جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

فلا حاجة حينئذ في رده إلى دعوى جواز استعمال اللفظ في المعنيين اشتراكا أو حقيقة ومجازا أو إلى دعوى عموم المجاز أو الاشتراك تخلصا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو المشترك في معنييه بناء على ممنوعيته ، إذ هي موقوفة على القرينة ، والخصم مستظهر.

نعم لا بد من التزام ذلك بقرينة ما سمعت مع الشهرة العظيمة بين الأصحاب في مثل‌ صحيح الحلبي (١) عن الصادق عليه‌السلام « لا تأكل في آنية من فضة ، ولا في آنية مفضضة » مع إمكان عدمه أيضا وإن كان بمجاز آخر بدعوى إرادة الكراهة من خصوص « لا » في المعطوف ، ودعوى وجوب اشتراك المعطوف مع المعطوف عليه في مثل الحرمة والوجوب والندب وان تكرر مقتضياتها في محل المنع ، على انه يمكن دعوى الاستيناف فيه ، وأما نزع الصادق عليه‌السلام ضبة الفضة من الإناء بأسنانه وأمر أبي الحسن عليه‌السلام كسر القضيب الملبس فضة كنفي الرضا عليه‌السلام عن أن يكون لأبي الحسن عليه‌السلام مرآة ملبسة فضة حامدا لله بعد أن سئل عن ذلك فلا دلالة فيه على الحرمة حتى يحتاج إلى دعوى ترجيح الأدلة السابقة وصرفها بها للكراهة وإن كانت هي كذلك.

والأمر هيّن بعد أن عرفت ضعف الخلاف ، بل عدم تحققه ، نعم قيل بل لا خلاف أجده فيه بين القدماء والمتأخرين يجب اجتناب موضع الفضة إلا من معتبر المصنف فاستحبه وتبعه الطباطبائي في منظومته ، واستحسنه في المدارك والذخيرة ، لظاهر الأمر في الصحيح السابق وزيادة الصدوق في خبر بريد المتقدم معتضدا بما عرفت من عدم الخلاف وسالما عما يصلح للمعارضة ، ضرورة عدم صلاحية الأصل وترك الاستفصال في صحيح معاوية السابق لذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

٣٤١

ويلحق بالإناء المفضض الإناء المذهب في جميع ما تقدم وإن خلت عنه النصوص وأكثر الفتاوى ، كما اعترف به في المنتهى ، لكن الأصل كاف في جواز الاتخاذ ، والتسامح وحسن الاحتياط واحتمال الاستغناء بذكر المفضض عنه ، بل لعله ينساق إلى الذهن عند ذكره ، خصوصا بعد اقترانه بآنية الفضة كاف في الكراهة ، بل يمكن أن يدعى أولويته من المفضض أو مساواته ، بل هو كذلك.

ومنها يستفاد حينئذ وجوب العزل حينئذ ، بل في الذكرى احتمال المنع لأصل الاستعمال في ذي الضبة الذهب ، لقوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هذان محرمان على ذكور أمتي » وإن كان ضعيفا ، ولعل في خبر السرير (٢) والقرآن (٣) نوع إيماء إلى بعض ما ذكرنا ، كما انه تقدم سابقا ما يمكن استفادة كراهة مطلق المفضض منه أو ما عدا السيف وان لم يكن إناء بل قد عرفت الإطلاق من صاحب الحدائق ، والله أعلم.

وفي جواز اتخاذها أي أواني الذهب والفضة لغير الاستعمال من الذخر ونحوه تردد من الأصل مع عدم ظهور الأدلة فيه ، بل هي ظاهرة في الاستعمال ، ومن تعليل النبوي (٤) بأنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ، كقول الكاظم عليه‌السلام (٥) : « انها متاع الذين لا يوقنون » والنهي عن آنية الذهب والفضة وكراهتهما المحمول على أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة ، ولا ريب ان مطلق الاتخاذ أقرب من الاستعمال ، لأعميته منه ، ولأن النهي في الحقيقة نفي ، ونفي الحقيقة وكراهة طبيعتها يناسبه النهي عن أصل وجودها في الخارج ، على ان السارد للنصوص يظهر لديه إن لم‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٢.

(٤) كنز العمال ـ ج ٨ ـ ص ١٦ ـ الرقم ٣٦٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

٣٤٢

يقطع أن مراد الشارع ذلك ، أي النهي عن أصل وجودها في الخارج مستعدة للاستعمال بل في المنتهى أن تحريم استعمالها مطلقا يستلزم تحريم أخذها على هيئة الاستعمال كالطنبور ، وقد يؤيده أنه المناسب لإرادة حصول المطلوب ، كما أن عدمه معرض لخلافه ، وانه المناسب لما قيل من حكمة التحريم من حصول الخيلاء وكسر قلوب الفقراء والإسراف وان كان كما ترى ، إلى غير ذلك.

ولكن الأظهر المنع وفاقا للمشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، بل لا أجد فيه خلافا إلا من مختلف الفاضل ، واستحسنه بعض متأخري المتأخرين ، بل قد يظهر منه نفسه في المنتهى كالمصنف في المعتبر أنه لا خلاف عندنا في المسألة ، بل هو مخصوص بالشافعي أو أحد قوليه ، إذ ذلك بعد جبره لما عرفت واعتضاده به كاف في انقطاع الأصل السابق ، وفي بطلان دعوى عدم ظهور الأدلة في غير الاستعمال ، كما هو واضح ، هذا.

وقد يظهر من قواعد الفاضل بل ومن غيرها من كتب الأصحاب ان مما نحن فيه اتخاذها للتزيين ونحوه ، لكن قد يمنع ويدعى اندراجه في نحو الاستعمال الذي قد عرفت معلومية منعه ، إذ هو أعم من استعمالها في الظرف بها ، كما يشهد لذلك استثناء بعضهم أو شبهه اتخاذها للمشاهد والمساجد من حرمة الاستعمال.

وعلى كل حال فحيث ظهر حرمة الأواني استعمالا وقنية وغيرها كانت حينئذ كباقي الآلات المحرمة الهيئة المملوكة المادة ، فيجري فيها حينئذ بالنسبة إلى وجوب كسرها وعدم ضمان الأرش ، وعدم جواز بيعها أو بشرط الكسر فورا أو العلم به مع وثاقة المشتري أو مطلقا ، بل سائر أنواع نقلها بل رهنها وعاريتها وغير ذلك ما يجري في تلك ، فتأمل.

ولا يحرم استعمال غير الذهب والفضة من أنواع المعادن والجواهر ولو تضاعف‌

٣٤٣

أثمانها بلا خلاف أجده ، بل في كشف اللثام الاتفاق عليه ، للأصل المعتضد بالسيرة الذي لا يعارضه القياس المعلوم بطلانه عندنا ، مع إمكان إبداء الفرق بعدم إدراك العامة نفاستها ، وبأنها لقلتها لا يحصل اتخاذ الآنية منها إلا نادرا ، فلا يفضي إباحتها إلى اتخاذها واستعمالها بخلاف الأثمان ، فما عن أحد قولي الشافعي من تحريم المتخذ من الجواهر الثمينة كالياقوت ونحوه لأولويتها بكسر القلوب والخيلاء والسرف لا يصغى اليه.

وأواني المشركين أهل كتاب كانوا أولا وغيرها مما في أيديهم عدا اللحم والجلد طاهرة بلا خلاف أجده فيه إلا ما توهمه في الحدائق من خلاف الشيخ ، فحكى عنه عدم جواز استعمالها ، مع أن ما حكاه من العبارة ظاهرة أو صريحة في غير ما نحن فيه من البحث مع العامة في نجاستها بمباشرتهم أو لا بد من نجاسة أخرى غيرها ، وإلا فلا خلاف فيما نحن فيه بيننا ، بل في كشف اللثام الإجماع عليه ، وهو كذلك ، مضافا إلى الأصل والعمومات وخصوص المعتبرة الواردة في طهارة الثوب المعار للذمي (١) والثياب السابرية التي يعملها المجوس (٢) بل وثوب المجوسي نفسه (٣) وما يعمله الخياط والقصار اليهودي والنصراني (٤) وهي وإن كانت مشتملة على غير مفروض العبارة ، لكن عدم القائل بالفرق واشتمال بعضها على التعليل العام كاف في المطلوب ، كما أن ما عرفته من عدم الخلاف عندنا في الحكم بل الإجماع عليه إن لم تكن الضرورة كاف في رفع اليد عن النهي عن استعمال أوانيهم وثيابهم والأكل منها ، أو تنزيلها ، بل لعله الظاهر منها على المعلوم مباشرتهم لها.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٤ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧٣ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

(٤) الوافي باب التطهير من مس الحيوانات من أبواب الطهارة عن الخبث.

٣٤٤

ولذا قيد المصنف الطهارة بـ ( ما لم يعلم نجاستها ) بمباشرتهم أو غيرها ، فإنه إذا علم حكم بالنجاسة وان احتمل حصول الطهارة بل ولو ظن ما لم يكن معتبرا شرعا ، لعدم اعتبار ذلك هنا في قطع الأصل وان كان لغيبة يحكم بالطهارة معها لغيرهم ، كما أنه لا اعتبار بالظن عندنا في التنجيس أيضا ما لم يكن ناشئا عن أمارة شرعية من البينة وخبر العدل ، بل وإن كان خبر عدل على ما تقدم سابقا ، بل في الرياض « أنه لم ينهض دليل تطمئن به النفس على البينة أيضا » إلى آخره. وإن كان قد عرفت سابقا وضوح ضعفه ، كوضوح ضعف القبول بالاكتفاء بمطلق الظن ، فلاحظ وتأمل.

ولا يجوز استعمال شي‌ء من الجلود في صلاة أو غيرها إذا كانت جلود ذوي الأنفس السائلة حتى لو جعل وقود الحمام أو بوا (١) أو طعام كلب أو وصلة لقتل بعض الحيوانات المؤذية ونحو ذلك ، على إشكال في البعض ، بل في كشف الأستاذ جعلها جميعها من الانتفاع لا من الاستعمال حتى يحرم ، وإن كان فيه منع ، وبعد التسليم فهو يحرم مع قصده كالاستعمال إلا ما كان طاهرا في حال الحياة لا كالكلب ونحوه ذكيا تذكية شرعية ، إذ هو بدون ذلك ميتة ، سواء كان قابلا لها فلم تقع عليه ، أو غير قابل ، وهو مغن عن القيد الأول ، لأن غير الطاهر لا تقع عليه ، وقد تقدم سابقا في النجاسات حرمة استعمال الميتة في الرطب واليابس ونجاستها في الصلاة وغيرها من غير فرق بين الدبغ وعدمه ، وبيان ضعف المحكي عن الصدوق وأبي علي ، وإن مال اليه بعض متأخري المتأخرين.

نعم ظاهر المصنف كصريح بعضهم بل هو المشهور كما قيل توقف الاستعمال على ثبوت التذكية ولو ببعض الأمارات الشرعية ، أما مع الجهل بها فلا يجوز الاستعمال ، بل هو ميتة فيه وفي النجاسة وفي غيرهما ، لاقتضاء الشك في الشرط الشك في المشروط ، مضافا‌

__________________

(١) البو : جلد ولد الناقة يحشى تبنا أو غيره فيقرب من أمه فتخدع وتعطف عليه فتدر.

٣٤٥

إلى أصالة عدم تحقق الشرط الواضح ضعف المناقشة في حجيتها بما هو محرر (١) في محله من أدلة الاستصحاب ، كمعارضتها بأصالة عدم الموت حتف الأنف التي قد ترجح عليها باعتبار اعتضادها بأصالة الطهارة ، ضرورة موافقة الموت حتف الأنف بعد تحقق خروج نفس الحيوان لمقتضى الأصل ، فلا ينفى به ، إذ غيره هو الذي يحتاج إلى سبب زائد من تذكية أو قتل ونحوهما في تحققه بخلافه هو ، وأصالة الطهارة مع معارضتها بأصالة بقاء الشغل في مثل العبادة ونحوها مقطوعة بأصالة عدم التذكية ، إذ هي كالواردة عليها حينئذ ، على أن نفيها للتذكية بالواسطة ، بخلاف نفي الطهارة بأصالة عدم التذكية ، فتأمل.

وللموثق (٢) « وان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وكل شي‌ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح » كالحسن (٣) « يكره الصلاة في الفراء إلا ما صنع في أرض الحجاز إلا ما علمت منه ذكاته ».

والخبر (٤) « عن جلود الفراء يشتريها الرجل من سوق من أسواق الجبل يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما عارفا ، قال : عليكم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، فإذا رأيتم المسلمين يصلون عليه فلا تسألوا عنه ».

ومنه كغيره من الأخبار الكثيرة جدا بل كادت تكون متواترة يستفاد طهارة ما يؤخذ من يد المسلم وان علم سبقها بيد كافر من غير فرق بين المسلم المخالف وغيره مستحل ذبائح أهل الكتاب أولا مستطهر الجلد بالدبغ أولا ، للسيرة المستقيمة ، ومحكي الإجماع ، وإطلاق الأخبار إن لم يكن ظاهرها ، وسهولة الملة وسماحتها ، وعدم العسر‌

__________________

(١) وفي النسخة الأصلية « محرز » بدل « محرر ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب لباس المصلي الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧ وفي الوسائل « غير عارف » بدل « عارفا ».

٣٤٦

والحرج فيها ، ومساواته بل هو منه لما حكي عليه الإجماع من حل ذبائح العامة مع عدم رعاية ما يلزم عندنا في الذبح من الشروط وغير ذلك.

فما عن الفاضل من التوقف في طهارة الموجود في يد مستحل الميتة بالدبغ ، بل ظاهر الذكرى الحكم بالنجاسة ضعيف جدا بل معلوم الفساد ، بل يستفاد من غيره طهارة ما في يد غير المعلوم إسلامه إذا كان السوق سوقهم والبلاد بلادهم وهم أغلب من الكفار ، ففي الموثق كالصحيح (١) « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام ، قلت : فان فيها غير أهل الإسلام ، قال : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » مضافا إلى جريان أحكام الإسلام على مثله ممن وجد في أرض المسلمين من رد السلام وتغسيله ونحوه حتى يعلم انه من غيرهم.

بل قد يقال بطهارة المطروح في بلادهم وأرضهم وإن لم يكن عليه يد لكن إذا كان عليه آثار الاستعمال بأي نحو كان مما لا يغتفر في جلد الميتة ، وفاقا للمدارك وكشف الأستاذ واللوامع ، بل في الأخير نسبته إلى ظاهر المعتبر ومعظم الطبقة الثالثة ، تحكيما للظاهر على الأصل كما يومي اليه الخبر السابق.

وخبر السكوني (٢) عن الصادق عليه‌السلام « ان أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يقوم ما فيها ثم يؤكل ، لأنه يفسد وليس له بقاء ، فان جاء طالبها غرموا له الثمن ، قيل : يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي ، قال : هم في سعة حتى يعلموا » لظهور انسياق بلاد الإسلام من الخبر المذكور.

بل قد يرشد إليه في الجملة‌ الصحيح عن حفص بن البختري (٣) قال : « قلت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الذبح الحديث ١ من كتاب الحج.

٣٤٧

لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل ساق الهدي فعطب في موضع لا يقدر على من يتصدق به عليه ، قال : ينحره ويكتب كتابا يضعه عليه ليعلم من مر به أنه صدقة » حيث ظهر منه جواز الاعتماد على القرائن غير اليد.

أما ما كان مطروحا ولا أثر استعمال عليه أو كان في يد كافر لم يعلم سبق يد مسلم عليه أو أرضهم وسوقهم وبلادهم فهو ميتة لا يجوز استعماله ، للأصل ، وظاهر بعض المعتبرة السابقة.

فما في المدارك ـ من الحكم بطهارة الجلد المطروح حتى يعلم أنه ميتة ، تمسكا بنحو‌ الصحيح (١) « عن الخفاف التي تباع في السوق ، قال : اشتر وصل حتى تعلم أنه ميتة » وبقاعدة الطهارة بعد تعارض الأدلة ، إذ هو حينئذ كالدم المشتبه ـ ضعيف جدا إن أراد بالمطروح غير ما ذكرنا كالذي في غير بلاد الإسلام ، أو فيها لكن لا أثر عليه ، لعدم الشاهد له بعد تنزيل الخبر المذكور ونظائره على بلاد الإسلام وسوقهم كما هو الظاهر منها ، وانقطاع قاعدة الطهارة بأصالة عدم التذكية.

على أنه قد يقال : المتجه بعد تسليم تعارض الأدلة من الأصول وغيرها عدم الحكم بالطهارة مثلا أيضا ، لعدم ثبوت شرطها ، لا لثبوت العدم باستصحاب ونحوه ، وهو كاف قطعا ، نعم لا ينجس حينئذ ما يلاقيه ، اللهم إلا أن يدعى أن قاعدة الطهارة يكفي في تحققها عدم العلم بالنجاسة مع عدم الحصر إن قلنا به أيضا ، بل أكثر موارد قاعدة الطهارة من هذا القبيل ، إلا أن يفرق باشتراطها هنا بالتذكية بخلافها في غيره ، فإن النجاسة بالحقيقة هي المشروطة لا الطهارة ، فتأمل جيدا فإنه لعلك به مع ملاحظة ما ذكرنا تستفيد الجمع بين الفتاوى كالنصوص ، فتخرج المسألة عن الخلاف حينئذ ، والله أعلم ، ويأتي إن شاء الله مزيد تحقيق في باب الصلاة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

٣٤٨

ويستحب اجتناب جلد ما لا يؤكل لحمه من ذي النفس الذي تقع عليه التذكية حتى يدبغ بعد ذكاته كالسباع ، فإنها مما تذكى للإجماع المحكي عن الفاضلين والشهيد ، وموثق سماعة (١) « سألته عن جلود السباع ينتفع بها ، قال : إذا رميت وسميت فانتفع بجلده » كموثقه الآخر (٢) « سألته عن تحريم السباع وجلودها ، فقال : أما اللحوم فدعها ، وأما الجلود فاركبوا عليها ولا تصلوا فيها ».

وبذلك ينقطع أصالة عدم التذكية بناء على أنها أمر شرعي كما يشهد له اختلاف أفرادها من ذكاة السمك والجراد وغيرهما ، بل ما كان تذكيته الذبح قد اعتبر الشارع فيه من التسمية والاستقبال ونحوهما ما به خرج عن إرادة المعنى اللغوي بحيث ينتفى الاسم بانتفائها ، ويندرج تحت الميتة لا المذكى النجس مثلا.

نعم قد يقال بعدم الاحتياج إلى أزيد مما ثبت من اعتباره في المأكول من ذي النفس متى ثبت كون الحيوان مما يقبل التذكية حتى يدل دليل على الزيادة ، فتأمل جيدا.

بل وكذا إن قلنا إن التذكية لغوية لكنها من الأسباب الشرعية التي رتب الشارع عليها أحكاما عديدة ، فمع الشك في سببيتها بالنسبة إلى أحد أفراد موضوعها ومحلها فالأصل عدمها أيضا ، إلا أنه قد يمنع الشك حينئذ ويدعى ترتب الأحكام على مسمى التذكية ، فيكون الأصل بالعكس ، بل يؤيده ما عن القاموس والصحاح أنها الذبح ، لكن العرف والشرع يأباه ، إذ الذبح فيهما أعم من التذكية كما لا يخفى على من لاحظ الأدلة بل واللغة أيضا ، وما عن القاموس والصحاح تفسير بالأعم كما هو دأب أهل اللغة ، أو أن المراد الذبح الشرعي المخصوص.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ٣ من كتاب الصلاة مع اختلاف كثير.

٣٤٩

ومن الغريب احتمال أن التذكية الموت بغير حتف الأنف حتى أنه لو قد الحيوان نصفين على عكس القبلة وعدم التسمية كان مذكى ، إلا أن يقوم إجماع ونحوه على عدمه كاحتمال أن الموت مانع ، ومع الموت بغير حتف الأنف يشك في دخوله تحت اسمه ليتبعه الحكم ، إذ هما من الخرافات.

بل لعل الاحتمال السابق ـ أي أن التذكية ليست شرعية لا يحتاج في معناها ولا محلها إلى الشرع ، بل المحتاج اليه منه نفس الحكم المترتب على ذلك ، فإذا قال مثلا : المذكى طاهر لم يحتج بعد إلى شي‌ء آخر ـ كذلك أيضا ، إذ هو أيضا واضح الفساد ، لأنه أصل مقابلة الموت بالتذكية انما هو من الشرع ، وإلا فالموت يقابله الحياة لا التذكية ، على أنه قد يمنع حينئذ عليه عموم الدليل لكل مذكى بحيث يجري عليه الأحكام وإن بعد ، وقوله تعالى (١) ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) يراد به بالنسبة إلى ما يؤكل لحمه قطعا ، كما يدل عليه المستثنى منه.

فالأقوى حينئذ التمسك بأصالة عدم التذكية في كل حيوان شك في قابليته لها وعدمه ، فالمسوخ حينئذ والحشرات باقية على مقتضاها حينئذ ، لعدم الدليل ، فالقول بها فيها كالقول بعدمها في السباع لا يصغى اليه كما يأتي مزيد تحقيق ذلك في محله في باب الصيد والذباحة إن شاء الله. وما في الحدائق « الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم ان ما عدا الكلب والخنزير والإنسان من الحيوانات الطاهرة تقع عليها الذكاة » إلى آخره ، لم نتحققه ، بل المتحقق خلافه.

وأما ما في المتن والقواعد وغيرهما من استحباب الاجتناب كالذي في المعتبر والمختلف من كراهة الاستعمال قبل الدبغ فلم أقف على ما يقتضي شيئا منهما عدا الخبر الذي ستسمعه ، والتفصي من شبهة القول بوجوب الاجتناب قبل الدبغ المحكي عن الشيخ ،

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٤.

٣٥٠

بل الشيخين ، بل المرتضى ، بل في كشف اللثام عن الأكثر ، بل في الذكرى عن المشهور ، بل هو اختاره في البيان ، سواء كان ذلك منهم لتوقف الطهارة عليه كما يفهم من المنتهى وجامع المقاصد ، أو التعبد المحض كما يفهم من غيرهما ، وإن كان على أي التقديرين في غاية الضعف ، إذ هو مع انه مناف للأصل وإطلاق أدلة الطهارة السابقة لم نعثر على ما يدل عليه أيضا سوى ما في كشف اللثام من أنه‌ روي في بعض الكتب عن الرضا عليه‌السلام « دباغة الجلد طهارته » وهو ـ مع قصوره عن إثبات المطلوب من وجوه ـ محتمل (١) لإرادة زوال الزهومات ونحوها بالدبغ من الطهارة فيه ، على أنه لا ينطبق على القول بتعبدية الدبغ.

وأما ما في الخلاف من أن جواز التصرف في هذه الأشياء يحتاج إلى دلالة شرعية ، وانما أجزنا ما أجزنا بدلالة إجماع الفرقة على ذلك أيضا فهو لا يرجع إلى محصل ، إذ الدلالة ما عرفت ، كقوله بعد ذلك : إنه لا خلاف في جواز استعمالها بعد دباغها ، ولا دليل قبل الدبغ ، كما هو واضح.

ثم انه لا ريب في امتثال الاستحباب أو الكراهة أو الوجوب أو الحرمة على اختلاف التعبير بالدبغ بالأشياء الطاهرة من الشب والقرظ والعفص وقشور الرمان وغيرها مما يندرج في ذلك ، أما الأشياء النجسة فلا يجوز الدبغ بها كما صرح به في المختلف والمعتبر والمنتهى والذكرى بل في الأول الإجماع عليه ، وهو إن تم كعدم جواز مطلق استعمال النجس والانتفاع به الحجة ، وإلا كان للنظر فيه مجال.

لكن لو خالف فدبغ فالظاهر جواز استعماله عندنا بعد الغسل ، للأصل والعمومات ، وخبر أبي يزيد (٢) عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام « سأله عن جلود‌

__________________

(١) في النسخة الأصلية « ومحتمل » والصحيح ما أثبتناه.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

٣٥١

الدارش ، فقال : لا تصل فيها ، فإنها تدبغ بخرء الكلاب » لقصوره محمول على الكراهة أو إرادة قبل الغسل ونحوهما.

وأما على القول بوجوب الدبغ ففي الاكتفاء به وعدمه ، أو التفصيل بين التعبد وتوقف الطهارة عليه ، فالاكتفاء على الأول وعدمه على الثاني وجوه لا يمكن أن يعض على أحدها بضرس قاطع حتى يعرف دليل ذلك القول وما يقتضيه ، وإن أمكن تعليل الأول بصدق الدبغ ، والثاني بعدم كون المحرم سببا لحكم شرعي ، والثالث باشتراط الطهارة في المطهر دون التعبد ، وخبر الرضا عليه‌السلام السابق ، والأمر سهل ، فتأمل جيدا.

ويجوز أن يستعمل من أواني الخمر ما كان صلبا يمنع نفوذ الخمر ولو لأنه كان مقيرا أو مدهونا بدهن أخضر مثلا بعد غسله فإنه مما يطهر بذلك إجماعا كما في المعتبر والمنتهى ، وهما مع العمومات الحجة على ما نحن فيه ، بل لعله مستغن عنهما بضروريته وبداهته.

وكذا يجوز لكن يكره ما كان رخوا لا يمنع نفوذ الخمر فيه كما لو كان خشبا أو قرعا أو خزفا غير مدهون وفاقا للمشهور نقلا في كشف اللثام إن لم يكن تحصيلا ، أما الجواز فلوجود المقتضي من الغسل المترتب عليه الطهارة ، لإزالته العين كغيره من النجاسات ، وارتفاع المانع ، إذ ليس هو إلا نفوذ الأجزاء الخمرية في الباطن فيتنجس بها ، وفيه أنه ليس أسرع من الماء نفوذا أولا ، ودعوى أسرعيته قبل حيلولة الأجزاء الخمرية ، وإلا فهي مانعة له عن النفوذ بعد تسليمها خروج عن محل النزاع ، على أن الأجزاء الخمرية غالبا تستهلك متى دخلت في المسام خصوصا إذا جف الإناء ، وليس مانع من حصول طهارة الظاهر الذي يراد استعماله ثانيا ، إذ لا سراية ، نعم‌

٣٥٢

ينجس ما فيه حينئذ لو خرج تلك الأجزاء الخمرية إلى الخارج مضافا إلى إطلاق ما دل على حصول الطهارة بالغسل وترك الاستفصال في‌ موثق عمار (١) « سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء أو كامخ أو زيتون؟ قال : إذا غسل فلا بأس ، وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال : إذا غسل فلا بأس ، وقال : في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر قال : يغسله ثلاث مرات ».

كموثقه الآخر (٢) « في الإناء الذي يشرب فيه النبيذ وأنه يغسل سبع مرات ».

بل‌ وخبر حفص الأعور (٣) « قلت للصادق عليه‌السلام : إني آخذ الركوة فيقال : إنه إذا جعل فيها الخمر وغسلت كانت أطيب لها فنأخذ الركوة فنجعل فيها الخمر فنخضخضه ونصبه ونجعل فيها البختج ، فقال : لا بأس ».

وخبره الآخر (٤) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل ، قال : نعم » إذ المراد يجفف ويغسل.

والموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا (٥) « في الإناء يشرب فيه النبيذ فقال : تغسله سبع مرات ، وكذا الكلب ».

فما عن نهاية الشيخ وابني الجنيد والبراج ـ من المنع عن استعماله لما في الخمر من الحدة والنفوذ.

ولصحيح ابن مسلم (٦) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته عن الظروف فقال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الدباء والمزفت وزدتم أنتم الحنتم يعني الغضار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

٣٥٣

والزفت يكون في الزق ويصب في الخوابي ليكون أجود للخمر ، وسألته عن الجرار الخضر والرصاص قال : لا بأس ».

وخبر أبي الربيع الشامي (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كل مسكر حرام ، قلت : فالظروف التي تصنع بها منه فقال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الدبا والمزفت والحنتم والنقير ، فقلت : وما ذاك؟ قال : الدبا : القرع ، والمزفت : الدنان ، والحنتم : جرار خضر ، والنقير : خشب كانوا ينقرونها حتى يصير لها أجواف ينبذون فيها ».

وخبر جراح المدائني (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « انه منع عما يسكر من الشراب ومنع النقير والنبيذ الدباء » ـ ضعيف ، إذ الأول قد عرفت ما فيه من أشدية الماء منه نفوذا ، والأخبار لا تصلح لإثبات الكراهة فضلا عن المنع ، إذ هي ـ بعد الإغضاء عن سند بعضها والاجمال ، بل الإشكال في متن الآخر ، وقصورها عن تقييد غيرها ـ ظاهرة في إرادة النهي عن الانتباذ فيها مخافة الاختمار باعتبار ما في الإناء من الدهنية أو النبيذ السابق المتغير ، لا مطلق استعمالها ، كما يشهد لذلك النهي فيها عن المزفت أي المطلي بالزفت ، وهو القير ، وعن الحنتم ، وهي كما قيل الجرار الخضر المدهونة مما عرفت انه لا إشكال في قابليته للتطهير وجواز استعماله ، فعلم إرادة بيان خصوصية للانتباذ خوفا عليه من الاختمار ولو لتشرب الإناء الذي لا يمنع من قبول التطهير ، لكنه قد يؤثر الاختمار ، بل قد تؤثر الرائحة ونحوها ، إلا أنه مع ذلك كله لا بأس بالقول بالكراهة تخلصا من شبهة الخلاف ، بل والاحتمال في الأخبار ، واستظهارا في الاحتياط ، ونحو ذلك مما يكتفى به فيها للتسامح ، والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢ مع الاختلاف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢.

٣٥٤

ويجب أن يغسل مسمى الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا إجماعا مما عدا الإسكافي كما في المنتهى ، بل لم يستثنه منه في الانتصار والخلاف والغنية بل والذكرى أيضا وان حكي خلافه فيها بعد ذلك ، وهو الحجة بعد إمكان دعوى الأصل في نفي الزائد هنا ، وصحيح البقباق (١) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن الكلب فقال : رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء » خصوصا على ما في المعتبر والمنتهى وغيرهما من زيادة « مرتين » بعد لفظ الماء فيه ، ولعلهم عثروا عليه فيما عندهم من الأصول ، وخصوصا بالنسبة للمحقق ، إذ هو غالبا يروي عن أصول ليس عندنا منها إلا أسماؤها ، بل يؤيده أيضا وجود ذلك في لسان القدماء من الأصحاب حتى ان الشيخ الذي روى الرواية بدون ذكر المرتين حكى الإجماع على وجوبهما ، بل لم يفت أحد بالاكتفاء بالمرة ، بل لعل ذلك مخالف لشعار الشيعة ، ولما يظهر من الأخبار من شدة نجاسة الكلب ، بل هي أشد من البول الذي وجب فيه التعدد.

فدغدغة سيد المدارك تبعا لأستاذه بالنسبة إلى ذلك من حيث خلو الصحيح عنه في الأصول في غير محلها قطعا ، وخصوصا بعد تأييد ذلك الصحيح أيضا بما في الرضوي (٢) كما عن‌ رسالة الصدوق ومقنع ولده وفقيهه « إن ولغ الكلب في الماء أو شرب منه أهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرات : مرة بالتراب ، ومرتين بالماء ، ثم يجفف » وبالعاميين (٣) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ان ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرات ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) حاشية ابن مالك على صحيح مسلم المطبوعة بهامش الصحيح ج ١ ـ ص ١٦٢ وسنن البيهقي ج ١ ص ٢٤٠.

٣٥٥

مع زيادة في أحدهما « أو خمسا أو سبعا » المعلوم حملها على الندب ، لعدم جواز التخيير بين الأقل والأكثر.

فما عن ابن الجنيد ـ من إيجاب السبع للأصل الذي يكفي في انقطاعه على تقدير تسليم جريانه بعض ما مر ، والنبوي (١) العامي الذي لم يثبت من طرقنا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا ، أولاهن بالتراب » المحمول على الندب قطعا ، لقصوره عن معارضة ما عرفت من وجوه ، كالموثق المتقدم (٢) آنفا في المسألة السابقة ـ ضعيف إن لم يكن مقطوعا بفساده.

وظاهر المتن كغيره بل المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة كادت تبلغ الإجماع قصر الحكم على الولوغ الذي هو الشرب ، كما في المصباح المنير بل والصحاح وإن زاد بطرف لسانه ، بل والقاموس وإن فسره بإدخال لسانه في الإناء وتحريكه ، فلا يتعدى منه إلى غيره من مباشرة باقي أعضائه غير اللطع ، لمساواته له أو أولويته منه ، بل في مجمع البرهان ولا إلى مباشرة لسانه بما لا تسمى ولوغا حتى اللطع ، للأصل في وجه ، وإطلاق الأمر بالغسل من نجاسة الكلب المفهوم من النصوص (٣) بعد إلقاء الخصوصية فيما تضمنته السالمين عن المعارض ، إذ هو في الولوغ خاصة.

لكن قد يشكل الأصل باقتضائه العكس الذي هو المطلوب ، وما بعده بأعمية صحيح البقباق الذي هو مستند الحكم من الولوغ ، خصوصا إن أخذنا طرف اللسان أو إدخاله وتحريكه فيه ، ضرورة أن الفضل أعم منه ، إذ هو يصدق على بقية الملطوع والمأكول ونحوهما دونه.

__________________

(١) كنز العمال ـ ج ٥ ـ ص ٨٩ ـ الرقم ١٨٨٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب النجاسات.

٣٥٦

اللهم إلا أن يقال : إنه وإن كان هو أعم منه في نفسه لكن المراد منه هنا باعتبار ظهوره في بقية الماء المشروب بطريق الولوغ كما هو أغلب أحوال شرب الكلب إن لم يكن جميعها الولوغ.

لكن قد يمنع ظهور الصحيح في اعتبار ذلك على وجه الشرطية للحكم المذكور ، بل قد يقال المراد مطلق السؤر الذي هو بمعنى المباشرة عندنا من الفضل ، ولعله لذا والأصل ـ مع التأييد بالرضوي المتقدم وغلبة اتحاد الحكم في أجزاء الحيوان ، بل يمكن دعوى أولوية غير الفم منه في هذا الحكم باعتبار أن فمه أنظف منها ، ولذا كانت نكهته كما قيل أطيب من غيره من الحيوانات لكثرة لهثه ـ ساوى المفيد والنراقي كما عن الصدوقين ـ بل قد يظهر من سيد الرياض الميل اليه ـ بين الولوغ في ذلك وبين مباشرة باقي أعضاء الكلب ، وهو لا يخلو من وجه ، بل لعل التأمل الجيد في الصحيح السابق وظهور سياقه في إرادة بيان نجاسة الكلب من غير مدخلية لشي‌ء آخر يعين ذلك ، لا أقل من الشك ، والأصل بقاء النجاسة.

بل ينبغي القطع به في مثل اللطع والشرب كرعا لمقطوع اللسان ونحوه ، بل في الروض وشرح المفاتيح وجامع المقاصد أنه أي اللطع أولى من الولوغ.

كما انه ينبغي القطع بعدم الفرق بين الماء وغيره من سائر المائعات في صدق الولوغ أو الإلحاق به.

نعم لا ينسحب الحكم إلى مباشرة لعابه من غير ولوغ فضلا عن عرقه وسائر رطوباته ، وفاقا للمشهور نقلا وتحصيلا ، لعدم دليل عليه ، وخلافا للفاضل في نهايته ، فألحق اللعاب به ، بل وباقي الفضلات أيضا ، معللا الأول بأن المدار على قطع اللعاب من غير اعتبار السبب ، وللثاني بأن فمه أنظف من باقي أعضائه ، فهي به حينئذ أولى بالحكم المذكور ، وهما معا كما ترى وإن كان هو أحوط.

٣٥٧

بل قد يراد من الفضل الذي في الصحيح ما كان فيه من فضلة فمه مثلا شي‌ء ، سواء باشره فمه أو لا ، بل لعل سبب أصل إطلاق الفضل على ما يباشره فم الحيوان مثلا غلبة تخلف شي‌ء من فضلة فيه ، فحينئذ يقوى القول بجريان الحكم المذكور في الفرض ، وإن كان لا يجسر على الجزم به مجرد ذلك.

ولا يلحق بالكلب الخنزير قطعا ، لعدم الدليل ، وفاقا لمن عدا الخلاف ، وخلافا له وعن المبسوط والمصباح ومختصره والمهذب ، وان استدل عليه في الأول بدعوى تسميته كلبا لغة ، لكنه في غاية الضعف لمنعها ، ولو سلم ففي العرف لا ينصرف الإطلاق إليه ، كالاستدلال عليه بأن سائر النجاسات يغسل منها الإناء ثلاث مرات ، والخنزير نجس بلا خلاف ، إذا البحث في مساواته للولوغ في الحكم بالتراب ونحوه لا العدد ، وإلا فقد يقوى في النظر وجوب سبع مرات في ولوغ الخنزير ضعف عدد الكلب وزيادة ، وفاقا للمختلف والإرشاد والقواعد والذكرى وجامع المقاصد وغيرها من كتب متأخري المتأخرين ، لصحيح علي بن جعفر عن أخيه (١) « سألته عن خنزير شرب من الإناء كيف يصنع به؟ قال : يغسل سبع مرات » السالم عن معارض غير الإطلاق ونحوه الواجب حمله عليه ، لا التجوز بإرادة الندب فيه وإن ارتكبه المصنف في معتبرة ، ولعله لعدم عثوره على عامل به قبله ، لكنك خبير ان ذلك غير شرط ، نعم لو تحقق الاعراض ربما يشكل العمل حينئذ به ، ودعواه هنا بالنسبة إلى سابق زمن المصنف وإن كانت ممكنة خصوصا بعد ما في كشف اللثام أن ظاهر الأكثر كونه كسائر النجاسات ، وعدم اشتهاره بين السلف ، لكن لا يجسر عليه الآن بعد ما سمعت من عمل من عرفت به.

وعلى كل حال فلا وجه لا لحاقه بالكلب ، بل ولا غيره من الحيوان النجس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

٣٥٨

كأصناف الكفار حتى الناصب منهم ، وان ورد (١) فيه أنه أشر من الكلب ، لكنه لا ظهور فيه في إرادة ما يشمل مثل ذلك من الأحكام الظاهرية.

نعم يقوى في النظر إلحاق ما تنجس بماء الولوغ من الأواني ، وفاقا للمحكي عن نهاية الفاضل والمحقق الثاني ، لظهور الصحيح السابق الذي هو مستند الحكم هنا في أن مدار التعفير على نجاسة الإناء بفضلة الكلب ، فمع فرض إراقة ذلك الماء مثلا من الإناء الأول إلى الآخر تحقق صدق نجاسته بفضل الكلب ، لكن في المعتبر والذكرى والمدارك بل وظاهر الخلاف أيضا عدم اللحوق ، اقتصارا في الحكم ، على موضع النص ، وفيه ما عرفت إلا أن يدعى تبادر الإناء الأول من فضل الكلب ، وإن كانت هي أيضا بحيث تنافي ما ذكرنا ممنوعة ، إذ لا فرق بين كل من الإناءين في حصول النجاسة له بفضل الكلب.

أما لو أصاب ذلك الماء الجسد والثوب ونحوهما فلا تعفير ، لا لعدم صدق الولوغ إذ قد عرفت أن موضوع الحكم أعم من ذلك ، بل هو لظهور النص والفتوى بدوران الحكم مدار الإناء ، فلو لطع الكلب ثوبا أو جسدا لم يجب التعفير ، بل لو ولغ بماء في كف إنسان مثلا أو موضوع في ثوب ونحوه لا تعفير بناء على ذلك أيضا ، لكن لا يخلو من نظر وتأمل من حيث ظهور الصحيح السابق في كون الإناء فيه مثالا لغيره ، لا أنه يراد منه التخصيص والتعيين قطعا ، وإلا لم يؤد بهذا النوع من العبارة ، ويؤيده أيضا ما سمعته سابقا من إمكان دعوى القطع بعدم مدخلية الماء المطلق في هذا الحكم ، بل غيره من المائعات كالماء المضاف ونحوه مثله فيه ، ضرورة عدم الفرق بين الإناء والماء في الصحيح المذكور ، فتأمل.

وليس ماء الغسالة بناء على نجاسته كماء الولوغ قطعا ، لصدق النجاسة بفضل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف ـ الحديث ٤.

٣٥٩

الكلب في الأول دون الثاني ، ومن هنا لم يجر عليها حكم التعفير وإن قلنا بوقوع الغسل قبله فاتفق الإصابة حينئذ من ذلك الغسل المتقدم عليه ، بل تكون حينئذ كسائر النجاسات حتى لو قلنا إن ماء الغسالة كالمحل قبلها في الحكم ، إذ يمكن تخصيصه بما إذا لم يكن لخصوص النجاسة مدخلية ، أما لو كان كالولوغ الواضح عدم صدقه بالنسبة إلى ماء الغسالة فلا ، كما أشار إليه الشهيد في الروضة في البحث عن الغسالة ، على أنه بناء على وجوب تقديم التراب لا يتصور تقديم ماء الغسالة حتى يجب التعفير حينئذ كالمحل ، بل أقصاه وجوب العدد.

نعم يمكن فرضه حينئذ بالمتنجس بملاقاة إناء الولوغ ، إذ ليس للغسالة خصوصية في ذلك ، ضرورة كون منشأ التبعية للمحل فيها انما هو استظهار انتقال حكم النجاسة إلى المتنجس بها ، بل هو معنى نجاستها بملاقاته ، وهو لا يتفاوت فيه بين الغسالة وغيرها ، بل هو في الثاني أتم ، خلافا لظاهر المحكي عن المحقق الثاني ، فأوجب التعفير من ملاقاة ماء الغسالة مع فرض صحة وقوعها قبل التعفير ، وكان مستنده ما عرفت من انتقال حكم النجاسة إلى ملاقيها مؤيدا بالاستصحاب ونحوه ، لكن قد عرفت أن الأقوى خلافه هنا ، كما أنك عرفت ما يرد عليه أيضا بالنسبة إلى تقييده بفرض صحة وقوعها قبل التعفير ، إذ لو لم يفرض ذلك كان من المتنجس الذي قد سمعت أن المتجه مساواته لماء الغسالة ، كما هو واضح.

ثم لا فرق في الحكم المذكور بين ولوغ الكلب الواحد مرة أو مرات والكلاب المتعددة بلا خلاف ولا إشكال ، لظهور الجنسية من الصحيح التي لا يتفاوت فيها القليل والكثير كباقي النجاسات بالنسبة إلى بعضها مع بعض ، كعدم الخلاف والاشكال أيضا في وجوب الاستئناف لو فرض وقوع ذلك في الأثناء لعدم تصور التداخل فيما مضى ،

٣٦٠