جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وما في حواشي الشهيد على القواعد من أن الاستحالة عند الأصوليين عبارة عن تغيير النوعية (١) وهي بعد لم تتغير أي في المفروض من الملح والتراب ، فلا يطهر ـ مع إجماله وإن كان الظاهر إرادته الصورة الجسمية ، وإمكان منعه حتى في مصطلح الأصوليين أيضا ـ غير مجد ، إذ البحث في كون المدار في الطهارة ذلك ، أو المعنى السابق الذي حكاه عن الفقهاء ، ويشهد له الأدلة السابقة.

كما انه لا يجدي ما عن فخر المحققين من تخريجه تارة على كون النجاسة ذاتية ، وأخرى على أن الباقي مستغني عن المؤثر ، خصوصا الأول ، إذ المراد بذاتية النجاسة حكم الشارع على العين بذلك من غير اعتبار طرو شي‌ء ، ومن الواضح عدم مدخليته في بقاء النجاسة في المفروض ، وإرادة معنى آخر من الذاتية بحيث يكون له مدخلية فيه أول البحث ، بل والثاني ، إذ هو مع عدم جريانه في نحو العلل الشرعية التي هي معرفات انما يتجه بعد القطع بالبقاء ، والاشكال في مؤثرة لا مع الإشكال في أصل البقاء كما هو محل البحث ، على أن مقتضاه توقف الحكم بالطهارة على القول باحتياج الباقي في بقائه إلى مؤثر ، وهو غير واضح.

كما في جامع المقاصد ، قال : « لأن احتياجه في الإبقاء لا يقتضي زواله باختلاف الزمان ولا بتغير محله ، وإلا لكان الحكم الشرعي الثابت بدليل في كل آن يتجدد زائلا ، أو بكل تغير يعرض لمحله ، وهو معلوم الفساد ، وقد تقرر في الأصول أن استصحاب الحال حجة ، فان قيل لما كان المقتضي للنجاسة هو تعليق الشارع إياها على الاسم والصورة وجب أن يعتبر بقاؤهما في بقائه ، قلنا ليس المقتضي للنجاسة هنا ذلك ، بل المقتضي لها نص الشارع على نجاسة جسم العين ، ولا يعتبر لبقاء الحكم إلا بقاء ذلك الجسم ، ولا دخل لاحتياج الباقي واستغنائه في بقاء الحكم وزواله مع بقاء ذلك الجسم ،

__________________

(١) أي الصورة النوعية.

٢٨١

فإن ذلك محل الاستصحاب » انتهى. لكنه هو غير واضح أيضا كتخريج الفخر ، فالأولى في رده ما سمعته أولا.

والمناقشة فيه بأنه لا وجه للإشكال في أصل البقاء بعد إمكان إثباته بالاستصحاب أو هي (١) من بيت العنكبوت ، ضرورة عدم تناول ما هو العمدة في دليل الاستصحاب من أخبار عدم نقض اليقين والسيرة لمثل ذلك ، بل قد يعد إجراؤه في بعض تغيرات الموضوع واستحالته من المنكرات المساوية لإنكار الضروريات.

وإن أطال في بيان ذلك الأستاذ في شرح المفاتيح ، لكنه ذكر أمثلة لا يعقل فيها بقاء الحكم ، كصيرورة الماء المطلق المأمور بالوضوء به مثلا هواء أو بخارا أو نحوهما ، ومن المعلوم ان محل البحث الانتقال إلى موضوع قابل لتعلق الحكم الأول به كملحية الكلب ونحوه ، بل قد عرفت في بعض الوجوه ان الخصم يوافق على عدم جريان الاستصحاب مع تغير موضوع الحكم واستحالته ، إلا انه يدعي موضوعية حكم النجاسة الجسم الذي لم يتغير وإن تغيرت الكلبية ، وإن كان العرف شاهد صدق على خلافه ، وإلا فالموضوع الواحد للحكم لا ريب في اختلافه من حيثيتين.

ألا ترى أن الماء المطلق المأمور بالوضوء منه ينعدم حكم الوضوء منه بصيرورته مضافا ، ولا معنى للاستصحاب فيه بعد انعدام الموضوع الذي هو المائية ، ولا يطهر مع فرض نجاسته بذلك ، لأن موضوع حكم النجاسة فيه كونه جسما رطبا لاقى نجاسة ، وهو باق في حال الإضافة.

لكن قد يناقش في خصوص المثال بأنه لا يتم بناء على ما سبق من تطهير الاستحالة أعيان النجاسات والمتنجسات ، ضرورة اقتضاء ذلك طهارة الماء في الفرض.

فالمتجه إما القول بدوران طهارة المتنجسات بالاستحالة على استحالتها لموضوعات‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية وفي بعض النسخ « أوهن ».

٢٨٢

ينكر فيها جريان الاستصحاب بحيث يقطع بعدم شمول أدلته لمثلها أو يظن بل أو يشك كصيرورته حيوانا ونحوه ، دون غيرها مما يظن أو يقطع بشمولها كما في الفرض ، فيكون المدار عرض ذلك كله على أدلة الاستصحاب كما أشرنا إلى ذلك في مطهرية النار ، وإما التزام الطهارة في كل ما يستحيل اليه المتنجس بعد تحقق الاستحالة حتى في الفرض لكن مع صيرورته مضافا بنفسه لا بامتزاج شي‌ء منه به ، وإلا لم يطهر ، لأنه وان استحال ذلك الماء لكن ما امتزج به من الماء المضاف المتنجس بملاقاته لا استحالة بالنسبة إليه ، فيبقى على النجاسة ، فينجس الماء المستحيل اليه.

ومن هنا قيد بعضهم ما نحن فيه من طهارة التراب المستحيل من العذرة مثلا بما إذا كانت يابسة لا رطبة ، لتنجس التراب برطوبتها ولا استحالة بالنسبة اليه.

وإن كان قد يستغنى عن هذا التقييد بأن المراد طهارة خصوص التراب المستحيل من العذرة لا غيره ، أقصاه حينئذ انه يمتزج الطاهر والنجس ، وهو خارج عما نحن فيه ، كتقييد طهارة الملح المستحيل من الكلب بما لم يصادف وقوع الكلب في المملحة ملحا رطبا ينجس بملاقاته ، بل وكذا تقييد الطهارة فيه بما إذا كان الماء الواقع فيه الكلب المستحيل ملحا قدر كر لا قليلا ، وإلا نجس الجميع.

بل ينبغي القطع ببطلانه بناء على الصحيح من طهارة المتنجس بالاستحالة أيضا ، فيطهر الكلب والماء ، بل وعلى غيره ، لعدم التلازم بين طهارة الملح المستحيل من الكلب ونجاسة المستحيل من غيره ، أقصاه الامتزاج أو نجاسة ملح الكلب عارضا لو فرض استحالته قبل الماء القليل.

بل قد يناقش في صحة التقييد السابق بإمكان التزام طهارة محل العذرة والدم المستحيلين ترابا ، كمحل الماء المتنجس المستحيل ملحا ونحوهما ، لفحوى طهارة ظروف الخمر والعصير وشبهها ، بل فحوى طهارة ما يعالجان به من الأجسام التي لا استحالة بالنسبة‌

٢٨٣

إليها تقتضي أعم من ذلك ، كما ان إطلاق بعضهم التيمم بتراب القبر المستحيل كذلك أيضا ، لغلبة سيلان دم الميت عليه.

لكن الأخير كما ترى لا يصلح دليلا إن لم نقل بتنزيله على غير ذلك ، بل وسابقه أيضا ، لعدم رجوعه إلى محصل غير القياس المحرم ، على أن الثاني منه مبني على طهارة ما يعالج به الخمر والعصير ، وفيه بحث ، إذ الذي تقتضيه القواعد طهارة الخمر والعصير المستحيل بنفسه خلا ، أو بعلاج غير الأجسام ، أو بالأجسام المستهلكة فيه قبل التخليل ، أو المنقلبة قبله خلا أو معه ، بناء على طهارة المتنجس بالاستحالة الشاملة لمثل ذلك ، دون ما كان بأجسام بقيت بعد خليته ، لنجاسته حينئذ بتلك الأجسام الباقية على استصحاب النجاسة الذي لم يعارضه استحالة أو نحوها فيها ، بل لا يجدي استحالتها خلا بعد ذلك ، لسبق نجاسة الخل المستحيلة من الخمر بها.

بل ظاهر جملة من الأخبار اختصاص طهارة الخمر بالمنقلب لنفسه لا بعلاج كخبر العيون (١) عن علي عليه‌السلام « كلوا الخمر ما انفسد ، ولا تأكلوا ما أفسدتموه أنتم ».

وخبر أبي بصير (٢) عن الصادق عليه‌السلام « الخمر يجعل فيها الخل قال : لا إلا ما جاء من قبل نفسه ».

وخبر آخر عنه عليه‌السلام (٣) « الخمر يجعل خلا قال : لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يقلبها » إلا أنه لاتفاق الأصحاب ظاهرا ان لم يكن واقعا نقلا وتحصيلا على عدم الفرق بين انقلابه بنفسه أو بعلاج لا يبقى عينه ، وقاعدة الاستحالة يجب الخروج عنها في غير الصورة السابقة.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ـ الباب ـ ٣١ ـ الحديث ١٢٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٤.

٢٨٤

ولعله لذا تأمل فيها في كشف اللثام وعن الأردبيلي والخراساني ، بل عن المجمع والكفاية ربما قيل بعدم الطهارة فيها ، بل في اللوامع نسبته إلى القيل ، بل لعله لازم ما في السرائر والنافع والتحرير وأطعمة الكتاب من عدم طهارة وحلية ما سقط من إناء الخمر في خل وان تخلل ، بناء على ما عن الآبي وأبي العباس من فهم ذلك منها ، لاتحاد مستند الجميع من نجاسة ما يعالج به وعدم مطهر له.

لا على ما فهمه منها في كشف اللثام من أن مرادهم مع عدم العلم بتخلل الخمر المختلطة مع الخل ردا على الشيخ في نهايته القائل بحلية ذلك وطهارته إذا انقلب ما بقي في الإناء خلا ، فيكون حينئذ انقلابه علامة على انقلاب ذلك المختلط على ما فهمه منها بعضهم ، وإلا فهي محتملة إرادة دوران الحل والحرمة والطهارة والنجاسة مدار الانقلاب وعدمه ، كما عن نص أبي علي ، بل والشيخ أيضا من غير تعرض لعلامة ذلك ، فلاحظ.

ولا على ما عساه يظهر من الدروس بل وغيرها من الفرق بين ما يعالج به من الأعيان الباقية بعد التخليل وبين الخمر الواقع في خل ، فطهر الأول وأحله ، دون الثاني وان انقلب ذلك الخمر خلا ، هذا.

ولكن الإنصاف في تحقيق البحث أن يقال : إن إطلاق الفتاوى يقتضي عدم الفرق بين تخليل الخمر بعلاج تبقى عينه أولا ، بل ظاهر كشف اللثام والمحكي عن عبارة المرتضى في السرائر الإجماع عليه ، كظاهر الطباطبائي في منظومته ، بل كاد يكون صريحها ، قال فيها :

والخمر والعصير ان تخللا

فباتفاق طهرا وحللا

بنفسه أو بعلاج انقلب

إن بقي الغالب فيه أو ذهب

بل والنصوص كقول الصادق عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) وموثقة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

٢٨٥

ولده (١) : « لا بأس » جواب سؤالهما عن الخمر تجعل خلا ، تاركا للاستفصال عنه.

كالموثق الآخر عنه عليه‌السلام (٢) أيضا « في الرجل باع عصيرا فحبسه السلطان حتى صار خمرا فجعله صاحبه خلا ، فقال : إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس ».

وصحيح جميل (٣) قال له عليه‌السلام أيضا : « يكون لي على الرجل دراهم فيعطيني بها خمرا ، فقال : خذها ثم أفسدها » وقال علي بن حديد : « واجعلها خلا ».

خصوصا‌ صحيح عبد العزيز بن المهتدي (٤) « كتبت إلى الرضا عليه‌السلام جعلت فداك العصير يصير خمرا فيصب عليه الخل وشي‌ء يغيره حتى يصير خلا ، قال : لا بأس به ».

بل والمحكي (٥) عن الرضا عليه‌السلام في فقهه والسرائر من خبر أبي بصير (٦) المشتملين على علاجه بالملح أو غيره.

فيجب حمل النصوص السابقة على الكراهة ، كما صرح بها بعضهم ، بل حكيت عليه الشهرة ، لقصورها عن المعارضة من وجوه ، بل لا قائل بمضمونها كما في شرح الأستاذ للمفاتيح سوى ما عن الشهيد من التوقف في أصل العلاج بالأجسام ، وهو مسبوق بالإجماع وملحوق به.

كما انه يجب القول بعدم الفرق أيضا بين ما يبقى عينه من الأجسام أولا ، ولا بين الخل وغيره ، للإطلاق وخصوص الصحيح الأخير ، فيخرج عن تلك القاعدة السابقة ويلتزم بتبعيتها بالطهارة له كالإناء.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٨.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١٠.

٢٨٦

نعم ينبغي الاقتصار في ذلك على غير الخمر المستهلكة بالخل نحو القطرات منه الواقعة في حب ونحوه من الخل ، فلا يطهر ولا يحل بمجرد الاستهلاك من دون انقلاب واستحالة قطعا ، بل وإجماعا ، خلافا لأبي حنيفة استصحابا لحكم الخمر ونجاسة الخل به.

ودعوى تناول لفظ الجعل والتحويل والقلب في الأخبار لمثل ذلك واضحة المنع ، كدعوى مساواته للاستحالة المفهومة بتغيير الاسم ونحوه ، بل هي قياس محض ، بل قضيتها طهارة سائر النجاسات باستهلاكها وذهاب اسمها في ممازجة شي‌ء من المائعات المعلوم بطلانه ضرورة من المذهب أو الدين.

ولا بانقلاب ما بقي من ذلك الخمر الواقع في الخل واستحالته ، خلافا لنهاية الشيخ في أحد الوجهين وتهذيبه ، بل عن مختلف الفاضل استقرابه ، فاكتفيا في طهارته وحليته بذلك ، لدلالة انقلابه على تمامية استعداده للخلية ، والمزاج واحد ، بل استعداد الملقى في الخل أتم ، لكن لا يعلم لامتزاجه بغيره ، فإذا انقلب الأصل المأخوذ منه علم انقلابه أيضا.

بل قد يظهر من السرائر ان مضمون ما ذكره الشيخ رواية ، لكن قال : « إن الذي يقتضيه أصول مذهبنا ترك العمل بهذه الرواية الشاذة ، ولا يلتفت إليها ولا يعرج عليها ، لأنها مخالفة لأصول الأدلة مضادة للإجماع ، لأن الخل بعد وقوع قليل الخمر في الخل صار بالإجماع الخل نجسا ، ولا دلالة على طهارته بعد ذلك ولا إجماع ، لأنه ليس له حال ينقلب إليها ، ولا يتعدى طهارة ذلك الخمر المنفرد واستحالته وانقلابه إلى الخل الواقع فيه قليل الخمر المختلط به الذي حصل الإجماع على نجاسته ، وهذه الرواية شاذة موافقة لمذهب أبي حنيفة ، فإن صح ورودها فتحمل على التقية » انتهى.

فظهر حينئذ ضعفه إن كان المراد التعبد للرواية بما سمعته من السرائر ، وإن كان المراد العلامة والدلالة على انقلاب الممزوج ففيه منع حصول العلم والقطع منها بذلك ، ولا يكفي الظن ، على أنه مبني على القول بطهارة هذا المستهلك مع انقلابه إلى الخلية ،

٢٨٧

وفيه بحث أو منع وإن حكي عن الشيخ وأبي علي ذلك ، بل هو صريح ما سمعته من المختلف ، بل ظاهره أنه مفروغ منه ، بل في كشف اللثام أن الظاهر اتفاقهم عليه ، وان بحثهم انما هو في معلومية ذلك بانقلاب ما بقي من الخمر وعدمها.

كما انه قد يستدل له بإطلاق الأخبار السابقة ، وخصوص صحيح ابن المهتدي ، وبتحقق الاستحالة التي هي المدار في هذا الحكم ، وبمساواته لباقي الأجسام التي يعالج بها الخمر الباقي أعيانها.

لكن قد يمنع ذلك كله ويدعى أن المشهور اشتراط طهارة الخمر بالتخليل غلبتها على ما عولجت به من الخل أو عدم كونها مستهلكة فيه ، كما اعترف به في الكفاية واللوامع ، بل هو ظاهر المفاتيح أو صريحها كشرحها للأستاذ الأعظم ، بل يظهر من الأولى كون المشهور عدم الطهارة حتى لو كان الخل قليلا.

قال فيها بعد أن ذكر أن المشهور طهارة الخمر لو صارت خلا بعلاج أو غيره ، بقي عين ما عولج به أولا : « ولو ألقى في الخمر خلا كثيرا حتى استهلكه فالمشهور بين المتأخرين انه لا يحل ولم يطهر ولو انقلب الخمر خلا ، وكذا لو ألقى في الخل القليل خمرا حتى استهلكه ، نظرا إلى أن الخمر يطهر ويحل بالانقلاب لا ما ينجس بالخمر ، وعن الشيخ القول بالطهارة في المسألتين إذ انقلب الخمر التي أخذ منه » انتهى.

وقال في الثانية بعد أن ذكر أيضا أن المشهور طهارة الخمر بالعلاج : « تذنيب المشهور اشتراط التطهر بالعلاج بغلبة الخمر على المطروح ، فلو مزجت بالخل الكثير فاستهلكت فيه لم يطهر ـ إلى أن قال ـ : والحق عدم الاشتراط وحصول التطهير بعد مضي وقت يعلم في مثله الانقلاب ، وفاقا للشيخ والإسكافي والفاضل والعاملي وبعض الطبقة الثالثة » انتهى.

٢٨٨

وقال في المفاتيح أيضا بعد أن ذكر أن المشهور الطهارة بعلاج وغيره ، بقيت العين أولا : « ولو مزجت بالخل فاستهلكت فيه فالمشهور عدم الطهارة ، لتنجس الخل بالملاقاة ، ولا مطهر له ، إذ ليس له حال ينقلب إليها ليطهرها كالخمر ، خلافا للشيخ والإسكافي فيما إذا مضى زمان يعلم انقلاب الخمر فيه إلى الخل » انتهى. وتبعه في ذلك الأستاذ في شرحه.

ومع ذلك كله يشهد له التتبع لكلمات الأصحاب مع التأمل فيها والتدبر ، حتى عبارة السرائر السابقة ، منها ما في النافع والكتاب والتحرير والدروس بل والإرشاد لا طلاقهم عدم طهارة المستهلك ، وتصريح بعضهم بخلاف الشيخ وأنه متروك ولا وجه له ، خصوصا وعبارة الشيخ لا صراحة فيها بإرادة انقلاب ذلك الخمر الباقي ، لاحتمالها إرادة الممزوج منه ، قال فيها : « إذا وقع شي‌ء من الخمر في الخل لم يجز استعماله إلا بعد أن يصير ذلك الخمر خلا » بجعل الإشارة فيها إليه ، فعده حينئذ مخالفا كالصريح فيما قلنا ، واحتمال إرادة الإرشاد ونحوه الرد بذلك على أبي حنيفة القائل بالطهارة والحلية بالاستهلاك يدفعه الملاحظة له ولغيره مع التأمل والتدبر.

ومع ذلك كله فهو الموافق لمقتضى الأدلة ، ضرورة اقتضاء الأصل عدم طهارة الخل المتنجس بالخمر ، لفقد سائر المطهرات ، بل ولا الخمر كما في شرح الأستاذ « لأنها وان استهلكت في الخل إلا أن الخل نجس ، فهي مستهلكة في الشي‌ء النجس ، فيكون نجسة البتة ، لأنها صارت خلا نجسا » انتهى السالم عن معارضة ما دل على طهارة الخمر بالتخليل القاضي بطهارة ما يعالج به تبعا ، حتى صحيح ابن المهتدي بعد تنزيله على المتعارف المعتاد من عدم استهلاك المعالج بالمعالج به ليكون تابعا له ، بل هو المنساق من تلك الأخبار ، ضرورة ظهورها حتى الصحيح السابق في بقاء الموضوع المنقلب إلى الخل لا مع هلاكه.

٢٨٩

بل‌ خبر أبي بصير (١) عن الصادق عليه‌السلام كالصريح في ذلك ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخمر يصنع فيها الشي‌ء حتى تحمض ، قال : إذا كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فيه فلا بأس » بل خبره الآخر المتقدم سابقا كذلك إن قرأ « يقلبها » فيه بالغين المعجمة ، بل هو بعد الاستهلاك لا يصدق عليه اسم الخمر حتى يتحقق الانقلاب والتحول والاستحالة ، لصيرورته خلا وإن لم يكن باستحالة وانقلاب ، إذ سلب اسم الخمرية عنه وتسميته خلا أعم منهما ، والاكتفاء بالانقلاب التقديري الفرضي لا دليل عليه ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، كظهورها في عدم الاكتفاء بالاستهلاك من غير انقلاب حتى باعتراف الخصم ، ولذا اعتبر مضي زمان ينقلب فيه مثله ، على أن طهارة الخمر بالخل مخالفة للضوابط ، ولذلك اختص به من بين المائعات.

فينبغي الاقتصار فيها على المتيقن ، بل لعل التأمل الجيد يشرف الفقيه الماهر على القطع بعدم طهارة الكثير جدا من الخل بتبعيته لانقلاب قطرة خمر وقعت فيه واضمحلت في أجزائه.

بل قد يقال : إنه لا يمكن حصول اليقين بصيرورته خلا طبيعة ، إذ لعل هذا الاستهلاك والحموضة العارضة من الخل تمنع من ذلك ، كما أن ترك الأمر به في كثير من الأخبار ـ مع سهولته ، وإمكان تطهير أكثر أفراد الخمر به لتيسر إهلاكه بالخل في غالب الأوقات ـ أوضح شاهد على ما ذكرنا ، إلى غير ذلك من المؤيدات الكثيرة الظاهرة بالتأمل في الأدلة مع الانصاف.

فلا ريب ان الأقوى عدم الطهارة في الفرض المذكور ، كما ان الأقوى عدم طهارة الخمر لو تنجست بنجاسة خارجية وان لم تبق عينها بناء على تضاعف النجاسة ، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن ، بل الظاهر ، إذ الانقلاب يطهر من النجاسة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢.

٢٩٠

الخمرية ، فلو أحيل الخمر حينئذ بمتنجس لم يطهر ، لكن في كشف الأستاذ انه إن استحال إلى المحال أولا ثم رجع هو والمحال إلى ما استحال منه طهر ، وإن أحال ولم يستحل بقي على نجاسته ، وهو لا يخلو من وجه.

ولو تخلل بعض الخمر المجتمع لم يطهر الباقي قطعا ، لكن هل ينجس ذلك به مطلقا أو يفرق بين الأعلى والأسفل بل وبين المسامت وغيره؟ وجهان ، أقواهما الأول ، لعدم اندراجه فيما دل على عدم سراية النجاسة من السافل مثلا إلى العالي ، فيبقى على إطلاق نجاسة ملاقي النجاسة ، هذا.

وقد عرفت ان العصير كالخمر في طهارته بالخلية ، بناء على نجاسته بالغليان ، للإجماع بقسميه وغيره ، ويزداد عليه طهارته بذهاب ثلثيه ، ضرورة تبعية زوال نجاسته لزوال حرمته الثابت بالذهاب المذكور إجماعا وسنة (١) مستفيضة حد الاستفاضة إن لم تكن متواترة.

بل لا ريب في انه يفهم من فحواها بناء على كون ذلك مطهرا له كما أنه محلل تبعية الآلات والمزاول ونحوهما له في الطهارة ، بل في اللوامع الإجماع عليه ، مضافا إلى لزوم الحرج والمشقة لولاه ، وطهارة أواني الخمر المنقلب خلا ، وآلات النزح والنازح وجوانب البئر ، لاتحاد طريق الجميع أو قياس الأولوية ، بل في كشف الأستاذ أنه يطهر بذلك أيضا ظاهر ما دخل فيه وباطنه ابتداء أو بعد الغليان والاشتداد من تراب وأخشاب وفواكه وغيرها ، كالمحكي عن النهاية والروض من التصريح بطهارة الأجسام المطروحة فيه ، بل قيل إنه لم يوجد فيه صريح مخالف ، لا طلاق ما دل على الحلية ، وترك الاستفصال المستلزمة للطهارة هنا قطعا له ولها ، وإلا عادت منجسة له ، ولفحوى طهر الأجسام المطروحة في الخمر بناء عليه ، ولعدم معقولية الفرق بينه وبين المطروح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأشربة المحرمة.

٢٩١

المائع الثابت تبعيته في الطهارة له إجماعا كما في اللوامع.

نعم ينبغي اعتبار تحقق التبعية في سائر ما تقدم بأن يكون معه غير غائب عنه في وقت تطهيره إلا بما لا ينافيها ، فلا يطهر حينئذ غير العامل ، بل ولا العامل معرضا عن العمل خاليا عن صورة التشاغل ، وكذلك ثيابه وسائر الآلات اقتصارا على المتيقن ، بل ينبغي الاقتصار على ما علم تبعيته دون ما شك فيها فضلا عما ظن عدمها ، بل هو المدار في جميع ما تقدم.

كما انه ينبغي الاقتصار في الطهارة والحل على ذهاب الثلثين بالنار وإن كان يقوى إلحاق الشمس بها ، أما الهواء والتشريب وطول البقاء أو المركب منها خاصة أو من الأولين معها فلا يخلو من نظر بل منع ، خصوصا الأخيرين وإلا لم ينجس بالعصير أكثر الأشياء ، فتأمل.

ولا يلزم البحث عن كيفية الذهاب من الجوانب ، نعم لو علم الذهاب من جانب دون آخر انتظر ذهابهما منه.

والمعتبر صدق ذهاب الثلثين من غير فرق بين الوزن والكيل والمساحة ، وإن كان الأحوط الأولين ، بل قيل الأول.

ولا يحل العصير بل ولا يطهر بغير الخلية وذهاب الثلثين ، للأصل وإطلاق النصوص (١) والفتاوى ، فما في اللوامع من طهارته بصيرورته دبسا وإن لم يذهب ثلثاه حاكيا له عن الجامع ضعيف ، كمستنده من أصالة الطهارة والإباحة ، وإطلاق دليل طهارة الدبس وحله ، لوجوب الخروج عنه بما عرفت ، وأضعف منه التمسك باندراجه حينئذ في الاستحالة ، إذ هو ليس منها قطعا.

كما انه ليس منها ـ وإن كان قريبا إليها بل متحدا معها في تقرير الدليل ـ الإسلام‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ و ٣١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة.

٢٩٢

والانتقال الذي عدهما غير واحد من الأصحاب من المطهرات ، بل لا خلاف أجده فيهما ، كما لا إشكال بل حكى الإجماع على الأول في المنتهى والذكرى وغيرهما ، بل هو في الجملة من الضروريات ، بل والثاني إذ المراد به انتقال شي‌ء حكم بنجاسته باعتبار إضافته إلى محل خاص إلى محل آخر حكم الشارع بطهارته بإضافته اليه ، كانتقال دم ذي النفس المحكوم بنجاسته إلى غير ذي النفس من القمل والبق ونحوهما ، لشمول ما دل (١) على طهارته دمها مما تقدم سابقا له ، كما انه لو انعكس الأمر حكم بالنجاسة لذلك ، وبهما ينقطع استصحاب نجاسة الأول وطهارة الثاني بعد تسليم إمكان جريانه في نحو المقام ، لتغير الموضوع ، ضرورة مدخلية الإضافة في الحكم المذكور ، وإن كان بينهما تعارض العموم من وجه ، بل قد يدعي أخصية الاستصحاب ، لكنه على كل حال معارضه أقوى منه قطعا.

نعم يعتبر صدق الإضافة حقيقة ، فلو شك في انتقال الاسم بعد الانتقال من الجسم كما إذا دخل شي‌ء من النجاسات المتعلقة بذوات النفوس في بطون غير ذوات النفوس ولم يستقر فيها حتى يتبدل الاسم لم يحكم بالطهارة ، كما انه لم يحكم بالنجاسة في العكس.

ولا فرق بعد صدق الإضافة المذكورة بين الحيوان وغيره ، وبين الدم وغيره ، فلو شرب الشجر أو النبات ماء متنجسا طهر بمجرد انتقاله إلى باطنه ، لصدقها حينئذ بذلك ، كما هو واضح.

لكن ينبغي أن يعلم أن الإسلام يطهر عن نجاسة الكفر بجميع أقسامه إلا الارتداد الفطري منه الرجل خاصة دون الامرأة بل والخنثى المشكل والممسوح ، للأصل بمعنى الاستصحاب لموضوع الكفر نفسه ، ولحكمه من النجاسة ونحوها ، وإطلاق ما في مواريث كشف اللثام من الإجماع على عدم قبول توبته ، كالمحكي في باب الحدود منه أيضا عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب النجاسات.

٢٩٣

الخلاف المؤيد بالشهرة المحكية ، بل بمعروفية ذلك في كلمات الأصحاب حتى يرسلوه إرسال المسلمات.

وقول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيح ابن مسلم (١) : « من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إسلامه فلا توبة له ، وقد وجب قتله ، وبانت منه امرأته ، ويقسم ما ترك على ولده » المعلوم إرادة الفطري منه ، كمعلومية إرادة حكم التوبة من نفيها الذي الطهارة وقبول أعماله منه قطعا.

ومرسل عثمان بن عيسى (٢) « من شك في الله بعد مولده من الفطرة لم يفي‌ء إلى خير أبدا » المنجبر سنده بما عرفت كمتنه لو كان محتاجا ، إذ لا ريب في كون الطهارة وقبول أعماله خيرا ، ولا شعار عدم قبول توبته في سائر أحكامه الظاهرة من قتله وقسمة أمواله وبينونة زوجته وغيرها بجريانه مجرى الكافرين في سائر أحكامهم التي النجاسة منها ، بل أهونها ، وغير ذلك من المؤيدات الكثيرة.

والمناقشة في الأصل ـ بعدم جريانه هنا لتغير الموضوع باعتبار صيرورته مسلما بإقراره بعد أن كان كافرا بإنكاره ، بل يشمله حينئذ كلما دل (٣) على طهارة المسلمين الذي يقصر عن مقاومتها الاستصحاب ـ من غرائب الكلام ، إذ البحث في صيرورته مندرجا تحت إطلاق المسلم بذلك ، بل ظني أنه لا يقول به من قال بقبول توبته باطنا خاصة ، إذ هو أعم من ذلك ضرورة ، وإلا لاقتضى عدم قبولها في الظاهر اندراجه في الكافر بالأولى ، لا أقل من أن يكون واسطة عنده بين الكافر والمسلم على معنى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب حد المرتد ـ الحديث ٢ من كتاب الحدود والتعزيرات.

(٢) أصول الكافي ـ ج ٢ ـ ص ٤٠٠ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٥.

(٣) صحيح مسلم ـ ج ١ ـ ص ١٩٥ المطبوع بمصر.

٢٩٤

كونه كافرا من جهة ومسلما من أخرى ، لا أنه موضوع خارج ليتمسك حينئذ في طهارته بالأصل ، فما شك فيه حينئذ من الأحكام الثابتة له بارتداده وقبل توبته لا ريب في استصحابه.

وأغرب من ذلك إثبات تلك الدعوى بوضوح صدق اسم المسلم عليه ، بناء على ثبوت الحقيقة الدينية فيه وفي الكفر ، ضرورة ان الإسلام شرعا عبارة عن الإقرار بالشهادتين ، كما أن الكفر عبارة عن إنكارهما أو إحداهما ، وعلى تقدير عدم الثبوت فأظهر ، إذ لا يخفى ظهور ما دل (١) على كون الإسلام الإقرار بالشهادتين في غيره ، وكيف لا مع اشتمال أكثرها على أنه به تحقن به الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ونحو ذلك مما علم انتفاؤه في الفرض ، كما ان اشتمالها أيضا على الفرق بينه وبين الايمان ظاهر في كون المراد من ذلك بيان الإسلام على الإهمال لا التعميم المثمر في المقام ، على أن ارتداده قد يكون بغير إنكار الشهادتين ، بل كان بفعل بعض ما يقتضي الاستخفاف بالدين ونحوه مما لا يتم معه الاستدلال بتلك الإطلاقات المناقش فيها بما عرفت ، بل يمكن معارضتها بالإطلاقات الدالة (٢) على كفر المرتد واستحقاقه جهنم ، ضرورة شمولها لمن أعقب ارتداده بالتوبة ، وترجيحها عليها باعتبار اعتضادها بإطلاقات التوبة وعموماتها يدفعه ـ بعد إمكان منع شمول عمومات التوبة الكفر ونحوه ، خصوصا مع قوله تعالى (٣) : ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ) كإمكان منع رجحانها عليها مع ذلك أيضا ، لأكثرية أفرادها وخروجها مخرج القواعد العامة والمقتضيات التي قطع النظر عن موانعها ـ أنها معتضدة بالاستصحاب وما سمعته من الأدلة السابقة القاضية بعدم‌

__________________

(١) أصول الكافي ـ ج ٢ ص ٢٥ من طبعة طهران.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب حد المرتد من كتاب الحدود والتعزيرات.

(٣) سورة النساء ـ الآية ٥١.

٢٩٥

قبول توبته الواجب تحكيمها عليها ، لخصوصيتها حتى الاستصحاب منها ، وعمومية تلك.

ودعوى تنزيلها ـ على إرادة عدم قبولها بالنسبة للأحكام الظاهرية دون الباطنية المتفرع عليها العقاب ونحوه ، جمعا بين الأدلة بشهادة العقل ، للقطع والإجماع على عدم سقوط التكليف عنه بالإسلام وأحكامه من الصلاة والصوم والحج وغيرها ، ولا ريب في قبحه مع فرض عدم إمكان ذلك منه بعدم قبول توبته ، لكونه من التكليف بما لا يطاق المنافي للعدل ، فالجمع بين الأدلة حينئذ يتعين بإرادة عدم القبول الظاهري دون الباطني ـ في غاية السقوط.

إذ فيها أولا أنه يمكن منع القطع بعدم سقوط التكليف عنه ، لظهور الأدلة في تنزيله منزلة الميت ، كما يومي اليه اعتداد زوجته عدة الوفاة ، وقسمة أمواله بين ورثته وغير ذلك ، كإمكان منع كون ما نحن فيه من طهارة بدنه للغير من مقتضيات القبول الباطني ، ضرورة أعمية ذلك الشاهد العقلي منها ، بل جعل نجاسته من الأحكام الظاهرية التي حكي الإجماع على عدم قبول توبته بالنسبة إليها ، بل لعله محصل ، ولا يقدح فيه ما عن أبي علي من القبول مطلقا ظاهرا وباطنا بعد أن كان بمكانة من الضعف.

والالتزام بمقتضى الدليل العقلي ـ من قبول أعماله ، فيكون بدنه طاهرا بالنسبة إليه خاصة في الأعمال التي اشترط الشارع الطهارة فيها ، أو يكون الشرط بالنسبة إليها ساقطا ، فتصح أعماله في حقه وإن كان نجسا لا في حق غيره ، فلا يؤتم به ولا يستناب مثلا ـ أولى قطعا ، بل لعل مراد القائل بالقبول الباطني ذلك لا الطهارة للغير ، وإلا كان أمرا زائدا على القبول الباطني كما اعترف به الشهيد الثاني في حدود روضته ، حيث قال بعد أن قوى القبول الباطني محتجا ببعض ما سمعت ، وحينئذ فلو لم يطلع عليه أحد أو لم يقدر على قتله أو تأخر قتله بوجه وتاب قبلت توبته فيما بينه وبين الله تعالى ،

٢٩٦

وصحت عباداته ومعاملاته ، وطهر بدنه ، ولا يعود ماله وزوجته بذلك للاستصحاب ، ولكن يصح له تجديد العقد عليها بعد العدة ، وفي جوازه فيها وجه ، كما يجوز للزوج العقد على المعتدة منه بائنا ، وبالجملة فيقتصر من الأحكام بعد توبته على الأمور الثلاثة في حقه وحق غيره ، وهذا أمر آخر وراء القبول باطنا.

لكنك خبير بما فيه ، إذ هو مجرد دعوى خالية عن الدليل ، بل مخالفة له ، بل يمكن تحصيل الإجماع على خلافها ، بل ظاهر أول عبارته نفسه الاعتراف بذلك ، وثانيا أنه لا قبح في التكليف بذلك بعد امتناعه عليه باختياره ، لما هو مقرر في محله أن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وله نظائر كثيرة في الشرع.

والقول بأن ذلك يتم في التكليف بالإسلام نفسه وبه للصلاة لو وقع بعد الوقت ـ أما لها مع فرض وقوعه قبل الوقت فلا ، لعدم وجوب مقدمة الواجب المطلق قبله ، ففي الفرض يصادف الواجب حينئذ امتناع الشرط ، ولا ريب في قبح الأمر بالمشروط مع العلم بانتفاء شرطه ، فيلزم فيه حينئذ سقوط التكليف المعلوم بطلانه ، ويتم في الجميع بعدم القول بالفصل ـ جزاف من القول.

إذ هو ـ مع إمكان معارضته بمثله متمما بعدم القول بالفصل أيضا ، وإمكان منع عدم وجوب حفظ مقدمة الواجب المطلق قبل وقته التي لا بدل لها ، ويعلم عدم حصولها في تمام وقته كإتلاف الطهورين ، والنوم قبل وقت الفريضة ونحوهما بشهادة ذم العقلاء له على ذلك ، بل لعل وجوبه مفهوم من نفس الخطاب التوقيتي ـ مدفوع بأنه لا مانع من الالتزام بتكليفه في الفرض المذكور أيضا تكليفا امتحانيا ، أي يراد منه العقاب خاصة ، نحو التكليف بأصل الإسلام المسلم عند ذلك القائل ، ضرورة الاكتفاء في صحة التكليف بالعبادة بصحة التكليف بشرطها على أن يكون التكليف بها على نحو التكليف به في الابتلائي وغيره ، ولا ريب في صحة تكليفه بالإسلام بعد الوقت امتحانا وان كان كفره كغيره‌

٢٩٧

قبله ، فيصح التكليف بالصلاة حينئذ كذلك ، واعتذار المكلف بامتناع الشرط علي يدفعه ما دفعه بالنظر إلى التكليف بالإسلام نفسه.

ودعوى تسليم ذلك بالنظر اليه نفسه ، وأنه لا قبح فيه ، ومنعه بالنظر إلى الخطاب الشرطي ، وانه قبيح لا يصغى إليها ، بل لا يعقل لها وجه عند التأمل الجيد.

كما انه لا يصغى بعد ما عرفت إلى إثبات أصل الدعوى من القبول الباطني بالمعنى المستلزم لطهارة بدنه للغير ونحوه‌ بالمروي (١) عن الباقر عليه‌السلام انه قال : « من كان مؤمنا فحج وعمل في إيمانه ثم أصابته في إيمانه فتنة فكفر ثم تاب وآمن قال : يحسب له كل عمل صالح عمله في إيمانه ، ولا يبطل منه شي‌ء » لعدم حجيته في نفسه أولا ، ووضوح قصوره عن مقاومة ما تقدم ثانيا ، واحتماله غير الفطري ، بل لعل الظاهر منه ذلك ، كعدم ظهوره في إرادة ما عمله في الايمان الثاني ثالثا ، على انه لا يستلزم الطهارة الغيرية كما عرفت ، فمن العجيب دعوى أولوية تقييد ما دل على عدم قبول توبة الفطري بهذه الرواية من العكس.

فلا ريب حينئذ ان الأقوى النجاسة في المرتد ، وفاقا لصريح بعضهم وظاهر المعظم أو صريحه ، وخلافا لصريح الشهيدين والعلامة الطباطبائي والمحكي عن التحرير والموجز ، وإن كان قد يقوى في النظر قبول توبته باطنا بالنسبة إليه نفسه لا غيره ، كما انه يقوى القول بقبول توبته ظاهرا وباطنا لو كان ارتداده بإنكاره بعض الضروريات مع سبق بعض الشبهات والدخول في اسم المسلمين كطوائف الجبرية والمفوضة والصوفية ، وفاقا لصريح الأستاذ في كشفه ، وخلافا لظاهر السرائر أو صريحها كظاهر إطلاق الباقين ، للشك في شمول أدلة الفطرية لهم ، فتبقى عمومات التوبة بحالها.

والمراد بتطهير الإسلام للكافر انما هو له نفسه لا ما باشره سابقا حتى ثيابه على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١.

٢٩٨

إشكال ، اقتصارا على المتيقن ، بل هو مقتضى الدليل ، واحتمال طهارته تبعا لا شاهد له ، نعم قد يقال بالتبعية بالنسبة إلى فضلاته المتصلة به من عرق أو بصاق أو نخامة أو قيح أو سوداء أو صفراء ، لصدق إضافتها للمسلم ، كما انه ينبغي القطع بها بالنسبة للشعر والظفر ونحوهما.

هذا كله من حيث النجاسة الكفرية ، أما لو كان بدنه متنجسا بنجاسة خارجية لم تبق عينها ففي طهارته بالإسلام وعدمها وجهان ، أقواهما الأول ، بناء على عدم تأثر النجس بالنجس ، بل وعلى غيره ، للسيرة وخلو السنة عن الأمر بذلك مع غلبته ، ويتبعه ولده في الطهارة بالإسلام ، سواء كان أبا أو أما إلحاقا بأشرف الأبوين ، بل أو أحد الجدين القريبين كما في كشف الأستاذ ، كما أن فيه أيضا التصريح بالطهارة تبعا للسابي المسلم ، لكن قيده بعدم وجود أحد الأبوين أو الأجداد معه ، وللبحث فيه مقام آخر.

كما انه قد تقدم البحث في كثير من الأشياء التي ذكرها فيه في عداد المطهرات ، حتى أنهاها إلى عشرين من حجر الاستنجاء وخرقه ، وزوال العين في الحيوان ، والغيبة في بدن الإنسان بل وثيابه ، وخروج دم المذبح والمنحر ، والاستعمال في نحو آلات العصير والبئر وبدن النازح والعاصر وثيابهما ، وسبق استعمال الماء للمغتسل قبل الصلب ، والشهادة لبدن الشهيد ، وغير ذلك ، مع أنه لا يخفى عليك عدم كون الأخيرين من المطهرات ، بل هما نافيان لأصل تحقق النجاسة ، كما ان سابقهما مندرج فيما ذكرناه وذكره هو أيضا مما يطهر بالتبعية ، وإن اختلفت أفرادها ، فمنها ذلك ، ومنها طهارة بدن مغسل الميت وآلات التغسيل وثياب الميت التي غسل فيها ، وخرقته التي وضعت عليه ، بل قيل وثياب المغسل نفسه ، ومنها ما عرفته من رطوبات الكافر وولده ، وإناءات الخمر المخللة والأجسام المطروحة فيها ، ومنها طهارة فضلات الإبل الجلالة الغير المنفصلة منها حتى ثم الاستبراء حتى العرق نفسه ، إذ هي كرطوبات الكافر الذي أسلم في تغير إضافتها ،

٢٩٩

والثالث ليس من المطهرات حقيقة ، بل هو مما يحكم معه بالطهارة ، فلا ينبغي عده منها حينئذ كما اعترف به غير واحد.

بل والثاني أيضا بناء على ما ذكرناه في باب الأسئار من احتمال عدم تنجس الحيوان بملاقاة عين النجس حتى تكون الإزالة مطهرة له ، بل هو في الحقيقة كالبواطن المتفق بين الأصحاب على طهارتها بمجرد زوال عين النجاسة ، بل قيل إنه يمكن أن يكون من ضروريات الدين.

مضافا إلى‌ صحيح صفوان عن إسحاق بن عمار عن عبد الحميد بن أبي الديلم (١) قال للصادق عليه‌السلام : « رجل شرب الخمر فأصاب ثوبي من بصاقه ، فقال : ليس بشي‌ء ».

وقول الرضا عليه‌السلام في خبر إبراهيم بن أبي محمود (٢) : « يستنجي ويغسل ما ظهر منه على الشرج ، ولا يدخل فيه الأنملة ».

كقول الصادق عليه‌السلام في خبر عمار (٣) في حديث : « انما عليه أن يغسل ما ظهر منها يعني المقعدة ، وليس عليه أن يغسل باطنها ».

وموثق عمار (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « في رجل يسيل عن أنفه الدم هل عليه أن يغسل باطنه يعني جوف الأنف؟ فقال : انما عليه أن يغسل ما ظهر » وغير ذلك ومرادهم على الظاهر عدم النجاسة لا الطهارة بالزوال ، وإن كان ربما توهمه بعض العبارات بل الموثق ظاهر فيما قلناه من عدم نجاستها بملاقاة عين النجاسة ، كما هو قضية الأصل والعمومات ، إذ ليس في أدلة النجاسات عموم مثلا يشمل نجاسة البواطن بها.

وقد أجاد الأستاذ في شرحه على المفاتيح حيث قال : إنه لم يتحقق إجماع على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

٣٠٠