن أو إجارة أو دفن ميت أو غير ذلك مما رتب الشارع عليه حكما ، فلا تعارض حينئذ بين نهي الابطال وقاعدة التسلط ، ولو سلم فتقييد قاعدة تسلط الناس على أموالها بغير المقام ونحوه أولى من وجوه ، خصوصا بعد أن أوضحنا رجوعه للإذن في الصلاة التي لا ريب في وجوب الإتمام عليه معها كما صرح به جماعة ، بل لم أجد أحدا أفتى بغيره ضاق الوقت أم اتسع ، لما عرفت من أن الاذن في اللازم شرعا يقضي إلى الملزوم كالإذن في الرهن وفي دفن الميت.

نعم احتمل الوجهان الآخران في الذكرى من الأصل وإمكان الجمع بين الحقين ، بل في المحكي عن مجمع البرهان لا يبعد أن لا يلزم المالك شي‌ء على تقدير الاذن الصريح ، لأن له أن يرجع ، للاستصحاب ، و‌ « الناس مسلطون على أموالهم » (١) وللزوم في بعض الأفراد لدليل مثل اللزوم بإذنه في الرهن والدفن ، فلا يجوز له الإخراج ، بخلاف الاذن في الصلاة ، فإنه لا يضره المنع ، ولا يلزم محذور أصلا ، إذ لا يفعله هو حراما ، ولا يأمر بالحرام ، لأن القطع من عدم إذنه واجب لا حرام ، وفيه ما لا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرناه.

نعم المراد تعين الإتمام عليه مع هذا الفرض ، أما لو فرض حصول الضرر العظيم‌

__________________

(١) البحار ـ ج ٢ ص ٢٧٢ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٦.

٢٩٨

على المالك مثلا بالإتمام فذاك أمر آخر خارج عما نحن فيه ، ولعلنا نقول بالإبطال معه في الاتساع ، والتشاغل به خارجا في الضيق ، ترجيحا لقاعدة التسلط بسبب اعتضادها بقاعدة نفي الضرر وتقديم حق الآدمي ونحو ذلك ، واليه أومأ المحقق الثاني في المحكي عن حاشية الإرشاد حيث قيد الإتمام هنا بما إذا لم يحصل ضرر على المالك ، قال : « وإلا قطع قطعا ».

وعلى كل حال فمما ذكرنا ظهر لك الحال في أكثر صور المسألة وإن لم نصرح بها جميعا ، بل منه يظهر لك التأمل في جملة من عبارات الأصحاب حتى ما في المسالك على جودته ، قال في صور المسألة : « إن من دخل أرض غيره فلا يخلو إما أن يكون بصريح الاذن في الصلاة أو في الكون ، أو بالفحوى ، أو بشاهد الحال ، أو بغير إذن كمن دخل المغصوب جاهلا بالغصب ثم علم ، وعلى التقادير الخمسة فلا يخلو إما أن يكون الرجوع في الاذن أو النهي أو العلم بالغصب قبل الشروع في الصلاة ، أو بعده مع سعة الوقت أو ضيقه ، ومضروب الأربعة في الخمسة عشرون ، والأجود في حكمها أنه مع الاذن في الصلاة ثم الرجوع بعد التلبس لا التفات اليه بل يستمر على الصلاة حتى يفرغ ، سواء كان الوقت واسعا أو ضيقا ، وإن كان بغير الصريح في الصلاة أو كان الرجوع قبل التلبس وجب الخروج على الفور مطلقا ، ثم إن كان الوقت واسعا أخر الصلاة إلى أن يخرج أو قطعها ، وإن كان ضيقا ، تشاغل بالخروج والصلاة جامعا بين الحقين مؤميا للركوع والسجود بحيث لا يتثاقل في الخروج عن المعهود مستقبلا ما أمكن قاصدا أقرب الطرق تخلصا من حق الآدمي المضيق بحسب الإمكان » انتهى. غير خفي عليك محال التأمل فيه بعد الإحاطة فيما ذكرنا.

ثم لا يخفى عليك أنه لا إشكال عندهم في الصحة مع فرض عدم الرجوع من غير فرق بين الاذن بالصلاة أو الكون صريحا أو فحوى ، ومنه يعلم حينئذ أنه لو كان‌

٢٩٩

مكرها على الكون في المكان لحبس باطل من المالك أو غيره لا على هيئة مخصوصة أو خوف على النفس أو غير ذلك من وجوه الإكراه تصح منه صلاة المختار ، ضرورة عدم الفرق بينه وبين المأذون في الكون بعد اشتراكهما في إباحته وحليته ، نعم لو استلزمت الصلاة تصرفا زائدا على أصل الكون لم يجز ، لعدم الاذن فيه ، لا ما إذا لم تستلزم ، فإنها حينئذ أحدا أفراد الكون الذي فرض الاذن فيه ، على أن القيام والجلوس والسكون والحركة وغيرها من الأحوال متساوية في شغل الحيز ، وجميعها أكوان ، ولا ترجيح لبعضها على بعض فهي في حد سواء في الجواز ، وليس مكان الجسم حال القيام أكثر منه حال الجلوس ، نعم يختلفان في الطول والعرض ، إذ الجسم لا يحويه الأقل منه ولا يحتاج إلى أكثر مما يظرفه كما هو واضح بأدنى تأمل.

ومن الغريب ما صدر من بعض متفقهة العصر ، بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أنه يجب على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان عليها أول الدخول إلى المكان المحبوس فيه ، إن قائما فقائم ، وإن جالسا فجالس ، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا ، لما فيه من الحركة التي هي تصرف في مال الغير بغير إذنه ، ولم يتفطن أن البقاء على الكون الأول تصرف أيضا لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف ، كما أنه لم يتفطن أنه عامل هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشد ما عامله الظالم بل حبسه حبسا ما حبسه أحد لأحد ، اللهم إلا أن يكون في يوم القيامة مثله ، خصوصا وقد صرح بعض هؤلاء أنه ليس له حركة أجفان عيونه زائدا على ما يحتاج اليه ، ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك ، بل ينبغي أن تخص الحاجة في التي تتوقف عليها حياته ونحوها مما ترجح على حرمة التصرف في مال الغير ، وكل ذلك ناش عن عدم التأمل في أول الأمر والأنفة عن الرجوع بعد ذلك ، أعاذ الله الفقه من أمثال هذه الخرافات ، وأغرب شي‌ء دعواهم أن الفقهاء على ذلك ، ولم يتأمل أنهم لو أرادوا ذلك‌

٣٠٠