جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بسبب ما وصفوه وأظهروه من الشهادتين مع إنكارهم الولاية ، وبسبب ما يجري عليهم من أحكام الإسلام في الدنيا ، فهي بالدلالة على المطلوب أحرى.

فما عن المرتضى من نجاسة غير المؤمن بالمعنى الأول لهذه الأخبار ضعيف جدا ، وان استدل له أيضا بقوله تعالى (١) ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) وقوله تعالى (٢) : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) فغير المؤمن غير مسلم ، فهو كافر ، وبقوله تعالى (٣) ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ).

وفيه ما عرفت من معلومية مغايرة الإسلام للايمان بالمعنيين الأخيرين كتابا وسنة كادت تكون متواترة ، وأنه أخص منه ، وبمنزلة فرد من أفراده ، كمعلومية مرادفته له بالمعنى الأول ، ولعله المراد في الآيات الثلاثة ، كما يؤيده حدوث الايمان بالمعنى الثاني وتأخره عن وقت النزول ، على أن الظاهر إرادة المباين للإسلام من غير الإسلام ، كما أن الظاهر بل المقطوع به إرادة العذاب من الرجس هنا لا النجاسة كما هو واضح للعارف بأساليب الكلام ، ولم أعرف موافقا صريحا للمرتضى في ذلك من معتبري الأصحاب ، بل ولا من حكي عنه ذلك إلا ابن إدريس ، مع انه استثنى المستضعف الذي لا يعرف اختلاف الآراء ولا يبغض أهل الحق من غير المؤمن ، وفسر المؤمن بالمصدق بالله وبرسله وبكل ما جاؤوا به ، وفيه إجمال أو إيهام.

لكن ومع ذلك ففي الحدائق أن الحكم بكفر المخالفين ونصبهم ونجاستهم هو المشهور في كلام أصحابنا المتقدمين مستشهدا بما حكاه عن الشيخ ابن نوبخت ، وهو من متقدمي أصحابنا في كتابه فص الياقوت ، دافعوا النص كفرة عند جمهور أصحابنا ، ومن أصحابنا من يفسقهم ، إلى آخره ، ولا يخفى ما فيه.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٧.

(٢) سورة آل عمران الآية ٧٩.

(٣) سورة الأنعام ـ الآية ١٢٥.

٦١

ولعل مراد الشيخ الكفر بالمعنى الذي ذكرناه ، أو خصوص الطبقة الأولى من دافعي النص ، لإنكارهم ما علم لهم من الدين ، كالمحكي عن العلامة في شرحه من تعليل ذلك بأن النص معلوم بالتواتر من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكون ضروريا أي معلوما من دينه ، فجاحده كافر ، كوجوب الصلاة ، ونحوه ما عنه أيضا في المنتهى في بيان اشتراط وصف المستحق بالايمان للزكاة ، إذ هو ـ مع انه لا صراحة فيهما معا باختياره ، بل ولا ظهور كما يؤيده انه استدلال اقناعي لا حقيقي كما هو واضح ، وإلا فكيف يدعى دخول دافع النص من غير الطبقة الأولى ونحوهم تحت منكر الضرورة ، على أنهم أنكروا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، فيلزمه عدم الإمامة ، لا أنهم أنكروا الإمامة المعلوم ثبوتها ضرورة ـ محتمل لما ذكرناه أيضا.

كما ان ما في مقنعه المفيد وعن ابن البراج من عدم جواز تغسيل أهل الإيمان مخالفا للحق والصلاة محتمل لا لحاقهم لهم في هذا الحال بعالم الآخرة المحكوم بكفرهم فيه لا مطلقا ، ولذا لم يوجب تغسيلهم بعض من ذهب إلى إسلامهم ، وإن قال الشيخ في شرحها : الوجه فيه أن مخالف أهل الحق كافر ، فيجب أن يكون حكمه حكم الكفار إلا ما خرج بالدليل ، إذ هو مع أنه لا إشعار فيه باختياره له محتمل لأن يكون ما نحن فيه من الطهارة مما خرج بالدليل عنده.

وكذا ما في السرائر بعد اختياره ما في المقنعة ، ويعضده القرآن ، وهو قوله تعالى (١) ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ ) إلى آخره. يعني الكفار ، والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا ، ومذهب المرتضى في ذلك مشهور في كتب الأصحاب محتمل لإرادة نفي الخلاف عنه في الجملة لا بحيث يشمل المقام ، كالمحكي عن الفاضل محمد صالح في شرح أصول الكافي ، بل والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق من الحكم‌

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٥٨.

٦٢

بكفر منكري الولاية ، لأنها أصل من أصول الدين ، إذ لعلهما يريدان الكفر الأخروي ، لكن الإنصاف انه بعيد في كلامهما.

وأبعد منه احتماله في المنقول عن جدي العلامة ملا أبي الحسن الشريف في شرحه على الكفاية ، فإنه بالغ غاية المبالغة في دعوى وضوح كفرهم حتى نسبه إلى الأخبار التي بلغت حد التواتر ، واقتفى أثره صاحب الحدائق ، وأطنب في المقال لكنه لم يأت بشي‌ء يورث شكا في شي‌ء مما ذكرناه أو إشكالا ، إذ أقصى ما عنده التمسك بالأخبار التي قد عرفت حالها وما يعارضها.

وبدعوى دخولهم تحت النواصب المجمع على نجاستهم بين الإمامية كما عن كتاب الأنوار للسيد نعمة الله الجزائري ، ولا كلام فيها كما في جامع المقاصد وعن الدلائل ، والظاهر أنها غير خلافية كما في شرح الأستاذ الأكبر للمفاتيح ، والمدلول عليها بالأخبار المستفيضة ، كقول الصادق عليه‌السلام في خبر ابن أبي يعفور (١) : « لا يغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام ، فان فيها غسالة ولد الزنا ، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب ، وهو شرهما ، ان الله لم يخلق خلقا شرا من الكلب ، والناصب لنا أهون على الله من الكلب ».

كخبره الآخر (٢) المروي عن العلل في الموثق على ما قيل عن الصادق عليه‌السلام أيضا إلى أن قال : « إن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب ، وان الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه » وقوله عليه‌السلام (٣) في خبر القلانسي في جواب سؤاله عن لقاء الذمي فيصافحه ، فقال : « امسحها بالتراب ، قلت : والناصب ، قال : اغسلها » إلى غير ذلك ، لتحقق النصب بمعنى العداوة بأحد أمرين : تقديم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

٦٣

الجبت والطاغوت ، أو العداوة والبغض لشيعة آل محمد ( صلوات الله عليهم ).

أما الأول فللمروي (١) في‌ مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال لمولانا أبي الحسن علي بن محمد الهادي في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى ، قال : « كتبت إليه أسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت ، واعتقاده بإمامتهما ، فرجع الجواب من كان على هذا فهو ناصب » إلى آخره. ولأنه لا عداوة أعظم ممن قدم المنحط عن مراتب الكمال ، وفضل المنخرط في سلك الأغبياء الجهال على من تسنم أوج الجلال حتى شك أنه الله المتعال.

وأما الثاني فل‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر عبد الله بن سنان (٢) المروي عن ابن بابويه : « ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنك لا تجد أحدا يقول أنا أبغض محمدا وآل محمد ( صلوات الله عليهم ) ، ولكن الناصب من نصب لكم ، وهو يعلم انكم تتولونا وانكم من شيعتنا » ونحوه خبر المعلى بن خنيس (٣) عنه أيضا المروي عن الصدوق أيضا في معاني الأخبار ، بل في الحدائق انه رواه بسند معتبر.

قلت : ويدفعها أنها لا تجديه نفعا إلا على المعنى الأول للناصب ، وإلا فعلى الثاني خروج عن محل النزاع ، إذ البحث في نجاستهم من حيث إنكار الولاية الذي قد يكون منشأه التقصير والتفتيش عن ذلك ، لا من حيث بغضهم للشيعة ، واحتمال التلازم مجازفة ، وهو ـ مع معلومية بطلانه بالسيرة القاطعة والعمل المستمر ، ولذا نسبه في نكاح الفقيه إلى الجهلاء ، فقال : « والجهلاء يتوهمون أن كل مخالف ناصب ، وليس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يجب فيه الخمس ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يجب فيه الخمس ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يجب فيه الخمس ـ الحديث ١٣.

٦٤

كذلك » إلى آخره. ومع أنا لم نعرف له شاهدا أصلا عدا الخبر المتقدم المغضي عن سنده ، والمحتمل لإرادة تنزيله منزلته بالنسبة للعذاب وغيره من أحكام الكفار نحو ما تقدم فيما ورد بكفره ـ مخالف للمستفاد من أهل اللغة وكلام الأصحاب ، وأخبار الباب ، إذ النصب كما عن الصحاح وغيره العداوة ، وتحققها عرفا بمجرد تقديم فلان وفلان ولو لشبهة قصر في دفعها محل منع.

بل عن القاموس « النواصب وأهل النصب المستدينون ببغض علي عليه‌السلام لأنهم نصبوا له أي عادوه » انتهى. ويؤيده ما في المعتبر والمنتهى انهم الخوارج الذين يقدحون في علي عليه‌السلام بل لعله ظاهر اقتصار الكتاب والنافع وعن غيره على الخوارج والغلاة ، وربما كان ذلك أيضا ظاهر الصدوق في نكاح الفقيه.

كما أنه قد يشهد له أيضا انطباق الحكم بكفره حينئذ المستفاد من النص والفتوى على الضابط المذكور للكافر عند الأصحاب ، وعلى ما دل على عدم الخروج عن الإسلام إلا بالجحود أو إنكار الضروري من مكاتبة عبد الرحيم القصير المتقدمة سابقا أيضا وغيرها ، ضرورة تحقق الثاني في الناصب بالمعنى المفروض بخلافه على المعنى المذكور ، بل وعلى غيره من المعاني له أيضا حتى المعنى المعروف الذي قد يشهد له خبرا ابن أبي يعفور السابقان ، وهو من نصب العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام ، كما عن السيد الجزائري نسبته إلى أكثر الأصحاب مع زيادة « وتظاهر ببغضهم (ع) » في تفسيره ، واليه يرجع ما عن نهاية العلامة وتذكرته وحاشية الشرائع انه الذي يتظاهر بعداوة أهل البيت وحتى ما في خبري الخصم (١) والسرائر أيضا من انه من ينصب العداوة لأهل الإيمان ، لوضوح عدم انطباق الحكم بكفره حينئذ على الضابط المذكور ، فلا بد من تسبيبه ذلك الكفر بنفسه ، وهو محل تأمل ، لعدم دليل صالح لقطع الأصول والعمومات.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يجب فيه الخمس الحديث ٣.

٦٥

بل لعل الذي يظهر من السير والتواريخ أن كثيرا من الصحابة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده وأصحاب الجمل وصفين بل وكافة أهل الشام وأكثر أهل المدينة ومكة كانوا في أشد العداوة لأمير المؤمنين وذريته عليهم‌السلام ، مع أن مخالطتهم ومساورتهم لم تكن منكرة عند الشيعة أصلا ولو سرا ، وكذلك الحال في بني أمية وأتباعهم وبني العباس وأتباعهم ، ولعل ذلك لعدم دخولهم تحت النواصب لعدم تدينهم وان تظاهروا به ، وبه افترقوا عن الخوارج.

ومن هنا كان الاقتصار في تفسير الناصب على ما سمعته من القاموس متجها ، لكن قد يقوى في النفس تعميم الناصب للعدو لأهل البيت عليهم‌السلام وان لم يكن متدينا به ، لتحقق المعنى فيه ، ولظهوره من الأخبار السابقة ، بل في جامع المقاصد وظاهر مجمع البحرين تعميمه لناصب العداوة لشيعتهم ، لأنهم يدينون بحبهم ، بل قد سمعت من السرائر انه الناصب ، ولعله للخبرين السابقين ، وصدق اسم العدو لأهل البيت عليهم‌السلام بذلك ، لكنه لا يخلو من تأمل ، وان كان يمكن الاكتفاء بهما في إثباته ، وان لم يصلح سندهما لاندراجه في الظن بالموضوع ، إلا أن السيرة القاطعة في سائر الأعصار والأمصار على مساورتهم ومخالطتهم مع غلبة تحقق ذلك في أغلبهم تنافيه ، كغيرها من الأدلة السابقة على طهارتهم ، والاحتياط في اجتناب الجميع.

وعن شرح المقداد « أن الناصب يطلق على خمسة أوجه : الخارجي القادح في علي عليه‌السلام ، الثاني ما ينسب إلى أحدهم عليهم‌السلام ما يسقط العدالة ، الثالث من ينكر فضيلتهم لو سمعها ، الرابع من اعتقد فضيلة غير علي عليه‌السلام ، الخامس من أنكر النص على علي عليه‌السلام بعد سماعه أو وصوله اليه بوجه يصدقه ، أما من أنكر لا جماع أو مصلحة فليس بناصب » انتهى.

قلت : ولا ريب في نجاسة الخامس والأول ، وأما الثلاثة فيظهر البحث فيها مما مر‌

٦٦

لكن ليعلم أن الظاهر عدم تعدد معنى الناصب ليكون مشتركا ، بل هو على تقدير تسليم التعدد فيه حقيقة تعدد مصداق كالمتواطئ على أن يكون المراد به مثلا العدو لأهل البيت عليهم‌السلام ولو بعداوة شيعتهم ، فتأمل جيدا.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر لك الحال في الفرق المخالفة من الشيعة من الزيدية والواقفية وغيرهم ، إذ الطهارة فيهم أولى من المخالفين قطعا ، لكن عن‌ الكشي انه روى في كتاب الرجال بسنده إلى عمر بن يزيد (١) قال : « دخلت على الصادق عليه‌السلام فحدثني مليا في فضائل الشيعة ، ثم قال : إن من الشيعة بعدنا من هم شر من الناصب ، فقلت : جعلت فداك أليس هم ينتحلون مودتكم ويتبرأون من عدوكم؟ قال : نعم ، قلت : جعلت فداك بين لنا لنعرفهم ، قال : إنما هم قوم يفتنون بزيد ويفتنون بموسى ».

وانه‌ روى أيضا (٢) قال : « ان الزيدية والواقفة والنصاب بمنزلة واحدة » وعن كتاب‌ الخرائج للقطب الراوندي عن أحمد بن محمد بن مطهر (٣) قال : « كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمد عليه‌السلام من أهل الجبل يسأله عمن وقف على أبي الحسن موسى عليه‌السلام أتولاهم أم أتبرأ منهم؟ فكتب أترحم على عمك لا يرحم الله بعمك ، وتبرأ منه ، أنا إلى الله بري‌ء منهم ، فلا تتولاهم ، ولا تعد مرضاهم ، ولا تشهد جنائزهم ، ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ) ، سواء من جحد إماما من الله تعالى أو زاد إماما ليست إمامته من الله تعالى ، أو قال : ثالث ثلاثة ، إن الجاحد أمر آخرنا جاحد أمر أولنا ، والزائد فينا كالناقص الجاحد أمرنا » إلى غير ذلك من الأخبار المشعرة بنجاستهم.

__________________

(١) رجال الكشي ص ١٤٩.

(٢) رجال الكشي ص ١٤٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب حد المرتد ـ الحديث ٤٠ من كتاب الحدود وفي الوسائل « كان كمن قال : إن الله ثالث ثلاثة » بدل « أو قال : ثالث ثلاثة ».

٦٧

ولعله لازم ما سمعته من المرتضى وغيره ، إلا أنه لا يخفى قصورها في جنب ما سمعته من الأدلة السابقة التي يمكن جريانها بل وغيرها هنا ، والله أعلم.

وأما المستضعف من كل فرقة فلتمام البحث فيه موضوعا وحكما مقام آخر ، وإن كان الذي يقوى في النفس الآن ويعضده السيرة والعمل إجراء حكم فرقته عليه.

وليس من الكافر ولد الزنا قطعا ، كما هو المشهور بين الأصحاب ، بل لعله إجماعي ، لندرة المخالف ومعروفية نسبه كما ستعرف ، بل هو لازم ما في الخلاف من الإجماع على تغسيله والصلاة عليه ، خصوصا بعد ملاحظة ذيل كلامه ، بل حكي عنه دعوى الإجماع على الطهارة ، وهو الحجة بعد اعتضاده بالسيرة القاطعة سيما في زماننا هذا ، فإن أكثر أولاد جواري من يقربنا من الرساتيق من الزنا ، مع عدم تجنب العلماء عنهم فضلا عن العوام ، وإجراء جميع أحكام المسلمين والمؤمنين عليهم بعد بلوغهم ووصفهم ذلك ، بل لا يخفى على من تتبع السيرة والتواريخ كثرة أولاد الزنا في بدء الإسلام ، ولم يعهد تجنب سؤرهم أو غيره من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام وأصحابهم ، بل المعهود خلافه ، بل قيل : قد ورد انه قد صار بعض أولاد الزنا مقبولا عند الأئمة عليهم‌السلام ، ومنهم من وفق للشهادة ، واعتضاده قبل البلوغ بأصالة الطهارة وعموماتها فيه وفي الملاقي أيضا ، وبهما مع عموم أدلة الإسلام والايمان والمسلمين والمؤمنين بعد البلوغ.

فما في السرائر ـ ان ولد الزنا قد ثبت كفره بالأدلة بلا خلاف بيننا ، بل قد يظهر منه انه من المسلمات ، كما عن المرتضى الحكم بكفره أيضا ، بل لعله الظاهر من قول الصدوق : « ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك » بل ربما قيل : إنه ظاهر الكليني أيضا ، حيث روى (١) ما يدل عليه ـ ضروري البطلان عقلا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الأسئار ـ الحديث ٢.

٦٨

ونقلا إن أريد كفره في الدنيا والآخرة وان فرض تحقق الايمان منه في نفس الأمر ، وفي غاية الضعف إن كان المراد أنه لا يوفق للايمان ، فلا يقبل منه لو أظهره ، أو المراد إجراء حكم الكفار عليه في الدنيا خاصة مع فرض إيمانه ، وان كان ربما يومي اليه ما ورد انه شر الثلاثة (١) وانه « لا يبغض عليا عليه‌السلام إلا ولد الزنا » (٢) وان « حب علي عليه‌السلام علامة طيب المولد » (٣) و‌ « بغضه علامة الزنا » (٤).

وقول الباقر عليه‌السلام في الموثق المروي (٥) عن ثواب الأعمال : « لا خير في ولد الزنا ، ولا في بشره ولا في شعره ولا في لحمه ولا في دمه ولا في شي‌ء منه ».

والصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير (٦) المروي عن عقاب الأعمال ومحاسن البرقي « ان نوحا عليه‌السلام حمل في السفينة الكلب والخنزير ولم يحمل فيها ولد الزنا ، والناصب شر من ولد الزنا ».

وفي‌ خبر ابن أبي يعفور (٧) المروي عن الكافي « لا يغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمام ، فان فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء » كقول أبي الحسن عليه‌السلام في خبر أبي حمزة بن أحمد (٨) بتفاوت يسير.

ونحوهما‌ خبر علي بن الحكم (٩) « لا تغتسل ، فإنه يغتسل فيه من الزنا ،

__________________

(١) البحار ـ ج ٥ ص ٢٨٥ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٦.

(٢) البحار ـ ج ٩ ص ٤١٤ من طبعة الكمپاني.

(٣) الغدير للأمينى ـ ج ٤ ص ٣٢٣ المطبوع بطهران وأخرجه عن النضرة للحافظ محب الدين الطبري ـ ج ٢ ص ١٨٩.

(٤) الغدير للأمينى ـ ج ٤ ص ٣٢٢ المطبوع بطهران.

(٥) البحار ـ ج ٥ ص ٢٨٥ ـ ٢٨٧ المطبوع بطهران عام ١٣٧٦.

(٦) البحار ـ ج ٥ ص ٢٨٥ ـ ٢٨٧ المطبوع بطهران عام ١٣٧٦.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف ـ الحديث ٤.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف ـ الحديث ١ وفي الوسائل عن حمزة بن أحمد كما في التهذيب ـ ج ١ ص ٣٧٣ من طبعة النجف.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف ـ الحديث ٣.

٦٩

ويغتسل فيه ولد الزناء ».

ومرسل الوشاء (١) عن الصادق عليه‌السلام « انه كره سؤر ولد الزناء واليهودي والنصراني والمشرك » إلى آخره. بناء على إرادة الحرمة من الكراهة بقرينة المعطوف ، وإلا لزم استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، أو المشترك في معنييه.

والأخبار (٢) الدالة على مساواة ديته لدية اليهودي ثمانمائة درهم ، بل في‌ خبر عبد الله بن سنان (٣) عن الصادق عليه‌السلام « كم دية ولد الزنا؟ قال : يعطى الذي اتفق » كالأخبار (٤) الدالة على أن الجنة طاهرة لا يدخلها إلا من طابت ولادته.

بل في‌ مرفوع الديلمي (٥) إلى الصادق عليه‌السلام المروي عن العلل قال : « يقول ولد الزناء يا رب فما ذنبي؟ فما كان لي في أمري صنع ، قال : فيناديه مناد يقول : أنت شر الثلاثة ، أذنب والداك فتبت عليهما ، وأنت رجس ، ولن يدخل الجنة إلا طاهر » إلى غير ذلك.

لكنها جميعا كما ترى قاصرة عن إثبات خلاف ما هو مقتضى أصول المذهب وقواعده المعول عليها هنا عند سائر أصحابنا عدا من عرفت كما حكاه في المختلف قابلة للحمل على إرادة الخبث الباطني المانع من توفيقه لإظهار الايمان غالبا ، وعلى كراهة مباشرة سؤره ، وأخبار الدية لم ينقل العمل بها من أحد ممن لم يقل بكفره ، كما أن عدم دخول الجنة لو قلنا به لا دلالة فيه على المطلوب ، إذ لعل الله أعد له ثوابا آخر.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الأسئار ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب ديات النفس من كتاب الديات.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب ميراث الملاعنة ـ الحديث ٣ من كتاب الإرث.

(٤) البحار ـ ج ٥ ص ٢٨٥ و ٢٨٧ المطبوع بطهران عام ١٣٧٦.

(٥) البحار ـ ج ٥ ص ٢٨٥ المطبوع بطهران عام ١٣٧٦.

٧٠

كما لعله يومي اليه‌ خبر أبي بكر (١) المروي عن المحاسن ، قال : « كنا عنده ومضى عبد الله بن عجلان ، فقال عبد الله بن عجلان : معنا رجل يعرف ما نعرف ، ويقال : إنه ولد زنا ، فقال : ما تقول؟ فقلت : إن ذلك ليقال ، فقال : إن كان كذلك بني له بيت في النار من صدر يرد عنه وهج جهنم ، ويؤتي برزقه ».

وفي‌ خبر ابن أبي يعفور (٢) المروي عن الكافي قال : « قال الصادق عليه‌السلام : ولد الزناء يستعمل ، إن عمل خيرا جزي به ، وإن عمل شرا جزي به » الحديث. والله أعلم وأرأف بنا وبه ذلك اليوم.

وفي نجاسة عرق الجنب من الحرام ولو مع عدم الانزال حين الفعل أو بعده وعرق الإبل الجلالة والمسوخ كالقرد والدب خلاف بين الطائفة ، أما الأول فالصدوقان في الرسالة والفقيه وعن الأمالي والشيخان في المقنعة والخلاف والنهاية وظاهر التهذيب والاستبصار وابن الجنيد والقاضي على ما حكي عنهما والمحدث البحراني في الحدائق وشيخنا في كشف الغطاء والمعاصر في الرياض والنراقي في اللوامع على النجاسة ، وإن لم ينص جماعة منهم عليها ، لكنهم نصوا على ما يقتضيها هنا من عدم جواز الصلاة ونحوه ، وهو ظاهر الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح أو صريحه ، بل نسبه فيه إلى الشهرة العظيمة ، كما انه في الرياض نسبه إلى الأشهر بين المتقدمين تارة ، وإلى الشهرة العظيمة بينهم أخرى ، وفي اللوامع إلى كثير من الطبقة الثانية ومن قدمنا ذكرهم من القدماء ، بل في الغنية والمراسم نسبته إلى أصحابنا ، بل في الخلاف الإجماع عليه ، بل عن الأمالي ان من دين الإمامية الإقرار به ، وهو كسابقه إجماع أو أعلى منه.

فهما الحجة حينئذ بعد اعتضادهما بالشهرة المحكية ، بل وبظاهره من الديلمي وابن زهرة ، وان كان فتوى الأول منهما بالطهارة يؤذن بعدم إرادته الإجماع المصطلح‌

__________________

(١) البحار ـ ج ٥ ص ٢٨٧ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٦.

(٢) البحار ـ ج ٥ ص ٢٨٧ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٦.

٧١

منه ، فيحمل على الشهرة العظيمة ، وبوجوده في نحو رسالة علي بن بابويه والنهاية التي هي غالبا متون أخبار.

وبما في‌ الفقه الرضوي (١) « إن عرقت في ثوبك وأنت جنب وكانت الجنابة من حلال فتجوز الصلاة فيه ، وان كانت حراما فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل ».

وبما قد يشعر به‌ قول أبي الحسن عليه‌السلام في مرسل علي بن الحكم (٢) : « لا تغتسل من غسالة الحمام ، فإنه يغتسل فيه من الزنا » كقوله عليه‌السلام (٣) وقد قيل : إن أهل المدينة يقولون : إن فيه شفاء من العين : « كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما ثم يكون فيه شفاء من العين ».

وبما في‌ الذكرى روى محمد بن همام (٤) بإسناده إلى إدريس بن زياد الكفرتوثي « أنه كان يقول بالوقف فدخل سر من رأى في عهد أبي الحسن عليه‌السلام وأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب ، أيصلي فيه؟ فبينما هو قائم في طاق باب لانتظاره عليه‌السلام حرّكه أبو الحسن عليه‌السلام بمقرعة وقال مبتدء : إن كان من حلال فصل فيه ، وإن كان من حرام فلا تصل فيه » الحديث.

وبما في البحار (٥) نقلا من كتاب‌ المناقب لابن شهراشوب من كتاب المعتمد في الأصول ، قال : « قال علي بن مهزيار : وردت العسكر وأنا شاك في الإمامة فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم من الربيع إلا أنه صائف ، والناس عليهم ثياب‌

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام ص ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١٢ وفي ضبط إدريس ابن زياد الكفرتوثي اختلاف فراجع تنقيح المقال للمامقانى.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

٧٢

الصيف ، وعلى أبي الحسن عليه‌السلام لبابيد ، وعلى فرسه تخفاف لبود ، وقد عقد ذنب فرسه ، والناس يتعجبون منه ويقولون : ألا ترون إلى هذا المدني وما قد فعل بنفسه؟ فقلت : لو كان إماما ما فعل هذا ، فلما خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا إذا ارتفعت سحابة عظيمة هطلت ، فلم يبق أحد إلا ابتل ثم غرق بالمطر ، وعاد عليه‌السلام وهو سالم من جميعه ، فقلت في نفسي : يوشك أن يكون هو الامام ، ثم قلت : أريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب ، فقلت : إن كشف وجهه فهو الامام ، فلما قرب مني كشف وجهه ، ثم قال : إن كان عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا تجوز الصلاة فيه ، وإن كانت جنابته من حلال فلا بأس به ، فلم يبق في نفسي بعد ذلك شك » الحديث.

وبما في‌ البحار أيضا (١) أني وجدت في كتاب عتيق من مؤلفات قدماء أصحابنا ، بل فيما حضرني من نسخة البحار أظنه مجموع الدعوات لمحمد بن هارون بن موسى التلعكبري رواه عن أبي الفتح غازي بن محمد الطريفي عن علي بن عبد الله الميموني عن محمد بن علي بن معمر عن علي بن مهزيار بن موسى الأهوازي عنه عليه‌السلام مثله ، وقال : « إن كان من حلال فالصلاة في الثوب حلال ، وإن كان من حرام فالصلاة في الثوب حرام » إلى آخره.

وبما عن موضع من المبسوط من نسبته إلى رواية بعض أصحابنا ، وعن آخر منه أيضا انه‌ « إن عرق فيه وكانت الجنابة من حرام روى أصحابنا أنه لا يجوز الصلاة ، فإن كانت من حلال لم يكن به بأس ».

قلت : لكن عدم حجية الرضوي عندنا وضعف الاشعار السابق وقصور دلالة الباقي ـ لأعمية حرمة الصلاة من النجاسة ، وعدم وضوح سند خبر الذكرى والمناقب ،

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

٧٣

وظهور ضعف سند الموجود في الكتاب العتيق بعلي بن عبد الله الميموني ، فإنه فاسد الاعتقاد والرواية كما عن النجاشي ، وغاليا ضعيفا كما عن ابن الغضائري ، وخلو الكتب المعتمدة عنها ، وعدم ورود خبر يعضدها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الماضين عليهم‌السلام مع كثرة الرواة واللواط والزناة وإقامة الحدود عليهم في تلك الأوقات ، وفتوى المتأخرين بخلافها وان كان لاحتمال بل ظهور عدم عثورهم عليها وغير ذلك ـ يمنع من تحكيمها على ما دل على الطهارة من الأصل بل الأصول والعمومات ، خصوصا الوارد منها في الأسئار.

وترك الاستفصال في‌ خبر عمرو بن خالد (١) عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم‌السلام قال : « سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الجنب والحائض يعرقان في الثوب حتى يلصق عليهما ، فقال : إن الحيض والجنابة حيث جعلهما الله عز وجل ليس في العرق ، فلا يغسلان ثوبهما ».

وخبر أبي بصير (٢) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتى يبتل القميص ، فقال : لا بأس ، وإن أحب أن يرشه بالماء فليفعل ».

وإطلاق‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر حمزة بن حمران (٣) : « لا يجنب الثوب الرجل ، ولا يجنب الرجل الثوب ».

وأما ما في الرياض وغيره ـ من انجبار قصور أسانيدها بالشهرة العظيمة بين القدماء والإجماعات المحكية ، ودلالتها بعدم القول بالفصل هنا ، إذ ليس أحد ممن قال بالطهارة منع من الصلاة فيه ، فالقول حينئذ بحرمة الصلاة خاصة دون باقي أحكام النجاسة إحداث قول في المسألة ـ فقد يناقش فيه أولا بمنع تحقق عظمة الشهرة ، لأن جملة من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

٧٤

القدماء لم تنقل فتاواهم لنا في ذلك ، كالمرتضى وغيره ، وظاهر ابن حمزة التردد ، حيث نسب النجاسة إلى أحد القولين ، كما أن الحلبي في إشارة السبق قال : فيه خلاف ، بل لعله ظاهر ابن زهرة أيضا ، حيث نسبه إلى إلحاق الأصحاب ، وصريح المراسم الطهارة بعد أن نسب النجاسة إليهم أيضا ، وهو مؤذن بعدم إرادته الإجماع منه ، ومقنعة المفيد ـ مع أنه لا صراحة فيها بالنجاسة ، بل لعل ظاهر ذيلها ذكر الاحتياط في الطهارة كالتهذيب ـ قد حكى عنه في السرائر وغيرها رجوعه عن ذلك في رسالته إلى ولده ، وظاهر المحكي عن المبسوط التردد ، بل في صريح الذكرى وظاهر السرائر وعن الدلائل حكاية قوة الكراهة عن المبسوط بعد أن نسب عدم جواز الصلاة إلى رواية أصحابنا ، ويؤيده عدم ذكره له في تعداد النجاسات في الجمل ، ولذا قال في السرائر : « إن من قال بالنجاسة قد رجع عنه في كتاب آخر له ، فصار ما اخترناه إجماعا » انتهى.

فانحصر الخلاف حينئذ في الصدوقين والمحكي عن ابني الجنيد والبراج ، وتحقق عظمة الشهرة بهؤلاء كما ترى ، خصوصا مع عدم ثبوته عن الأخيرين إلا بالنقل الذي هو محل الخطاء.

ومن هنا نسب القول بالطهارة في المختلف والذكرى وعن الكفاية إلى المشهور ، بل في المحكي عن ابن الجنيد ما يشعر بإرادة الاحتياط ، حيث قال بعد أن ذكر وجوب غسل عرق الجنب من حرام : « وكذلك عندي الاحتياط ، إن كان جنبا من احتلام ثم عرق في ثوبه » انتهى ، لظهور تشبيهه بما ذكرنا.

ويؤيد ذلك كله نسبة القول بالطهارة في المختلف والذكرى وعن الكفاية إلى المشهور من غير تقييد له بالمتأخرين ، بل عن شرح الموجز ان القول بالنجاسة للشيخ ، وهو متروك ، كما انه بذلك كله وإعراض عامة المتأخرين كما حكاه غير واحد يوهن إجماع الخلاف والأمالي أيضا.

٧٥

وأما ثانيا فبمنع دعوى عدم القول بالفصل إن أراد القطعي منه ، بل والظني أيضا مع عدم حجيته في نفسه عندنا ، لأنه وإن كان لم يصرح أحد ممن قال بالطهارة بعدم جواز الصلاة لكن جماعة ممن نسب إليهم النجاسة لم يصرحوا بها ، بل اقتصروا على ذكر حرمة الصلاة إذا كانت الجنابة من حرام ، كالصدوقين والشيخ في الخلاف ، بل هو معقد إجماع الأخير كالنسبة إلى دين الإمامية في الأمالي ، وذلك منهم إن لم يكن ظاهرا في إرادة حرمة الصلاة خاصة ، كفضلات ما لا يؤكل لحمه فلا ريب في كونه محتملا ، سيما مع كون ما تخيل مستندا لهم من الرضوي وخبري الذكرى والبحار لا تعرض فيها لحرمة غير الصلاة ، بل قد يدعى ظهورها فيه ، لاستبعاد التعبير بالحرمة في جميعها عن النجاسة.

بل قد تشعر عبارة الصدوق في الفقيه بذلك ، قال فيه : « ومتى عرق في ثوبه وهو جنب فليتنشف فيه إذا اغتسل ، وان كانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة فيه ، وان كانت من حرام فحرام الصلاة فيه » لظهور أن موضوع الحكمين الأخيرين في كلامه الثوب الذي أمر بالتنشف فيه.

فبان لك حينئذ قوة القول بالطهارة وفاقا للمراسم والسرائر ومن تأخر عنهما ، إلا أن الاحتياط لا ينبغي تركه في سائر ما اشترط بالطهارة ، خصوصا الصلاة ، سيما بعد ما عرفت من قيام احتمال التعبد فيها خاصة وان كان طاهرا ، بل لعله لا يخلو من وجه ، للإجماعين والأخبار المتقدمة ، فتأمل جيدا.

ولا يلحق بالجنب من حرام المحتلم قطعا وإجماعا ، فما عن ابن الجنيد من الاحتياط في عرقه ضعيف جدا لا نعرف له مأخذا يعتد به ، ولقد أجاد بعض المحققين بقوله : « لا نعرف له وجها ولا موافقا ».

٧٦

ولا الحائض والنفساء وغيرهما لطهارة عرقهما كالمجنب من حلال إجماعا ونصوصا (١).

نعم لا فرق في المجنب من حرام بين الرجل والمرأة ، ولا بين القبل والدبر ، ولا بين الحي والميت ، ولا بين الزناء واللواط ووطء البهائم ولا بين الانزال والإدخال إلى غير ذلك مما يدخل تحت المحرم ذاتا.

أما المحرم عرضا كوطء الحائض والنفساء ونحوهما فوجهان ، أقواهما العدم حتى المظاهر ، وان استشكل فيه في المنتهى اقتصارا على المتيقن ، وخصوصا فيما كان عروض التحريم لمرض أو صوم معين أو نذر ونحوهما.

ولو وطأ الصبي أجنبية ففي نجاسة عرقه إشكال كما في المنتهى ، ينشأ من عدم الحرمة في حقه ، ومن إرادة الحرمة في حد ذاته.

ومنه يظهر الحال في المكره والمكرهة إلى غير ذلك من الفروع الظاهرة المأخذ ، فتأمل جيدا.

وأما الثاني وهو عرق الإبل الجلالة فنجاسته خيرة المقنعة والنهاية والمنتهى وكشف اللثام والحدائق واللوامع وظاهر المدارك والذخيرة وعن المبسوط والقاضي ، بل ربما نسب إلى ظاهر الكليني لروايته (٢) ما يدل عليها ، بل حكاه في اللوامع عن الصدوقين أيضا ، بل في الرياض أنه الأشهر بين القدماء ، وفي الغنية والمراسم نسبته إلى أصحابنا وان اختار ثانيهما الندب ، لقول الصادق عليه‌السلام في صحيح هشام بن سالم (٣) : « لا تأكلوا لحوم الجلالة ، وإن أصابك من عرقها فاغسله » وفي‌ حسن حفص ابن البختري كالصحيح (٤) « لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة ، وإن أصابك من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

٧٧

عرقها فاغسله » والمرسل (١) في الفقيه « نهى عن ركوب الجلالات وشرب ألبانها ، وقال : إن أصابك من عرقها فاغسله ».

وطهارته صريح المراسم والنافع وكشف الرموز والمختلف والذكرى والبيان والدروس والموجز وعن نهاية الأحكام والتحرير والمهذب والتنقيح وغيرهم من المتأخرين ، وهو الأقوى ، وكأنه ظاهر السرائر بل في المختلف والذكرى والبحار وعن غيرها نسبته إلى الشهرة من غير تقييد ، بل في المدارك إلى الديلمي والحلي وسائر المتأخرين ، كالذخيرة إلى جمهورهم ، بل عن كشف الالتباس أن القول بالنجاسة للشيخ ، وهو متروك للأصل بل الأصول حتى في العرق نفسه ، لطهارته قبل خروجه إلى مسمى العرق ، فيستصحب حينئذ ، والعمومات خصوصا ما دل منها على طهارة سؤرها المتقدم في باب الأسئار ، وانه تابع لطهارة الحيوان ، إذ هي طاهرة العين في حال الجلل اتفاقا في جامع المقاصد وعن الدلائل ، فيكون عرقها طاهرا ، إما لاقتضاء ما دل على طهارتها من الإجماع المحكي وغيره طهارته ، لملازمته غالبا للحيوان جافا أو رطبا ، بل هو من جملة توابع الحيوان المحكوم بطهارته المستفاد منها طهارته جميعه حتى رطوباته ، فيكون قبل بروزه إلى مسمى العرق وبعده طاهرا قطعا ، وإما لاقتضاء ما دل على طهارة سؤره طهارته ، لما عرفته من ملازمته للحيوان غالبا.

بل في حاشية هامش ما حضرني من نسخة الوسائل وكتب بعدها أنه منه « استدل علماؤنا على كراهة سؤر الجلال بحديث هشام بن سالم (٢) المتقدم سابقا ، وأحاديث ما لا يؤكل لحمه (٣) ودلالة الثاني واضحة ، ودلالة الأول مبنية على أنهم أجمعوا على تساوي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الأسئار.

٧٨

حكم العرق والسؤر هنا ، بل في جميع الأفراد ، والفرق إحداث قول ثالث ، وأيضا فإن بدن الحيوان لا يخلو أبدا من العرق إما جافا وإما رطبا ، فيتصل بالسؤر ، فحكمه حكمه ، وعلى كل حال فضعف الدلالة منجبر بأحاديث ما لا يؤكل لحمه » انتهى. وفيه شواهد على المقام خصوصا ما سمعته من الإجماع.

هذا كله مع إمكان التأييد باستبعاد الفرق بينها حينئذ وبين ما حرم أكله أصالة من الحيوانات وبين باقي جلال الحيوان ، لعدم خلاف في طهارته من غير الإبل إلا ما حكي عن النزهة ، بل وبين باقي فضلاته نفسه مما لا يدخل تحت اسم نجس كالبول.

وبفحوى ما دل على حل أكله بعد استبرائه المدة من غير أمر بتطهير جسده لو كان قد عرق ، ودعوى حصول الطهارة له تبعا ممنوعة ، إذ أقصى ما يستفاد عود الحل بتلك المدة لا طهارة بدنه من النجاسة العارضية ، وليس ذا من زوال العين المطهر للحيوان ، لكون المفروض وجوده جافا.

وبفحوى عدم حرمة استعمالها بالركوب ، وحمل الأثقال ونحوها مما هو مستلزم للعرق غالبا مع المباشرة من غير أمر بالتجنب أو التحفظ عن العرق ، إلى غير ذلك من المؤيدات الكثيرة ، على أن الصحيح الأول ومرسل الفقيه لا اختصاص فيهما بالإبل ، وحمله على الأعم قد عرفت انه لا قائل به مما عدا النزهة.

واحتمال التخصيص الذي لا يمنع حجية العام في الباقي يدفعه عدم جوازه إلى الواحد عندنا ، خصوصا في المخصص المنفصل ، وكذا احتمال إرادة العهد من الجمع أو عود الضمير إلى صنف من الجمع ، وهو الإبل ، فلا يكون حينئذ عدم وجوب الغسل في غير عرق الإبل تخصيصا حتى يلزم المحذور السابق ، إذ هو تكلف وتشهي وتعسف ، فلا بد حينئذ من حمل الأمر فيه على غير الوجوب ، وإلا كان الخبر من الشواذ ، ومجاز الندب أولى من مجاز القدر المشترك على عموم المجاز قطعا ، لشيوعه حتى قيل : إنه مساو‌

٧٩

للحقيقة ، فيكون قرينة على إرادة الندب منه أيضا بالنسبة للإبل في الحسن ، واحتمال حمله على الوجوب ، وجعله قرينة على إرادة القدر المشترك من الأول ليس بأولى مما ذكرنا ، بل هو أولى ، لما عرفت من الأمور السابقة وغيرها نحو إعراض المشهور عن الوجوب فيها أيضا ، بل حملهم الأمر في الصحيح السابق على الندب بالنسبة إلى غير جلال الإبل مع عدم ظهور معارض يختص به عن الإبل يشرف الفقيه على القطع باتحاد الحال فيهما.

ومن ذلك كله ظهر لك ما في كلام المعاصر في الرياض ، حيث قال بعد ذكره الصحيحين مستند النجاسة : « وبهما يخص أدلة الطهارة التي تمسك بها الجماعة المتأخرة البالغة حد الشهرة ، لكنها بالإضافة إلى شهرة القدماء مرجوحة على فرض التساوي ، فترجيحها عليها يحتاج إلى دلالة واضحة ، وهي منتفية ، والأصل والعمومات بالصحيحين المرجحين بشهرة القدماء مخصصة ، وهما أدلة خاصة ، وتلك أدلة عامة ، والخاص مقدم بالضرورة ، فالمرجح مع الشهرة القديمة البتة » انتهى.

مع ما فيه أيضا من عدم تحقق ما ادعاه من الشهرة ، إذ ليس هو إلا فتوى الشيخين والقاضي منهم ، وإلا فغيرهم إن لم يظهر منهم الطهارة ، لعدم ذكرهم له في تعداد النجاسات أو لغيره لم يظهر منهم النجاسة ، بل لعل ظاهر الوسيلة والغنية عدمها ، وقد سمعت ما في كشف الالتباس ، ورواية الكليني للصحيح لا دلالة فيها على اختياره النجاسة وإلا لذكره عنوانا كما هي عادتهم فيما يختارونه ، مع أنه لعله أراد الندب منها ، كما أن رواية الصدوق للمرسل السابق كذلك ، وان كان قد ذكر في أول كتابه أنه لا يذكر فيه إلا ما يعمل به ، لكنه مع ما قيل من رجوعه عن ذلك محتمل لأن يكون عمله فيها على جهة الندب ، ولذا لم تعرف الحكاية عنه وعن والده والكليني هنا ، حتى في المختلف المعد لمثل ذلك ، بل ظاهره فيه عدم قولهم بالنجاسة ، والله أعلم.

٨٠