جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

المنزلة على أصالة الصحة حتى يعلم الخلاف ، فضلا عن أن تقرن بأقوالهم ، بل هو أولى من الحكم بطهارة بدن المسلم وثيابه بغيبته وإن لم يقل أو يفعل ما يستلزم الاخبار بذلك ، فالحاصل قبول قوله في التطهير مما لا ينبغي الإشكال فيه.

نعم قد يتجه الإشكال في موضوعه بنحو ما تقدم من الاشكال السابق ، ولعله لذا حكي عن الأمين الأسترابادي والسيد نعمة الله الجزائري أنهما حكيا عن جملة من علماء عصريهما أنهم كانوا إذا أرادوا إعطاء ثيابهم للقصارين لتطهيرها يهبونها إياهم أو يبيعونها ثم يستردونها منهم بنحو ذلك تخلصا من شبهة استصحاب النجاسة ، لتوقف انقطاعه على العلم أو ما يقوم مقامه من البينة أو خبر العدل على إشكال فيه أو إزالة المالك نفسه مع عدم ثبوت قيام خبر مطلق الوكيل وان لم يكن عدلا مقامه ، لعدم ثبوت كونه من ذوي اليد المقبولة إخباراتهم ، إذ المعلوم منها المالك.

وفيه ـ مع مخالفته للسيرة المستقيمة القطعية في سائر الأعصار والأمصار المأخوذة يدا عن يد في تطهير الجواري والنساء ونحوهم ثياب ساداتهن ورجالهن ، بل لعل ذلك من الضروريات التي هي بمعزل عن نحو هذه التشكيكات ـ ان تتبع الأخبار بعين الانصاف والاعتبار يورث القطع بالاكتفاء بنحو ذلك ، وبأن كل ذي عمل مؤتمن على عمله ، كالأخبار الواردة في القصارين (١) والجزارين (٢) والجارية (٣) المأمورة بتطهير ثوب سيدها ، وان الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة (٤) ونحو ذلك ، فضلا عن عموم أدلة الوكالة وتصديق الوكيل فيما وكل فيه. فحينئذ لا حاجة للحكم بالتطهير في‌

__________________

(١) الوافي ـ باب التطهير من مس الحيوانات ـ من أبواب الطهارة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الذبائح ـ الحديث ١ من كتاب الصيد والذبائح.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٨١

الحكم المذكور إلى دعوى الدخول في ذي اليد.

وكيف كان فلا حاجة للإطناب والإسهاب وتكثير السؤال والجواب ، وإن أطنب فيه بعض متأخري المتأخرين ، ولعله لظهور الخلاف في ذلك من المعالم ، حيث كان ظاهره حصر القائم مقام العلم في عود المتنجس للطهارة بالبينة والعدل الواحد في احتمال.

نعم قد يتوقف في قبول تطهير الغير بالنسبة إلى ما هو متعارف في زماننا من غسل النساء والجواري ونحوهم الثياب والأواني من غير إذن ، ولعل الفحوى أو كالفحوى في المقام كافية للسيرة المستقيمة وأصالة الصحة في القول والفعل ، بل قد يدخل نحوهم في ذوي الأيدي بعد تفسيره بالمستولى باذن شرعية ولو بفحوى من المالك ونحوها ، بل قد عرفت احتمال الدخول في نحو الغاصب المتقدم حاله ، فتأمل جيدا ، فان المقام وإن كان مجمله من الواضحات ، لكن جملة من أفراده لا يخلو من بعض الإشكالات ، كما أشرنا إلى بعض ذلك ، وإنا وإن طال بنا الكلام في هذه المسائل مع عدم تمام ارتباطها بما في المتن من وجوب الغسل مع العلم بموضع النجاسة إلا أنها لا تخلو من تعلق ما ، لاحتمال الاكتفاء في معلومية موضع النجاسة بما يثبت به أصل النجاسة من إخبار العدل بناء على قبوله أو البينة أو صاحب اليد ونحوها مما عرفت.

وأما إن جهل محل النجاسة فلم يعلمه بأحد الأمور المفيدة له شرعا غسل كل موضع يحصل فيه الاشتباه ليكون على يقين من طهارته ، كما في‌ صحيحة زرارة الطويلة (١) قلت : « فاني قد علمت أنه أصابه ولم أدر أين هو فأغسله ، قال : تغسل ثوبك من الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك ».

وإضمار المسؤول ـ مع عدم قدحه عندنا كما عرفته غير مرة ، خصوصا من مثل زرارة المعلوم عدم أخذه أحكامه من غير الامام عليه‌السلام ، وخصوصا في مثل هذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

١٨٢

الخبر المشتمل على سؤالات متعددة المقترن بقرائن كثيرة تشهد بكونه من الامام عليه‌السلام ـ يدفعه ما عن الصدوق رحمه‌الله انه رواه في كتاب علل الشرائع بطريق حسن مسندا إلى الباقر عليه‌السلام.

كالمناقشة فيه بظهوره في اعتبار التحري من حيث تعليق الحكم فيه بالرؤية التي هي أعم من العلم ، لاندفاعها بإرادة العلم منها بشهادة التعليل إن لم تكن ظاهرة في ذلك بنفسها.

بل ينبغي القطع بذلك بملاحظة اعتضاده بصحيحتي محمد بن مسلم (١) وابن أبي يعفور (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام والصادق عليه‌السلام « في المني يصيب الثوب فان عرفت مكانه فاغسله ، وان خفي عليك فاغسله كله ».

كحسن الحلبي أو صحيحه (٣) عن الصادق عليه‌السلام « إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه ، وإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء ، وان استيقن أنه قد أصابه ولم ير مكانه فليغسل الثوب كله فإنه أحسن » وإشعار تعليله ـ بعدم الوجوب بعد إعراض الأصحاب عنه للإجماع المحكي صريحا في المنتهى والتذكرة والرياض وعن غيرها وظاهرا في المعتبر إن لم يكن محصلا على الوجوب المعتضد بنفي الخلاف عنه فيه في المعالم والذخيرة ـ لا يصلح للحكم به على غيره.

فلا حاجة حينئذ للاستدلال على المطلوب بعد ذلك باستصحاب بقاء يقين المنع إلى حصول اليقين بالزوال المتوقف على غسل الجميع ، حتى يناقش فيه بأن يقين النجاسة يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه الاشتباه يساوي قدر النجاسة وان لم يحصل القطع بغسل ذلك المحل بعينه ، وبأنه عند التأمل بعد فرض غسل الجزء من استصحاب الجنس المعلوم عدم حجيته ، وإن أمكن اندفاعها بأن المعتبر بعد يقين الشغل يقين البراءة لا عدم يقين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

١٨٣

الشغل ، كما أشارت إلى ذلك صحيحة زرارة السابقة (١) بل هو واضح في سائر ما كان من قبيل هذه المقدمات وموارد مثله من الاستصحابات أيضا ، كوضوح عدم كونه من استصحاب الجنس بحيث لا يحتاج إلى بيان.

لكن قد تقدم لنا في البحث عن الإنائين المشتبهين ما يصلح التأييد به للمناقشة السابقة ، بل تقدم ماله مزيد نفع في غير ذلك أيضا من الأبحاث التي تعرض لها بعضهم هنا حتى الملاقي للمشتبه ، فانا قد ذكرنا هناك أن الأقوى فيه بقاؤه على استصحاب الطهارة وعدم إلحاقه بالمشتبه ، كما هو ظاهر الأدلة ، فلا يجب اجتنابه وإن احتملنا فيه ذلك أيضا ، لما تقدم في محله ، فيكون كالمشتبه في وجوب اجتنابه وغسله مع الإمكان ، لكن قد يظهر هنا من الأستاذ الأكبر في شرحه على المفاتيح الميل إلى حرمة مباشرة المشتبه وان لم يجب عليه غسل الملاقي بعد عصيانه ، ووجهه غير واضح.

هذا إن لاقى المشتبه ثوب واحد مثلا ، أما لو لاقاه ثوبان أو أثواب بحيث علم ملاقاة أحدها للنجس منه فلا ريب في جريان حكم المشتبه الأصلي عليه ، بل هو من أفراده ، نعم لو لاقاه بدنا مكلفين لم يجب على أحدهما غسل يده مثلا وان علما نجاسة أحدهما على الاجمال ، لوضوح عدم جريان المقدمة هنا ، بل يكونان كواجدي المني في الثوب المشترك ، بل وكذا لو لاقاه ثوبا هما كما جزم به كسابقه الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح ، لاستصحاب كل منهما طهارة ثوبه وبدنه ، وعدم تعلق الخطاب بمعين منهما بالاجتناب عن ثوبه أو بدنه النجس المعين أو المردد.

قلت : لكن قد يشكل الأخير بأن الخطاب بالاجتناب لا يتوقف على كون الثوب مملوكا للمكلف ، بل يكفي فيه تقدير تمكنه من ذلك بإعارة وإجارة ونحوهما ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

١٨٤

بل الظاهر تحققه مع تعذرهما أيضا ، لظهور كون النجاسة من قبيل الخطاب بالوضع الذي لا يتوقف على تحقق ذلك ، وإلا فبناء على ما ذكره يتجه صحة صلاة كل منهما ووضوئه بكل من ثوبيهما وإناءيهما مع قطعهما بوقوع النجاسة على أحدهما ، وكأنه واضح البطلان ، خصوصا بعد إطلاق الأدلة بالإراقة ونحوها من دون تقييد باتحاد المالك ، بل قد يتجه عليه صحة ذلك مع اتحاد المالك إذا أخرج أحدهما عن ملكه ببيع ونحوه ، اللهم إلا أن يفرق بتحقق تكليف المعين فيه دون الأول ، فلا يجدي في انقطاع الاستصحاب الانتقال العرضي ، كما لا يجدي إراقة أحدهما في الأرض أو في ماء كثير في استصحاب التكليف باجتناب الباقي وان لم يكن يقين نجس ، وهو لا يخلو من وجه ، كما أنه لا يخلو من كلام يعرف مما ذكرناه في بحث الإناءين ، فلاحظ.

في غسل الثوب والبدن من البول مرتين بالماء القليل عدا محل الاستنجاء مرتين وفاقا للمشهور بين المتأخرين ، بل في المدارك والحدائق وغيرهما نسبته للشهرة من غير تقييد ، بل في المعتبر نسبته إلى علمائنا مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، ولعله لازم إيجابهما في الفقيه والهداية في محل البول ، كما أنه لازم ما في السرائر من إيجاب العصر مرتين ، للأصل الواضح ضعف المناقشة فيه هنا بعدم جريانه في الحكم الثابت إلى غاية مجهولة للمكلف بما ذكرناه في محله من عدم الفرق بين الأمرين في مدرك حجيته عندنا.

وقول أحدهما عليهما‌السلام في صحيح ابن مسلم (١) والصادق عليه‌السلام في صحيح ابن أبي يعفور (٢) عن البول يصيب الثوب : « اغسله مرتين » كصحيح ابن مسلم الآخر (٣) أيضا عن الصادق عليه‌السلام « اغسله في المركن مرتين ، فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٨٥

وحسن الحسين بن أبي العلاء (١) بل صحيحه على الأصح فيه « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول يصيب الجسد ، قال : صب عليه الماء مرتين ، فإنما هو ماء ، وسألته عن الثوب يصيبه البول ، قال : اغسله مرتين » كالمروي (٢) في مستطرفات السرائر من جامع البزنطي.

وخبر أبي إسحاق النحوي (٣) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن البول يصيب الجسد ، قال : صب عليه الماء مرتين ».

والرضوي (٤) « إن أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ، ومن ماء راكد مرتين ، ثم أعصره » فما في البيان ـ من الاجتزاء بالمرة ، كظاهر المبسوط والقواعد بل صريح الأخيرين في البول غير المرئي كالجاف ونحوه ذلك أيضا ، بل ربما يوهمه أيضا إطلاق المقنعة والنهاية كما عن غيرهما ـ ضعيف جدا ، إذ هو مع مخالفته لما عرفت لا دليل عليه سوى دعوى التمسك بأصالة البراءة التي هي على تقدير تسليمها منقطعة بما سمعت ، وإطلاق طهورية الماء كإطلاق الأمر بالغسل في بعض الأخبار الواجب تقييدهما لو سلم إمكان الاستدلال بأولهما على ما نحن فيه من الكيفية ، بل وبثانيهما أيضا ، لظهور كونه مساقا لغير بيانها بما سمعته من الأدلة المعتبرة.

كما أن ترك الاستفصال فيها بين الجاف وغيره شاهد على عدم اعتباره فيه. فدعواه لظهور كون أول الغسلتين للإزالة والثانية للإنقاء ، بل ذلك عين متن خبر الحسين بن أبي العلاء في المعتبر والذكرى ، فمع فرض زوال العين بالجفاف ونحوه سقطت غسلته وبقيت غسلة الإنقاء لا يلتفت اليه ، لمخالفته لإطلاق النصوص والفتاوى من غير شاهد ، إذ العقل لا نصيب له في إدراك هذه المقامات ، ولم نعثر على تلك الزيادة في الخبر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٨٦

المذكور في الأصول كما اعترف به في المعالم والذخيرة والحدائق ، بل قال الأول : أني أحسبها من كلام المعتبر ، فتوهمها بعضهم أنها من الخبر ، وقد يؤيده عدمها في الخبر المذكور في المنتهى مع شدة حاجته إليها.

ومع ذلك كله فليست صالحة للحكم على معارضها من إطلاق الأدلة المعتضد بإطلاق الفتاوى ، بل حملها على الحكمة ونحوها متجه ، فالتفصيل بذلك لنحو ذلك في غاية الضعف.

كالتفصيل بين الثوب والبدن ، فيجب العدد في الأول دون الثاني ، للإطلاق السالم عن معارضة دليل معتبر فيه ، لقصور أخبار العدد فيه سندا بأجمعها بل ودلالة ، لاحتمال إرادة القول مرتين لا الصب ، إذ المناقشة الثانية في غاية الضعف ، بل والأولى أيضا ، لمنع القصور أولا كما لا يخفى على المتأمل في ملاحظة الأسانيد ، خصوصا بعضها ، وللانجبار بالشهرة العظيمة ، وظاهر إجماع المعتبر ثانيا.

فلا ينبغي التوقف في الفتوى حينئذ بمضمونها ، ومعارضتها ببعض المعتبرة (١) الظاهرة في نفي التعدد بالنسبة للاستنجاء ، بل لعل المشهور ذلك فيه يدفعها ما تقدم لنا في ذلك المبحث من الفرق الواضح بين المقامين ، لاختصاص كل منهما بأدلة لا تتعدى إلى الآخر ، ضرورة ظهور أخبار المقام المشتملة على السؤال عن إصابة البول الجسد في غير محل الاستنجاء ، كالعكس.

وما في‌ الكافي « روي (٢) أنه يجزئ أن يغسل البول بمثله من الماء إذا كان على رأس الحشفة وغيره » ـ بعد الإغضاء عن دلالته ، لظهور إرادته بذلك إحدى (٣) روايتي نشيط بن صالح ـ لا يجسر على طرح هذه الأدلة المعتبرة سندا ودلالة وعملا ، أو تأويلها بمثله ، كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ الحديث ٧.

١٨٧

ومن هنا ذهب بعض من اجتزى بالمرة هناك إلى التعدد هنا ، بل في ظاهر المعتبر هنا نقل الإجماع مع حكايته الخلاف في التعدد هناك ، نعم قد يلزم القول بالتعدد فيه القول به في المقام ، لأوضحية أدلته منه ، فتأمل.

ولا فرق في الحكم المذكور بين سائر الأبوال ، للأصل وإطلاق النصوص والفتاوى ، واحتمال المناقشة ـ بعدم ظهور تناول إطلاق البول لها أو ظهور العدم ، فلا يتقيد إطلاق الأمر بالغسل ، كقوله عليه‌السلام (١) : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » ونحوه بها ـ ضعيفة جدا.

نعم هي في محلها بالنسبة إلى بول الصبي غير المتغذي بالطعام الذي قد تقدم الاكتفاء فيه بالصب ، فلا يعتبر التعدد فيه كما صرح به في المعتبر والأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح ، والنراقي في لوامعه ، والشهيد في روضته ، والفاضل المعاصر في رسالته المنسوبة إليه ، بل لعله ظاهر جميع الأصحاب كالمصنف وغيره ، حيث أفردوا حكمه بالاكتفاء فيه بالصب ، دون غيره فالغسل ، ثم اعتبروا التعدد في الغسل مع معروفية عدم التعبير عنه بذلك في لسانهم ، بل يذكرون حكم الصب مقابل الغسل ، بل ظاهر المعتبر والكتابين بعده السابقين تساوي الاجتزاء بالمرة للحكم بالصب في الوضوح.

قال في الأول : « بول الصبي لا يجب غسله ، ويكفي صب الماء عليه مرة في الثوب وغيره ، وبه قال الشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة : يغسل كغيره ».

وقال في الثاني : « أما إجزاء الصب في بول الصبي قبل الأكل من دون حاجة إلى التعدد ولا إلى العصر فيدل عليه ـ مضافا إلى أصالة البراءة والإجماع المنقول عن الشيخ في الخلاف ـ ما رواه الشيعة في كتب الإمامية » إلى آخره.

وقال في الثالث : « التعدد كالغسل غير معتبر في بول الرضيع ، لكفاية الصب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

١٨٨

فيه بالأصل والإجماع المحقق والمحكي عن جماعة ، وقول الصادق عليه‌السلام (١) إلى آخره.

ولعله الأقوى ، لا طلاق الأمر بالصب ، سيما مع ظهور كون ذلك لخفة نجاسته ، كما يومي اليه عدم اعتبار الانفصال فيه وغيره ، بل لعل فحواه دليل آخر ، ضرورة عدم الفائدة في التعدد حينئذ ، خصوصا بناء على تعليله بكونه للإزالة والثانية للإنقاء ، كما أن ظهور بعض الأدلة السابقة على الاكتفاء بالصب من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره في عدم التعدد دليل ثالث أيضا ، بل لعل‌ خبر ابن أبي العلاء (٢) ظاهر فيه أيضا « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول يصيب الجسد ، قال : صب عليه الماء مرتين ، فإنما هو ماء ، وسألته عن الثوب يصيبه البول ، قال : اغسله مرتين ، وسألته عن الصبي يبول على الثوب ، قال : تصب عليه الماء قليلا ثم تعصره » حيث اقتصر فيه على بيان العدد في الأولين ، بل منه يظهر عدم اندراج بول الصبي في إطلاق السؤال عن إصابة البول الجسد والثوب ، ولذا أجابه عليه‌السلام بما لا يشمله من ذكر الغسل والعدد ونحوهما.

بل لعل التأمل في الأخبار (٣) المشتملة على بيان ذلك من ذكر غسل الثوب خصوصا قوله عليه‌السلام في الإجانة كذا ، وفي الجاري كذا ، ونحو ذلك فيها يشرف الفقيه على القطع بكون المراد منها بول غير الصبي المعبر عن حكمه بالصب عليه ، ككلام الأصحاب أيضا ، فما في كشف الأستاذ ـ من اعتبار العدد فيه لا طلاق ما دل على اعتباره ، ودعوى ظهور الأدلة في اختصاص امتيازه عن بول غيره بالصب خاصة ـ ضعيف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٢) ذكر صدره في الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤ وذيله في الباب ـ ٣ ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ٢ ـ من أبواب النجاسات.

١٨٩

جدا كمستنده ، مع أني لم أعثر على موافق له صريحا ، والله أعلم.

والمدار في صدق المرتين العرف كما في غيره من الألفاظ ، والظاهر اعتبار الفصل في مسماهما ، بل ينبغي القطع به كما هو واضح ، فما في الذكرى وظاهر جامع المقاصد أو صريحه في باب الاستنجاء ـ بل حكي عن جماعة من الاجتزاء باتصال الماء الذي يغسل به وتدافعه المقدر فيه الغسلتان ـ ضعيف جدا إن كان المراد الدخول في المسمى ، ولا يخلو من وجه إن كان المراد إلحاقه به في الحكم ، لفحوى الاكتفاء بالحسي ، بل ربما ادعي القطع به مع اتصاله مقدار زمان الغسلتين وزمان القطع ، لأولوية الاتصال من الانفصال.

لكن قد يمنع ذلك كله ، لظهور قصور العقل عن إدراك مثل ذلك ، وانه لا مدخلية للانفصال فيه على وجه القطع واليقين ، إذ هو المثمر دون الظن والتخمين ، فالاقتصار حينئذ على مضمون النصوص طريق اليقين بالبراءة عن شغل الذمة بإزالة النجاسة.

نعم قد يدعى القطع من إجماع أو غيره بعدم الفرق بين الثوب والبدن وغيرهما مما تنجس بالبول وأمكن تطهيره بالقليل في الحكم المذكور ، وان اقتصر في المتن وغيره من عبارات الأصحاب كالنصوص عليهما ، إلا أن الظاهر إرادة التمثيل ، كما صرح به في الروضة والحدائق ، بل هو كصريح غيرهما أيضا مما علق فيه الحكم على المنفعل بالبول ، فاحتمال القول ـ بالاتحاد في غيرهما وان قلنا بالتعدد فيهما كما في المعالم والذخيرة ، بل اختاره في اللوامع ، لا طلاق أوامر التطهير والغسل ، بل خصوص إطلاق ما ورد بتطهير الفراش ذي الحشو ونحوه من البول ـ في غاية الضعف كما لا يخفى على المتأمل في أخبار الباب وكلام الأصحاب من التعدي إلى نحو ذلك ، خصوصا في النجاسات ، كتعديهم في أصل ثبوت النجاسة وان كان ما ورد بها خاصا بالثوب ونحوه ، لا أقل من الشك ، والاستصحاب محكم.

ثم انه لا يعتبر في المرتين كونهما معا للتطهير ، بل الظاهر الاجتزاء بهما لو حصلت‌

١٩٠

الإزالة بأحدهما كما عن المعتبر والذكرى وجامع المقاصد وشرح الموجز التصريح به ، لا طلاق الأدلة ، بل هو قاض بذلك أيضا فيما لو حصلت الإزالة بهما أيضا ، وذيل خبر ابن أبي العلاء قد عرفت عدم ثبوته ، ولا ينافي ذلك اعتبار المرتين في المتنجس بالبول حكما ، لكون مدار المقام على إطلاق الأدلة وتحقق امتثالها.

فما عساه يقال أو قيل بل قد يوهمه كثير من العبارات في غير البول ـ من انه لا معنى لاحتساب تلك الغسلة الأولى التي حصلت بها الإزالة من الاثنتين ، المزوم الإزالة ولو تضاعف الغسل ، ولغير ذلك ـ ضعيف لا شاهد عليه.

نعم لا بد من اجتماع شرائط التطهير في الغسلتين معا من الورود والانفصال ونحوهما ، وإن كنا لا نشترط في المراد به إزالة نفس العين ذلك ، فلو فرض إزالتها بماء وردت عليه مثلا ثم تعقب ذلك غسلتا التطهير لم يكن بذلك بأس ، فلا يتوهم من الاجتزاء بالإزالة في الغسلة الأولى التي احتسبناها من الغسلتين سقوط شرائط التطهير فيها ، إذ قد عرفت عدم ثبوت كون المراد منها الإزالة ، بل ظاهر الأدلة توقف التطهير على مسمى الغسلتين ، إلا أنه لما تحقق امتثال المكلف بفعلهما لاندراجه في إطلاق الأدلة قلنا بالاجتزاء بذلك ، وإن قارنهما أو أحدهما حصول الإزالة أيضا ، كما هو واضح.

وظاهر المتن وغيره ممن اقتصر على ذكر العدد في البول خصوصا مع إطلاقه الغسل في غيره الاجتزاء بالمرة ، كما هو صريح المعتبر والقواعد والموجز والبيان والروضة والمدارك والذخيرة والحدائق والرياض وغيرها ، وان اشترط جماعة منهم الاكتفاء بها بعد إزالة العين ، لظهور عدم مدخلية ذلك في اعتبار العدد ، بل أقصاه عدم الاجتزاء بالمرة التي يقارنها الإزالة بها ، مع انه قد يقطع بعدم إرادتهم منه ذلك ، بل المراد عدم اعتبار أزيد من الإزالة بالغسل ، إذ العدد على تقدير اعتباره لا يتفاوت فيه وجود العين وعدمها ، ويعتبر فيه اجتماع شرائط التطهير من الورود والانفصال ونحوهما من‌

١٩١

غير فرق بين الغسلة الأولى والثانية ، بخلاف ما يراد منه الإزالة كما عرفته مفصلا.

ولعله بهذا الاعتبار يرجع ما في المنتهى والتحرير إلى المختار حيث قال فيهما بعد ذكر العدد في البول : « ان ما كان له ثخن وقوام من النجاسات كالمني أولى بالتعدد » لظهور كون مراده ذلك لازالة العين ، لا أن التطهير يتوقف عليه تعبدا ، ولذا اكتفى بالمرة حال عدم وجود العين من سائر النجاسات ، وهو أمر خارج عما نحن فيه ، إذ فرض البحث بعد إزالة العين ولو بماء مضاف ونحوه.

نعم صريح اللمعة وجامع المقاصد التعدد في سائر النجاسات ، للاستصحاب ولمساواتها للبول أو أولى ، بل في‌ صحيح ابن مسلم (١) عن الصادق عليه‌السلام « انه ذكر المني فشدده وجعله أشد من البول » الحديث. ولتعليل غسلتي البول بكون أولهما للإزالة والثانية للإنقاء الجاري في غيره أيضا.

وهو كما ترى ، إذ الاستصحاب مقطوع بإطلاق أدلة الغسل في جملة منها ، بل الشديد منها كالحيض ونحوه ان لم يكن جميعها المتمم بعدم القول بالفصل ، ومنع وصول العقل إلى المساواة بالنسبة للحكم المذكور على وجه القطع واليقين فضلا عن الأولوية ، بل قد يومي عدم العفو عن قليله في الصلاة إلى أشديته من الدم ، كمنع ظهور صحيح ابن مسلم في المطلوب ، إذ لعل المراد أشدية وجوب إزالته وأنه آكد من البول في ذلك ردا لما عن بعض العامة من القول بطهارته لا بالنسبة إلى كيفية الغسل ، أو المراد أشديته منه لاحتياجه إلى فرك ونحوه ، وأما التعليل المذكور فقد عرفت أنا لم نعثر عليه في الأخبار السابقة ، على أنه عليل في نفسه ، بل لعله إقناعي أو كالاقناعي.

فالأقوى حينئذ عدم اعتبار العدد في غير البول من النجاسات في سائر المتنجسات‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

١٩٢

إلا الولوغ وخصوص الأواني على ما ستعرف حكمهما إن شاء الله من غير فرق في ذلك بين ما ثبت نجاسته من أوامر الغسل ونحوها التي يتمسك بإطلاقها في الاجتزاء بالمرة وبين ما ثبت نجاسته بالإجماع ونحوه ، وإن تردد فيه بعض متأخري المتأخرين ، للاستصحاب السالم عن معارضة إطلاق الأمر بالغسل ونحوه كما هو المفروض ، إذ قد عرفت أنه مع تسليم وجود الفرض المذكور وأنه لا تكفي عمومات مطهرية الماء انما يتم بالإجماع المركب المحكي ظاهرا في الذخيرة الذي يشهد له التتبع ، بل يمكن تحصيله على عدم الفرق بين النجاسات بذلك ، وبه ينقطع الاستصحاب حينئذ.

مع إمكان منعه في نفسه ، إما بناء على عدم حجيته في نحوه مما كان معلقا على غاية غير معلومة للمكلف ، فيتمسك حينئذ بأصالة براءة الذمة عن استعماله بعد الغسلة الواحدة ، وعن وجوب غسلة ثانية بعدها ، للشك في أصل الشغل بها ، كمن تنجست يده مثلا بنجاسة لا يعلمها أنها بول فيجب فيه مرتان ، أو غيره فيجب مرة ، فإنه لا يجب عليه أزيد من مرة ، وكالشك في كون الصادر منه موجبا للقضاء والكفارة ، أو للقضاء وحده.

واحتمال الفرق بين مشتبه الحكم والموضوع ممنوع ، كاحتمال الفرق بين أسباب النجاسة وغيرها من أفراد قاعدة الشك بين الأقل والأكثر التي منها ما لو شك في شغل ذمته لزيد بعشرة دراهم أو أزيد المعلوم جريان أصل البراءة في مثله ، كمعلومية منع دعوى بطلان ذلك باستصحاب الشغل إجمالا قياسا على من علم شغل ذمته بقدر خاص ثم شك في أدائه تماما أو بعضه ، لوضوح الفرق بين المقامين.

وإما بناء على عدم استصحاب حكم الإجماع ، لارتفاعه بعد تحققها.

وإن كانا معا لا يخلوان من نظر ، أما الأول فلأن صفة الطهارة وما يحصل به الطهارة أمر شرعي لا يمكن حصوله إلا بتوقيف من الشارع ، وأصالة البراءة لا تستقل‌

١٩٣

بإثباته قطعا ، فلا يمكن الحكم بحصول وصف الطهارة شرعا لمتنجس قد اشتبه موضوع ما تنجس به أو حكمه بمجرد غسلة واحدة لأصالة براءة الذمة عن الزائد.

وما عساه يقال : إنه يثبت طهارته بعموم الأدلة على طهارة كل ما لم يعلم نجاسته ، فإنه بالغسلة الواحدة لم يعلم كونه طاهرا شرعا أو نجسا يدفعه إمكان منع عموم أدلة على ذلك ، إذ أقصى ما يستفاد منه الحكم بطهارة الذي لم يعلم عروض التنجيس له ، أو الشي‌ء لم يعلم لحوق وصف النجاسة له ابتداء كالموضوعات المجهولة الحكم ، أما ما ثبت نجاسته ولو في الجملة كما في الفرض فنمنع وجود عموم يدل على طهارته بمجرد عدم العلم ببقاء وصف النجاسة له.

نعم قد يقال : إنه بناء على ما ذكرت لا يكون محكوما بطهارته ولا نجاسته كالإناء المشتبه بالنجس ، فلا ينجس به الطاهر ، ولا يكتفى به في امتثال ما علم اشتراطه بالطهارة ، دون ما كانت النجاسة مانعة منه ، ولعلنا نلتزمه ، أو نرتكب تخلصا آخر عن أصل البحث بأن ندعي الفرق بين ما كان من قبيل الصفات كالنجاسة والطهارة ونحوهما وإن كانت تترتب عليها تكاليف ، وبين ما كان من قبيل التكليف المحض كمثال القضاء والكفارة ، فيتمسك باستصحاب بقاء الوصف في الأول وان جهل حكم سببه أو موضوع سببه ، بخلاف الثاني فنفيه بالأصل ، لأنه تكليف محض.

وأما الثاني أي عدم استصحاب حكم الإجماع فبما بيناه في الأصول ، على أنه يمكن فرض المقام فيما لا يكون مدركه الإجماع ، بل إطلاق دليل بالنجاسة ونحوه ، فتأمل جيدا ، فان المقام من مزال الأقدام وكثير الفوائد ، وتمام البحث فيه في الأصول.

ثم انه لا ريب في الاجتزاء بالمرة في غسل ما تنجس بالمتنجس بها بناء على الاجتزاء بها في الأصل ، لعدم زيادة الفرع عليه ، أما بناء على التعدد فيحتمل ذلك أيضا للإطلاق ، وعدم صدق اسم الأصل ، والتعدد للاستصحاب ، وظهور انتقال‌

١٩٤

حكم الأصل إلى ما تنجس به ، ومنه يعرف الكلام في المتنجس بالبول ، كما أنه مما قدمناه في بحث الغسالة يعرف البحث في ذلك كله ، إذ هي من أفراد المسألة على تقدير النجاسة ، فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فظاهر المتن وغيره ممن أطلق اعتبار المرتين في غسل البول عدم الفرق بين القليل والكثير الراكد والجاري ، لكن لم أعرف أحدا صرح بذلك هنا ، بل ظاهر الأصحاب الاتفاق على الاجتزاء بالمرة في الأخير ، ولذا نفى الريب عنه في الذكرى ، وما تصيده بعضهم ـ من الخلاف من إطلاق الشيخ عدم احتساب وقوع إناء الولوغ في الماء الجاري لو تعاقب عليه الجريات غسلات ثلاثا ـ فيه ـ مع احتمال كون ذلك منه لاشتراط تقدم تعفيره بالتراب ـ انه فرق بينه وبين ما نحن فيه ، كما أومأ إليه الشهيد في الذكرى ، لاختصاص المقام بصحيح ابن مسلم (١) المتقدم سابقا المصرح بالاجتزاء بغسل الثوب من البول في الجاري مرة واحدة ، مؤيدا بالرضوي (٢) وبضعف تناول ما دل على اعتبار المرتين لمثله ، بل هي ظاهرة في الغسل بالقليل ، كما يومي اليه لفظ الصب والمركن فيها ونحوهما ، بل لعله المتعارف في ذلك الزمان وتلك البلدان لقلة الجاري ونحوه فيها.

نعم قد يظهر من حدائق المحدث البحراني نوع تردد في الاجتزاء بذلك بالنسبة للبدن ، لاختصاص الصحيح (٣) بالثوب ، وهو ضعيف جدا ، للقطع بالمساواة والأولوية القطعية ، ولما عرفت من ضعف تناول إطلاق المرتين لمثله ، خصوصا الوارد منها في البدن ، لاشتمالها أو أكثرها على لفظ الصب ، فيبقى حينئذ إطلاق الأمر بالغسل الظاهر في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٩٥

الاجتزاء بالمرة من غير معارض ، ومع ذلك فلا قائل بالفصل إلا ما يظهر مما حضرني من نسخة جامع ابن سعيد من الفرق بين الثوب والبدن ، فيكتفي بالمرة الواحدة في غسل الأول بالجاري دون الثاني ، وظني أنها غلط ، لأن المنقول عنه التفصيل بين الجاري والراكد في اعتبار المرة والمرتين من غير فرق بين الثوب والبدن ، وعلى كل حال فهو في غاية الضعف ، بل لا يقدح في دعوى تحصيل الإجماع على عدم الفصل.

ولا يعتبر في الغسل بالجاري المكث حتى يتعاقب الجريتان ليكون كالغسلتين ، لا طلاق الصحيح السابق ، ولعدم صدق اسم الغسلتين عرفا بذلك ، فما عساه يوهمه معتبر المصنف ومنتهى الفاضل من اعتبار ذلك في إناء الولوغ فيعتبر مثله هنا ضعيف ، على أنك قد عرفت الفرق بين المقامين.

وأما الغسل بالثاني أي الراكد الكثير فالأقوى فيه أيضا عدم اعتبار العدد ، وفاقا للفاضل في التذكرة وعن غيرها والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم ، بل هو المشهور نقلا وتحصيلا ، بل نفى الريب عنه في الذكرى ، وخلافا لظاهر المتن وغيره ، بل كصريح الصدوق والجامع ، بل صريح الرياض ، بل لعله لازم قول المصنف بعدم سقوط التعدد في غسل إناء الولوغ به ، كالمحكي عن بعض نسخ المنتهى ، لكن ما حضرني منها صريح في السقوط ، فيلزمه المختار هنا حينئذ ، لا طلاق الأمر بالغسل ، وإمكان دعوى القطع بمساواته للجاري بعد ما عرفت من عدم اعتبار الجريات ، بل ومع اعتبارها ، إذا فرض اختلاف سطوح الراكد عليه بتحريك ونحوه ، بل لعل الكثير من الراكد إذا فرض جريانه في ساقية ونحوها داخل في إطلاق الجاري ، إذ تخصيصه بالنابع عرف للفقهاء أو بعضهم على الظاهر ، فيشمل الصحيح حينئذ هذا القسم منه ، ويتم في الباقي بعدم القول بالفصل.

كما انه يمكن القطع بمساواة بعض أفراد الجاري للراكد على العرف الشرعي أيضا‌

١٩٦

كالنابع غير السائل من العيون ونحوها ، خصوصا في المنقطع فعلية نبعها بسبب ما خرج منها من الماء وان كانت مستعدة له ، بل يمكن إرادة غير المنفعل من الجاري في الصحيح بقرينة مقابلته بالمركن.

ومعارضته باحتمال إرادة مطلق الراكد من المركن وإن كان كرا بقرينة مقابلته بالجاري يدفعها وضوح رجحان الأول عليه ، لمعلومية مساواة الكر الجاري في سائر أحكامه أو أكثرها ، ولذا‌ ورد (١) « أن ماء الحمام كالجاري » بخلاف المركن ، بل لعل التجوز بمثله عن الكثير الراكد يعد مستهجنا.

بل قد يظهر من التأمل في هذا الأخير دليل آخر على المطلوب بدعوى استفادة تنزيل الكر منزلة الجاري فيما يتعلق بالطهارة والنجاسة والتطهير وغيره من الاستقراء والتتبع ، بل ورد التصريح به في الحمام ، سيما بناء على ما اختاره بعضهم من عدم خصوصية له في ذلك.

فهذا ـ مع ما عرفت من ظهور أدلة المرتين بالقليل من حيث اشتمالها على الصب ونحوه ، بل الغسل فيها من حيث ظهوره بسبب مقابلته بالصب في العصر ونحوه الذي قد عرفت سقوطه بالكثير ، مع معروفية التطهير بالقليل في ذلك الزمان والمكان لقلة الكثير فيهما ، فضلا عن التطهير به.

وما يمكن أن يؤيد به أيضا من الاعتبار من حيث أن الماء الكثير إذا استولى على عين النجاسة وان كانت مغلظة استيلاء شاعت أجزاؤها فيه واستهلكت سقط حكمها شرعا ، فالمتنجس إذا استولى الماء على آثار النجاسة أولى بالسقوط وبصيرورة وجودها كعدمها ، وإلا لكان الأثر أقوى من العين ـ يشرف الفقيه على القطع بالاجتزاء بالمرة المزيلة للعين.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ١.

١٩٧

ولعله لذا قطع به في الذكرى ، فقال : « لا ريب في عدم اعتبار العدد في الجاري والكثير في غير الولوغ ، وقول ابن بابويه باعتبار المرتين في الراكد دون الجاري كحسنة محمد بن مسلم (١) عن الصادق عليه‌السلام محمول على الناقص عن الكر أو على الندب ، لتغاير المياه في الجاري ، فكأنه غسل أكثر من مرة بخلاف الراكد » انتهى. وهو جيد مشتمل على فوائد كثيرة تعرف مما سبق ، فالقول بوجوب العدد للاستصحاب والإطلاق ومفهوم الصحيح ، بل ومنطوق الرضوي السابقين في أول البحث ضعيف جدا ، لما عرفت ، والرضوي مع أنه ليس بحجة عندنا يمكن حمله على ما ذكره الشهيد في عبارة الصدوق التي هي عين عبارته ، بل لعل ذكر العصر فيها يومي اليه ، لسقوطه بالكثير الراكد عندنا ، فتأمل جيدا.

ثم المعتبر في غسل النجاسات والمتنجسات بها زوال أعيانها بحيث لم يبق منها أجزاء على المحل ولو كانت دقاقا ، نعم لا عبرة بعد ذلك بالألوان والروائح ونحوهما من الأعراض التي لا تستتبع أعيانا من مؤثراتها عرفا بل ولا عقلا ، لمنع اقتضاء العرض محلا من مؤثرة ، يقوم به ، بل يكفي في عدم تحقق قيامه بنفسه قيامه بالثوب ونحوه مما باشر المؤثر ، على أنه لو سلم استلزامه أجزاء جوهرية من المؤثر أمكن منع وجوب إزالتها ، لصدق غسل النجاسة بل الإزالة المأمور بها شرعا بدون ذلك ، والأصل براءة الذمة عن التكليف بغيرهما مؤيدا بالعسر والحرج والسيرة والطريقة المستمرة ، سيما في مثل الأصباغ المتنجسة ولو بالعرض من مباشرة الكفار وغيرهم ، حيث يكتفي سائر المسلمين بغسلها إذا أريد تطهيرها من ذلك.

فاحتمال التمسك باستصحاب النجاسة أو حكمها إلى زوالها في غاية الضعف ، خصوصا بعد ما في المعتبر من إجماع العلماء على عدم وجوب إزالة اللون والرائحة الذي يشهد له التتبع.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٩٨

وبعد‌ قول أبي الحسن عليه‌السلام في الحسن (١) بعد أن سئل هل للاستنجاء حد؟ : « لا حتى ينقى ما ثمة ، فقيل له : يبقى الريح ، قال : الريح لا ينظر إليها ».

وخبر علي بن أبي حمزة (٢) عن العبد الصالح (ع) « سألته أم ولد جعلت فداك اني أريد أن أسألك عن شي‌ء وأنا أستحيي منه ، قال : سلي ولا تستحيي ، قالت : أصاب ثوبي دم الحيض فغسلته فلم يذهب أثره ، قال : اصبغيه بمشق حتى يختلط ويذهب أثره ».

كخبر عيسى بن أبي منصور (٣) قال للصادق عليه‌السلام : « امرأة أصاب ثوبها من دم الحيض فغسلته فبقي أثر الدم في ثوبها ، قال : قل لها تصبغه بمشق » ونحوهما غيرهما ، إذ المشق بالكسر المغرة كما عن الصحاح والقاموس ، ولو كان زوال اللون شرطا في زوال النجاسة لم يكن للأمر بالصبغ وجه ، إذ لا فائدة له إلا إخفاء لون النجاسة عن الحس.

ومرسل الفقيه (٤) « سئل الرضا عليه‌السلام عن الرجل يطأ في الحمام وفي رجله الشقاق ، فيطأ البول والنورة فيدخل الشقاق أثر أسود مما وطأ من القذر وقد غسله ، كيف يصنع به وبرجله التي وطأ بها؟ أيجزيه الغسل أم يخلل أظفاره بأظفاره؟ ويستنجي فيجد الريح من أظفاره ولا يرى شيئا ، فقال : لا شي‌ء عليه من الريح والشقاق بعد غسله » إذ هو صريح في الريح وكالصريح في اللون بناء على إرادته من الأثر الأسود ، والمناقشة بالقصور سندا أو دلالة يدفعها الانجبار بما عرفت.

فما في منتهى الفاضل من وجوب إزالة الأثر إلا إذا تعذر مفسرا له باللون دون الرائحة فلم يوجب إزالتها ضعيف جدا ، إلا أن يريد بعض الألوان التي هي في الحقيقة أعيان تزول بالفرك والدلك ونحوهما ، لا أنها ألوان محضة ، لكن فرقه بين الرائحة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٢) الكافي ـ ج ١ من الفروع ـ ص ١٠٩ من طبعة طهران عام ١٣٧٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

١٩٩

واللون قد ينافيه ، اللهم إلا أن يدعى بعد الفرض المذكور فيها بخلافه فيه ، فإنه كثيرا ما يشتبه اللون بالعين ، ولعله لذا أيضا قال في القواعد : « ويكفي أي في التطهير إزالة العين والأثر وان بقيت الرائحة واللون ، لعسر الإزالة كدم الحيض » حيث قيد اللون بالعسر دونها إلا أن يريد تقدير ذلك فيها أيضا ، فيفهم منه حينئذ وجوب إزالتها مع عدم العسر كاللون ، لكنه على كل حال قاطع فيها وفي المنتهى بعدم وجوب إزالتهما مع العسر من غير فرق بينهما ، إلا أنه في المحكي من نهايته الفرق بينهما ، حيث قطع بعدم وجوب الإزالة فيه إذا كان عسر الزوال دونها ، فقال : الأقرب ذلك ، وهو مشكل ، وربما علل بوجود النص فيه بخلافها ، وفيه ما عرفت من وجوده فيه أيضا.

بل الأولى الاعتذار عنه بأنه في هذا الكتاب لم يسلك مسلك غيره من التحقيق والتدقيق حتى يستحق التوجه إلى مراعاة هذه الدقائق فيه ، بل كان قصده فيه تكثير الوجوه والاحتمالات والإشكالات كما لا يخفى على الممارس له ، ومن ذلك قوله بعد ما حكيناه عنه : « ولو بقي اللون والرائحة وعسر إزالتهما ففي الطهارة إشكال ينشأ من قوة دلالة بقاء العين ، ومن المشقة المؤثرة مع أحدهما ، فيعتبر معهما » إذ هو كما ترى لا ينبغي الإشكال فيه بعد أن اختار عدم وجوب إزالة اللون والرائحة مع عسر الإزالة ، واحتمال مدخلية الاجتماع لا ينبغي أن يصغى اليه.

وكيف كان فلم نعرف له حجة على دعواه في كتبه الثلاثة إذا لم ينزل على المختار إلا الأصل الذي قد عرفت حاله مما تقدم ، كدعوى دلالة اللون أو هو والريح على العين ، وما عساه يظهر من أخبار صبغ أثر دم الحيض بالمشق من وجوب الإزالة مع الإمكان ، وان لم يتمكن من ذلك احتال بالصبغ ، بل قد يدعى ظهورها في شدة الاهتمام‌

٢٠٠