جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وأما الثالث وهو المسوخ فالمشهور نقلا وتحصيلا طهارة ما عدا الكلب والخنزير منها عينا وسؤرا ولعابا شهرة كادت تكون إجماعا ، بل لعله الظاهر من المحكي عن الناصريات ، حيث قال : « عندنا ان سؤر جميع البهائم من ذوات الأربع والطيور طاهر سوى الكلب والخنزير » بل هو صريح الغنية فيما عداهما وعدا الثعلب والأرنب من الحيوان ذي الأربع وفي الطير والحشرات ، بل لعله ضروري في بعضها كالزنبور ونحوه مما علم من طريقة المسلمين وسيرتهم طهارته ، مع ما في نجاسته من العسر والحرج ، وكالضروري في آخر مما لا نفس له سائلة منها ، لما تقدم من الإجماعات وغيرها على طهارة ميتته المستلزمة طهارته حيا بالأولى.

ويدل عليها ـ مضافا إلى ما تقدم في الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة والعقرب منها سابقا هنا وفي باب الأسئار ـ الأصل والعمومات ، وما دل على طهارة سؤرها من صحيح البقباق (١) وغيره (٢) وعلى طهارة العاج (٣) وعظام الفيل (٤) ونحو ذلك ، فما في المراسم والوسيلة وعن الإصباح من نجاسة لعابها ضعيف لا نعرف له مأخذا يعتد به ، كالمحكي عن صريح أطعمة الخلاف من نجاسة المسوخ كلها ، وظاهر بيعه ، حيث علل عدم جواز بيع القرد بالإجماع على انه مسخ نجس ، وانه لا يجوز بيع ما كان كذلك ، كالمحكي عن بيع مبسوطة ، حيث قال : « لا يجوز بيع الأعيان النجسة كالكلب والخنزير وجميع المسوخ » مع احتمال العطف فيه على المشبه لا المشبه به ، واحتمال قراءة ما في الخلاف « النحاسة » بالحاء المهملة أو بالجيم على إرادة معناها من الخباثة ونحوها لا المعنى المتعارف ، كما يؤيده حكمه في الخلاف أيضا بجواز التمشط بالعاج ، واستعمال المداهن منه مدعيا عليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأسئار ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧٢ ـ من أبواب آداب الحمام.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧٢ ـ من أبواب آداب الحمام.

٨١

الإجماع ، وما حكي عنه في الاقتصاد « ان غير الطير على ضربين : نجس العين ونجس الحكم ، فنجس العين هو الكلب والخنزير ، فإنه نجس العين نجس السؤر نجس اللعاب ، وما عداه على ضربين : مأكول وغير مأكول ، فما ليس بمأكول كالسباع وغيرها من المسوخات مباح السؤر ، وهو نجس الحكم » انتهى. فيخرج عن الخلاف حينئذ ، وإلا لم نعرف له دليلا يعتد به على النجاسة بالمعنى المعروف ، بل ظاهر الأدلة خلافه كما عرفت ، وعدم جواز البيع بعد تسليمه أعم من النجاسة ، كما هو واضح.

فبان لك من ذلك حينئذ أن قول المصنف والأظهر الطهارة في محله بالنسبة للجميع ، أي عرق الجنب من الحرام والإبل الجلالة والمسوخ وان اختلفت مراتب الظهور في المسائل الثلاثة كما عرفت.

والمراد بالمسوخ حيوانات على صورة المسوخ الأصلية ، وإلا فهي لم تبق أكثر من ثلاثة أيام كما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا (١) وعددها ـ المحصل من حسن الحلبي (٢) عن الصادق عليه‌السلام وصحيح محمد بن الحسن الأشعري (٣) عن الرضا عليه‌السلام وخبر الحسين بن خالد (٤) وخبر سليمان الجعفري (٥) عن أبي الحسن عليه‌السلام وخبري علي بن جعفر (٦) وعلى بن مغيرة (٧) عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام المرويين عن العلل بعد الجمع بينها ـ نيف وعشرون : الضب والفأرة والقرد والخنازير والفيل والذئب والأرنب والوطواط والجريث والعقرب والدب والوزغ والزنبور والطاوس والخفاش والزمير والمارماهي والوبر والورس (٨) والدعموص‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١٤.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١٢.

(٨) الزمير والمارماهي والوبر والورس ليست في الروايات السابقة وانما ذكرت في رواية الكلبي النسابة المروية في الوسائل ـ في الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث ٨ وفيها « الورك » بدل « الورس » وهما وهم والصحيح « الورل ».

٨٢

والعنكبوت والقنفذ وسهيل والزهرة ، وهما دابتان من دواب البحر ، وزاد في كشف الغطاء الكلب والحية والعظاءة والبعوض والقملة والعيفيقا والخنفساء ، ولعله لأخبار أخر (١) كما ان ما في الفقيه أيضا من النعامة والثعلب واليربوع والوطواط كذلك ، أو لتعدد أسماء بعضها ، إلا أنه قيل : لا موافق للصدوق على النعامة من الأخبار أو كلام الأصحاب ، بل ربما يظهر منهم في كتاب الحج في بحث الصيد ومن كتاب الأطعمة في عد المحرمات الاتفاق على إباحتها ، وعن بعض نسخه « بعامة » بالباء الموحدة ، ولتمام البحث في تعدادها وسبب مسخها وباقي أحكامها مقام آخر.

وأما ما عدا ذلك من جميع ما ذكرناه وذكر المصنف فليس بنجس عينا وانما تعرض له النجاسة بلا خلاف يعتد به إلا ما عن ابني الجنيد وحمزة وظاهر الصدوق من نجاسة لبن الصبية ، لخبر السكوني (٢) « لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم ، لأنه يخرج من مثانة أمها » وهو ـ مع عدم ثبوته عن الأخير وإن أورد الرواية في كتابه أيضا ـ ضعيف ، لضعف دليله في مقابلة الأصول والعمومات والسيرة والعمل والإجماع المدعى ، فيحمل على الندب أو التقية ، فالأصح حينئذ تبعية اللبن لذاته ، فالطاهرة طاهرة اللبن ، والنجسة نجسته ، لكن في كشف اللثام « سواء النجسة ذاتا أو عرضا بالجلل أو الوطء أو الموت ».

قلت : قد سمعت الكلام في لبن الميتة ، ولم نعرف حيوانا ينجس بالجلل أو الوطء يتبعه اللبن ، بل ولا قائلا بذلك ، وكأنه اشتباه في الحرمة ، والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٤ و ١٥ والمستدرك الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٤ و ٨ وفي كشف الغطاء « العنقاء » بدل « العيفيقا » كما في الوسائل ، والصحيح هو الأول لأن العيفيقا ليس في الأخبار ولا في اللغة ولم نجد في الأخبار مسخ « العظاءة ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

٨٣

والدود والصراصر ونحوها المتولدة من الميتة أو العذرة طاهرة ، للأصل والعمومات ، وما دل (١) على طهارة ميتة ما لا نفس له ، سأل علي بن جعفر (٢) أخاه عليهما‌السلام « عن الدود يقع من الكنيف على الثوب يصلى فيه ، قال : لا بأس إلا أن ترى فيه أثرا فتغسله » فتردد المصنف في طهارته في غير محله ، كتمسكه للنجاسة بالاستصحاب الواضح عدم جريانه في المقام.

وأما الحديد فطاهر إجماعا محصلا ومنقولا بل ونصوصا (٣) بل كاد يكون ضروريا ، فما في بعض الأخبار (٤) مما يشعر بنجاسته مطرح أو محمول على إرادة غير المعنى المتعارف منها ، كما يومي اليه ما في بعضها (٥) انه نجس ممسوخ ، مع احتمال قراءته بالحاء المهملة.

والقيح مع تجرده عن الدم لا ريب في طهارته للأصل والعمومات والسيرة وغيرها.

بل وكذا الصديد وان تردد فيه الفاضلان ، لما قيل في تفسيره إنه ماء الجرح بالدم قبل أن تغلظ المدة إذ هو في الحقيقة نزاع في لفظ ، لتسليمهما طهارته ، مع عدم الدم ، كما انا نسلم نجاسته معه ، وعليه ينزل ما عن الشيخ من إطلاق طهارته ، وإلا كان شاذا.

كالقول بنجاسة القي‌ء ، إذ لا نعرف مدركا يعتد به لكل منهما ، نعم في الوسيلة قيد طهارة الأخير بما إذا لم يأكل شيئا نجسا ، وهو متجه في بعض الصور الخارجة عن محل البحث ، لأن الكلام في نجاسته من حيث انه قي‌ء لا لنجاسة سابقه أو عارضة فتأمل جيدا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب النجاسات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ الحديث ٤ و ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ٦ من كتاب الصلاة.

٨٤

ولا شي‌ء من بول وروث ما يؤكل لحمه معتادا أولا بنجس عندنا ، نعم يكره بول البغال والحمير والدواب وما عن ابن الجنيد من نجاستهما من الخيل والبغال والحمير ضعيف ، بل كاد يكون شاذا وإن حكي عن الشيخ موافقته في النهاية ، إلا أنها ليست كتابا معدا للفتوى والعمل ، بل كثير منها مضامين أخبار بصورة الفتوى كما لا يخفى على الخبير الممارس ، على انه قد رجع عنه في المبسوط كما قيل ، للأصل بل الأصول والعمومات والعسر والحرج والسيرة المستقيمة ، وقاعدة دوران النجاسة والطهارة على حرمة اللحم وحليته المستفادة من النصوص (١) المستفيضة المعتبرة منطوقا ومفهوما ، والفتاوى ، بل ظاهر هما انها من المسلمات الواضحات حتى عند السابقين من الرواة ، كما أشرنا إلى ذلك في أول بحث النجاسات ، بل في الغنية الإجماع عليها ، كما في آبار السرائر ، وباب تطهير الثياب منها ذلك أيضا بالنسبة إلى الطهارة ، قال في الموضع الأول : « أجمع الصحابة وتواتر الأخبار على أن مأكول اللحم من سائر الحيوان ذرقه وبوله وروثه طاهر ، فلا يلتفت إلى خلاف ذلك من رواية شاذة أو قول مصنف غير معروف ، أو فتوى غير محصل » إلى آخره. بل حكى فيه أيضا عن المبسوط ما يظهر منه الإجماع على ذلك أيضا ، بل في معتبر المصنف « وأما رجيع ما يؤكل لحمه وبوله فطاهر باتفاق علمائنا » لكنه ذكر الخلاف بعد ذلك في أبوال الدواب الثلاثة ، ولعله لا منافاة لاحتمال ابتناء القول بنجاستها على عدم أكل لحمها.

كما أشار إليه في المنتهى ، حيث نسب طهارة بول ما يؤكل لحمه إلى علمائنا أولا ثم ذكر الخلاف بعد ذلك في أبوال الثلاثة ، وقال : « إن الخلاف فيها مبني على أنها هل هي مأكولة اللحم أولا؟ » وذكر أيضا بعد ذلك أن مذهب علمائنا طهارة روث ما يؤكل لحمه ، ولم ينقل خلافا فيه بيننا ، بل نص بعده على أرواث البغال والحمير والدواب ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤ و ٨ و ١٣ و ١٨.

٨٥

وأحال البحث فيها على ما سبق ، وفي التذكرة « بول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر عند علمائنا أجمع » إلى غير ذلك ، بل قد عرفت انه يستفاد من استدلالهم بهذه الكلية عند البحث على بعض أفرادها أنها من المسلمات التي لم يعترها شي‌ء من الشبهات.

هذا كله مضافا إلى ما دل (١) على الاستنجاء بالروث ، وإلى خصوص ما في المقام من الأخبار المروي بعضها عن غير الكتب الأربع التي هي بمكانة من الاعتبار ولو بملاحظة الانجبار باشتهار الحكم بين الطائفة أي اشتهار ، بل عن شرح الأستاذ أن عليه إجماع الفقهاء إلا ابن الجنيد كما في المعتبر ، لكن مع زيادة استثناء الشيخ أيضا ، وقد عرفت فيما مضى أنه في النهاية ، وإلا فهو في غيرها على الطهارة ، بل عنه في المبسوط ذلك أيضا ، وهو متأخر عنها ، فيكون قد رجع ، ( منها ) خبر الأعز النخاس (٢) قال للصادق عليه‌السلام : « إني أعالج الدواب فربما خرجت بالليل وقد بالت وراثت فتضرب إحداها بيدها فينضح على ثوبي ، فقال : لا بأس به » ( ومنها ) خبر المعلى بن خنيس وابن أبي يعفور (٣) قالا : « كنا في جنازة وقدامنا حمار فبال فجاءت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا وثيابنا ، فدخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام فأخبرناه ، فقال : ليس عليكم بأس » ونحوها غيرها (٤).

واقتصار بعضها على البول كاقتصار آخر على الروث غير قادح بعد الإجماع المحكي في المصابيح ، وظاهر كشف اللثام أو صريحه كما عن غيره إن لم يكن محصلا على عدم القول بالفصل.

وهي وان كان في مقابلها أخبار (٥) فيها الصحيح والموثق وغيرهما تضمنت الأمر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦ و ٩ و ١٠ و ١١.

٨٦

بغسل الثوب من أبوال الثلاثة ، بل ومطلق الدابة ، بل وأرواثها ، بل ربما يستفاد شدة نجاسته من أبوالها على أحد الوجهين في بعضها ، لكنها لمكان القطع بعدم غفلة الأصحاب عنها ـ إذ هي بمرأى منهم ومسمع ، وقد خرجت من بين أيديهم مع فقد الدلالة في بعضها والجابر لآخر بل وجميعها بناء على عدم استلزام الأمر بالغسل النجاسة ، وموافقتها لمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ، واشتمال بعضها على مطلق الدواب مع البغال والحمير مما علم عدم إرادة وجوب الغسل عنه ، وآخر على النضح من بول البعير والشاة المقطوع بإرادة الندب منه ، كخبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله (١) « سأل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يصيبه بعض أبوال البهائم أيغسل أم لا؟ قال : يغسل بول الفرس والبغل والحمار ، وينضح بول البعير والشاة ، وكل شي‌ء يؤكل لحمه فلا بأس ببوله » مضافا إلى عدم ظهور السؤال فيه كغيره عن الوجوب أو الاستحباب حتى يكون الأمر في الجواب مطابقا له ، وإلى ما فيه من الاجمال باعتبار الكلية في ذيله الشاملة لما ذكر الأمر بالغسل والنضح عنه ، وحمله على إرادة إعطاء الضابط لغير ما تقدم ، أو إرادة معتاد الأكل ، مع أنهما لا يتمان في المأمور بالنضح عنه ليس بأولى من حمله على إرادة الضابط الشامل للجميع ، لكن على إرادة نفي النجاسة منه التي لا ينافيها الأمر الاستحبابي بالغسل أو النضح عنه ، ولما في بعضها من الفرق بين البول والروث ، فيغسل من الأول دون الثاني ، وقد عرفت الإجماع المركب على خلافه ، كما انه في آخر بعد الأمر بالغسل من البول‌ قال : « وأما الأرواث فهي أكبر من ذلك » (٢) وهو محتمل لما ينافي الأول بإرادة شدة النجاسة ، ولعدمه بإرادة أكبر من أن يغسل بعسر التحرز عنه ، إلى غير ذلك من الامارات الكثيرة القاضية بعدم إرادة الوجوب من تلك الأوامر ـ

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٩.

٨٧

أعرض الأصحاب عنها ، ورجحوا غيرها عليها ، فحملوا الأمر فيها على إرادة التخلص عن الكراهة.

ويشهد له‌ خبر زرارة (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « في أبوال الدواب تصيب الثوب فكرهه ، فقلت : أليس لحومها حلالا؟ قال : بلى ولكن ليس مما جعله الله للأكل » وفيه إشعار بإرادة مطلق مباح اللحم وان لم يكن متعارفا من قولهم ما يؤكل لحمه ، واحتمال حمل الكراهة فيه على الحرمة ، وإرادة بيان عدم اندراجه في تلك الكلية بكون المراد منها المعد للأكل كما ترى ، سيما بعد استفاضة تلك الكلية المذكورة بين الرواة مع فهمهم منها ما ذكرنا ، كما يرشد اليه استفهام زرارة الذي هو أحسن الرواة فهما لكلامهم عليهم‌السلام.

ولا ينافي الحمل على الكراهة‌ موثقة سماعة (٢) « سألته عن بول السنور والكلب والحمار والفرس ، قال : كأبوال الإنسان » لاحتمالها شدة الكراهة ، أو إرادة التشبيه بالنسبة للثلاثة الأول ، لوجود جهة الشبه ، وهي عدم إباحة اللحم أو التقية ممن عرفت.

فاتضح لك حينئذ من ذلك كله الكراهة المذكورة في كلام المصنف وغيره ، لكن كان عليه ذكر الأرواث أيضا.

كما انه اتضح لك سقوط ما في الحدائق وان بالغ في اختيار النجاسة في أبوال الثلاثة ناقلا لها عن الأردبيلي والشيخ جواد الكاظمي في شرحه على الدروس والشيخ سليمان البحراني ، وربما مال إليها في المدارك وعن الدلائل والمفاتيح ، بل عن بعضهم التصريح بنجاسة الأرواث أيضا ان ثبت الإجماع على عدم الفصل ، وإلا فالأبوال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

٨٨

خاصة ، ولقد أطنب المحدث المذكور وشنع على كبراء الأصحاب الذين هم أعلم منا ومنه في السنة والكتاب ، وليت ذلك التشنيع كان لأمر دقيق أو لنفيس من التحقيق ، بل انما هو لجمعه جملة من الأخبار الموجودة في التهذيب والاستبصار الظاهرة ظهور الشمس في رابعة النهار التي لا يحتمل خفاؤها على أقصرهم باعا وأقلهم اطلاعا ، والله ولي الحق ، والعالم بحقائق الخلق.

( القول الثاني في أحكام النجاسات )

تجب شرعا وشرطا أو شرطا لا شرعا إزالة عين النجاسات وما يتنجس بها كالماء ونحوه بالمزيل الشرعي من غسل ونحوه ، أو العقلي كالقرض والإحراق ونحو هما عن ما تنجس بها من الثياب المعتاد لبسها أولا كالتستر بلحاف ونحوه ، عدا ما استثني من القلنسوة ونحوها مما سيأتي وظاهر البدن حتى الظفر والشعر منه للصلاة الواجبة أو المندوبة ، لاشتراط صحتها بذلك بالإجماع محصله ومنقولة في السرائر والخلاف والمعتبر وغيرها بل والنصوص (١) الدالة على إعادة الصلاة من البول والمني والخمر والنبيذ والدم وعذرة الإنسان والسنور والكلب ونحوها المتممة بعدم القول بالفصل.

بل ربما لاح من الأخبار (٢) ثبوت الإعادة من مطلق النجاسة ، وحكمها كعينها إجماعا ، وقليلها ككثيرها عدا الدم على ما سيأتي ، لإطلاق الأدلة المعتضدة بإطلاق الفتاوى ومعاقد الإجماعات بل وبصريحها من غير الإسكافي كما حكاه في التذكرة وغيرها ، فقال على ما في المختلف : « كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها مجتمعة أو متفرقة دون‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣ و ٥ و ٩ والباب ـ ٣٨ ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب النجاسات.

٨٩

سعة الدرهم الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك إلا أن يكون النجاسة دم حيض أو منيا ، فان قليلهما وكثيرهما واحد » انتهى.

وهو ضعيف جدا مخالف لما عرفت وتعرف ، مع أنه لا مستند له إلا القياس على الدم ، بناء على حجيته عنده المعلوم بطلانها بضرورة مذهب الشيعة.

ومن هنا أمكن تحصيل الإجماع على المطلوب مع خلافه ، لعدم قدحه فيه ، خصوصا وظاهر عبارته عدم حصول النجاسة بالمقدار المذكور لا العفو ، كما أنه لا يقدح فيه ما في السرائر عن بعض الأصحاب من أنه لا بأس بما ترشش على الثوب أو البدن عند الاستنجاء مثل رؤوس الابر من النجاسات ، ولذا حكاه أي الإجماع عليه فيها كالخلاف ، ولعله أراد به ما عن ميافارقيات السيد من العفو عن البول إذا ترشش عند الاستنجاء كرؤوس الابر ، وإن أطلق النجاسات الأول ، وخصها بالبول الثاني.

ولا ريب في ضعفه كسابقه ، لا طلاق الأدلة من غير معارض ، بل وخصوص معاقد الإجماعات.

ونحو‌ صحيح عبد الرحمن بن الحجاج (١) « سأل الكاظم عليه‌السلام عن رجل يبول في الليل فيحسب أن البول أصابه ولا يستيقن ، فهل يجزؤه أن يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال عليه‌السلام : يغسل ما استبان انه قد أصابه ، وينضح ما شك فيه من جسده وثيابه ويتنشف قبل أن يتوضأ ».

ونحو‌ خبر الحسن بن زياد (٢) « إن الصادق عليه‌السلام سئل عن الرجل يبول فيصيب بعض فخذه قدر نكتة من بوله ، ثم يذكر بعد أنه لم يغسله ، قال : يغسله ويعيد صلاته ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

٩٠

كخبر ابن مسكان (١) قال : « بعثت بمسألة إلى أبي عبد الله عليه‌السلام مع إبراهيم بن ميمون ، قلت : سله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله فيصلي ويذكر بعد ذلك أنه لم يغسلها ، قال : يغسلها ويعيد صلاته » إلى غير ذلك من الأخبار (٢) الواردة في مساواة قليل دم الحيض لكثيره ، وفي إعادة الصلاة من نقط الدم إذا بلغ مقدار الدرهم مجتمعا.

ثم لا فرق بين جميع أجزاء الصلاة في الشرط المذكور كغيره من شرائطها وشرائط كل مركب ، لظهور انتفاء امتثال الشرط بانتفاء حصوله لبعض أجزاء الجملة ، بل ولا بين أجزائها المتصلة والمنفصلة كالتشهد والسجدة المنسيين ، لبقاء حكم الجزئية فيهما وان انفصلا ، وكذا الركعات الاحتياطية المشروعة لتدارك النقصان لو كان ، فيعتبر فيها حينئذ ما اعتبر في المتدارك.

نعم لا عبرة بما خرج عنها سواء تقدمها كالأذان والإقامة والقيام للتكبير بل والنية في وجه ، أو تأخرها كالتعقيبات ونحوها ، بل والسلام الثالث في وجه مع الخروج بسابقه وان قلنا بوجوبه ، وأما سجود السهو فقد نص شيخنا في كشف الغطاء على اشتراطه بذلك أيضا ، وفيه بحث إن لم يكن منع كما سيأتي.

والمراد بالثياب المعتبر طهارتها‌ مطلق ما سمي لباسا عرفا ، لا فراشا ولا وطاء ولا ظلالا ولا غطاء ، للأصل السالم عن المعارض على إشكال في الأخير فيما لو كان المصلي تحته بإيماء ونحوه وكان هو الساتر له ، بل وإن لم يكن ، لاحتمال إرادة المثال من الثوب ونحوه الموجود في الأخبار.

نعم لا عبرة بالزائد على القامة من اللباس زيادة خارجة عن المعتاد يخرج بها عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١ والباب ـ ٢٠ ـ منها.

٩١

اسم الملبوس أو المحمول ، وفاقا للمحكي عن صريح جماعة ومستحسن المعالم وظاهر الخلاف بل صريحه ، إذ لا دليل على اعتبار طهارة ذلك الزائد ، ضرورة انصراف الأدلة إلى غيره ، بل قد يظهر من التذكرة الإجماع عليه ، قال فيها : « لو كان على رأسه عمامة وطرفها على نجاسة صحت صلاته عندنا خلافا للشافعي » إلى آخره.

لكن لعل مراده نفس مباشرة النجاسة وان لم يحصل التنجيس ، فيخرج عما نحن فيه حينئذ ، إذ لا ريب في عدم اقتضاء ذلك فسادا ، لعدم اندراجه في الملبوس أو المحمول ، كقوله فيها أيضا بصحة صلاة من صلى مماسا ثوبه لشي‌ء نجس عندنا خلافا للشافعي ، وفي المنتهى بصحة صلاة من شد وسطه بطرف حبل ، والآخر شد به نجاسة من غير خلاف بين علمائنا ، بل ربما ظهر من كشف غطاء الأستاذ « دوران بطلان الصلاة على تنجيس الثياب بملاقاة النجاسات لرطوبة في المصيب أو المصاب أو فيهما ، دون النجاسة المتصلة باللباس مع الجفاف ، فتصح الصلاة فيها حينئذ إذ لم تكن من غير مأكول اللحم ، بل وإن كانت منه إذا كانت موضوعة على الانفصال عنه على إشكال » إلى آخره. وان كان الظاهر اندراج الفرض المذكور في حمل النجاسة ، وفي صحة الصلاة به وبطلانها قولان يأتي البحث فيهما إن شاء الله.

وكذا يأتي البحث في وجوب إزالة النجاسات على نحو ما تقدم للطواف واجبة ومندوبة في كتاب الحج ، وإن كان لم أجد فيه خلافا هنا ، بل عن حج الخلاف والغنية الإجماع عليه ، بل في المدارك أنه حكاه جمع من الأصحاب ، كما انه عن المنتهى نسبته إلى أكثر أهل العلم ، مضافا إلى‌ ما ورد (١) من ان « الطواف في البيت صلاة » ‌

__________________

(١) مستدرك الحاكم ج ١ ص ٤٥٩ وسنن البيهقي ـ ج ٥ ص ٨٧ والجامع الصغير للسيوطي ج ٢ ص ٥٦ وكنز العمال ج ٣ ص ١٠ الرقم ٢٠٦ عن الطبراني وحلية الأولياء وسنن البيهقي والمستدرك عن ابن عباس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الطواف باليت صلاة ولكن الله أحل فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير » والحديث عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب وانه كان يختلط اختلاطا شديدا وقال ابن معين : « عطاء بن السائب اختلط » وقال شعبة : « حدثنا عطاء بن السائب وكان نسيا وكتب عن عبيدة ثلاثين حديثا ولم يسمع من عبيدة فلا يحتج بحديثه » تهذيب التهذيب لابن حجر ج ٧ ص ٢٠٤.

٩٢

الدال على مساواته لها في سائر الأحكام ، سيما المعروفة كالطهارة من الحدث والخبث ونحوهما.

وتجب أيضا الإزالة المذكورة لدخول المساجد كما في القواعد والإرشاد والمنتهى وغيرها ، بل في ظاهر الأخير أو صريحه أنه مذهب أكثر أهل العلم ، بل في الخلاف وجنائز السرائر لا خلاف في أنه يجب أن يجنب المساجد من النجاسات ، مع زيادة « بين الأمة كافة » في الأخير ، كما أنه في المفاتيح أيضا نفي الخلاف عن إزالة نجاسة المساجد ، وفي كشف الحق في توجيه الاستدلال بالآية (١) على المشرك « لا خلاف في وجوب تجنب المساجد كلها النجاسات بأجمعها » بل في الذخيرة عن الشهيد الظاهر أنه إجماعي ، بل في لوامع النراقي حكاية صريح الإجماع عن العاملي مريدا به الشهيد على الظاهر.

وهو مع نفي الخلاف السابق الصريح هنا في إرادة الإجماع منه الحجة في انقطاع الأصل سيما بعد اعتضاده بظاهر قوله تعالى (٢) ( أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ ) وقوله تعالى (٣) : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) المتمم بعدم القول بالفصل محكيا ان لم يكن محصلا بين المسجد الحرام وغيره.

كما ان احتمال قصر الحكم على خصوص المشركين لغلظ نجاستهم أو غيره يدفعه ظهور التفريع في علية وصف النجاسة للحكم المتحقق في غير المشركين ، كاندفاع ما قيل من عدم معروفية النجس بالمعنى المصطلح سابقا بمنعه أولا ، وبظهور إرادته منه هنا‌

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٢٨.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١١٩.

(٣) سورة التوبة ـ الآية ٢٨.

٩٣

ولو مجازا للقرائن الكثيرة ، واعتضاده أيضا‌ بالخبر المشهور (١) عملا ورواية « جنبوا مساجدكم النجاسة » المؤيد بما يفهم من‌ خبر القداح (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : « قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعاهدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم » من زيادة الاحتياط والتحفظ مع نهاية التوسعة في أمر الطهارة والنجاسة ، وب‌ مرسل العلاء بن الفضيل (٣) المروي في المنتهى عن الشيخ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا دخلت المسجد وأنت تريد أن تجلس فلا تدخله إلا طاهرا » الحديث. وان كان محتملا لإرادة الطهارة من الحدث ، وبمناسبته للتعظيم ، ولما ورد من جعل المطاهر على أبواب المساجد ، وبانعقاد الإجماع على منع الكفار ، ولا باعث له سوى النجاسة.

كما انه قد يؤيده أيضا ما ورد (٤) في منع المجانين والصبيان عنها ، ومنع الجنب والحائض عن المكث فيها (٥) بل يمكن دعوى أولوية رفع الخبث من رفع الحدث ، إلى غير ذلك.

فما عساه يظهر من بعض متأخري المتأخرين ـ من التأمل والتردد في أصل الحكم المذكور لدعوى ضعف دليله سندا أو دلالة ، وللنصوص (٦) الكثيرة الواردة في جواز اتخاذ الكنيف مسجدا بعد الطم والمواراة كما ستسمعها إن شاء الله في أحكام المساجد ـ في غير محله ، لما عرفت من الأدلة السابقة المعتضدة بسيرة المسلمين وطريقتهم ، وبملاحظتها مع فتاوى الأصحاب يمكن دعوى تحصيل الإجماع ، ونصوص اتخاذ المسجد على الكنيف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب أحكام المساجد من كتاب الصلاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الجنابة ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ من كتاب الصلاة.

٩٤

يأتي البحث فيها إن شاء الله في أحكام المساجد.

انما البحث في الفرق بين المتعدية وغيرها ، فظاهر عطف المصنف وغيره كظاهره في جنائز المعتبر أو صريحه عدم الفرق بينهما ، كما هو صريح التذكرة وعن أكثر كتبه ، بل في لوامع النراقي أنه مذهب الحليين والأكثر ، وعن الكفاية أنه المشهور ، لإطلاق الأدلة السابقة من الآية والرواية ، ودعوى صدق المجانبة بعدم التلويث كما ترى ، ولظهور اتفاقهم حتى ممن اعتبر التلويث على منع المشرك وإن لم يلوث ، واحتمال الفرق بغلظ النجاسة وعدمها ممنوع بعد تسليم أغلظيته من نحو دم الحيض وغيره ، ولظهور معقد إجماع السرائر في ذلك أيضا أو صريحه ، بل لعل إجماع الخلاف والكشف أيضا كذلك ، فلاحظ ، سيما بعد ما حكاه في كشف اللثام عن الشيخ في الخلاف من القول بعدم جواز حصول غير الملوث من النجاسة في المسجد ، ولأنه أبعد عن التلويث المعلوم حرمته ، وللسيرة المستمرة على إزالة أعيان النجاسات من المساجد وان لم تكن ملوثة كالعذرة اليابسة ونحوها ، واحتمال الفرق بين أرض المسجد وفضائه لا أثر له في كلام الأصحاب ، كاحتمال الفرق بين عين النجاسة والمتنجس بها ، إلى غير ذلك من الشواهد الكثيرة ، كمعلومية انهتاك حرمة المسجد بوضع النجاسات فيه وان لم تلوث ، ومعلومية حرمة إمساس ما ألحق بالمساجد من الضرائح المقدسة والقرآن العظيم بأعيان النجاسات ولو مع الجفاف.

خلافا للشهيدين في الذكرى والدروس والمسالك وأبي العباس في موجزه ، والكركي في جامعه ، وغيرهم من متأخري المتأخرين ، فخصوا المنع بالملوثة ، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن ، ولجواز اجتياز الحائض والجنب وأخذهما ما فيه مع ملازمة النجاسة غالبا ، ولمعلومية حضور ذوي الجراحات الدامية والقروح السائلة والمسلوس بعد وضع الخريطة ونحوهم الجماعات والجمعة في المسجد ، بل يمكن دعوى العسر والحرج‌

٩٥

في مطلق منع دخول النجاسة ، ولظهور أدلة المستحاضة في دخولها المساجد بعد أفعالها ، وتجويز الأصحاب كما قيل الحد الذي منه القتل والقصاص في المسجد مع فرش النطع حفظا عن التلويث.

وفيه منع انحصار الدليل في المتيقن ، بل يكفي الظهور المذكور كما في غيره من الأحكام ، ومنع دخولهما مستصحبين للنجاسة أولا ، وإطلاق دليل جواز الاجتياز مثلا يراد به كما هو الظاهر منه من حيث الحدث الحيضي مثلا ، وتسليمه ثانيا مع دعوى استثنائه بخصوصه كالحدث ، وكذا البحث فيما بعده ، لظهور عدم التلازم بين إباحة ذلك بخصوصه للعسر والحرج ونحوهما وبين إباحة غيره ، ولذا لم يقدح في الصلاة ونحوها المعلوم اشتراطها بإزالة النجاسات ، ولا نسلم تصريحهم هناك بجواز الحد والقصاص على وجه يتحقق به إجماع ، وكيف مع أن المحكي في كشف اللثام عن الشيخ في الخلاف التصريح بعدم جواز القصاص ، وأنه لا فائدة في فرش النطع ، ولو سلمنا فهو استثناء لحكم خاص ، وتمام البحث في ذلك عند ذكر المصنف كراهة إقامة الحدود من أحكام المساجد.

فلا ريب أن الأول أحوط إن لم يكن أقوى ، خصوصا فيما ظهر فيه انهتاك الحرمة ومنافاة التعظيم ، كوضع العذرات الكثيرة فيها ونحوها ، بل لو قيل بدوران الحرمة على التعدية وعلى هتك الحرمة عرفا لكان متجها إن لم يكن خرقا للإجماع ، ولعله ليس كذلك ، بل لعله مذهب الطباطبائي في منظومته.

وكيف كان فقد ظهر لك انه بناء على الأول لا فرق حينئذ بين الملوثة وعدمها ، بل ولا بين أرض المسجد وفراشه وفضائه كالنجاسة على بدن الداخل أو ثوبه مثلا ، لظاهر الأدلة السابقة ، ولا بين عين النجاسة والمتنجس بها ، كما هو ظاهر أو صريح معقد إجماع جنائز السرائر الظاهر من المصنف إقراره عليه وتسليمه له ، بل لعل‌

٩٦

المراد من النجاسة في النص والفتوى ما يشمل المتنجس ، كما هو ظاهر المتن أو صريحه كغيره ممن عبر كعبارته أي يساوى بين الصلاة والمساجد ، بل لا أجد أثرا لاحتمال الفرق في سائر كلمات الأصحاب ، ولعله لظهور انتقال حكم النجس إلى ما تنجس به.

ومن ذلك كله يعلم وجوب إزالة النجاسة عن المسجد لو كانت مما علم حرمة إدخالها من غير فرق بناء على ما ذكرنا بين أرض المسجد وفرشه وفضائه وغيرها كما سمعته في حرمة الإدخال.

نعم قد يتجه الفرق بين أرض المسجد مثلا وبين فرشه ونحوهما مما لا تدخل في اسمه ، بناء على اعتبار التلويث للمسجد ، لعدم صدقه بتلويث الفرش مثلا ، بل هي حينئذ كغير فرشه مما لم تتعد نجاسته اليه من ثوب الإنسان وبدنه ، مع أنه قد صرح في المسالك وغيرها بعدم الفرق بينهما في حرمة التلويث ، بل قد تشعر عبارة مجمع البرهان بالإجماع عليه ، كما قيل ذلك أيضا في عبارة المدارك ، ولعله لتبعيتها للمسجد بإضافتها اليه ، وتحقق تحقيره بتحقيرها كتعظيمه ما دامت فيه ، ولإمكان صدق تلويث المسجد بتلويثها ، كإمكان دعوى شمول‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « جنبوا مساجدكم النجاسة » لها ، وان نزلنا النجاسة على الملوثة ، فتأمل جيدا.

ثم ان وجوب الإزالة على الفور بلا خلاف ، بل لعله إجماعي كما حكاه بعضهم صريحا ، وفي المدارك « انه قطع به وبالكفائية الأصحاب ، وفيه توقف » إلى آخره.

قلت : لا ينبغي التأمل في الفورية ، لما عرفت ، ولكون منشأ الوجوب هنا التعظيم الذي ينافيه التراخي ، ولأن المراد بوجوب الإزالة هنا انما هي حرمة الإبقاء المستفادة من الأدلة السابقة الشاملة لسائر الأوقات ، ولو تركه وصلى مع السعة ففي صحة صلاته وفسادها البحث المعروف في الأصول.

وعلى الكفاية بلا خلاف أيضا ، بل لعله إجماعي كما حكاه بعضهم ، لتوجه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

٩٧

الخطاب إلى الجميع مع القطع بعدم إرادة الوجوب العيني ، وتعين بعض لا دليل عليه ، وبعض غير معين غير جائز ، فليس إلا الكفائي ، فلا يتعين حينئذ وجوب الإخراج على المدخل مثلا ، كما نص عليه في الروض وغيره ، وان كان قد يقال بتأكده في حقه.

فما في الذكرى من تعينه عليه واحتمله في المدارك لا يخلو من نظر ، وإلا لسقط بموته أو فقده أو امتناعه ، إذ دعوى تجدد الوجوب حينئذ لا دليل عليها.

وألحق الشهيدان والمحقق الثاني وغيرهم بالمساجد الضرائح المقدسة والمصحف المعظم ، فيجب إزالة النجاسة عنه ، كما يحرم تلويثه أو مطلق المباشرة ، وهو جيد فيهما وفي كل ما علم من الشريعة وجوب تعظيمه وحرمة إهانته وتحقيره ، كالتربة الحسينية والسبحة وما أخذ من طين القبر للاستشفاء والتبرك به ككتابة الكفن به ونحوها ، وإناطة الحكم بذلك أولى من البحث في خصوصيات الأفراد ، إذ مستحق التعظيم ومحرم التحقير من جميع ما له تعلق في قبور الأئمة عليهم‌السلام من الأثاث كالصندوق وغيره فضلا عنها أنفسها ، وفي المصحف بل المصاحف من ورقها وغلافها إذا كان متصلا بها مما لا خفاء فيه في المذهب ، كما لا خفاء في تحقق الإهانة وهتك الحرمة بتلويثه بالنجاسة ، بل بمطلق مباشرته لها ، ولعل ذلك مختلف باختلاف الناس والمقاصد والنيات.

وليس منه على الظاهر ما يؤخذ من كربلاء وباقي المشاهد من الآجر والخزف والأباريق والمشارب ونحوها مما لم يكن متخذا للتعظيم ، لعدم تحقق الإهانة والتحقير في مباشرة شي‌ء من ذلك للنجاسة ونحوها ، ودعوى وجوبه شرعا ـ وان لم يكن فيه إهانة عرفا ، إذ كثير من أفراد التعظيم التي أوجبها الشارع ليس للعرف فيها نصيب ، كحرمة مكث المحدث بالأكبر في المسجد ومس المحدث بالأصغر كتابة القرآن ـ يدفعها أنه لا دليل عليها هنا ، بل لعل السيرة والطريقة شاهدة بخلافها.

فما عن الأستاذ الأكبر من النهي عن إخراج أواني كربلاء إلى غيرها محل منع‌

٩٨

إن أراد الحرمة منه ، نعم قد يتأمل في بعض ما اتخذ على سبيل التعظيم للتبرك والتيمن مما لم يكن فيه نص بالخصوص ، كنحو التراب الخارج عن حرم كربلاء إذا علق على الشباك المكرم تحصيلا لتشرفه وتيمنه وبركته ولما يصل إلى حد التبعية عرفا وغير ذلك مما يكون منشأه الترجيح العقلي واعتباره واستحسانه ولو بمزج التعارف معه ، فان جريان حكم ما علم تعظيمه كالتربة الحسينية المعلوم بالتواتر ـ كما عن التنقيح « كون الشفاء فيها ، وكثرة الثواب بالتسبيح بها والسجود عليها ، ووجوب تعظيمها ، وكونها رافعة للعذاب عن الميت ، وأمنا من المخاوف ، وانه يحرم الاستنجاء بها » انتهى ـ على مثل ذلك لا يخلو من إشكال ونظر.

ومن ذلك كله يظهر لك ما في المحكي عن المهذب والروضة من إثبات الاحترام لثلاثة أشياء لا غير مما يؤخذ من التربة الحسينية : أحدها ما أخذ من الضريح المقدس ، وثانيها ما وضع عليه مطلقا كما عن ظاهر المهذب ، أو من الحرم كما عن ظاهر الروضة أو صريحها ، وثالثها ما أخذ من باقي الحرم بالدعاء والختم عليه كما عن المهذب ، وبدون ذكر الختم عن الروضة ، فتأمل جيدا ، فان فروع المقام وبيان حكم بعض الأفراد محتاج هنا إلى مزيد إطناب.

وكذا يجب إزالة النجاسة عن الأواني مقدمة لاستعمالها فيما علم اشتراطه بالطهارة من المأكول والمشروب وماء الغسل والوضوء ، ونحوها بالأدلة المقررة في محالها من الإجماع المحكي والأخبار (١) مع فرض التنجس بها.

ويجب إزالتها أيضا عن محل السجود وان لم تكن متعدية ، لاشتراط طهارته من غير خلاف أجده فيه ، بل نسبه بعضهم إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، كما أن في مجمع البرهان لعل دليله الإجماع والنص ، وفي الذكرى وعن الذخيرة نسبته‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٥١ و ٥٢ و ٥٣ من أبواب النجاسات.

٩٩

للنص أيضا ، لكن في الحدائق أني لم أقف على هذا النص ، ولا نقله ناقل فيما أعلم ، بل ربما ظهر من النصوص خلافه » إلى آخره.

قلت : لعل المراد به‌ موثقة عمار (١) عن الصادق عليه‌السلام « عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكن قد يبس الموضع القذر ، قال : لا يصلى عليه ، وأعلم الموضع حتى تغسله » ويأتي تمام البحث فيه إن شاء الله وفيما حكي عن المرتضى من وجوب إزالة النجاسة عن سائر مكان المصلي ، وأبي الصلاح عن المساجد السبعة خاصة.

ولا يجب شي‌ء مما ذكرنا من إزالة النجاسة لنفسه عدا إزالتها عن المسجد وإن أطلق في النصوص (٢) الأمر بغسل الثوب مثلا ، إلا انه من المقطوع به عدم إرادته منه ، وفي كشف اللثام انه لعله إجماع ، وكأن الإطلاق موكول إلى ذلك ، بل لم أقف على ما يدل صريحا على استحباب الإزالة لنفسه ، وإن أفتى به بعض مشايخنا ، ولعله استفاده من الاعتبار أو من النظر في مجموع ما ورد من الأخبار ، أو أنه نزل تلك الأوامر المطلقة عليه ، أو من نحو قوله تعالى (٣) ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) والأمر سهل.

وعفي بالنسبة للصلاة قطعا والطواف بل والمساجد في وجه بناء على منع دخول النجاسة إليه مطلقا لكن بشرط عدم التعدي كما أشرنا إليه سابقا في الثوب والبدن عما يشق التحرز منه ويعسر من دم القروح والجروح التي لا ترقى أي لا ينقطع دمها ويسكن ، بل يكون سائلا وان كثر بلا خلاف أجده ، بل عليه الإجماع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب النجاسات.

(٣) سورة البقرة ـ الآية ٢٢٢.

١٠٠