جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بل التأمل في الأدلة السابقة من الأخبار يورث القطع بتناولها لمثله ، ولذا صرح بالطهارة فيه في جامع المقاصد والروض والروضة وغيرها ، لكن ينبغي تقييده بما لو كانت النجاسة متصلة وسارية من الظاهر إلى الباطن وجفا بها معا ، لا ما إذا اختص الجفاف بالظاهر ، فإنه يطهر هو حينئذ خاصة كما صرح به في كشف الغطاء ، ولا ما إذا كانت مختصة بالباطن وجففته الشمس بالإشراق على الظاهر الطاهر ، فإنه لا يبعد عدم حصول الطهارة له وان كان شيئا واحدا ، كما عساه يلوح من الذخيرة بل وغيرها ، اقتصارا على المتبادر المنساق من الأدلة ، بل خبر الحضرمي ظاهر في ذلك ، كما انه ظاهر خصوصا على روايته بلفظ « كل » في عموم الحكم بطهارة الشمس للأرض ونحوها.

بل وكذا كل ما لا يمكن نقله كالنباتات والأبنية ونحوها كما هو الأقوى في النظر ، خلافا لما عن المهذب من النص على عدم طهارة غير البواري والحصر بها الذي هو في غاية الضعف والغرابة ، لمخالفته عموم الخبر المذكور ، ونص صحيح زرارة السابق على طهارة السطح والمكان الذي يصلي فيه ، وظهور صحيحه الآخر في السطح ، وموثق عمار في الأرض ، بل لا أعرف خلافا من غيره في طهارة الأرض بها ، بل يمكن دعوى تحصيل الإجماع على خلافه فيها فضلا عن محكيه من غير واحد.

بل من الغريب نصه على طهارة الحصر بها إلحاقا لها بالبواري ، مع خلو الأخبار عن التعرض لها ، وتركه الأرض المدلول عليها بما عرفت ، فلو عكس بأن ذكر الأرض والبواري وترك الحصر كما عن النزهة كان أولى ، وإن كان لا خلاف يعرف أيضا في طهارتها بها مما عدا النزهة ، بل هي من معقد إجماع الخلاف ونفي خلاف التنقيح ، بل لعل مراده فيها بالبواري ما يشملها كالأخبار ، كما يشهد له ما في كشف اللثام « اني لم أعرف في اللغة فرقا بين الحصير والبارية ، وفي الصحاح والديوان والمغرب ان الحصير هو البارية » انتهى.

٢٦١

ولا ينافيه ما يتراءى من عرف هذا الزمان من اختصاص البارية بالمعمولة من القصب والحصير بالمعمول من غيره ، على أنه إن لم نقل بشمولها له لغة أمكن إلحاقه بها إلغاء للخصوصية بمعونة فهم الأصحاب ، بل في المنتهى والجامع وعن المبسوط إلحاق كل ما عمل من نبات الأرض غير القطن والكتان ، وإن كان لا يخلو من نظر ، لعدم دليل معتبر على التعدية المذكورة بحيث يقطع الأصل وخبر الحضرمي ، مع أنه لا جابر له فيما نحن فيه محتمل لإرادة ما لا ينقل عادة من الأشياء التي يعتاد إشراق الشمس عليها ، كالأبنية ونحوها ، ولا ينافيه العموم اللغوي فيه بعد ظهور مدخول « كل » في ذلك مع ملاحظة دخولها.

ومن هنا نص في جامع المقاصد والموجز وغيرهما على عدم طهارة غير الحصير والبارية من المنقولات ، بل هو ظاهر باقي الأصحاب عدا من عرفت ، مع ظهور عملهم بالخبر المذكور في غير الأرض مما لا ينقل ، إذ في القواعد والإرشاد والتذكرة ـ بل في الذخيرة والبحار والكفاية أنه المشهور بين المتأخرين ، بل عن الدلائل انه المشهور ـ النص على طهارة النبات والأبنية كالمختلف وعن النهاية والتلخيص ، لكن مع إبدال النبات بالأشجار ، وعن التبصرة الأبنية ، والتحرير النباتات وشبهها ، وفي المنتهى وعن كتب الشهيد ما لا ينقل ، بل عن الدلائل نسبته إلى المتأخرين ، وفي الموجز ما اتصل بالأرض ولو ثمرة والأبنية ومشابهها ولو خصا ووتدا ، وكذا السفينة والدولاب وسهم الدالية والدياسة ، وعن المهذب البارع ما جاور الأرض إذا اتصل بها كالطين الموضوع عليها تطيينا أو على السطح ، وكذا الجص المثبت بإزاء الحائط حكمه حكم البناء ، وكذا المطين به ، وكذا القير على الحوض والحائط ، بل عنه انه يلحق بالأبنية مشابهها وما اتصل بها مما لا ينقل عادة كالأخصاص والأخشاب المستدخلة في البناء ، والأجنحة والرواش والأبواب المغلقة وأغلاقها والرفوف المتمرة؟؟؟ والأوتاد المستدخلة في البناء ،

٢٦٢

إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب ما يظهر منها العمل بالخبر المذكور ، لبعد احتمال كون مدركهم غيره.

فمن هنا اتجه حينئذ القول بعمومه لسائر ما يصلح تناوله له مما لا ينقل مما تقدم وغيره بعد انجبار سنده بما عرفت ، وتأييده بالرضوي السابق ، وسهولة الملة وسماحتها ، وعدم ظهور الفرق بين الأرض وبينه ، بل قد يظهر إرادة المثالية منها بمعونة ما سمعت وبالسيرة المستقيمة في أكثر أفراده إن لم يكن جميعها وغير ذلك.

بل لعل منه الأواني المثبتة والعظيمة ، كما نص عليه في كشف اللثام ، والفواكه ما دامت على أشجارها ، كما عن ابن فهد وجامع المقاصد والروض النص عليها ، بل في الروضة وإن حان قطافها ، خلافا لما عن ظاهر نهاية الفاضل أو صريحها فلا تطهر ، بل قد يظهر من الذخيرة وعن المعالم الميل إليه إذا حان القطع ، وإن كان الاحتياط ذلك.

بل قد يظهر من المحكي عن فخر الإسلام عموم الحكم لما لا ينقل وإن عرض له النقل ، كالنباتات المنفصلة من الخشب والآلات المتخذة من النباتات ، وإن كان لا يخلو من نظر ، لعدم اندراجه في الخبر المذكور بعد التنزيل المزبور ، إذ العبرة بوصف عدم النقل حال الجفاف ، أو حال التنجس في وجه ضعيف ، أو حالهما في وجه قوي ، اللهم إلا أن يستند في ذلك إلى الاستصحاب ، وفيه بحث ، ومن هنا جعله في الحدائق قولا غريبا.

نعم يمكن عموم الحكم للأرض خاصة وإن نقلت كالحجر ونحوه ، لصدق اسم الأرض ، ولفحوى طهارة توابع الأرض من الحصى وغيره لا للخبر السابق ، ولعله لذا نص في المنتهى على طهارة حجر الاستنجاء ، مع أنه لا يخلو من نظر أيضا ، لتبادر غير ذلك من الأرض لكن يمكن عموم الحكم لسائر ما ينقل بعد صيرورته مما لا ينقل ، كما يومي اليه التمثيل بنحو ذلك ممن عرفت ، وإن كان لا يخلو أيضا من نوع تأمل.

٢٦٣

إلا أنه على كل حال ما في معتبر المصنف من التردد في طهارة مالا ينقل ما عدا الأرض ـ بل عن القطب الراوندي النص على المنع في غيرها منه ، كما عساه الظاهر من اقتصار مقنعة المفيد ونافع المحقق وغيرهما عليها منه ، بل في السرائر التصريح بذلك مع التمثيل له بالنبات ، بل قال فيها : « وقد روي (١) أن ما طلعت عليه الشمس فقد طهرته ، وهي رواية شاذة ضعيفة لا يلتفت إليها ولا يعرج عليها » بل مال اليه بعض متأخري المتأخرين ـ محل للنظر بل المنع ، لما عرفت.

لا لما في الرياض من الاستدلال على التعميم المذكور بل والأعم منه لاندراج المنقول فيه إلا ما علم خروجه بإجماع ونحوه بالأصل المزبور الذي نقلناه عنه سابقا في البحث عن عموم الحكم لكل نجاسة ، إذ هو بعد تسليمه له إنما يقتضي عدم نجاسة الملاقي لما شك في تطهير الشمس له من النجاسات والأمكنة ، لتعارض الاستصحابين ، فيبقى عموم طهارة كل شي‌ء حتى يعلم سالما ، لا أنه يقتضي طهارة الملاقي بالفتح بحيث يجوز السجود عليه والتيمم منه ونحو ذلك ، ضرورة عدم معارضة الاستصحاب فيه نفسه بشي‌ء إذ استصحاب طهارة الملاقي بالكسر يكفي فيه عدم العلم بنجاسة الملاقي بالفتح ، لا عدم نجاسته واقعا حتى يعارضه بالنسبة إليه نفسه ، كما هو واضح ، فلولا عموم الخبر المذكور المنجبر والمؤيد بما سمعت لاتجه البناء عليه في جميع صور الشك في النجاسات والأمكنة.

ومن هنا كان المتجه البقاء عليه فيما إذا جف بغير الشمس من ريح أو غيرها ، خصوصا بعد اعتضاده بما في المنتهى من أنه لو جف بغير الشمس لم يطهر عندنا قولا واحدا ، وما في التحرير من الإجماع على ذلك ، وما في موثق عمار السابق ، بل وصحيح ابن بزيع.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

٢٦٤

فما في موضع من الخلاف من الحكم بالطهارة بهبوب الريح كالشمس ضعيف جدا ، وإن كان ظاهره أو صريحه دعوى الإجماع عليه فيه ، لكنه موهون بالإجماعين السابقين اللذين يشهد لهما التتبع لكلمات الأصحاب وما في السرائر من نسبة ذلك من الشيخ إلى خلاف الإجماع ، وانه مذهب الشافعي ، بل وبتصريحه نفسه في موضع آخر منه أيضا بعدم طهارة ما يجف بغير الشمس ، بل ظاهره أو صريحه الإجماع عليه ، ولذا كان من المحتمل قويا إرادته بالطهارة ما في المنتهى والمختلف زوال الأجزاء الملاقية للنجاسة بهبوب الرياح لا جفافها أو غيره ، صونا لكلامه عن التنافي ، وإلا كان ضعيفا.

كضعف التمسك له بإطلاق خبر ابن أبي عمير (١) وصحيحي علي بن جعفر (٢) وخبره الآخر (٣) المسؤول فيه عن البيت والدار لا يصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلى فيهما إذا جفا؟ فقال : « نعم » كصحيح زرارة وحديد (٤) المتقدم سابقا المشتمل على سؤالهما الصادق عليه‌السلام « عن السطح يصيبه البول أو يبال عليه يصلى في ذلك المكان ، فقال : إن كان تصيبه الشمس والريح وكان جافا فلا بأس إلا أن يتخذ مبالا » وبأصالة الطهارة وعموماتها بناء على عدم جريان استصحاب النجاسة في مثله مما مدركها الإجماع المفقود في محل النزاع ، أو على ما سمعته سابقا من الرياض.

ضرورة فساد الأخير بما عرفت ، كضرورة وجوب تقييد الخبر الأول والصحيحين بما سمعت لو أريد من الصلاة فيها ما يشمل السجود ، على أنها قد اشتملت‌

__________________

(١) المتقدم في الصحيفة ٢٥٥ في التعليقة (١).

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣ والباب ٣٠ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

٢٦٥

على البواري ، ودعوى الشيخ في الأرض ، كوجوب تنزيل الثالث على إرادة ما عدا السجود من الصلاة فيه حتى من الخصم إن لم يقيد الجفاف فيه بالريح ، والرابع على التقية أو الريح التي لا تنافي نسبة الجفاف إلى الشمس ، لأن التحقيق عدم منافاة مثلها حينئذ للطهارة بها ، كما صرح به غير واحد على حسب غيرها من الضمائم من النار ونحوها ، لتناول الأدلة ، وعدم الانفكاك من مثل الريح غالبا.

انما الممنوع حصول نسبة الجفاف إلى غيرها منفردا أو مجتمعا معها بشرط الاجتماع أما لو كان مبدأ التجفيف إلى شي‌ء وغايته إلى آخر فالمدار على الغاية ، كما صرح به الأستاذ في كشفه ، لكن مع فرض بقاء رطوبة يصدق معها الجفاف.

وهل المدار في حصول الطهارة بالشمس اليبس أو الجفاف الذي لا تعلق معه رطوبة في الملاقي؟ وجهان ، ينشئان من ملاحظة الأخبار ، إلا أن الاستصحاب يشهد للأول.

وعليه فهل يكفي في حصول الطهارة بها عدم الجفاف قبلها وإن لم يكن فيه رطوبة تعلق بملاقيه ، أو لا بد من رطوبته رطوبة تعلق في الملاقي فتيبسه الشمس؟ وجهان أيضا ، لكن يشهد الاستصحاب لثانيهما ، فتأمل.

ومنها النار التي أشار المصنف إليها بقوله وتطهر النار ما أحالته رمادا أو دخانا من الأعيان النجسة ذاتا على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك في جامع المقاصد وظاهر التذكرة وعن السرائر فيهما ، وفي الخلاف واللوامع وعن ظاهر المبسوط في الأول ، وفي ظاهر المنتهى والتذكرة في الثاني ، بل في أولهما وكشف اللثام وظاهر الذكرى ان الناس مجمعون على عدم التوقي عن رماد الأعيان النجسة ، بل في الثاني وعن دخانها وأبخرتها ، كصريح المعتبر والذكرى في الدخان ، وهو الحجة بعد الأصل العقلي والشرعي السالم عن معارضة غير الاستصحاب الواضح عدم جريانه في المقام بتغير اسم الموضوع وحقيقته المعلق عليهما حكم النجاسة.

٢٦٦

والمعتضد بما وقع من غير واحد من الأصحاب من الاستدلال عليه بصحيح ابن محبوب (١) « سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ويجصص به المسجد ، أيسجد عليه؟ فكتب اليه بخطه أن الماء والنار قد طهراه ».

بل وبما عن‌ قرب الاسناد عن علي بن جعفر (٢) عن أخيه عليه‌السلام قال : « سألته عن الجص يطبخ بالعذرة أيصلح به المسجد؟ قال : لا بأس » وإن كان هو مبنيا على إرادة السؤال عن رماد العذرة مثلا المختلط مع الجص ، لأنه يوقد بهما عليه الذي لو بقي على النجاسة نجس الجص بعد وضع الماء عليه للبناء به ، وعلى إرادة الطهارة حقيقة بالنار التي أحالته رمادا في جواب الأول وإن ضم معها فيه الماء المعلوم عدم مدخليته في التطهير بالإجماع المحكي في المعتبر والمنتهى المحمول من جهتهما على إرادة الطهارة المجازية منه ، فيكون كنحو ما سبق من رش الثوب والمكان ونحوهما المحتمل نجاستهما استحبابا أو رفعا للنفرة أو غير ذلك ، ولا بأس بإرادة الحقيقي والمجازي بعد قيام القرينة في وجه ، على أنه يمكن جعله من عموم المجاز الذي لا إشكال فيه معها.

بل في المدارك والذخيرة وغيرهما إمكان إرادة المجازي خاصة الذي لا ينافي استفادة الحقيقي مما علم جوازه من تجصيص المسجد به والسجود عليه من الجواب ضمنا لا منه.

بل في الثاني احتمال إرادة ماء المطر من الماء ، إذ ليس في الرواية كون المسجد مسقفا ، فيراد المعنى الحقيقي حينئذ فيهما ، وإن كان قد يشكل بأنه لا وجه له بعد فرض تطهير النار تلك الأجزاء بل وبدونه ، ضرورة عدم قابلية ماء المطر لتطهير الأجزاء النجسة عينا.

نعم لو أريد تطهير الجص بماء المطر من نجاسته بايقاد العذرة وعظام الموتى عليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٥ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

٢٦٧

بسبب ما فيهما من الدسومة ونحوها ونفس تلك الأجزاء النجسة بإحالة النار لها رمادا كان ممكنا ، إذ عليه لا مانع من إرادة الطهارة الحقيقية من كل منهما.

بل يمكن حينئذ بناء على ذلك فرض الماء القليل أيضا إن قلنا بقابليته لتطهير مثله مما ينفذ فيه ماء الغسالة ولا ينفصل عنه كما تقدم سابقا ، بل قد عرفت الاعتراف من بعضهم بدلالة خصوص هذا الخبر على ذلك.

كما أنه يمكن أن يراد بتطهير الماء والنار له على أن النار مقدمة لحصولها بالماء بسبب تجفيفها له تجفيفا ينفذ فيه الماء ، إلا أنه يخرج عن الدلالة على المطلوب حينئذ.

بل في المعتبر والمنتهى الإشكال في أصل دلالته عليه بعدم مدخلية الماء الذي يمازجه ويحيل به في التطهير إجماعا ، وبعدم نجاسة الجص بالدخان ونحوه حتى يحتاج إلى التطهير ، وبأنه لم تصيره النار رمادا حتى يطهر بها بعد فرض نجاسته.

لكنه كما ترى مبني على إرجاع الضمير إلى الجص نفسه لا باعتبار ما خالطه من الأجزاء كما هو مبنى الاستدلال منا على ما عرفت البحث فيه مفصلا ، بل قد عرفت أنا في غنية عن هذا الخبر مما سمعت من الأصل والإجماع وغيرهما.

فما عن أطعمة الكتاب من التردد في الدخان أو هو والرماد ضعيف جدا ، على أن الموجود فيه هنا « ودخان الأعيان النجسة طاهر عندنا ، وكذا كل ما أحالته النار فصيرته رمادا أو دخانا أو فحما على تردد » وهو محتمل أو ظاهر في الفحم خصوصا بعد ظهور الإجماع منه أولا على طهارة الدخان ، وإن كان قد يحتمل إرادته به البخار ، فلا خلاف فيه حينئذ فيما ذكرنا.

كما انه لا خلاف فيه أيضا من المبسوط وان حكي عنه التصريح بنجاسة خصوص دخان الدهن النجس ، لكن علله بأنه لا بد من تصاعد بعض أجزائه قبل إحالة النار لها بواسطة السخونة ، وهو واضح الخروج عن محل البحث.

٢٦٨

كالمحكي عن نهاية الفاضل بعد حكمه بطهارة الدخان مطلقا للاستحالة كالرماد ، وانه لو استصحب شيئا من أجزاء النجاسة باعتبار الحرارة المقتضية للصعود فهو نجس ، ولهذا نهي عن الاستصباح بالدهن النجس تحت الظلال ، لعدم انفكاك ما يستحيل عن استصحاب أجزاء دهنية اكتسبت حرارة أوجبت ملاقاته الظل وإن كان هو محلا للنظر من وجوه أخر.

كتعليله النهي عن الاستصباح تحت الظلال بذلك ، إذ لا حرج على المالك بتنجيس ملكه ، وكدعواه عدم انفكاك ما يستحيل عن استصحابها ، إذ لمانع يمنعها عليه ، بل قد يدعى العفو عن مثل هذه الأجزاء ، للسيرة المحكية ممن عرفت إن لم تكن محصلة التي هي أقوى من الإجماع في بعض الأحوال على عدم توقي الناس دخان الأعيان النجسة ، خصوصا بعد اعتضادها بصريح الإجماع وظاهره.

وكالذي عساه يظهر منه من تنجس الدخان باستصحاب تلك الأجزاء وملاقاته لها ، فإنه وإن كان قد يؤيده قاعدة قبول الأجسام النجاسة ، لكن قد يمنع بشهادة السيرة وحكمهم بطهارة الأبخرة التي تمر على الأعيان النجسة الذي لا ينافيه ما في المنتهى من أن البخار المتصاعد من ماء النجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل وتقاطر حكم بنجاسته ، إلا أن يعلم تكونه من الهواء كالقطرات الموجودة على طرف إناء في أسفله جمد نجس ، فإنها طاهرة ، إذ لعل مراده بل هو الظاهر الأجزاء المائية التي تتصاعد مع البخار وتجتمع ، ولذا حكم بالطهارة مع العلم بتكونها من الهواء ، بل هو ظاهر في عدم نجاسة ذلك البخار عنده.

نعم قد يناقش في تعليقه الطهارة على العلم ، إذ المتجه العكس ، بل قد يناقش في أصل النجاسة هذه الأجزاء بما تقدم آنفا.

كما انه قد يستفاد منه ان المستحيل إلى شي‌ء لو رجع إلى المستحال منه لا يرجع حكم النجاسة ، وهو كذلك للأصل ، لكنه انما يتم في المتنجس دون عين النجاسة.

٢٦٩

وفي طهارته با حالة النار له كالنجاسة وعدمها وجهان أو قولان ، ينشئان من ظهور أولويته من عين النجاسة ، بل وأولوية النار من الماء لأبلغيتها منه في الإزالة ، وإطلاق معقد صريح إجماع جامع المقاصد وظاهر التذكرة ، بل في مفتاح الكرامة عن الأستاذ أيده الله لعله الظاهر من إطلاق الفقهاء ، بل يستفاد منهم الإجماع عليه. قلت : وهو كذلك وإن كان قد اقتصر بعضهم هنا على ذكر النجاسة ، بل حكي عن الأكثر ، لكن ملاحظة كلامهم في البحث عن طهارة الطين بالخزفية والآجرية ونحوهما تشرف الفقيه على القطع بعدم فرقهم بين النجس والمتنجس ، ضرورة ظهور بحثهم في ذلك من حيث كون ذلك استحالة وعدمه ، وإلا فلو فرض استحالة ذلك إلى الرماد ونحوه مما يقطع باستحالته كان من المتسالم على طهارته حينئذ ، كملاحظة إطلاقهم أو أكثرهم طهارة الكلب ونحوه بالملحية مثلا الشامل لما لو تنجس الماء به ثم صار هو معه ملحا ، بل في اللوامع الاستناد إلى حكمهم بطهارة الخمر والعذرة إذا صارا خلا وترابا مع نجاسة الإناء بالأول والأرض بالثاني إذا كانت رطبة ، وإن كان هو كما ترى ليس مما نحن فيه من طهارة المتنجس بالاستحالة لا التبعية ، كاستناده إلى استحالة ما لاقى المتنجس من عين النجاسة ، إذ البحث في الطهارة من النجاسة الحكمية الحاصلة للمتنجس شرعا بملاقاة عين النجاسة كما هو واضح.

ومن أن الحكم بالطهارة مع الاستحالة لانتفاء الموضوع المعلق عليه شرعا وصف النجاسة كالكلبية ونحوها ، وذلك ليس إلا في النجس ذاتا دون المتنجس ، لظهور عدم تعليق الحكم بنجاسته بملاقاته للنجس على كونه خشبا ونحوه ، بل هو لأنه جسم لاقى نجسا. الاستحالة لا ترفع ذلك ، فيبقى الاستصحاب حينئذ محكما وسالما.

ولا ريب أن الأقوى الأول إن قلنا بأن النار من المطهرات التعبدية ، كما يومي اليه ذكرهم لها مستقلة للإجماع وغيره مما تقدم مما يمكن شموله للنجس والمتنجس حتى خبر‌

٢٧٠

الجص على أحد الوجوه ، بل وإن قلنا بكون ذلك للاستحالة ، لظهور عدم جريان الاستصحاب فيه ، بل لعله من المنكرات في العبادات.

ومنه ينقدح الشك في شمول أدلته لمثله ، بل قد يدعى ظهورها في غيره ، فيبقى أصل الطهارة المؤيد في بعض الأحوال بعموم ما دل على طهارة المحال اليه كالملح ونحوه ، وبما سمعته في بيان منشأ الشك سالما عن المعارض ، وسيأتي نوع تحقيق لذلك.

نعم يتجه البحث في المتنجس الذي تصيره النار فحما أو خزفا أو آجرا أو جصا أو نورة ، للشك في الاستحالة ، لا لأنها متنجسة ، ففي المفاتيح وجامع المقاصد واللوامع وظاهر المعالم والحدائق والرياض كما عن ظاهر حاشية الشرائع والدلائل طهارة الأول ، بل في اللوامع نسبته إلى أكثر المتأخرين ، بل قد يظهر من الأول عدم الخلاف فيه ، لكن ظاهره النجس لا المتنجس وان كانا من واد واحد عند التحقيق ، ضرورة أنه إن كان ذلك استحالة لتغير الاسم والحقيقة بل هو رماد في الحقيقة فالمتجه فيهما الطهارة ، وإلا فلا ، فما في المعالم من التوقف في النجس وعدم استبعاد الطهارة في المتنجس لا يخلو من نظر أو منع.

وفي ظاهر المسالك أو صريحهها وظاهر شرح الصغير لسيد الرياض النجاسة ، بل لعلها لازم تيمم التذكرة والذكرى وجامع المقاصد وغيرها ، حيث جوزوا التيمم بالخزف لعدم خروجه عن الأرض ، كما يومي اليه جواز السجود عليه على ما قيل ، بل ظاهر تيمم المعتبر أنه من المسلمات ، بل تقدم لنا في ذلك الباب ما له نفع تام ، وفيه شهادة على النجاسة.

وظاهر الروض كصريح الكفاية والبحار التوقف.

وفي الخلاف واللوامع وظاهر شرح الأستاذ للمفاتيح والرياض أو صريحهما وعن المبسوط والنزهة والمعالم وموضع من المنتهى وظاهر التذكرة طهارة الثانيين ، بل‌

٢٧١

وكذا القواعد ، لكن على إشكال والبيان في وجه قوي ، بل في الخلاف الإجماع عليه.

وفي الروضة وعن الروض والمسالك النجاسة ، وصريح بعضهم كظاهر آخر التردد والتوقف ، وهو في محله ، بل قد يقوى في النظر النجاسة للشك إن لم يكن ظنا أو قطعا في كون ذلك استحالة ، وتغير الاسم بعد تسليمه أعم منها ، فيبقى استصحاب النجاسة كاستصحاب عدم الاستحالة سالما.

وإجماع الشيخ ـ بعد عدم رفعه ما نجده من الشك في الاستحالة ، بل وعدم صلاحيته لذلك ، إذ هي من الموضوعات التي لا مدخلية له فيها حتى لو أفاد الظن ، لعدم ثبوت حجية مثله هنا كغيره من الظنون بمصداق الموضوع لا معناه ، بل المعتبر القطع بالاستحالة ، أو ما هو بمنزلته ـ لا عبرة به.

والقول بالحكم بالطهارة له وإن لم تثبت الاستحالة بل وإن ثبت عدمها مؤيدا بإطلاق ما دل على تطهير النار كخبر الجص (١) بل وخبر الخبز (٢) وكونها أولى من الشمس ، وذكرهم لها مستقلة عن الاستحالة ، ونحو ذلك ضعيف جدا ، لوضوح قصوره مع الفرض المذكور عن إثبات ذلك ، بل يمكن تحصيل الإجماع على عدم الاكتفاء في تطهير النار بالتجفيف واليبوسة ، كوضوح ضعف الاستدلال على أصل طهارتهما بفحوى خبري الخبز والجص ، لابتنائه على العمل بهما ، وعلى مساواتهما للثاني ، بل وعلى إرادة تطهير النار نفسها للجص نفسه مما أصابه من دسومات العذرة وعظام الموتى المفروض كونها من نجس العين ، أو مستصحبة لبعض الجلد واللحم من هذا الخبر. ودون ظهوره فيه فضلا عن صراحته خرط القتاد كما يعرف مما سبق.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ١٨.

٢٧٢

وأضعف منه الاستدلال بما في الرياض عليه وعلى غيره مما شك باستحالته باستصحاب الطهارة في الملاقي ، وقاعدتها المستفادة من نحو‌ قوله (ع) (١) : « كل شي‌ء طاهر حتى تعلم » إذ هما معا يحكم عليهما استصحاب النجاسة في المشكوك باستحالته كما مر نظيره غير مرة ، بل أولهما بعد تسليمه لا يقتضي طهارة الملاقي بالفتح حتى يعارضه ، إذ أقصاه طهارة الملاقي بالكسر ، وهي أعم من الحكم بذلك ، وأما الأخيران فقد يعطي ذهاب الأكثر في باب التيمم إلى عدم جوازه بثانيهما ، وجماعة بأولهما إلى الطهارة هنا ، لاشتراكهما في المنشأ ، وهو الاستحالة ، كما انه قد يشهد لها خبر الجص وظهور تغير الاسم والحقيقة ، سيما الثاني ، لكني لم أجد أحدا صرح باختيارها في المقام.

نعم هو ظاهر الرياض أو صريحه وكشف اللثام في الثاني ، إلا أن القول بطهارتهما لعله لازم لمن قال بها في الخزف والآجر ، بل وكل من يتوقف في إجراء الاستصحاب في مثل المقام مما شك فيه كالمعالم والذخيرة ، كما أن القول بالنجاسة قد يلزم القائل بجواز التيمم بهما ، إذ منشأه عدم تحقق الاستحالة أو تحقق عدمها المشترك في المقامين.

ولعلك بملاحظة ما تقدم لنا في ذلك المقام تكون على بصيرة فيما نحن فيه من القول بالنجاسة ، خصوصا بعد تأييده باستصحاب الأحكام عند الشك في بقاء الموضوع ، بل واستصحاب الموضوع نفسه بناء عليه وان كانا معا لا يخلوان من بحث ، والاحتياط في مثل المقام لا ينبغي تركه ، والله أعلم.

لكن على كل حال فالبحث هنا انما هو للشك في كون ذلك استحالة وعدمه ، وإلا فلو علم الثاني أو الأول لم يكن له وجه ، لظهور الاتفاق على توقف تطهير النار عليها ، ومن هنا كان المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا على عدم طهر العجين ذاتا أو عرضا بالخبز شهرة كادت تكون إجماعا كما اعترف به بعضهم ، بل هي كذلك ، إذ لم نعرف‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

٢٧٣

فيه خلافا إلا من الشيخ في نهايته ، فلم ير بأسا بأكل الخبز المعجون بماء نجس معللا له بأن النار قد طهرته ، وعن استبصاره وظاهر الفقيه والمقنع ، مع أن النهاية ليست من كتبه التي أعدها للفتوى ، بل هي متون أخبار كما لا يخفى على الخبير الممارس ، كما ان الاستبصار من الكتب المعدة لمجرد الجمع بين الأخبار ، على انه قد احتمل فيه اختصاص ذلك بالمعجون بماء البئر المتنجس لا بالتغير ، بل لعله مراد الأخيرين أيضا ، إذ لم يكن فيهما إلا جواز أكل الخبز مما عجن من ماء بئر وقع فيها شي‌ء من الدواب فماتت ، بل في أولهما التصريح بأنه إذا قطر خمر أو نبيذ في عجين فقد فسد ، فلا بأس ببيعه من اليهود والنصارى بعد أن يبين لهم ، ونحن لا ننكره وإن كان لعدم نجاسة البئر عندنا بغير التغير ، بل وعلى القول بها فيه ، لاختصاصها بأحكام كثيرة انفردت بها عن غيرها ، فلعل هذا منها عندهما ، فلا يقدحان في ذلك الإجماع ، كما لا يقدح فيه ما سمعته من النهاية بعد ما عرفت ، وبعد رجوعه عن ذلك في المحكي من مبسوطة وتهذيبه ، بل فيها نفسها في باب الأطعمة ، بل ظاهره فيه أن ما ذكره هنا رواية لا فتوى ، قال : « وإذا نجس الماء بحصول شي‌ء من النجاسات فيه ثم عجن به وخبز منه لم يجز أكل ذلك الخبز ، وقد رويت رخصة في جواز أكله ، وذكر أن النار قد طهرته ، والأحوط ما قدمناه » وإن كان في قوله : « أحوط » إشعار باختيار الجواز.

ومع ذلك كله فالمتبع الدليل ، وهو على النجاسة قطعا للاستصحاب فيما لم تبق النار شيئا من أجزاء الرطوبة فضلا عما بقي فيه كما هو الغالب ، وما في المعالم ـ من عدم جريانه فيه لكنه لو قيل بطهارته دون ما بقي فيه استلزم إحداث قول ثالث ـ جراف من القول ، وإلا لطهر الثوب ونحوه لو جفف بالنار.

وصحيح ابن أبي عمير (١) عن بعض أصحابه ـ بل قال : ما أحسبه إلا حفص‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأسئار ـ الحديث ١.

٢٧٤

ابن البختري ـ عن الصادق عليه‌السلام « في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع؟ قال : يباع ممن يستحل أكل الميتة » كصحيحه الآخر (١) عن بعض أصحابه ، لكن قال : « يدفن ولا يباع ».

وخبر زكريا بن آدم (٢) « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم ، قال فقال : فسد ، قلت : أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم ، قال : نعم ، فإنهم يستحلون شربه ».

والمناقشة في السند بالإرسال ونحوه بعد الانجبار بما عرفت من الشهرة العظيمة بل في شرح الأستاذ ووفاق الكل غير مسموعة ، خصوصا وابن أبي عمير مراسيله كالمسانيد ، بل هو على ما قيل ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، وانه لا يروي إلا عن ثقة ، مع أن المظنون عنده انه حفص بن البختري الثقة ، بل في شرح المفاتيح لو كان التعديل من الظنون الاجتهادية لكان هذا الحديث صحيحا ، بل فيه أيضا أن المدار في التصحيح غالبا على الظنون.

كالمناقشة في المتن بعدم دلالته على ما نحن فيه ، لأعمية البيع والدفن والفساد من الطهارة بالخبز ، بل هو أوضح فسادا من الأولى خصوصا إن قلنا بإرادة بيعه مخبوزا عليهم لا عجينا كما هو المتعارف ، على أن ترك ذكر علاجه بذلك والأمر بدفنه وبيعه ممن يخبزه معللا بأنه ممن يستحله كالصريح في المطلوب ، كما هو واضح ، بل قد يشعر ذلك بعدم قابليته للتطهير أصلا حتى بالماء ولو كثيرا كما اعترف به في الذكرى ، بل عن ظاهر منتهى الفاضل اختياره ، وان كان الأقوى ذلك عندنا إذا دقق ووضع في كثير بحيث ينفذ الماء في جميع أجزائه وفاقا للتذكرة وغيرها ، أو جفف ووضع فيه مدة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الأسئار ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٨.

٢٧٥

حتى نفذ كذلك وفاقا لشرح المفاتيح للأستاذ ، بل تقدم منا سابقا في طهارة اللحم ونحوه مما يرسب فيه الغسالة ما يقتضي طهارته بالقليل في بعض الأحوال ، فلاحظ ، ولعل ترك ذكر ذلك في الخبرين للمشقة أو لعدم معهودية مثله في التطهير أو لغيرهما ، فتأمل.

ومعارضة ذلك كله بصحيح ابن أبي عمير (١) عمن رواه عن الصادق عليه‌السلام « في عجين عجن وخبز ثم علم أن الماء كانت فيه ميتة ، قال : لا بأس أكلت النار ما فيه ».

وخبر عبد الله بن الزبير (٢) « سألت الصادق عليه‌السلام عن البئر تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال : إذا أصابته النار فلا بأس » ـ بعد إرسال أولهما ، وإن كان المرسل ابن أبي عمير ، وضعف ثانيهما ، وعدم ظهور الميتة في ذي النفس ، والماء في القلة ، وأكل النار ما فيه في الطهارة ، لاحتماله إزالة النفرة كما يكشف عنه الخبر الثاني ، بناء على الصحيح من عدم نجاسة البئر بغير التغير ـ مما لا ينبغي أن يصغى إليها ، خصوصا بعد ما عرفت من الشهرة العظيمة أو الإجماع ، فلا ينبغي الإشكال أو التوقف في ذلك ، فما في الذخيرة من الميل اليه مما ينبغي أن يقضى منه العجب.

نعم قد يتوقف فيما دل عليه الخبر الأول والثالث من جواز بيعه ، بل في المنتهى أن الأقرب عدمه ، للأمر بالدفن في خبر ابن أبي عمير السابق ، وعدم قابلية التطهير ، ولأنهم مكلفون بالفروع فيحرم حينئذ بيعه عليهم ، لئلا يكون إعانة على الإثم بأكله ، ولظهور هذه الأخبار في عدم جوازه على المسلم مع ظهور شركة الكافر له في سائر أحكامه إلا ما خرج بالدليل ، على أن الذمي معصوم المال ، فلا يجوز أخذ ماله ببيع فاسد بخلاف غيره ، ولعله لذا احتمل في المنتهى جواز بيعه على غير أهل الذمة مصرحا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ١٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ١٧.

٢٧٦

بإرادة الاستنقاذ منه لا البيع الحقيقي.

مع أن الأقوى في النظر جوازه مطلقا مسلما أو كافرا أخبر بنجاسته أولا لولا ما في الحدائق من ظهور الإجماع على عدم جوازه على المسلم مع عدم الاخبار ، مع انه قد يمنع عليه ذلك ، خصوصا إن أراد اشتراط الصحة به ، لأصالة البراءة واستصحاب حاله قبل النجاسة ، وإطلاق أدلة البيع ، وعدم خروجه بالنجاسة عن المالية ، لأنه قابل للتطهير بما عرفت ، ولجواز الانتفاع به في غير الأكل من إطعام الدواب ونحوه ، وللأخبار السابقة.

وحسن الحلبي أو صحيحه (١) عن الصادق عليه‌السلام « انه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ، ثم إن الذكي والميتة قد اختلطا كيف يصنع؟ قال : يبيعه ممن يستحل الميتة ».

والأمر بالدفن في خبر ابن أبي عمير مع معارضته بما عرفت لعله إذا لم يرد بيعه أو تطهيره أو الانتفاع به ، بل ينبغي القطع بذلك حتى من الخصم ، إذ هو وإن منع البيع لكنه لم يمنع الانتفاع بإطعام الحيوان ونحوه.

كما انك قد عرفت ما في دعوى عدم قابليته للتطهير ، على انه لو سلم أمكن منع عدم جواز البيع لذلك بعد الانتفاع به بوجه محلل ، كالإطعام لحيوان ونحوه ، كما يومي اليه ما في جامع المقاصد وكشف اللثام.

والإعانة على الإثم ـ مع إمكان منعها لعدم العلم بأكلهم له بل ولو علم ، لاستناده إلى اختيارهم ، وعدم كونه إثما في دينهم الذي أمرنا شرعا بمجاراتهم عليه ـ يجب الخروج عن إطلاق دليلها بما عرفت ، فهي كبيع التمر لمن يعلم أنه يعمله خمرا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٢.

٢٧٧

وظهور تلك الأخبار في عدم جوازه على المسلم لعله بعد الأخبار (١) بنجاسته ، بناء على عدم جوازه في هذا الحال كما صرح به بعضهم ، بل قد عرفت نسبته في الحدائق إلى الأصحاب.

ودعوى شركة الكافر له في ذلك ممنوعة بعد مجي‌ء الدليل ، أو لعله لعدم رغبة المسلم فيه غالبا لصعوبة تطهيره وقلة الانتفاع بدونه ، فيكون حينئذ للإرشاد.

ومن ذلك كله ظهر لك ما في الأخير ، كما ظهر لك انه لا ينبغي الإشكال في المسألة بل وظهر مما تقدم سابقا في أدلة مطهرية النار أن الاستحالة التي هي عند الفقهاء كما في حواشي الشهيد على القواعد عبارة عن تغيير الأجزاء وانقلابها من حال إلى حال أيضا من المطهرات ، كما عدها غير واحد من الأصحاب منها بل تطهر النار في الحقيقة بعض أفرادها ، فكان اللائق إدراجها فيها ، لا إفرادها بالذكر ، بل هي غير محتاجة إلى التعريف بعد ظهور معناها العرفي الذي هو المدار دون التدقيق الحكمي المبني على انقلاب الطبائع بعضها إلى بعض وعدمه ، مع ان التحقيق فيه ذلك ، لكن لعله لاختصاصها ببعض الأدلة عنها كما يومي اليه اتفاقهم على طهارة ما أحالته كما عرفت دون مطلق الاستحالة كما ستعرف.

والأمر سهل بعد عدم الفرق بين سائر أفراد المحيل والمستحيل من النار وغيرها كما هو التحقيق عندنا للأصل وإطلاق أدلة المحال اليه لو كانت المؤيدين باستقراء ما علم طهارته من ذلك بالإجماع بقسميه ، والسيرة بل الضرورة في البعض ، والنصوص كرماد الأعيان النجسة ودخانها بل وبخلوها ، والخمر المنقلب بنفسه خلا ، وكذا العصير ، والنطفة والعلقة المتكونين حيوانا ، بل والعذرة ونحوها دودا ، وإن أوهمت عبارات‌

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الصحيح « عند عدم الاخبار » بقرينة ما حكى قدس‌سره عن الحدائق آنفا.

٢٧٨

بعض الناس الخلاف فيه ، والدم المستحيل قيحا أو جزء لما لا نفس له ، والماء النجس بولا لحيوان مأكول اللحم ، بل أو عرقا أو لعابا أو جزءا من الخضراوات والحبوب والأشجار والثمار ، والغذاء النجس لبنا أو روثا لمأكول اللحم أو جزءا له أو لطاهر العين ، وغير ذلك ، بل وباستقراء سائر الأحكام الشرعية غير الطهارة المعلقة على موضوعات فاستحالت أو استحيل إليها ، عبادة كان ذلك الحكم أو معاملة ، بل وبالمعروف في ألسنة الفقهاء في سائر الأبواب من قاعدة انتفاء الحكم بانتفاء الاسم المقطوع باندراج ما نحن فيه فيها.

بل قد يدعى ظهورها في الأعم من تغير الحقيقة ومن تغير الصورة التي يذهب بذهابها مسمى الاسم دون حقيقته ، وان استبعده بل منعه بعض علمائنا ، ضرورة تخلفه في كثير من الموارد ، واقتضائه بطلان الاستصحاب المعلوم عدم اشتراط حجيته ببقاء اسم المستصحب ، لإطلاق أدلته.

لكن قد يمنع ذلك عليه ، ويدعى ظهور تعلق الأحكام بمسميات الأسماء دون حقائها ، لأنه معنى اللفظ دونها ، فالأصل حينئذ يقتضي انتفاء الحكم بانتفائه ، إلا أن يعلم تعليقه على طبيعة مسمى الاسم دون حقيقته (١) التي يقارنها التسمية بذلك الاسم الخاص في بعض الأحوال ، فيدور حينئذ مدارها ، كما في النجاسات وأشباهها مما علم دوران الحكم فيه على الحقيقة والطبيعة دون الاسم ، فتخلفه لذلك ، كما ان اقتضاءه بطلان الاستصحاب في مثل الفرض ليس من المنكرات.

ودعوى ظهور أدلته في شمول مثل ذلك ممنوعة ، بل لعل ما شاع في لسانهم من عدم جريان الاستصحاب مع تغير الموضوع شاهد له ، وتنزيله على تغير الحقائق واستحالتها يمكن منعه ، وقد تقدم لنا بعض الكلام في ذلك في بحث العصير من النجاسات ، فلاحظ.

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية وفي بعض النسخ « مسمى الاسم وحقيقته ».

٢٧٩

وعلى كل حال فلا ريب في اندراج محل البحث في القاعدة المذكورة ، فما في المعتبر ـ من عدم طهارة الأعيان النجسة بالاستحالة وعدم طهارة الخنزير إذا صار ملحا كالمنتهى وعن التحرير ونهاية الأحكام بل والقواعد ، وإن قال فيه : وفي استحالة العذرة ترابا نظر ، بل في المنتهى نسبته إلى أكثر أهل العلم مع زيادة النص في معقد ذلك على عدم طهارة العذرة الواقعة في البئر المستحيلة حمأة ، كما ان ذكر الخلاف فيه من أبي حنيفة خاصة في المعتبر يشعر بعدمه بيننا ـ ضعيف جدا لا أعرف لهما موافقا عليه سوى ما عساه يظهر من الأردبيلي من الميل ، وسوى ما عن موضع من المبسوط من النص على عدم طهارة تراب العذرة ، مع ان ما حكي عنه في موضع آخر انه لا بأس بالتيمم بتراب القبر منبوشا أو غيره يعطي الطهارة.

بل يمكن تنزيل كلامه على صيرورة العذرة كالتراب في تفرقة الأجزاء ، لا أنها استحالت ، فيرتفع التنافي ، بل قد يقال بتعيينه ، لعدم خلاف في الطهارة في الصورة المفروضة حتى من الفاضلين ، إذ قد صرحا في المعتبر والمنتهى بطهارة التراب المستحيل من الأعيان النجسة ، وإن تردد فيه أولا أولهما ، كما انه نظر فيه في القواعد ثانيهما.

وإن كان ينبغي أن يقضى العجب من فرقهما بين المسألتين ، بل والمسائل السابقة التي قد عرفت الاتفاق عليها ، خصوصا مع تعليل المنتهى للطهارة هنا بأن الحكم معلق على الاسم ، فيزول بزواله ، وفيه وفي المعتبر بما دل على طهورية التراب ، وللنجاسة هناك فيهما (١) أي في المستحيل ملحا بأنها قائمة بالأجزاء فلا تزول بتغير أوصاف محلها ، بل ينبغي تضاعف العجب من هذا التعليل الذي لا شاهد عليه ، بل الشاهد على خلافه كما عرفت.

__________________

(١) أي في المعتبر والمنتهى.

٢٨٠