جواهر الكلام - ج ٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

عليه ، وربما حكي عن المفيد وأبي المكارم أيضا ، لكن ما وصل إلينا ـ من مقنعة الأول « القبلة هي الكعبة ثم المسجد قبلة من نأى عنها ، لأن التوجه اليه توجه إليها ـ ثم قال بعد أسطر ـ : ومن كان نائيا عنها خارجا من المسجد الحرام توجه إليها بالتوجه اليه » ومن غنية الثاني « القبلة هي الكعبة الحرام ، فمن كان مشاهدا لها وجب عليه التوجه إليها ، ومن شاهد المسجد الحرام ولم يشاهد الكعبة وجب عليه التوجه اليه ، ومن لم يشاهده توجه نحوه بلا خلاف » ـ لا يطابق الحكاية ، إذ لم يذكر في شي‌ء منهما الحرم ، بل هما إلى القول بأن الكعبة القبلة عينا أو جهة أقرب من ذلك قطعا ، كما أن المحكي عن ابن شهراشوب من نفي الخلاف عن استقبال المسجد على من بعد عنه لا ينافيه أيضا ، ضرورة اتحاد جهة الكعبة والمسجد للبعيد ، ومنه يعلم أن الآية لا تنافي القول بأن الكعبة القبلة ، لأن موردها البعيد ، وجهة المسجد وناحيته هي ناحية الكعبة وجهتها.

وكيف كان فلم نعرف حجة لهذا القول بعد الإجماع المعتضد بما عرفت إلا‌ مرسل الحجال (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ان الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا » ونحوه خبر بشر بن جعفر الجعفي (٢) ومرسل الصدوق (٣) بل لعل الأخير هو أحدهما للمعلوم من عادته ، وأصالة عدم التعدد ، فينحصر الاستدلال حينئذ بالخبرين ، نعم يؤيدهما بعض النصوص (٤) المشتملة على تعليل استحباب اليسار بما يقتضي كون الحرم قبلة ، وأما‌ خبر أبي غرة (٥) عن الصادق عليه‌السلام « البيت قبلة المسجد ، والمسجد قبلة مكة ، ومكة قبلة الحرم ، والحرم قبلة الدنيا » فلم أجد من عمل به ، مع أنه كان المتجه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٣ من كتاب الصلاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ٤ من كتاب الصلاة.

٣٢١

لأهل القول المزبور تقييد الإطلاق الأول به ، لكنه قد يخرج مؤيدا أيضا في الجملة ، وزاد في الخلاف بأنه لو كلف التوجه إلى عين الكعبة لوجب إذا كان في صف طويل خلف الامام أن يكون صلاتهم أو صلاة أكثرهم إلى غير القبلة ، أو يلزمهم أن يصلوا حول الامام دورا كما يصلى في جوف الكعبة ، وكل ذلك باطل بالإجماع ، وليس لهم أن يقولوا إنما كلف الجهة هربا من ذلك ، لأن جهات القبلة غير منحصرة ، بل جهة كل واحد من المصلين غير جهة صاحبه ، ولا يمكن أن يكون الكعبة في الجهات كلها ، فالسؤال لازم لهم ، ولا يلزمنا مثل ذلك ، لأن الفرض التوجه إلى الحرم ، والحرم طويل يمكن أن يكون كل واحد من الجماعة متوجها إلى جزء منه.

إلا أن الأقوى مع ذلك كله كون القبلة الكعبة خاصة عينا للمتمكن من ذلك ولو بواسطة ما لا يشق تحمله من المقدمات كالصعود إلى مرتفع ونحوه ، وجهة لغيره ، وفاقا لأكثر المتأخرين أو عامتهم ، إذ المصنف وإن خالف هنا لكنه وافق في النافع ، وللمحكي عن الكاتب والسيد في المصباح والجمل والحلي من غيرهم ، بل ربما نسب إلى الأكثر أو المشهور من غير تقييد للنصوص المستفيضة (١) ومنها الصحيح وغيره الدالة على أن القبلة الكعبة بأنواع الدلالة حتى أن في‌ المروي (٢) عن قرب الاسناد منها عن الصادق عليه‌السلام كمال التصريح بذلك ، قال : « إن لله عز وجل حرمات ثلاث ليس مثلهن شي‌ء : كتابه ، وهو حكمة ونور ، وبيته الذي جعله قياما للناس وأمنا لا يقبل من أحد توجها إلى غيره وعترة نبيكم (ع) » والذي حضرني الآن منها خمسة عشر خبرا فلا بأس بدعوى تواترها ، بل قد عرفت أن ذلك من الضروريات الذي تلقن بها الأموات وتكرره الأحياء في كل يوم ، بل يعرفه الخارج عن الإسلام كاليهود والنصارى من أهله فضلا عنهم ، ولا ينافي ذلك عدم التصريح في كثير من النصوص المزبورة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القبلة من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٠ من كتاب الصلاة.

٣٢٢

بالتفصيل المذكور ، مع أن بعضها صريح أو كالصريح فيه ، كالنبوي المروي عن احتجاج الطبرسي (١) بإسناده إلى العسكري عليه‌السلام قال فيه : « فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعنا ، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون بها فأطعناه ، فلم نخرج في شي‌ء من ذلك عن أمره » وكأن عدم التعرض في أكثرها لذلك استغناء عنه بالأمر باستقبال الكعبة ، وكونها قبلة ، ضرورة ظهوره في إرادة الجهة من غير المتمكن والعين من المتمكن تحصيلا للصدق فيهما ، فلا وجه للتوقف في ذلك من هذه الجهة.

فمن الغريب بعد ذلك كله وقوع النزاع فيه ، ولعله لفظي ، إذ أقصى ما يتصور من الثمرة بين القولين هو جواز استقبال غير الكعبة من المسجد أو الحرم لمن كان متمكنا منها على الأول وعدمه على الثاني ، ووجوب استقبال المسجد والحرم لغير المشاهد على الأول وجهة الكعبة على الثاني ، ويدفع الأولى ما عن جماعة ممن عرفت الخلاف منهم كالشيخ في مبسوطة وجمله ومصباحه والقاضي في مهذبه والكيدري في إصباحه وأبي الصلاح في الكافي من التصريح بوجوب استقبال العين لمن كان متمكنا منها ، قال في الأول : « المكلفون على ثلاثة أقسام ، منهم من يلزمه التوجه إلى نفس الكعبة ، وهو كل من كان مشاهدا لها بأن يكون في المسجد الحرام ، أو في حكم المشاهد بأن يكون ضريرا أو يكون بينه وبين الكعبة حائل ، أو يكون خارج المسجد بحيث لا تخفى عليه جهة الكعبة » وقال في الثاني : « القبلة على ثلاثة أقسام ، فالكعبة قبلة من كان مشاهدا لها أو في حكم المشاهد ، والمسجد قبلة من لم يشاهد الكعبة وشاهده أو غلب في ظنه جهته ممن كان في الحرم ، والحرم قبلة من نأى عنه عن الحرم (٢) » إلى غير ذلك ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٤ من كتاب الصلاة.

(٢) هكذا في المبيضة ولكن ليس في المسودة لفظ « عنه » وهو الصحيح أو لا بد من واو العطف بأن يكون هكذا « عنه وعن الحرم ».

٣٢٣

ولعله لذا استدل في المعتبر عليه بإجماع العلماء ، وفي التذكرة « الكعبة القبلة مع المشاهدة إجماعا » وعن النهاية « إجماعنا على ذلك » وفي المحكي من شرح الشيخ نجيب الدين « القبلة عين الكعبة المشرفة لمن أمكنه علمها بالإجماع كأهل مكة » وفي كنز العرفان « الإجماع عليه أيضا » وقد سمعت نفي الخلاف عنه في الغنية ، بل في الرياض انه قد يفهم أيضا من الذكرى وجملة ممن تبعه حيث اكتفوا في احتمال لفظية النزاع باحتمال أن ذكر المسجد والحرم إشارة إلى الجهة مشعرين بانحصاره ثمرة النزاع في الثانية ، وإلا لم يكتف في لفظيته بالاحتمال المزبور ، لما عرفت من اقتضاء ظاهر عبارة الخصم كالنصوص الثمرة الأولى أيضا ، فلا يرتفع الخلاف بذلك إلا بعد فرض وفاقهم على عدم جواز استقبال غير الكعبة للمشاهد ومن بحكمه.

ومن ذلك يعرف اندفاع الثانية أيضا ، ضرورة احتمال إرادة الجهة من المسجد والحرم ، وأنهم انما ذكروا ذلك على سبيل التقريب إلى الأفهام ، إظهارا لسعة الجهة حتى المصنف منهم ، لما تسمعه منه فيما يأتي « وأهل كل إقليم » إلى آخره. ضرورة عدم انطباقه إلا على الجهة ، نعم قد أبي ذلك خصوص عبارة الخلاف السابقة وما شابهها التي يرد عليها مثل ما أورده على جهة الكعبة حرفا بحرف فيما لو استطال الصف لمتحدي العلامة من إقليم بحيث يقطع بزيادته عن الحرم ، فإنه لا استقبال حينئذ لجزء منه ، إذ من المعلوم سعة سمتهم على مساحة الحرم ، وكذا لو استطال في الحرم بحيث خرج عن مساحة المسجد ، ودعوى منع ذلك لكروية الأرض أو غير ذلك مما يعارض الوجدان غير مسموعة ، على أنها قد تقابل أيضا بما في الذكرى من أن الجرم الصغير كلما ازداد القوم عنه بعدا ازدادوا له محاذاة ، وإن كان الظاهر أن ذلك لا يقتضي استقبال العين ، إذ لو أخرجت خطوط متوازية من مواقف البعيد المتباعدة المتفقة الجهة على وجه يزيد على جرم الكعبة لم تتصل الخطوط أجمع بالكعبة ، وإلا لخرجت عن كونها متوازية ،

٣٢٤

لكن وإن صدق استقبال العين للبعيد بذلك الاستقبال الصوري إلا أنه لا يتوقف على الموازاة المزبورة ، بل الظاهر تحققه وإن لم يعلم ، بل وإن علم العدم ، وبه يظهر الفرق بين العين والجهة كما تسمعه محررا إن شاء الله ، هذا. وإن أبيت عن قبول كلامهم لشي‌ء مما ذكرنا فلا ريب في قبول النصوص الاحتمال المزبور ، خصوصا مع معارضتها بما عرفت من النصوص ، بل الضرورة ، على أنها بنفس هذا اللفظ مروية من طرق العامة ، وإلى بعض ذلك أشار العلامة الطباطبائي بقوله :

وقيل بل يستقبل النائي الحرم

ومن به فالمسجد الحرام أم

ومن به فالبيت للرواية

وأولت للنص والدراية

ومن ذلك كله تعرف ما في إجماع الشيخ ، إذ هو في مفروض الثمرتين مقطوع بعدمه أو مظنون ، والآية (١) إن لم تدل على المختار فلا تدل على عدمه ، ضرورة صراحتها أو ظهورها في جهة المسجد وناحيته مما هو مخالف لوجوب استقبال عين الحرم الذي هو مذهب الخصم في مثل مورد الآية ، نعم قد يقضي عموم الآية باستقبال جهة المسجد وإن تمكن من مشاهدة الكعبة ، ومن هنا قال في المدارك بعد أن حكي عن المعتبر إجماع العلماء كافة على استقبال العين للقريب : إنه إن تم كان هو الحجة ، وإلا أمكن المناقشة فيه ، إذ الآية الشريفة انما تدل على وجوب استقبال شطر المسجد ، والروايات خالية من هذا التفصيل.

لكن قد يقال : إن المراد من الآية تعميم أماكن البعيد ، لمعلومية الحال في القريب ، ولو قيل بإرادة الكعبة من المسجد الحرام ولو بمعونة ما عرفت لم يرد عليه شي‌ء من ذلك ، أما لو أريد من الشطر الجانب فمعلوم أيضا إرادة جهته في نحو مفروض الآية من البعيد ، وقد عرفت اتحاد جهته مع جهة الكعبة ، وبالنسبة إلى القريب يمكن‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٣٩.

٣٢٥

إرادة الجانب الذي ينطبق على عين الكعبة ، وبالجملة لا يكاد يخفى على من له أدنى تأمل انه ليس المراد من الآية كون المسجد نفسه قبلة ، وإلا لجرى الكلام والبحث في الصلاة في وسطه كالصلاة في جوف الكعبة ، ومن المعلوم ضرورة خلافه ، كل ذلك مع قطع النظر عن المراد بالآية الثانية (١) وإلا لو قلنا بإرادة ما يشمل القبلة من القيام فيها كانت حينئذ مفسرة لهذه الآية ونصا في المطلوب ، وعن اختلاف المسجد زيادة ونقصا بحيث لا يعلم مقداره وقت نزول الآية ، وعن الاحتياط المطلوب في مثل الصلاة ، وهو منحصر باستقبال الكعبة ، بل لعله متعين هنا وإن قلنا بالتمسك بالأصل في نفي ما شك في شرطيته لكن المقام بعد التنزل من إجمال الشرط لا من الشك فيه فالواجب الاقتصار فيه حينئذ على المتيقن ، كما هو واضح.

ومنه يعلم عدم جواز استقبال شي‌ء من الحجر وإن قال في الدروس : « المشهور انه من البيت » وفي المحكي عن التذكرة « عندنا أنه من الكعبة » وعن نهاية الأحكام « يجوز أن يستقبله ، لأنه كالكعبة عندنا ، وقيل إنه من الكعبة » وفي الذكرى « ظاهر كلام الأصحاب أن الحجر من الكعبة بأسره وقد دل عليه النقل ، وانه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل على نبينا وآله وعليهما السلام إلى أن بنت قريش الكعبة فأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه ، وكان ذلك في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة ، وبذلك احتج ابن الزبير حيث أدخله فيها ، ثم أخرجه الحجاج بعده ورده إلى مكانه ، ولأن الطواف يجب خارجه ، وللعامة خلاف في كونه من الكعبة بأجمعه أو بعضه أو ليس منها ، وفي الطواف خارجه ، وبعض الأصحاب له فيه كلام أيضا مع إجماعنا على وجوب إدخاله في الطواف ، وانما الفائدة في جواز استقباله في الصلاة بمجرده ، فعلى القطع بأنه من الكعبة يصح ، وإلا امتنع ،

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٤٤.

٣٢٦

لأنه عدول عن اليقين إلى الظن » قلت : وأين حصول القطع مع ما في‌ الصحيح (١) ان معاوية بن عمار سأل الصادق عليه‌السلام « عن الحجر أمن البيت هو؟ فقال : لا ولا قلامة ظفر ، لكن إسماعيل عليه‌السلام دفن أمه فيه فكره أن يوطأ ، فجعل عليه حجرا ، وفيه قبور أنبياء (ع) » وقال عليه‌السلام في خبر آخر له (٢) : « دفن في الحجر عذارى بنات إسماعيل » وفي‌ خبر أبي بكر الحضرمي (٣) « ان إسماعيل دفن أمه في الحجر ، وحجر عليها لئلا يوطأ قبر أم إسماعيل » وسأله يونس بن يعقوب (٤) فقال : « إني كنت أصلي في الحجر ، فقال رجل : لا تصل المكتوبة في هذا الموضع فان الحجر من البيت فقال : كذب ، صل فيه حيث شئت » وفي المحكي عن‌ السرائر عن نوادر البزنطي (٥) « أن الحلبي سأله عليه‌السلام عن الحجر فقال : إنكم تسمونه الحطيم ، وإنما كان لغنم إسماعيل مراحا دفن فيه أمه وكره أن يوطأ قبرها فحجر عليه ، وفيه قبور أنبياء عليهم‌السلام » وفي كشف اللثام بعد أن حكى عن الذكرى ما سمعته قال : « وما حكاه إنما رأيناه في كتب العامة ، ويخالفه أخبارنا » قلت : وهو كذلك ، نعم‌ أرسل في الكافي والفقيه (٦) « انه كان طول بناء إبراهيم عليه‌السلام ثلاثين ذراعا » وهو قد يعطي دخول شي‌ء من الحجر فيها ، لأن الطول الآن خمس وعشرون ذراعا ، كالمحكي عن التذكرة من أن البيت كان لاصقا بالأرض وله بابان شرقي وغربي ، فهدمه السيل قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعشر سنين ، وأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هو عليها اليوم ، وقصرت الأموال الطيبة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١ من كتاب الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٤ من كتاب الحج.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٢ من كتاب الحج.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٤ ـ من أبواب المساجد ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ١٠ من كتاب الحج.

(٦) فروع الكافي ج ٢ ـ ص ٢١٧ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٧.

٣٢٧

والهدايا والنذور عن عمارته ، فتركوا من جانب الحجر بعضا ، وقطعوا الركنين الشاميين من قواعد إبراهيم عليه‌السلام ، وضيقوا عرض الجدار من الركن الأسود إلى الشامي الذي يليه ، فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعا ، وهو الذي سمي الشاذروان ، لكن في الحدائق الظاهر أن هذه الرواية‌ من طرق المخالفين ، فإنهم رووا عن عائشة (١) انها قالت : « اني نذرت أصلي ركعتين في البيت فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صل في الحجر ، فان فيه ستة أذرع من البيت ».

وعلى كل حال فلا ريب في اقتضاء الاحتياط المزبور عدم استقبال شي‌ء منه ، وإدخاله في الطواف لعله لما أرسله في الفقيه (٢) عن النبي والأئمة عليهم‌السلام قال : « صار الناس يطوفون به لأن أم إسماعيل دفنت في الحجر ، ففيه قبرها ، فطيف كذلك لئلا يوطأ قبرها » أو لغير ذلك ، وكأن ما سمعته من النهاية من تعليل جواز استقباله بأنه كالكعبة أخذه من الطواف به ، وفيه ما عرفت ، لكن المحكي في كشف اللثام عنها نحو عبارة التذكرة ، والله أعلم ، ولقد أجاد العلامة الطباطبائي بقوله مشيرا الى بعض ما ذكرناه :

وما من البيت مكان الحجر

كلا ولا قلامة من ظفر

فلا تصل نحوه وإن دخل

كالبيت في الطواف في بعض العلل

وصل فيه الفرض مطلقا بلا

حجر وفي الكعبة منع قد جلا

فظهر حينئذ أن الأقوى والأحوط عدم استقبال شي‌ء من الحجر ، كما أنه ظهر لك سابقا أن الأقوى والأحوط أيضا كون الكعبة خاصة القبلة للقريب والبعيد ،

__________________

(١) رواه في المغني ـ ج ٣ ـ ص ٣٨٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الطواف ـ الحديث ٥ من كتاب الصلاة.

٣٢٨

وكيفية استقبالها أمر عرفي لا مدخلية للشرع فيه ، والظاهر تحقق الصدق وإن خرج بعض أجزاء البدن التي لا مدخلية لها في صدق كون الشخص مستقبلا وحالته استقبالا من غير فرق في ذلك بين القريب والبعيد ، لكن في القواعد انه « لو خرج بعض بدنه عن جهة الكعبة بطلت صلاته » بل قيل إنه كذلك في نهاية الأحكام والتحرير والتذكرة والذكرى والبيان والموجز وكشف الالتباس وجامع المقاصد وفوائد القواعد ، وفي كشف اللثام في شرح العبارة المزبورة « ولو خرج بعض بدنه عن جهة الكعبة كإحدى يديه أو رجليه أو بعض منهما بطلت صلاته لوجوب الاستقبال بجميع البدن ، قطع به هنا وفي التحرير والنهاية والتذكرة وكذا الشهيد ، وهو أحد وجهي الشافعي ، لأن المراد في الآية كما في المجمع وروض الجنان بالوجه الذات ، وبتولية الوجه تولية جميع البدن ، وتخصيص الوجه لمزيد خصوصية له في الاستقبال واستتباعه سائر البدن ، ويؤيده قوله تعالى (١) ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) وقول الصادق عليه‌السلام في خبر عبد الله ابن سنان (٢) : « وبيته الذي جعله قياما للناس ، لا يقبل من أحد توجها إلى غيره » وقول حماد (٣) « انه عليه‌السلام في بيان الصلاة : استقبل بأصابع رجليه جميعا لم يحرفهما عن القبلة » وثاني وجهي الشافعي الاجتزاء بالاستقبال بالوجه » وهو كما ترى صريح في عدم الفرق في ذلك بين القريب والبعيد ، ضرورة كونه مورد خبر حماد بل وغيره من الأدلة المسطورة في البعيد ، وسمعت لفظ الجهة في عبارة القواعد ، لكن في المحكي عن فوائد القواعد المراد بالجهة عين الكعبة ، لأن الجهة انما تعتبر في البعيد ، ولا يتصور فيها خروج بعض البدن عنها دون بعض ، قيل : ويؤيده أنه صرح في التذكرة‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ الآية ١٣٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القبلة ـ الحديث ١٠ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أفعال الصلاة ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

٣٢٩

ونهاية الأحكام والتحرير والذكرى والموجز وشرحه في المسألة بالمشاهد لها ، وفي جامع المقاصد في شرح العبارة المزبورة ينبغي عود هذا إلى جميع ما سبق من عند قوله : « والمشاهد لها » أي لو خرج بعض بدن كل واحد من هؤلاء أعني المشاهد لها والمصلي في وسطها ولو بعد انهدامها إلى آخره بطلت صلاته ، لفوات الاستقبال حينئذ ، إلا أن قوله : « عن جهة الكعبة » قد يشعر باختصاص الحكم بالمصلي على جبل أبي قبيس.

قلت : لا ريب في تصور خروج بعض أجزاء البدن عن الجهة التي ستعرف أن ضابطها الامارات المزبورة ، فلو صلى منحرف الوجه أو القدم مثلا إلى المشرق أو المغرب لم يصدق عليه استقبال الجهة بالجزء المزبور قطعا ، انما البحث في اعتبار ذلك شرطا بعد فرض صدق الاستقبال بالمجموع الذي لا ينافيه شي‌ء مما سمعته من كشف اللثام ، وقول حماد كان في بيان الصلاة الكاملة بالاشتمال على أكثر المندوبات كما لا يخفى على من لاحظه ، وربما يومي إلى ما ذكرنا في الجملة ما حكي عن جماعة في مسألة تحريم الاستقبال بالبول والغائط من أنه لو انحرف عنها ببعض بدنه أو بفرجه لا يكفي في رفع الحرمة ، وكذا ما تسمعه فيما يأتي إن شاء الله مما ظاهرهم الاتفاق عليه إلا النادر في القواطع من كراهية الالتفات بالوجه يمينا وشمالا ، اللهم إلا أن يدعى في الأول أن المراد بالاستقبال فيه ما لا ينافيه الانحراف بالبعض ، بخلاف استقبال الصلاة ، وفي الثاني أن كراهية الالتفات المزبور لا تنافي الاشتراط في ابتداء الصلاة ، وهما معا كما ترى.

والتحقيق عدم اشتراط ما يزيد على صدق الاستقبال ، للأصل وإطلاق الأدلة والسيرة القطعية في استقبال الجهة ، ودعوى توقف الصدق المزبور على الاستقبال بجميع أجزاء البدن يكذبها الوجدان فيما لم يذكر فيه متعلق الأمر بالاستقبال جميع البدن بل اقتصر على قوله استقبل ونحوه كما هو واضح بأدنى تأمل ، بل قد يشكل المراد بالاستقبال باليد ونحوها من الأجزاء ، إلا أنه ومع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه ، لتسالم من‌

٣٣٠

عرفته من أجلاء الأصحاب على الحكم المذكور من غير تردد أو توقف من أحد منهم.

وكيف كان فلا ريب في توقف صدق الاستقبال للشي‌ء عرفا على حصول المقابلة له من المستقبل ، وإلا لم يكن مستقبلا له قطعا ، والظاهر اعتبار ذلك فيما نحن فيه أيضا من غير فرق بين القريب والبعيد في ذلك ، نعم لا يعتبر في الصدق المزبور وقوع خط المستقبل حال استقباله على المستقبل بالفتح مطلقا ، ضرورة تحققه عرفا في المشاهد من الأجرام من بعد وإن قطعنا بعدم اتصال جميع الخطوط بها ، ومن أراد معرفة ذلك فليعتبر بالأنجم والنقط الموهومة لقطب الجنوب والشمال وبغيرها من الأجرام التي تشاهد من بعد ، ويصدق استقبالها على الأشخاص الكثيرة القائمة على خط مستو زائد على عرضها أضعافا مضاعفة ، فان اتصال جميع الخطوط به حينئذ محال كما هو واضح ، ولقد أومأ إلى ذلك ما سمعته من الذكرى تبعا للمحكي عن نهاية الأحكام من أن الجرم الصغير كلما ازداد بعدا ازداد محاذاة ، ضرورة عدم إرادة ذات اتصال الخطوط من المحاذاة.

ومن ذلك ينقدح أن من بعد عن الكعبة بعدا لا تغيب عن مشاهدته لا يعتبر في استقباله العلم باتصال خط موقفه بها ، ولا ينافيه تسالم الأصحاب على وجوب استقبال العين للمشاهد أو القريب ، إذ الظاهر أن مدارهم في ذلك على الصدق المزبور من غير مدخلية للمشاهدة والقرب النسبي وعدمهما ، فمن كان قريبا منها بحيث ينتفي عنه اسم الاستقبال بمجرد عدم اتصال خط موقفه بها وجب عليه مراعاة الاتصال المزبور ، ومن لم يكن كذلك بل كان يصدق عليه انه مستقبل لها وإن لم يعلم اتصال خط موقفه بل وإن علم العدم لم يعتبر فيه ذلك ، ضرورة أنه ليس في الأدلة إلا الأمر بالاستقبال الذي قد فرض صدقه ، فالمشاهدة وعدمها لا مدخلية لها قطعا ، ودعوى أنه ليس صدقا حقيقيا بل هو مسامحة عرفية يكذبها الوجدان والعمل ، كدعوى أن ذلك مسلم مع المشاهدة‌

٣٣١

للجرم من بعد ، أما مع غيبوبته عن البصر بسبب زيادة البعد فلا مقابلة صورية يتحقق بها صدق الاستقبال عرفا ، إذ من الواضح أن المقابلة المزبورة ليست وهمية محضة تحصل بسبب الابصار واتصال شعاع البصر ، بل هي شي‌ء متحقق في نفس الأمر يحصل تصوره مع فرض قطع النظر عن الابصار أصلا ، فيكفي في الصدق عرفا تقدير الابصار ، بمعنى أنها تصدق المقابلة بمجرد فرض فضاء الكعبة المتصل إلى عنان السماء مما يرى ويشاهد ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، بل ربما ادعي إمكان مشاهدته من جهة علوه وارتفاعه واتصاله بعنان السماء ، إلا أنه لا يشخص لاشتباهه في غيره ، فوضعت هذه العلامات لتمييزه من بينها ولو على جهة الظن ، فهو حينئذ كالمشاهد المستقبل من بعد وإن كان فيها ما فيها.

وعلى كل حال فليس المدار حينئذ في القريب والبعيد إلا استقبال الكعبة التي لم يقبل الله من أحد توجها إلى غيرها ، نعم لما كان البعيد بسبب زيادة البعد وغيبوبة المستقبل عن المشاهدة لم يكن له طريق إلى إحراز هذه المقابلة أي مقابلة البعيد من حيث كونها مقابلة بعيد التي قد عرفت عدم اعتبار اتصال الخطوط فيها إلا باستعمال الامارات الهيئية ، لانحصار حصول الظن الواجب مراعاته بعد انتفاء العلم بسبب الأمر بتحري القبلة على حسب الجهد والطاقة غالبا بها ، فهي حينئذ بالنسبة إلينا لا تفيد إلا الظن في حصول الجهة بمعنى المقابلة المزبورة ، ولعلها كذلك لأهلها أيضا ، ضرورة توقفها على إرصاد وإعمال لا يأمن الخطأ فيها مستعملها ، نعم ربما يحصل العلم للمتوغل في معرفتها الآمن على نفسه الخطأ في كيفية الاستعلام بها ، كما أنه ربما يحصل العلم بالجهة المزبورة بفعل المعصوم المعلوم تنزيهه عن الخطأ في تحصيل الجهة المذكورة ، لما فيه من النقص المنفر للطباع عنه ، كالتحير في تحصيل القبلة ، ويكفي في النقص عليه معرفة خطأه في ذلك ولو عند علماء الهيئة العارفين في تحصيل الجهة ، وكيف يجوز عاقل قصور سلطان الخلق عن معرفة بعض ما عند رعيته ، وربما أدى ذلك إلى السخرية عليه والاستخفاف‌

٣٣٢

به عند أهل الفن المزبور ، خصوصا إذا أخطأ بالاستدبار ونحوه.

فمن الغريب تخيل بعض الناس جواز الخطأ عليه في ذلك وأنه ممن هو مكلف باستعمال الأمارات الظنية ، كتكليفه بالحكم بالبينة واليمين والشاهد وغيرهما من الأحكام الظاهرية ، ضرورة وضوح الفرق بين ما كان خطأه فيه لقصور في معرفة العلم المؤدي لذلك وبين ما لا يكون كذلك ، فان النقص الواجب تنزيهه عنه متحقق في الأول بخلاف الثاني ، فإنه لا نقص عليه بذلك حتى لو علم بالعلم الإلهي الخارج عن طريق البشر خلاف ما حكم به ، فان الظاهر عدم تكليفهم عليهم‌السلام بالعلم المزبور ، لما ثبت (١) متواترا انهم كانوا عالمين بجميع ما وقع عليهم قبل وقوعه لكنه بالطريق الإلهي الخارج عن مقتضى الطاقة البشرية التي هي مدار التكاليف ، وبالجملة لا ريب في حصول النقص بالخطإ المذكور ، ولعله من هنا ذكر غير واحد من الأصحاب أن محراب المعصوم عليه‌السلام الثابت نصبه منه أو صلاته فيه من غير انحراف مثلا بالتواتر ونحوه مما يفيد العلم ، بل أرسله إرسال المسلمات ، وهو كذلك لما عرفت ، لكن المراد العلم بحصول الجهة بالمعنى المذكور أي مقابلة البعيد للكعبة من غير اعتبار اتصال الخطوط ، ضرورة عدم التكليف بذلك بنص الآية والرواية ، وليس هو من الأحكام العذرية ، بل بناء التكليف من أول الأمر على ذلك ، فلا بأس بصلاة المعصوم عليه‌السلام في أمكنة متعددة متساوية في الحظ أوسع من عرض الكعبة بحيث يقطع بعدم اتصال الخطوط بها بعد حصول المقابلة المزبورة ، وما ورد (٢) في محراب المدينة من أنه زويت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٢٦١ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٤.

(٢) تاريخ المدينة للسمهوي ج ١ ص ٢٦١ ـ والدرة الثمينة ص ٣٥٧.

٣٣٣

الأرض حتى نصبه بإزاء الميزاب ـ مع إمكان حمله كما في جامع المقاصد على إرادة المقابلة المزبورة لا المحاذاة المعتبر فيها اتصال الخطوط ـ غايته علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعين ، ولا يدل على وجوب توجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها فضلا عن غيره ، فما في القواعد من أن المصلي بالمدينة ينزل محراب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجدها منزلة الكعبة لا يريد به وجوب استقباله حيث يشاهد ، وبطلان صلاة من لم يحاذه ، لفساده ضرورة ، بل بمعنى انه دليل قطعي على حصول مقابلة الكعبة بالمعنى المذكور ، بحيث لا يجوز فيه الاجتهاد يمينا وشمالا كباقي المحاريب المنصوبة بالأمارات الهيئية المحتمل تطرق الخطأ إليها ، ومثله باقي ما ثبت بالتواتر مثلا من محاريبهم عليهم‌السلام ، أو القبور التي وضعها أحدهم ، وقد تسمع إن شاء الله التعرض لبعضها.

فظهر من ذلك كله حينئذ أن المكلف به من غير فرق بين القريب والبعيد المقابلة المزبورة التي مع تعذر العلم بها ينتقل إلى الظن ، فإن أراد الأصحاب بالجهة المذكورة في كلامهم للبعيد في مقابلة العين المذكورة للقريب ذلك فمرحبا بالوفاق ، وإلا كان للنظر فيها تفسيرا ودليلا مجال ، وقد ذكروا في تعريفها عبارات مختلفة ، ففي المعتبر أنها السمت الذي فيه الكعبة ، ثم قال : وهذا متسع يوازي جهة كل مصل ، وبه عرفها في كشف اللثام ، ثم قال : ومحصله السمت الذي يحتمل كل جزء منه اشتماله عليها ، ويقطع بعدم خروجها عن جميع أجزائه ، وقد يناقش بأنه لا مدخلية للاحتمال والقطع المزبورين في الجهة بالمعنى الذي ذكرناه ، ضرورة حصوله مع القطع بخروج نفس الكعبة عن بعض الخطوط كما في الصف المستطيل المتصل بمحراب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بناء على أنه منصوب على الميزاب ، فإنه لا ريب في حصول القطع بعدم كون الكعبة في خطوط مواقف المصلين فيما يزيد على مقدار الميزاب إلى الآخر ، ومن المعلوم ضرورة صحة صلاة الجميع ، وليس هو إلا لحصول الاستقبال والمحاذاة للبعيد من حيث كونه بعيدا‌

٣٣٤

التي قد عرفت عدم توقف الصدق فيها على اتصال الخطوط ، ولو أريد بالاحتمال المنشئية ونحوها ارتفعت المناقشة ، وانطبق على ما ذكرنا ، لكن يكون الاقتصار حينئذ على ما في المعتبر أجود منه ، لخلوه من الإبهام المزبور ، ومراده بكون الكعبة في السمت بقرينة قوله وهذا متسع إلى آخره أنها في خط من خطوطه وإن خلا منها الباقي ، إلا أن الاستقبال يتحقق قطعا أو ظنا ، وهو عين ما ذكرناه.

ومن ذلك تعرف دفع ما حكي عن الروض من الاعتراض عليه بأنه إن أراد بالسمت المعنى اللغوي ورد عليه صلاة الصف المستطيل وصلاة أهل إقليم واحد بعلامة واحدة ، وإن أراد المعنى الاصطلاحي وهو النقطة من دائرة الأفق إذا واجهها الإنسان كان مواجها للكعبة فالطريق الموصل إليها تقريبية لا يتحقق معها نفس الكعبة ، لأنها مأخوذة من طول البلد وعرضها ، ومعلوم أن مقدار الفرسخ والفرسخين يؤثر في اختلاف ذلك تأثيرا بينا بحيث يترتب عليه سمت آخر ، وحينئذ يلزم من استخراج السمت بذلك الطريق على طرف فرسخ كون الصلاة على ذلك السمت في الطرف الآخر غير صحيحة ، لعدم كون الكعبة فيه ، ولا يخفى ما فيه بعد الإحاطة بما سمعت من تنزيل كلام المحقق على ما ذكرنا الذي عنه هذا الكلام بمعزل ، بل منه يعلم ما في المحكي من نهاية الأحكام من تعريف الجهة بأنها ما يظن به الكعبة حتى لو ظن خروجه عنها لم يصح ، وما في التذكرة من أنها ما يظن أنه الكعبة حتى لو ظن خروجه عنها لم يصح ، وإن فرق بينهما في المحكي عن الروض ، وقال : إن أولهما قريب مما في المعتبر ، وقد حكى في جامع المقاصد عن التذكرة ما سمعته ، ونظر فيه بوجهين : أحدهما ما عرفته من صلاة الصف المستطيل المتصل بمحراب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والثاني أن البعيد لا يشترط في صحة صلاته ظنه محاذاة الكعبة ، لأن ذلك لا يتفق غالبا ، فان البعد الكثير يخل بظن محاذاة الجرم اللطيف ، فيمتنع اشتراطه في الصلاة ، قلت : يمكن على بعد إرجاعه إلى‌

٣٣٥

ما ذكرنا من إرادة أنه بسبب صورة استقباله لها يتراءى له حتى يظن أي يحتمل أن الكعبة في كل خط من خطوطه في نفسه وحد ذاته ، وإلا فقد يقطع بالعدم من جهة أمر خارجي وإن بقي صورة الاستقبال المورث للاحتمال لولا سبب العلم من خارج ، فتأمل. وكذا الكلام في تعريفها في الذكرى ، والمحكي عن الجعفرية من أنها السمت الذي يظن كون الكعبة فيه لا مطلق الجهة.

وأغرب ما وقع في تفسير الجهة ما يحكى عن المقداد والمحقق الثاني في شرح الألفية ، قال أولهما : « جهة الكعبة التي هي القبلة للنائي خط مستقيم يخرج من المشرق إلى المغرب الاعتداليين ، ويمر بسطح الكعبة ، فالمصلي حينئذ يفرض نظره خطا يخرج إلى ذلك الخط ، فان وقع عليه على زاوية قائمة فذاك هو الاستقبال ، وإن كان على حادة ومنفرجة فهو إلى ما بين المشرق والمغرب » وفيه أنه لا يصدق عليه استقبال الكعبة عرفا ولا شرعا ، إذ هذا الخط ليس كعبة كي يكون استقباله استقبالها ، وقال ثانيهما : « إنها ما يسامت الكعبة عن جانبيها بحيث لو خرج خط مستقيم من موقف المستقبل تلقاء وجهه وقع على خط جهة الكعبة بالاستقامة بحيث يحدث عن جنبيه زاويتان قائمتان ، فلو كان الخط الخارج من موقف المصلي واقعا على خط الجهة لا باستقامة بحيث يكون إحدى الزاويتين حادة والأخرى منفرجة فليس مستقبلا لجهة الكعبة » وظني أن الذي أوقع هؤلاء الفضلاء في مثل هذا الوهم التعبير بلفظ الجهة ، ولو أنهم عبروا بما في النصوص من أنه يجب على كل أحد استقبال الكعبة ، وأنه لا يقبل الله من أحد توجها إلى غيرها ، وأنها هي قبلة المسلمين لم يقع أحد منهم في هذا الوهم ، ضرورة كون المدار على صدق الاستقبال وإن اختلفت أفراده ومصاديقه بحسب القرب والبعد ، وليس استقبال الجهة بالمعنى المزبور منها قطعا ، ضرورة اجتماعها مع فرض كون الكعبة‌

٣٣٦

على اليمين والشمال للبعيد من حيث كونه بعيدا ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

وأما ما في الروضة وعن غيرها من تعريفها بأنها القدر الذي يجوز على كل جزء منه أن الكعبة فيه ، ويقطع بعدم خروجها عنه لأمارة شرعية فقريب الانطباق على ما ذكرنا بعد إرادة المنشئية بسبب الاستقبال الصوري من التجويز والقطع ، وبه يندفع ما يورد على طرده بفاقد العلامات أصلا ، لتجويزه على كل جزء من جميع الجهات أنه الكعبة ، فينبغي اكتفاؤه بصلاة واحدة إلى أي جهة شاء ، وكذا من قطع بنفي جهة أو جهتين وشك في الباقي ، فإنه يصدق عليه التعريف المزبور وليس بجهة القبلة ، ضرورة أنه بناء على إرادته ما ذكرنا لا يرد عليه شي‌ء من ذلك ، بل ولا يرد عليه أيضا أنه يجتمع فيه العلم والاحتمال في محل واحد ، ضرورة اختلاف المتعلق ، فان محل العلم حيث لا يكون مشخصا بدلالة معصوم ونحوه الفرد المنتشر على البدل ، والاحتمال الجميع.

وأقرب انطباقا منه على ما ذكرنا ما في جامع المقاصد ، حيث أنه بعد أن ذكر ما في التذكرة والذكرى وأورد عليهما ما سمعته قال : « والذي ما زال يختلج بخاطري أن جهة القبلة هي المقدار الذي شأن البعيد أن يجوز على كل بعض منه أن يكون هو الكعبة بحيث يقطع بعدم خروجها عن مجموعه ، وهذا يختلف سعة وضيقا باختلاف حال البعيد » وهو ظاهر فيما قلناه ، لكنه قال : « فان قلت : يرد عليه المصلي بعيدا عن محراب المعصوم بأزيد من سعة الكعبة ، فإنه لا يجوز على ذلك السمت أن يكون فيه ، لأن المحراب يجب أن يكون إلى الكعبة ، لاستحالة الغلط على المعصوم عليه‌السلام. قلت : لما كانت قبلة البعيد هي الجهة تعين أن يكون محراب المعصوم إليها بحيث لا يحتمل الانحراف أصلا ولو قليلا ، أما كونه محاذيا لعين الكعبة فليس هناك قاطع يدل عليه ، فيبقى التجويز المعتبر في تعريف الجهة بحاله » ولا يخفى عليك أنه لو أراد ما ذكرنا كان في غنية عن تكلف الجواب المزبور ، فان القطع بخروج العين عن الخط لا ينافي المنشئية‌

٣٣٧

الحاصلة من الاستقبال الصوري بسبب البعد ، خصوصا وقد اعترض بمثل هذا سابقا على ما في التذكرة ، بناء منه على أن محراب المدينة إلى الميزاب عينا لا جهة ، وجوابه لا يدفع ذلك عنه ، وكون قبلة البعيد الجهة لا ينافي نصب المحراب إلى عين الميزاب وإن لم يكن ذلك واجبا ، كما أنه لا حاجة أيضا إلى الجواب بأنه خبر واحد لا يفيد القطع ، فالتجويز قائم ، أو أن المراد جهة الميزاب لا عينه ، إذ قد عرفت أنه لا ينافي الجهة بالمعنى المزبور على الفرض المذكور فضلا عن هذه الاحتمالات.

ولقد عثرت على رسالة في القبلة لولد المحقق المزبور ، قال فيها بعد أن حكى تعريف الذكرى الموافق لما في التذكرة وما اعترض به والده من الوجهين : ومختار والدي وذكر التعريف المزبور ، ثم قال : « وعندي أنها السمت الذي يظن محاذاة الكعبة فيه حسا ، واليه يرشد كلام العلامة في النهاية حيث قال : فان الجرم الصغير كلما ازداد بعدا ازداد محاذاة ، لامتناع ذلك في المحاذاة الحقيقية ، فلا يرد إخلال البعد بظن المحاذاة ، إذ هو مؤكد له حينئذ ، ولا خروج بعض الزائد طوله على مقدار الكعبة ، لأن ذلك انما هو في المحاذاة الحقيقية ، ومن أراد التنبه لذلك فليعتبر بالأنجم بل بالنقط الموهومة كما في القطب الجنوبي والشمالي » وهو إلى هنا كالنص فيما قلناه ، لكن قال بعد ذلك : « وأما الاستقبال فيكفي في تحققه من القريب كون العمود الخارج من قدام مارا بالكعبة سواء كان عمودا عليها أو مائلا يحدث عن جنبيه زاويتان ، إحداهما أكبر من الأخرى ، وأما البعيد فان قلنا : إن قبلته الجهة كما هو المختار وجب في تحققه منه كون العمود الخارج من قدامه عمودا على الخط المار بالكعبة أيضا ، وذلك لما قررناه من اعتبار ظن المحاذاة الحسية في الجهة ، فعند تحصيل السمت بالعلامات التي تفيد ظنا به يمتنع جواز الانحراف عليه ولو يسيرا ، إذ مع البعد الكثير وعدم المشاهدة لا يؤمن الانحراف الفاحش في الحس أيضا بالقليل منه ، فيفوت الظن المعتبر تحققه شرعا ، وإن قلنا :

٣٣٨

إن قبلته العين كان تحقق الاستقبال منه على نحو ما مر في القريب » وقد يظن مما ذكره في كيفية استقبال البعيد مخالفة ما قدمنا ، إلا أنه يمكن أن يقال مع عدم سلامة النسخة المزبورة من الغلط : إن مراده المرور الحسي لا الحقيقي بمعنى أنه بسبب البعد يظهر للحس مرور العمود بالكعبة ، لما هو عليه من الاستقبال الصوري ، كما يكشف عنه أول كلامه وآخره ، ولقد أجاد فيما ذكره أخيرا من الضرر بالانحراف اليسير لما فيه من تفويت الظن بالاستقبال الصوري ، إذ لعله كما نجده الآن من الانحراف عن النجوم وبعض النقط ، وحينئذ فالأولى جعل المدار فيما لا يجوز من الانحراف على المفوت للظن المزبور القائم مقام العلم بعد تعذره ، ولعله غير المستفاد من الأدلة مما ستعرفه من تفاوت العلامات المزبورة ، ومما يؤكد إرادته ما ذكرنا في كيفية استقبال البعيد ما عثرنا عليه من كلامه أيضا في شرح الإرشاد ، فإنه بعد أن حكى عن والده الاعتراض الأول المزبور على تعريف التذكرة قال : « قلت : قد يحمل المحاذاة على الحسية ، بل ذلك هو المتعارف على لسان أهل الشرع على نحو ما اشتهر بينهم من أهل العراق مثلا وإن طالت صفوفهم واستوت مواقفهم يجعلون الجدي بحذاء المنكب الأيمن على نحو واحد ، ومن المعلوم امتناع ذلك بحسب نفس الأمر ، لاختلاف أشخاصهم فيه ، وإنما يمكن تحققه بحسب الحس ، فعلى هذا ليس البعد مخلا بظن المحاذاة ، بل كلما ازداد اتسع السمت الذي تظن هي فيه » وهو صريح فيما ذكرنا أولا وآخرا ، على أن ذلك كله منا مماشاة لبعض الأذهان التي تستوحش من التفرد بالقول ، ولم تتفطن إلى أن الوحشة من الباطل وإن كثر القائل به ، والانس بالحق وإن قل.

وربما كان أيضا بعض ما يحكى عن روض الشهيد الثاني إشارة إلى ما قلناه ، فإنه بعد أن اعترض على التذكرة بما سمعته من المحقق الثاني من الصف المستطيل قال : فان قيل : القطع بخروج بعض الصف متعلق بأفراد المجموع على الإشاعة لا على التعيين ،

٣٣٩

فلا ينافيه ظن كل واحد على التعيين أنه مستقبل ، وأجاب بأن الظن لا بد من استناده إلى أمارة شرعية ، وهذا القطع ينافيه ، ثم قال : ولو قيل بأن هذا لا يتحقق مع البعد ، لأن الجرم الصغير كلما ازداد الإنسان عنه بعدا اتسعت جهة المحاذاة ، فيمكن محاذاة العشرة للشخص الواحد ، فليكن الصف المستطيل كذلك ، وأجاب بأن هذا تحقيق أمر الجهة دون المعنى الذي ذكره ، إذ التحقيق أن محاذاة القوم للجرم الصغير عن موقفهم ليست إلى عينه وإن أوهم ذلك ، لأنا نفرض خطوطا خارجة من موقفهم نحوه بحيث تخرج متوازية فإنها لا تلتقي أبدا وإن خرجت إلى غير النهاية ، والعلامات المنصوبة من الشارع تقضي بعدم ذلك ، إذ هو خصوصا قوله : إن هذا تحقيق أمر الجهة كالصريح فيما قلناه الذي منه يعرف ما في المحكي عن البهائي في رسالته التي أفردها في ذلك من أن الجهة أعظم سمت يشتمل على الكعبة قطعا أو ظنا بحيث تتساوى نسبة أجزائه إلى هذا الاشتمال من دون ترجيح ، قال : « وانما اعتبرنا أعظم سمت لئلا ينتقض طرده بأجزاء الجهة ، ولم نقتصر على الظن لئلا ينتقض عكسه بالسمت الذي يقطع بعدم خروج الكعبة عنه ، ولا على القطع لئلا ينتقض بالجهة المظنون كون الكعبة فيها عند العجز عن تحصيل القطع بذلك ، وأما قيد الحيثية فلا خراج سمت يكون اشتمال بعض أجزائه على الكعبة أرجح ، إذ الحق أن الجهة ليست مجموع ذلك السمت ، بل بعضه أعني الأجزاء التي يترجح اشتمالها على الكعبة بشرط تساوي نسبة الرجحان إلى جميعها ، فلا يجوز للمصلي استقبال الأجزاء المرجوحة الاشتمال عليها ، خلافا للمستفاد من جماعة ».

وأنت خبير بأن المهم بيان حقيقة الجهة المذكورة في كلامهم بحيث ينطبق على الأدلة الشرعية لا هذه الاحترازات ، وقد عرفت أنه لا مدخلية للقطع والظن والاحتمال فيها ، بل هي أمور تتعلق بها ، بل ليس المراد منها إلا المقابلة والمحاذاة الحسية للبعيد من حيث كونه بعيدا ، نعم يختلف كيفية معرفة ذلك ، فتارة بالعلم ، وأخرى بالظن‌

٣٤٠