جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

تنجس البواطن لو لم نقل بالإجماع على العدم ، مضافا إلى الأصول والعمومات ، قلت : وهي والحيوان مشتركان في سبب ذلك ، ضرورة أنه إن كان عين النجاسة موجودا فالمنجس حينئذ للملاقي هو لا ما كان عليه من البواطن وبدن الحيوان ، وإلا كان طاهرا ، فلم يظهر أثر للحكم حينئذ بتنجيسهما بالملاقاة ، فابقاؤهما على الطهارة وعدم تأثير عين النجاسة فيهما أولى من الحكم بنجاستهما وطهارتهما بالزوال ، وقد تقدم في الأسئار تمام الكلام ، كما أنه تقدم هناك تمامه أيضا في أصل الاكتفاء في الحيوان بزوال عين النجاسة ، وأنه هو المدار لا غيبة الحيوان غيبة يحتمل معها مصادفة المطهر وان كان ظاهر الفاضل في نهايته ذلك.

نعم هو كذلك بالنسبة للإنسان ، فيحكم بطهارة بدن المسلم منه المكلف مع الغيبة عنه وعلمه بالنجاسة وتلبسه بما يشترط فيه الطهارة بلا خلاف معتد به أجده فيه ، بل حكى الإجماع عليه بعض شراح منظومة الطباطبائي ، بل لعله كذلك نظرا إلى السيرة القاطعة المعتضدة بإطلاق ما دل (١) على طهارة سؤر المسلم ، وإن كان هو غير مساق لذلك ، وبتعارف عدم السؤال عن إزالة النجاسات مع القطع بعروضها ، بل قد يعد السؤال من المنكرات كالإنكار على مخالفة الضروريات المرجحة للعمل بظاهر حال المسلم من عدم عصيانه وسهوه ونسيانه على الأصل.

مع أنه ناقش بعض الأساطين في أصل جريانه هنا من حيث ظهور أدلته فيما يتعلق بالمكلف نفسه لا غيره ، والأمر بالغسل للمكلف أعم من وجوب احتراز الغير له حتى يعلم بالغسل ، كآخر بأنه معارض بالأصل في الملاقي أيضا ، وان كان هما كما ترى مع أنهما لم يثبتا الطهارة نفسها ، كاستدلال بعضهم بأنه لم يثبت تنجيس المتنجس هنا وإن قلنا به في غير المقام.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ و ٨ ـ من أبواب الأسئار.

٣٠١

فالعمدة حينئذ ما ذكرناه أولا من السيرة السابقة المعتضدة بما عرفت ، ولعلها كذلك أيضا بالنسبة إلى غير بدنه من ثيابه أو فرشه وأوانيه وغيرها مع القيود السابقة ، فتأمل مجمع البرهان وعن المدارك في ذلك كله في غير محله كظاهر المفاتيح ، بل الظاهر الطهارة أيضا وإن لم يكن متلبسا بما يشترط فيه الطهارة ، وفاقا لمن عداهم وظاهر الموجز في الثياب خاصة ممن تعرض لذلك كالشهيدين وأبي العباس في المهذب والصيمري والفاضل النراقي والعلامة الطباطبائي والأستاذ في كشف الغطاء وغيرهم ، بل قد يظهر من المحكي عن تمهيد الشهيد الثاني الإجماع عليه ، بل حكاه عليه بعض شراح منظومة الطباطبائي ، بل هو رحمه‌الله في نظمه حكى السيرة القاطعة التي هي أعظم من الإجماع ، فقال :

واحكم على الإنسان بالطهارة

مع غيبة تحتمل الطهارة

وهكذا ثيابه وما معه

لسيرة ماضية متبعة

وهو كذلك ، فيقدم بسببها ظهور حال المسلم في التنزه عن النجاسات على الأصل ، بل ظاهره رحمه‌الله كصريح لوامع النراقي وظاهر كشف الأستاذ ، بل والموجز لكن في البدن خاصة عدم اعتبار علمه بالنجاسة أيضا ، فاحتمال مصادفة الطهارة حينئذ كاف ، وهو لا يخلو من قوة ، إلا أن المعروف بين من تعرض لذلك اعتباره ، بل عن التمهيد « انه المستفاد من تعليل الأصحاب ، حيث قالوا : يحكم بالطهارة عملا بظاهر حال المسلم ، لأنه مما يتنزه عن النجاسة » انتهى. والاحتياط لا ينبغي تركه.

كما انه لا ينبغي تركه في غير المكلف من الإنسان سيما من لا أهلية له للإزالة ، بل والمكلف مع عدم اعتقاد النجاسة ، لتقليده مجتهدا لا يقول بها ، أو لأنه من العامة الذين لا يقولون بها ، بل والمعتقد إذا علم من حاله عدم الاهتمام والاكتراث بإزالة النجاسات ، لتسامحه في دينه ، وإن أمكن تنقيح السيرة في جميع ذلك أو أكثره ، بل يمكن إدراج بعض غير المكلف من الإنسان كغير المميز في توابع المسلم المكلف من فرشه وأوانيه.

٣٠٢

نعم ينبغي القطع بعدم مساواة الظلمة أو العمى أو حبس البصر للغيبة ، للأصل السالم عن معارضة سيرة ونحوها ، إذ ليس المدار على احتمال الطهارة.

كما انه ينبغي القطع بعدم اعتبار غيبة الشخص عن ثيابه وأوانيه ونحوها ما لم تكن من توابع شخص آخر يباشرها ، والأمر واضح بعد أن عرفت مستند الحكم في المسألة ومداره.

ومن المطهرات في الجملة إجماعا محصلا ومنقولا ونصوصا (١) مستفيضة حد الاستفاضة وعملا مستمرا التراب بل مطلق مسمى الأرض كما هو معقد أكثر الفتاوى وإجماع غير واحد من الأصحاب ، بل هو مستفاد من معتبرة نصوص الباب (٢) فما في النبويين العاميين (٣) على الظاهر من أن طهور الخفين والنعلين التراب محمول على إرادة ما يشمل الأرض قطعا ، أو لا يراد منه الحصر بالنسبة إلى ذلك كالمتن وعبارة المقنعة والتحرير لباطن الخف بلا خلاف أجده فيه إلا ما عساه توهمه عبارة الخلاف في بادئ النظر ، مع إمكان دفعه ثانيه كما أطنب فيه الأستاذ في شرحه على المفاتيح ردا على تفردها في نقل عدم الطهارة عنه ، فلاحظ.

ويوهمه أيضا ما عن الإشارة والتلخيص من الاقتصار على النعل مع احتماله بل لعله الظاهر إرادة المثال ، ولذا جعله من معقد إجماعه في جامع المقاصد ، ومن المتيقن في المنتهى ، وهو الحجة بعد‌ النبوي (٤) العامي « إذا وطأ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب » وصحيح فضالة وصفوان عن ابن بكير عن حفص بن أبي عيسى (٥) قال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات.

(٣) كنز العمال ـ ج ٥ ص ٨٨ ـ الرقم ١٨٧٨ و ١٨٧٩.

(٤) كنز العمال ـ ج ٥ ـ ص ٨٨ ـ الرقم ـ ١٨٧٩.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

٣٠٣

للصادق عليه‌السلام : « اني وطأت عذرة بخفي ومسحته حتى لم أر فيه شيئا فما تقول في الصلاة فيه؟ فقال : لا بأس ».

والمناقشة في سند الأولى ـ بعد الانجبار بما عرفت بناء على صحة انجبار مثله ، وفي دلالة الثاني بأن أقصاه الصلاة فيه التي هي أعم من الطهارة ، ضرورة كون الخف مما يعفى عن نجاسته ، لأنه مما لا يتم الصلاة به منفردا ـ كما ترى ، على أنه يمكن دفع الثانية بعد الغض عن إطلاق نفي البأس بظهورها سؤالا وجوابا في نفيه من حيث زوال النجاسة بذلك المسح ، لا من حيث عدم التمامية به منفردا كما هو واضح للمنصف المتأمل.

خصوصا بعد اعتضادها بإطلاق‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (١) قال : « نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر ، فدخلت عليه أبي الصادق عليه‌السلام فقال : أين نزلتم؟ فقلت : نزلنا في دار فلان ، فقال : إن بينكم وبين المسجد زقاقا قذرا أو قلنا له إن بيننا وبين المسجد زقاقا قذرا فقال : لا بأس ، الأرض يطهر بعضها بعضا ».

كالمروي في مستطرفات السرائر عن كتاب‌ البزنطي عن المفضل بن عمر عن محمد ابن علي الحلبي (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « قلت له : إن طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه ، فربما مررت فيه وليس علي حذاء فيلصق برجلي من نداوته ، فقال : أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ فقلت : نعم ، فقال : لا بأس ، إن الأرض يطهر بعضها بعضا ».

وحسن المعلى بن خنيس (٣) « سأل الصادق عليه‌السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء أمر عليه حافيا فقال : أليس وراءه شي‌ء جاف؟

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

٣٠٤

قلت : بلى ، قال : لا بأس ، لأن الأرض يطهر بعضها بعضا » إذ الظاهر أن المراد تطهير بعض الأرض البعض الآخر منها النجس الملاقي للنعل ونحوه على معنى إزالة أثره عما لاقاه بالبعض الآخر ، كما يقال الماء مطهر للبول والدم ، أو تطهير بعض الأرض ما لاصق بعضا نجسا آخر منها مما كان عليها من القدم ونحوه ، وإلا فاحتمال إرادة تطهير بعض الأرض بعض المتنجسات كالنعل ، فلا يكون في المطهر بالفتح عموم أو إطلاق يتناول المقام مما ينبغي القطع بفساده كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ، بل ينبغي القطع بفساد ما ذكرناه ثانيا ، لبعد هذا المجاز بل استقباحه حتى لو أريد الإضمار منه ، فيتعين الأول حينئذ ، لكن في المعالم أنه عليه يكون الحكم المستفاد من الحديث مختصا بالنجاسة المكتسبة من الأرض النجسة.

وقد يقال : إنه يمكن أن يكون هذا إشارة إلى أنه بمحض المسح على الأرض لا يذهب الأثر الحاصل من الأرض السابقة مطلقا ، بل يبقى فيه بعض الأجزاء من الأرض المتنجسة ، فتلك الأجزاء تطهرها الأرض الطاهرة ، فلا ينافي عموم الحكم ، لورود تلك العبارة في مقامات أخر ، بل لعل تفسير الحديث بذلك أولى من غيره ، لما فيه من السلامة من المجاز ونحوه ، حتى ما قيل أيضا من أن المراد انتقال النجاسة بالوطء عليها من موضع إلى آخر حتى تستحيل ، ولا يبقى منها شي‌ء.

نعم هو موقوف على عدم انعقاد إجماع على عدم طهارة الأرض بذلك ، ولعله كذلك ، بل نص على ما ذكرناه في البحار ، بل ستعرف فيما يأتي زيادة قوة له ، فتأمل.

وبعد اعتضادها أيضا بإطلاق‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح الأحول (١) في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ، ثم يطأ بعده مكانا نظيفا : « لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعا » بعد تنزيل الشرط فيه على إرادة التقدير لما يزال به أثر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

٣٠٥

النجاسة عادة ، لإطلاق غيره من النصوص والفتاوى عدا المحكي عن ابن الجنيد ، حيث قال : « إذا وطأ الإنسان رجليه أو ما هو وقاء لهما نجاسة رطبة أو كان رجلاه رطبة والنجاسة يابسة أو رطبة فوطأ بعدها نحوا من خمس عشر أرضا طاهرة يابسة طهر ما ماس النجاسة من رجله والوقاء لها ، وغسلهما أحوط ، ولو مسحهما حتى يذهب عين النجاسة بغير ماء أجزأ إذا كان ما مسحها به طاهرا » انتهى. مع احتماله ما سمعته في الرواية أيضا ، بل هو أولى لقوله : « نحو » فتأمل.

وبمساواته للنعل الثابتة طهارة أسفله بها بإجماع جامع المقاصد ، وبما في المنتهى أنه من المتيقن ، وإطلاقات الأخبار السابقة ، بل‌ في النبوي (١) وان كان عاميا « إذا وطأ أحدكم بنعليه الأذى فطهورهما التراب » معتضدا ذلك كله بعدم خلاف أجده فيه ، إذ اقتصار المصنف في نافعة على الخف والقدم لا صراحة به بل ولا ظهور ، بل يمكن تحصيل الإجماع ، بل هو كذلك مع ملاحظة الفتاوى وإطباق الناس قديما وحديثا على صلاة الحفاة والمتنعلين ، ودخولهم المساجد من غير غسل الأقدام والنعال مع غلبة الظن على النجاسات ، بل ومع القطع بها ، بل لو كلفوا لكان فيه من الحرج ما لا يخفى.

ولو لم يكن في المقام إلا هذا لكفى في طهارة أسفل القدم والنعل فكيف مع ما سمعته في الثاني الذي هو بجميعه عدا النبوي منه ثابت في سابقه أيضا ، بل بعضها كصحيح الأحول ظاهر فيه ، بل صحيح الحلبي وحسن ابن خنيس والمروي في مستطرفات السرائر نص فيه.

كصحيح زرارة (٢) عن الباقر عليه‌السلام « في رجل وطأ على عذرة فساخت‌

__________________

(١) كنز العمال ـ ج ٥ ـ ص ٨٨ الرقم ١٨٧٩ لكن فيه « بخفيه » بدل « بنعليه » كما تقدم في التعليقة (٤) من الصحيفة ٣٠٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

٣٠٦

رجله فيها أينقض ذلك وضوءه؟ وهل يجب عليه غسلها؟ فقال : لا يغسلها إلا أن يقذرها ، ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي ».

وصحيحه الآخر (١) « جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان ولا يغسله ، ويجوز أن يمسح رجليه ولا يغسلهما » فتوقف الفاضل فيه في المنتهى في غير محله قطعا كترك التمثيل به عن المقنعة والمراسم والجامع والنزهة والإشارة والتلخيص ان كان لذلك ، لكن الظاهر إرادتهم المثال لما ذكروه مقتصرين عليه ، بل لعل ملاحظة جمع الثلاثة من بعض ، والأولين خاصة من آخر ، والآخرين كذلك من ثالث ، والأول والأخير من رابع ، والاقتصار على الأول من خامس ، وعلى الأخير من سادس يومي إلى التعدية لغير الثلاثة مما يوقى به القدم من الأرض مثلا ، ولعله لذا كان من معقد إجماع جامع المقاصد كل ما ينتعل به كالقبقاب ، بل هو الأقوى وفاقا لجماعة منهم الإسكافي والسيدان في المنظومة والرياض ، لا طلاق كثير من الأخبار السابقة خصوصا المستفيض من‌ قوله عليه‌السلام : « إن الأرض يطهر بعضها بعضا » الذي لا يقدح في شهادته لما نحن فيه ندرة بعض ما يوقى به كما توهم ، ضرورة أن المطلق فيه نفس الأرض.

نعم لو كان الدليل صحيح الأحول خاصة لأمكن المناقشة بذلك ، بل قد يقال باستفادة طهارة خشبة الأقطع منه بعد الغض عن دعوى مساواتها للنعل أو القدم ، بل وكعب عصاة الأعمى وعكاز الرمح ونحو ذلك ، إلا أن الأحوط خلافه.

بل يمكن إلحاق من يمشي على ركبتيه أو عليهما وعلى كفيه بذلك ، بل وما توقي به هذه أيضا ، بل ونعل الدابة ونحوه ، بل وحواشي القدم مثلا القريبة من أسفله وإن كانت هي من الظاهر.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

٣٠٧

بل قد يدعى ظهور صحيح زرارة السابق المشتمل على السؤال عن رجل ساخت رجله في ذلك ، ضرورة ظهور السوخ فيه ، بل في ظاهر كشف الأستاذ الحكم بطهارة الحواشي المذكورة تبعا للأسفل وان لم تمسح بالأرض ، وهو جيد لولا مطلوبية التوقف والاحتياط في أمثال ذلك كلها ، وكذا منه وغيره يستفاد أنه لا فرق في الطهارة المذكورة بين المشي والمسح وغيرهما كما نص عليه جماعة ، ويقتضيه التدبر في الأخبار السابقة ، ولا بين كيفيات المسح من جعل الحجر مثلا آلة للمسح وغيره.

بل قيل : إن إطلاقه كغيره من الأخبار يقتضي عدم اعتبار طهارة الأرض في التطهير ، بل مال إليه في الروضة والرياض ، بل نسبه في الأول إلى إطلاق الفتاوى ، إلا أن الأقوى خلافه ، وفاقا للإسكافي وأول الشهيدين وثاني المحققين ، للأصل السالم عن معارضة غير ذلك الإطلاق المشكوك في إرادة الأعم من الطاهر منه ، لعدم سياقه له ، ولقاعدة اعتبار سبق الطهارة في المطهر المتفق بين الفقهاء عليها على الظاهر ، كما اعترف به الأستاذ في شرحه على المفاتيح ، بل كان في بالي حكاية الإجماع من بعضهم عليها ، بل تقدم منا في مبحث الغسالة ما يستفاد منه تحصيل الإجماع عليها أيضا ، ولما يحصل للفقيه من تتبع محال التطهير بالماء حدثا وخبثا بل وبالأرض حدثا بل وخبثا في غير المقام كحجر الاستنجاء من قوة الظن بذلك ، خصوصا مع ملاحظة تصريح الجماعة الذي لا يعارضه عدم تعرض غيرهم له.

مضافا إلى ما قيل من إشعار صحيح الأحول وحسنة المعلى المتقدمتين به ، وإلى ما في الحدائق من الاستدلال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروي في عدة طرق فيها‌ الصحيح وغيره (١) : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » فان الطهور أعم من الحدث والخبث ، وقد تقدم أنه الطاهر المطهر ، ثم قال : « إنه لم يلم بهذا أحد من الأصحاب ، بل استدلوا بأن النجس لا يفيد غيره طهارة ، كما أنهم في بحث التيمم لم يستدلوا به على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التيمم.

٣٠٨

طهارة التراب ، انما ذكروا الإجماع ، نعم استدل به بعض المتأخرين وتنظر فيه ، فليت شعري أين مصداقه الذي افتخر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ـ إلى أن قال ـ : ما هذا إلا غفلة تبع فيها المتأخر المتقدم ».

قلت : لعلهم تركوا الاستدلال به هنا أولا لما عرفت في أول الكتاب من مجازية الطهارة في إزالة الخبث شرعا ، وانه إن كان حقيقة فهو عند المتشرعة ، فارادة المعنيين منه حينئذ هنا ممنوعة أو موقوف على القرينة ، بل وكذا إن قلنا باشتراكه لفظا بين رفع الحدث والخبث ، على أنه قد يدعى ظهوره في إرادة الحدث هنا بقرينة المسجد ، وثانيا بعد التسليم لا دلالة فيه على الاشتراط كما هو واضح بعد التأمل ، خصوصا إن قلنا إن المراد منه جعلت لي الأرض طاهرة مطهرة ، فيكون مساقا لبيان أصل خلقة الأرض كذلك ، فتأمل.

وفي اعتبار جفاف الأرض في التطهير وعدمه وجهان بل قولان ، أحوطهما أقواهما وفاقا للإسكافي والثانيين في الجامع والمسالك وغيرهم ، وخلافا لنهاية الفاضل وروضة الثاني وذخيرة الخراساني ورياض المعاصر ، للأصل وما يشعر به بل يدل عليه حسن المعلى بإبراهيم ، وصحيح الحلبي المروي في مستطرفات السرائر المتقدمان سابقا ، بل وغيرهما أيضا باعتبار تعارف المسح والإزالة بالجفاف في الاستنجاء وغيره ، فالاطلاقات حينئذ بنفسها يمكن انصرافها إلى ذلك فضلا عن ملاحظة المعتبرين السابقين.

فما في الرياض من أن الأقوى عدم اشتراط الجفاف ، لقصور سند الخبرين مع عدم الجابر عن إطلاق أكثر النصوص والفتاوى لا يخلو من نظر ، سيما دعواه القصور ، ضرورة صحة الخبرين بناء على الظنون الاجتهادية.

كما أن ما في مجمع البرهان من أنه لم يظهر وجه لاعتبار الجفاف إلا تخيل نجاسة الأرض ، وهو غير ضار كرطوبة النجاسة ، إذ الضار سبق النجاسة لا الحاصلة بنفس‌

٣٠٩

التطهير كما قيل مثله في غسالة الماء القليل كذلك لا يخلو من نظر ، لما عرفت من كون الوجه غير ذلك أولا ، وللفرق بين المقامين ثانيا ، إذ أقصى ما يمكن تسليمه عدم ضرر نجاسة نفس الأرض بنفس الإزالة كما في الاستنجاء بالحجر ، لا الرطوبة الكائنة على الأرض من ماء ونحوه القاضية بنجاسة المطهر والمطهر بسبب ملاقاتها للنجاسة ، كما هو واضح ، بل لعل ذلك كاف في إثبات المطلوب فضلا عما تقدم.

بل يمكن تنزيل كلام من لم يعتبر الجفاف على إرادة الاكتفاء بالأرض الرطبة رطوبة غير متعدية لا المتعدية ، كما قد يومي اليه ما عن نهاية الفاضل التي هي الأصل في هذا الخلاف من أن الأقرب عدم الطهارة لو وطأ وحلا ، بل وكذا روضة الثاني ، وإن كان بعيدا فيها ، فتأمل. فيكون النزاع حينئذ لفظيا ، إذ المراد بالجفاف عند من اعتبره عدم التعدي لا عدم النداوة أصلا ، فالطهارة بالفرض المذكور متفق عليه بين الفريقين كما اعترف به في الروض ، كما أن عدمها في ذي الرطوبة المتعدية كذلك ، بناء على التنزيل المذكور الذي يشهد له استبعاد حصول الطهارة مع تلك الرطوبة المتعدية اللهم إلا أن يريدوا بذلك زوال النجاسة السابقة عن القدم وان تنجس بالرطوبة اللاحقة ، فتأمل جيدا.

ثم المدار في التطهير بالأرض على زوال العين قطعا ، وهل يعتبر زوال الأثر أيضا كما صرح به في جامع المقاصد ومنظومة الطباطبائي أولا كما في كشف الأستاذ؟ وجهان ينشئان من الأصل وقول أبي جعفر في صحيح زرارة (١) المتقدم : « يمسحها حتى يذهب أثرها » ومعروفية توقف تطهير النجاسات على إزالة آثارها ، على أن المراد بالأثر هنا هو الأجزاء الصغار التي تبقى ملتصقة من عين النجاسة ، فيدل على وجوب إزالتها حينئذ ما دل على وجوب إزالة أصل العين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

٣١٠

ومن إطلاق باقي النصوص (١) ومناسبته لسهولة الملة وسماحتها ، بل ولحكمة أصل مشروعية هذا الحكم من التخفيف ونحوه ، بل في التكليف بوجوب إزالة ذلك من العسر والحرج ما لا يخفى ، بل يمكن دعوى تعذره عادة ، بل يمكن دعوى ظهور سائر النصوص في ذلك ، بل يمكن تنزيل خبر الخصم على ذلك أيضا بأن يراد من الأثر الأجزاء التي لا يعتاد بقاؤها ، ولا يصدق عرفا ذهاب تمام العين مع وجودها ، لا الأثر بالمعنى السابق ، كما عساه يومي اليه صحيح هذا الراوي (٢) بعينه الآخر المتقدم آنفا المشتمل على حكم ما نحن فيه مع الاستنجاء الظاهر في مساواتهما في كيفية التطهير ، وقد عرفت في ذلك الباب عدم وجوب إزالة الأثر ، بل مع قطع النظر عن هذا الصحيح يمكن للفقيه الماهر بملاحظة ما تقدم هناك تحصيل الظن إن لم يكن القطع بمساواتهما في ذلك ، وانه به يفرق بينه وبين التطهير بالماء ، بل بدونهما يمكن القطع إذا لا حظ السيرة وتعذر إزالة تلك الأجزاء أو تعسرها ، خصوصا ما يكون في الشقوق منها ، كتعذر العلم بذلك أو تعسره بالحكم المذكور ، سيما مع ملاحظة عدم شي‌ء من هذه المداقة في النصوص ، بل ظاهر الاكتفاء بها بالخمسة عشر ذراعا ونحوه خلافه ، بل لعل التأمل فيها مع الاستقامة يشرف الفقيه على القطع بذلك ، فلا ريب أن الأقوى الثاني.

هذا كله إن كانت عين النجاسة موجودة فيما يراد تطهيره ، أما إذا لم تكن بل كانت نجاسة حكمية خاصة كفى في الطهارة مجرد المماسة كما صرح به الطباطبائي في منظومته ، والأستاذ في كشفه ، بل اليه يرجع ما في المعتبر والمنتهى والذكرى والذخيرة وغيرها من التصريح بعدم اشتراط جرمية النجاسة وجفافها في الطهارة ، بل ظاهر نسبة الخلاف في أكثرها إلى بعض الجمهور خاصة عدمه بيننا ، بل الإجماع عليه عندنا ، ولعله لإطلاق الأدلة وأولويتها من العينية ، وفحوى الاكتفاء به في الاستنجاء ، بل هي هي وزيادة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١٠.

٣١١

لكن قد يناقش فيه إن لم يكن مجمعا عليه بمنع الأولوية وظهور الأدلة في العينية التي تزال بالمسح والدلك والمشي ونحوها ، وتتبعها الحكمية ، لا إذا كانت هي لا غير ، والأمر سهل.

وظاهر المصنف كباقي الأصحاب اختصاص الأرض في التطهير لتلك الأشياء فلا يجزئ مسحها ببعض الأجسام المزيلة لذلك وان كان على وجه أبلغ من الإزالة بها ، للأصل وظاهر النبويين السابقين السالمين عن معارضة إطلاق بعض الأدلة بعد انصراف المسح فيها ونحوه إلى الغالب المتعارف من آليته لنحو هذه الأمور سيما بعد انجبار ذلك بتطابق الفتاوى ظاهرا عليه بحيث لم يعرف قائل بالتعدي كما اعترف به الأستاذ في شرحه للمفاتيح وغيره ، فما عساه يظهر ـ من إطلاق عبارة الإسكافي السابقة من الاجتزاء بذلك كما عن نهاية الفاضل الاشكال فيه ، بل في الذخيرة أن القول به لا يخلو من قوة للإطلاق ـ في غير محله قطعا ، بل يمكن تنزيل عبارة أولهم على ما سمعته من الغلبة ، فتخلو المسألة حينئذ عن المخالف كخلوها عن الدليل المعتبر ، إذ الإطلاق منزل على ما عرفت ، والقياس على الاستنجاء لا نقول به ، وإن أشعر صحيح زرارة بمساواتهما ، فتأمل جيدا.

ومن المطهرات في الجملة كتابا (١) وسنة (٢) إجماعا بل ضرورة ماء الغيث إذ هو كالجاري لا ينجس بغير التغيير في حال وقوعه وتقاطره على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة عظيمة كما في اللوامع ، بل عن الروض نسبته إلى عامتهم عدا الشيخ ، بل في المصابيح بعد نسبته إلى فتوى الأصحاب انه لم يثبت مخالف ناص إلى آخره. لكن إذا كان تقاطرا عن قوة بحيث يصدق عليه اسم المطر‌

__________________

(١) سورة الفرقان ـ الآية ـ ٥٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣١٢

والغيث لا قطرات يسيرة حتى القطرة والقطرتين ، كما حكاه الشهيد الثاني عن بعض السادات المعاصرين له.

ولا حال جريانه من ميزاب مع اتصاله بالنازل من السماء وعدم انقطاعه عنه بلا خلاف أجده فيه ، بل هو مجمع عليه ، كما أنه المتيقن من الأدلة ، بل ظاهر تهذيب الشيخ ومبسوطة اشتراط كونه كالجاري بذلك ، كما عن الجامع بل والوسيلة والموجز ، وإن كان لم يثبت ذلك عن الأخير ، بل ظاهر ما حضرني من نسخته خلافه كما أن سابقه لم يذكر الميزاب ، بل قال : وحكم الماء الجاري من المشعب من ماء المطر كذلك ، أي كالجاري ، والمشعب كما عن القاموس الطريق ، وكمنبر المثقب الطريق العظيم ، لكن الظاهر منه إرادة مطلق المجرى من الميزاب.

وشبهه فيتحد حينئذ مع الشيخ بناء على إرادته ذلك أيضا من الميزاب في أنه لا ينجس إذا كان كذلك إلا أن تغيره النجاسة بل قد يريدان مسمى الجريان كما في غسل البدن ونحوه أي مجرد الانتقال من مكان ونحوه ، فيتحدان حينئذ مع مختار كشف اللثام في اشتراط ذلك المنفي عنه البعد في المدارك والكفاية ، بل قد يريدون جميعا به الأعم من القوة كما إذا كان كثيرا والفعل ، فيتحد حينئذ مع ما في الحدائق وعن الأردبيلي من اعتبار ذلك حقيقة أو حكما ، بل هو قريب جدا بالنسبة إلى كلام الشيخ وابن زهرة ، بل يمكن القطع به ، نعم هو بعيد جدا إن لم يكن ممتنعا بالنسبة إلى كلام كشف اللثام.

لكن عليه وعلى ما سمعت تكون الأقوال حينئذ ثلاثة : المشهور ، وهو عدم اشتراط ما يزيد على ما يسمى به مطرا أو غيثا ، والاكتفاء بالقطرة والقطرتين ، واعتبار الكثرة والجريان ولو قوة ، وبدون ذلك تكون ستة أو سبعة كما هو واضح بعد التأمل : الثلاثة السابقة ، والقول باعتبار الجريان فعلا من الميزاب خاصة ، أو منه ونحوه ،

٣١٣

أو مسمى الجريان وإن لم يكن من ميزاب ونحوه ، بل كان كجريان ماء أعضاء الطهارة ، وإن كان الأول من هذه الثلاثة محتملا لإرادة المثالية من الميزاب ، بل ولا رادة الحكمي من الجريان ، أي يعتبر بلوغ المطر حدا يجري من الميزاب ونحوه وإن لم يجر منهما ، أو حد الجريان مطلقا وإن لم يجر أصلا ، بناء على جعل الميزاب مثالا لأصل الكثرة.

ثم انه هل يختص الحكم بالجاري حقيقة أو حكما أو يثبت لمطلق ماء المطر بمجرد جريانه كذلك في بعض المواضع؟ وجهان ، لم أعثر على من نص على أحدهما ، كما أنه بناء على اعتبار التقدير لم ينصوا على أنه هل يعتبر الأرض بأن تكون مثلا وسطا في الصلابة والرخاوة ، فلا تكون صخرا ينحدر عنه الماء سريعا ولا رملا يغور فيه ، وكذلك بالنسبة إلى استوائها وانحدارها ، إلا أنه ظهر لك كون الأقوال ستة أو سبعة أو أزيد ، بناء على عدم رجوع بعضها إلى بعض ، بل لعل ما استظهر من العلامة من اعتبار الكرية هنا كما اعتبرها في غيره من أفراد الجاري يكون قولا آخرا ، لكن المحكي عنه في المنتهى والتحرير ونهاية الأحكام والتذكرة أن ماء المطر كالجاري البالغ كرا وإن لم يبلغه هو ، بل هو محتمل عبارته في القواعد أيضا ، بل قد يؤيده استبعاد اعتبارها من مثل العلامة ، لمنافاته للأدلة أولا ، وسماجته ثانيا ، إذ لم يعلم اعتبارها في الموجود بالسحاب أو في الواقع على الأرض أو ما بينهما ، وعلى الثاني فهل المدار على اجتماع ذلك في مكان خاص ، أو يكفي تقديره بالنسبة إلى تمام الواقع عليها ، إلى غير ذلك من الأمور المستبعد التزامها جدا ، ولعله لذا حكي عن المجمع دعوى الإجماع على عدم اشتراط الكرية هنا.

وكيف كان فالمشهور هو الأقوى ، للأصل والعمومات وظاهر الكتاب معتضدا بفتوى المعظم ، بل عدم ثبوت المخالف الناص كما سمعت ، بل في حاشية المدارك للأستاذ قيل : لا خلاف في عدم انفعاله حال تقاطره ، بل قد يشهد له استبعاد القول بنجاسة المياه الكثيرة المجتمعة من الأمطار الغزيرة في الأرض المستوية ، بل هو معلوم البطلان ،

٣١٤

وإن كان هو لازما للقول باعتبار الجريان فعلا ، كما أن لازم ظاهر الشيخ من اعتبار الميزاب نجاسة الفرض المذكور وإن جرى في الأراضي المنحدرة ، بل وإن صارت كالأنهار العظيمة ، وهو معلوم البطلان.

هذا كله مع موافقته لسهولة الملة وسماحتها ، بل عسر الاحتراز عن ماء المطر وطينه المباشر للنجس ، والسيرة المستقيمة التي اعترف بها غير واحد من الأساطين.

والنصوص المستفيضة كمرسل الكاهلي (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « قلت : يسيل علي من ماء المطر أرى فيه التغير وأرى فيه آثار القذر ، فتقطر القطرات علي وينتضح علي منه والبيت يتوضأ على سطحه فكيف على ثيابنا ، قال : ما بذا بأس ، كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر ».

ومرسل محمد بن إسماعيل (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام « في طين المطر انه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام إلا أن يعلم أنه قد نجسه شي‌ء بعد المطر ».

ومرسل الفقيه (٣) « سئل يعني الصادق عليه‌السلام عن طين المطر يصيب الثوب فيه البول والعذرة والدم ، قال : طين المطر لا ينجس ».

وخبر أبي بصير (٤) سأل الصادق عليه‌السلام « عن الكنيف يكون خارجا ، فتمطر السماء فتقطر علي القطرة ، قال : ليس به بأس ».

وصحيح هشام بن سالم (٥) انه سأل الصادق عليه‌السلام أيضا « عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب ، فقال : لا بأس به ، ما أصابه من الماء أكثر ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ٨.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ١.

٣١٥

وصحيح علي بن جعفر (١) « سأل أخاه عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال : لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس » إلى غير ذلك.

والمناقشة في سند بعضها يدفعه الانجبار بما عرفت ، كالمناقشة في الدلالة بعد تضمن شي‌ء منها أنه كالجاري أولا ، وبتناولها لما بعد النزول والانقطاع الذي نقل الإجماع غير واحد منهم الفاضل الأصبهاني في كشفه ، والعلامة الطباطبائي في مصابيحه على أن حكمه حينئذ حكم الواقف ثانيا ، وبأنها مطلقات قابلة للحمل على غيرها ثالثا ، لوضوح اندفاعها بعدم الفرق بين التصريح بكونه كالجاري وبين تضمنها للوازمه من عدم تنجسه بملاقاة النجاسة وتطهيره لكل ما يراه ، وترك الاستفصال عن الطين المحكوم بطهارته قبل أن يتنجس أنه هل كان من أرض نجسة مثلا أولا ، بل قد عرفت التصريح في بعضها بأن فيه البول والعذرة والدم ، كالتصريح في آخر بأنه كيف من السطح الذي يبال عليه ، والمراد بأنه يخرق السقف ويسقط ، وبأن العام المخصوص حجة عندنا ، وبقصور المقيد بعد تسليم قابليتها جميعها لذلك عن التقييد كما هو واضح.

بل يمكن دعوى حصول القطع للفقيه بمساواة الغيث للجاري إذا لا حظ مجموع أخبار المقام بعد استقامة الفهم ، كما انه يمكنه القطع بفساد الأقوال السابقة بمجرد تصورها من غير احتياج إقامة أدلة على ذلك ، خصوصا إذا لاحظ خلوها عن الشاهد المعتبر ، إذ ليس هو إلا أدلة القليل الواضح عدم شمولها للمقام ، وبعد التسليم يجب الخروج عنها ترجيحا لما سمعت عليها.

وصحيح علي بن جعفر (٢) عن أخيه موسى عليهما‌السلام قال : « سألته عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضأ به‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ٢.

٣١٦

للصلاة؟ فقال : إذا جرى فلا بأس به ».

كخبره الآخر (١) المروي عن كتابه سأل أخاه أيضا « عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب أيصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال : إذا جرى به المطر فلا بأس » : والآخر أيضا المروي (٢) عن كتابه والحميري سأل أخاه أيضا « عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر فيكف فيصيب الثوب أيصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال : إذا جرى من ماء المطر فلا بأس ».

وهي ـ مع إمكان الطعن في سند الأخيرين لعدم ثبوت تواتر كتابه ، وظهور الثالثة في إرادة الاحتراز عن ماء الكنيف ، بل لعلها في خلاف المطلوب أظهر منها فيه ـ محتملة جميعا لورود الشرط فيها مورد الواقع ، كما في قوله تعالى (٣) ( إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) ضرورة ظهور السؤال بلوغ المطر حد الجريان ، وفائدة الشرط حينئذ التنصيص على مورد السؤال ، كما أن أولها الذي هو العمدة في المقام محتمل أيضا لإرادة بيان عدم التمكن من الأخذ غالبا بدونه ، لا لنجاسة الماء إذا انتفى الجريان ، ولبيان أنه بدونه مظنة التغير بنجاسة السطح ، خصوصا وقول : « يبال عليه » مشعر بتكرر ذلك ، بل يكون كالمعد له ، ولا ريب ان للبول مع ذلك أثرا باقيا محسوسا ، فإذا كان المطر قليلا لا يبلغ حد الجريان لزمه التغير فينجس به دون الملاقاة ، ولإرادة التدافق والتكاثر منه احترازا عن القطرات اليسيرة التي لا يعتد بها ، ولإرادة نفي البأس حال جريانه ونزوله ، والغرض المنع عن أخذه بعد الانقطاع ، بناء على عدم طهارة السطح بمجرد وصول ماء المطر إليه ، فإنه إذا لم يطهر به وبقي فيه شي‌ء بعد الانقطاع نجس بمحله النجس ، فلم يجز استعماله في الطهارة ، ولإرادة النزول من السماء على أن يكون مرادا به التعليل لا الشرط‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ٣.

(٣) سورة النور ـ الآية ٣٣.

٣١٧

حتى يرد عليه أنه لا طائل تحته ، على أن أقصاه ثبوت البأس الذي هو أعم من المنع ، إذ لعل وجهه توقف النظافة ، بل لو سلم إرادة المنع منه فهو أعم من النجاسة ، إذ لعله لكونه بعد الانقطاع غسالة غير رافعة للحدث ، بل ظاهر الصحيح المذكور إناطة بعض الأحكام بالجريان ، وهو لا ينافي ثبوت غيره ، بل ربما قيل إنه لا يراد منه الشرط هنا قطعا ، ضرورة أنه إذا لم يكن طاهرا لم يطهره الجريان.

لكن قد يدفعه أن الخصم لا يلتزم نجاسته لو باشر نجاسة قبل أن يجري حتى يرد عليه عدم معقولية الطهارة بالجريان ، بل حكي الإجماع على عدم ذلك ، بل لعله يقول : إذا جرى انكشف أنه من الماء الذي لا يقبل النجاسة بالملاقاة نظير المختار بالنسبة للقطرات اليسيرة ابتداء ، فإنه ينكشف عدم قابليتها للنجاسة إذا تواتر بعدها المطر وقوي مثلا ، لا أنها تنجس ابتداء ، فيسقط حينئذ رد الصحيح من هذا الوجه.

بل قد يناقش في بعض ما تقدم من الوجوه السابقة أيضا ، إلا أن ذلك لا يقدح في جميع ما سمعت ، إذ البعض كاف حينئذ.

كما أنه يكفي في رد ما عساه يتمسك به لمن اعتبر الكثرة الموجبة للجريان تقديرا ـ من صحيح هشام بن سالم المتقدم سابقا ، فان قوله عليه‌السلام فيه : « ما أصابه من الماء أكثر » بمنزلة التعليل لنفي البأس ، فيفهم منه ثبوته إذا لم يكن كذلك ـ أن يقال : إن المراد بالأكثرية هنا القهر والغلبة دون المقدارية ، إذ البول الجاف لا مقدار له ، على أن أكثرية الماء من البول لا تقتضي تحقق الجريان فيه ، إذ ربما لم يجر وهو أكثر منه ، ومحتمل لرجوع ضمير « أصابه » إلى الثوب ، أي أن القطرات الواصلة للثوب أكثر من البول الذي أصابه.

بل قد يقال : إن انتفاء العلة المنصوصة لا يقتضي انتفاء المعلول وإن كان اطرادها يقتضي اطراده ، بناء على حجية منصوص العلة ، إلى غير ذلك.

٣١٨

وكذا ما يتمسك به للقائل بطهارة القطرة والقطرات من عموم مرسل الكاهلي يدفعه المنع من تسميته ماء مطر ، كما أنه يدفع ما يقال لو نجست القطرة بالملاقاة لنجس الأكثر بذلك أيضا ، إذ المطر ليس إلا قطرات متعددة أنه من الجائز تقوي القطرة باتصال التقاطر ، كتقوي الجرية باتصال الجاري ، وهو واضح.

فظهر لك من ذلك كله بحمد الله ان التحقيق كونه كالجاري جرى حقيقة أو حكما أو لم يجر ، فالماء النجس يكفي في تطهيره حينئذ وقوع قطرات المطر عليه ، لاتصاله حينئذ بالجاري من غير حاجة إلى انتظار الامتزاج ، بناء على عدم اعتباره في أمثاله ، بل وعليه أيضا ، لإمكان دعوى الاستغناء هنا خاصة بقوله عليه‌السلام : « كل شي‌ء رآه ماء المطر » معتضدا بإطلاق الآيتين (١) إن قلنا باستفادة تعميم كيفية التطهير منهما ، والقول بعدم صدق رؤية ماء المطر له إلا باستيعابه تماما المتعذر ذلك بالنسبة للتقاطر ، بل إن كان يتحقق فهو بغيره مما لا ينبغي أن يصغى اليه ، بل يمكن أن يدعى الصدق المذكور بالقطرة الواحدة ، فيطهر بها حينئذ كما حكاه الشهيد الثاني عن بعض من عاصره من السادة ، بل قال هو : « إنه ليس ببعيد ، لكن العمل على خلافه » انتهى. قلت : وهو كذلك ، بل قد يمنع كونه على خلافه ، أو يسلم ويمنع حجية مثله.

كما أنه يؤيد بما تقدم تقريره هناك في باب المياه من أن القطرة الواحدة المحكوم عليها بأنها كالجاري بعد اتصالها بالماء النجس فاما أن يطهر النجس أو ينجس الطاهر أو يبقى كل على حكمه ، لا سبيل للثالث ، إذ ليس لنا ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس ، كما لا سبيل لسابقه بعد فرض كونه كالجاري ، فلم يبق إلا الأول ، فيطهر حينئذ أول جزء ثم يطهر الباقي في زمان واحد ، وهذا لا ينافي ما قدمناه سابقا من عدم الاجتزاء بالقطرة والقطرتين للفرق الواضح ، إذ المراد بعدم الاجتزاء هناك انما هو في أصل‌

__________________

(١) سورة الأنفال ـ الآية ١١ وسورة الفرقان ـ الآية ٥٠.

٣١٩

مسمى المطر لا بالنظر إلى ما يصيب منه بعد تحققه ، لكن ربما اشتبه ذلك على بعضهم فظنهما من واد واحد ، ولذا نسب إلى السيد الذي هو في عبارة الشهيد القول بالاجتزاء بالقطرة والقطرتين في أصل المطرية ، وجعله قولا مستقلا من الأقوال السابقة ، والأمر سهل بعد أن عرفت ضعفه على أحد التقديرين ، وصوابه على الآخر.

وما عن المعالم ـ من الحكم بغلطه أيضا للفرق بين المقامين بتقوي الجزء الملاقي للنجس باتصاله بالكثير ، أو ما كان بحكمه هناك ، بخلافه هنا ، إذ أقصاه تطهير القطرة ما تلاقيه ، ثم يجري عليها حكم الانقطاع بعد ذلك ، وهي بعده في حكم القليل ، فليس للجزء الذي طهر بها مقوم حينئذ ليستعين به ، بل هو معها حين الانقطاع ماء قليل ينجس بالملاقاة ـ من غرائب الكلام ، ضرورة أن القطرة بالنسبة إلى أول ملاقاتها بحكم الجاري قطعا ، ففي آن طهارة الجزء الملاقي لها يطهر الجميع حينئذ دفعة من غير حاجة إلى ترتب زماني كما تقدم ذلك في محله ، أقصاه التقدم ذاتا ، وهو كاف ، وجريان حكم الانقطاع عليها بعد ذلك غير ضائر ، على أنه يجري مثل الاشكال المذكور أيضا فيما لو تواتر القطرات على الماء النجس ، لحصول الانقطاع بالنسبة إلى كل قطرة لاقت ذلك الماء ، فتنجس به حينئذ ، وهو واضح الفساد عند القائلين بكونه كالجاري حال تقاطره.

هذا كله بعد الإغضاء عما يمكن دعواه في المقام وإن لم أجده محررا في كلام الأصحاب ، بل المحرر غيره من القول بأن ماء المطر له حكم الجاري حال تقاطره قبل ملاقاته جسما من الأجسام ، وبعده أيضا لكن بشرط عدم انقطاع التقاطر من السماء ، وعدم صيرورته في مكان يصدق عليه اسم الانقطاع عن المطر عرفا ، كما لو وضع في خابية وترك في بيت مثلا ، بل كان متعرضا ومتهيئا لوقوع التقاطر عليه ، فان الظاهر جريان حكم الجاري عليه بنفسه كما كان حال تقاطره قبل استقراره ، لا لاتصاله بالجاري‌

٣٢٠