جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

( الثامن المسكرات )

المائعة أصالة كالخمر وغيره وفي تنجيسها خلاف بين الأصحاب ولكن الأظهر والمشهور نقلا وتحصيلا قديما وحديثا بيننا وبين غيرنا شهرة كادت تكون إجماعا بل هي كذلك النجاسة بل لم يعتد به في المبسوط ، وعن الخلاف وأطعمة الإيضاح بالنسبة للخمر فنفياه عن نجاسته من غير استثناء ، بل ظاهر الأولين أو صريحهما بين المسلمين كصريح الناصريات وظاهر الغنية مع زيادة « إلا من لا يعتد بقوله » ونحوه فيهما وفي السرائر بعد أن نفى الخلاف عن نجاسة الخمر حكى عن بعض أصحابنا ما يقتضي الطهارة ، ثم قال : « وهو مخالف لإجماع المسلمين فضلا عن الطائفة في أن الخمر نجس » كالمحكي عن نزهة يحيى بن سعيد من أن القول بطهارة الخمر خلاف الإجماع ، وفي الذكرى ان القائل بالطهارة تمسك بأحاديث لا تعارض القطعي ، إلى غير ذلك من الإجماع المستفيض في كلام الأصحاب المعتضد بما تسمعه منه أيضا في الفقاع وفي كل مسكر ، بل هو خارج عن قسم الآحاد وداخل في القطع أو المتواتر منه.

ولقد أجاد البهائي في الحبل المتين بقوله : أطبق علماء الخاصة والعامة على نجاسة الخمر إلا شرذمة منا ومنهم لم يعتد الفريقان بمخالفتهم.

٢

فمن العجيب بعد ذلك كله وغيره تشكيك الأردبيلي وتلميذه والخوانساري في النجاسة تبعا للصدوق والمحكي عن والده في الرسالة والحسن والجعفي من القول بالطهارة مع عدم ثبوت ذلك عن الثاني ، بل أنكره بعض الأساطين ، وعدم صراحة الأول فيه أيضا ، سيما بملاحظة ما نقل عنه من إيجابه نزح البئر منه ، كعدم معروفية حكاية ذلك عن الجعفي في كثير من كتب الأصحاب كالعلامة وغيره ، نعم حكاه في الذكرى وتبعه بعض من تأخر عنه.

وكيف كان فقد انقرض الخلاف واستقر المذهب على النجاسة فيه وفي كل مائع مسكر ، ففي الغنية كل شراب مسكر نجس ، والفقاع نجس بالإجماع ، كما عن الخلاف وشرح الرسالة للشهيد الثاني الإجماع أيضا ، لكن مع استثناء من شذ في الثاني ، وفي المصابيح حكم سائر المسكرات حكم الخمر عندنا ، كما عن المعتبر ان الأنبذة المسكرة عندنا في التنجيس كالخمر ، وفي التحرير على ذلك عمل الأصحاب ، وفي المعالم لا نعرف فيه خلافا ، كما في المدارك انه قطع به الأصحاب ، بل لم يعتد المرتضى رحمه‌الله فيما حكي عنه بالخلاف في المقام ، فقال : « الشراب الذي يسكر كثيره كل من قال انه محرم الشرب ذهب إلى أنه نجس كالخمر ، وانما يذهب إلى طهارته من ذهب إلى إباحة شربه ، وقد دلت الأدلة الواضحة على تحريم كل شراب مسكر كثيره ، فيجب أن يكون نجسا ، لأنه لا خلاف في أن نجاسته تابعة لتحريم شربه » انتهى.

إذ من المعلوم ان حرمة شرب سائر المسكرات في مذهبنا من المسلمات بل الضروريات ، من غير فرق بين القليل والكثير والمطبوخ والني‌ء والمتخذ من العنب وغيره ، كالنقيع من الزبيب ، والنبيذ من التمر ، والمسكر من الرطب ، والفضيخ من البسر ، والتبع من العسل ، والجعة من الشعير ، والمرز من الذرة ، وغيرها من الأشربة المسكرة ولو بكثيرها ، بل عن الشافعي وأحمد ومالك والثوري والليث بن سعد وجمهور‌

٣

العامة موافقتنا في ذلك ، نعم حكي عن أبي حنيفة وصاحبيه خلاف ذلك ، فأباح الأول المسكر من كل شي‌ء عدا عصير العنب ونقيع التمر والزبيب ، وأحل من العصير ما طبخ على الثلث ، ومن النقيعين المطبوخ مطلقا ، لكنه استثنى من المطبوخ القدر الذي يتعقبه الإسكار ، فلو شرب عشرة وسكر بالعاشر اختص التحريم به ، ونحوه في ذلك كله صاحباه ، إلا أن الشيباني منهما قد اشترط في حل الثلاثة طبخها على الثلث ، وقد خالفوا في ذلك الكتاب والسنة ، بل وما هم عليه من القياس ، مع كونه جليا تشهيا وطلبا للرخصة.

ولعله لذا قيل : إنه قد شنع عليهم فيه علماء العامة فضلا عن الخاصة ، والتشاغل في تحقيق ذلك غير مهم بعد ما عرفت ، فكان المرتضى رحمه‌الله لم يعتد بخلاف الصدوق ومن تقدمه ، وإلا فهم ممن يقول بالحرمة دون النجاسة ، واحتمال تخصيص كلامهم في الخمر دون غيره باطل قطعا.

نعم يتجه دعوى الإجماع المركب بمعنى أن كل من قال بنجاسة الخمر قال بنجاسة سائر الأشربة المسكرة ، ومن قال بطهارته قال بطهارتها ، فيتجه حينئذ الاستدلال عليها بكل ما دل على نجاسة الخمر من الإجماعات السابقة وغيرها كالآية (١) بناء على كون الرجس فيها بمعنى النجس ، إما لغة كما في التذكرة والمنتهى ، بل حكي في الثاني عن الصحاح والجمل أن الرجس بالكسر القذر ، أو في خصوص المقام لنفي الشيخ في التهذيب عنه الخلاف ، بل في المصابيح أنه نص عليه الفقهاء وادعى الشيخ عليه الإجماع ، ولعله لا ينافيه وقوعه مع ذلك خبرا عن الأنصاب والأزلام ، لإمكان أن يراد به بالنسبة إليهما المستقذر عقلا من باب عموم المجاز ، على انه يمكن بل هو الظاهر دعوى كونه خبرا عن الخمر خاصة ، فيقدر حينئذ لهما خبرا ، ولا يجب مطابقة المحذوف والموجود وإن كان دالا عليه ، كما في عطف المندوب على الواجب بصيغة واحدة ، فيتعين حينئذ كون الرجس بمعنى النجس.

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٩٢.

٤

ويؤيده ـ مضافا إلى إطلاق الأمر بالاجتناب عنه في الآية بناء على جعل الضمير فيه للرجس أو الخمر ، وإلى استعماله في السنة (١) بذلك في الكلب ونحوه ـ خصوص‌ خبر خيران الخادم (٢) المروي في الكافي والتهذيب والاستبصار بطرق ليس فيها من يتوقف في شأنه إلا سهل بن زياد ، قال : « كتبت إلى الرجل عليه‌السلام أسأله عن الثوب يصيب الخمر ولحم الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا ، فقال بعضهم : صل فيه فان الله انما حرم شربها ، وقال بعضهم : لا تصل فيه ، فكتب عليه‌السلام لا تصل فيه فإنه رجس » وهو مع شهادته لقوة دلالة الآية دال على المقصود بنفسه ، كغيره من المعتبرة المستفيضة (٣) الظاهرة بل الصريحة في نجاسته المتمم دلالتها على غيره من المسكرات بعدم القول بالفصل كما عرفت إن لم نقل بكون الخمر اسم لما يخمر العقل الشامل لكل مسكر كما هو ظاهر المصنف في المعتبر وغيره.

بل في الغريبين للهروي في تفسير الآية الخمر ما خامر العقل أي خالطه ، وخمر العقل ستره ، وهو المسكر من الشراب ، كما عن القاموس الخمر ما أسكر من عصير العنب أو عام كالخمرة وقد يذكر ، والعموم أصح ، لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب ، وما كان مشروبهم إلا البسر والتمر ، ثم ذكر وجه التسمية بالخمر.

وعن المصباح المنير الخمرة يقال : هي اسم لكل ما خامر العقل وغطاه ، وعن مجمع البحرين الخمر معروف ، وعن ابن الأعرابي انما سمي خمرا لأنها تركت واختمرت ، واختمارها تغيير رائحتها ، إلى أن قال : « والخمر فيما اشتهر بينهم كل شراب مسكر ، ولا يختص بعصير العنب » إلى آخره.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات.

٥

بل يشهد له جملة من الأخبار كصحيح ابن الحجاج (١) عن الصادق عليه‌السلام « الخمر من خمسة أشياء : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، والتبع من العسل ، والمرز من الشعير ، والنبيذ من التمر » ونحوه خبر علي بن إسحاق الهاشمي (٢).

ويقرب منهما خبر النعمان بن بشير (٣) كمرسل الحضرمي (٤) وخبر ابن السمط (٥) المروي أولها عن الأمالي ، وثانيها عن الكافي ، وثالثها عن تفسير العياشي ، بل في‌ خبر عطاء بن سيارة (٦) عن الباقر عليه‌السلام « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل مسكر خمر » كقوله عليه‌السلام في خبر أبي الجارود (٧) المروي عن تفسير علي بن إبراهيم ، وهو طويل : « أما الخمر فكل مسكر من الشراب فهو خمر ـ بل فيه انه ـ لما نزل تحريمها انما كان الخمر بالمدينة فضيخ البسر والتمر ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا بالأواني فكفأها ، وقال : هذه كلها خمر ، ولا أعلم أنه كفأ يومئذ من خمر العنب شيئا إلا إناء واحدا كان فيه زبيب وتمر جميعا ، فأما عصيره فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شي‌ء » إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على عموم الخمر لكل مسكر.

ولا ريب في وضوحها في المدعى حتى لو قلنا بكون المستفاد منها أن الخمر حقيقة شرعية في كل مسكر كما ذهب إليه البحراني في حدائقه ، بل وإن لم نقل بذلك بل كان من المراد الشرعي ، بل قد يتمسك بها حتى لو أريد التشبيه منها والمنزلة ، اللهم إلا أن يدعى انصرافها إلى التحريم ، وفيه منع ، على أن بعض الأخبار (٨) قد دلت على شمول لفظ الخمر في الآية لكل مسكر ، وقد ظهر لك سابقا دلالة الآية على التنجيس.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٥ لكن رواه عن عطاء بن يسار.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٥.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٥.

٦

كل ذلك بعد الإغضاء عما يستفاد منه نجاسة مطلق المسكر والنبيذ من المعتبرة المستفيضة (١) البالغة هي مع ما ورد في نجاسة الخمر حد الاستفاضة ان لم تكن متواترة ، إذ هي تقرب من عشرين خبرا ، وفيها الصحيح والموثق وغيرهما الدالة بأنواع الدلالة ، كالأمر بالغسل وإعادة الصلاة وغيرهما ، بل في بعضها الأمر بالغسل سبعا ، وفي آخر ثلاثة ، بل فيها الصريح بالنجاسة ، كخبر أبي الجارود ـ وهو طويل ـ عن النبيذ ، وسؤال أم خالد (٢) العبدية عن التداوي به ، فقال : « ما يبل الميل منه ينجس حبا من ماء ، يقولها ثلاثا » كما أن فيها المشتمل على القسم بالله على ذلك ، كخبر عمر بن حنظلة (٣) قلت للصادق عليه‌السلام : « ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى يذهب عاديته وسكره؟ فقال : لا والله ولا قطرة يقطر منه في حب إلا أهريق ذلك الماء » كسؤال‌ الحلبي (٤) له عليه‌السلام أيضا عن دواء يعجن بالخمر ، فقال : « والله ما أحب أن أنظر اليه ، فكيف أتداوى به ، انه بمنزلة شحم الخنزير » وفي‌ خبر هارون ابن حمزة (٥) عنه عليه‌السلام أيضا « انه بمنزلة الميتة » إلى غير ذلك ، مضافا إلى ما تقدم من الأخبار المعتبرة (٦) في نزح البئر منه.

وهي وان كان في مقابلها أخبار تدل على الطهارة في الخمر والنبيذ ، بل مطلق المسكر ، كصحيح الحسن بن أبي سارة (٧) عن الصادق عليه‌السلام « إن أصاب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١٠ وفي الوسائل « عن الحسين بن أبي سارة » وهو وهم كما يظهر من ترجمته.

٧

ثوبي شي‌ء من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله ، قال : لا بأس ، إن الثوب لا يسكر » وصحيح علي بن رئاب (١) عنه عليه‌السلام أيضا « عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي أغسله أو أصلي فيه ، قال : صلِّ فيه إلا أن تقذره ، فتغسل منه موضع الأثر ، إن الله تعالى انما حرم شربها » وموثق ابن بكير (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « سأله رجل وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب فقال : لا بأس » وخبر الحسين بن موسى الخياط (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي فقال : لا بأس » إلى غير ذلك.

لكنها أقل منها عددا وأقصر منها سندا ، ومخالفة للكتاب والمجمع عليه بين الأصحاب ، فلا بد من تأويلها أو طرحها والاعراض عنها ، سيما بعد أمر الرجل في خبر خيران الخادم الذي هو كناية على ما قيل عن أبي جعفر الثاني أو أبي الحسن الثالث عليهما‌السلام بذلك ، كصحيح علي بن مهزيار (٤) المروي في الكافي وكتابي الأخبار بطرق متعددة ، قال : « قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل إنهما قالا : لا بأس بأن يصلي فيه ، انما حرم شربها ، وروى غير زرارة عن الصادق عليه‌السلام انه قال : إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله كله ، وان صليت فيه فأعد صلاتك ، فأعلمني ما آخذ به ، فوقع عليه‌السلام وقرأته خذ بقول أبي عبد الله عليه‌السلام » إذ من الواضح إرادة قوله المنفرد عن قول‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

٨

أبيه ، وإلا فكلا القولين قوله ، والأخذ بهما جميعا ممتنع ، والتخيير غير مقصود ، على أنه لو كان المراد قوله مع أبيه لكان ينبغي إسناده إليهما معا أو إلى أبي جعفر عليه‌السلام كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ، وهي ـ مع اشتمالها على الاعراض عن تلك الأخبار ـ دالة على النجاسة أكمل دلالة وأبلغها ، مع علو سندها وتعدد طريقها ، ومروية عن الامام اللاحق حاكمة على الأخبار المروية عمن قبله ، وليس في تلك الأخبار ما يعادلها نفسها ، سيما بعد اعتضادها بما عرفت.

ولقد أجاد المحقق الشيخ حسن في المنتقى على ما نقل عنه حيث اقتصر عليها في أدلة النجاسة ، وفيها تصديق لما رواه الشيخان في‌ الصحيح عن يونس بن عبد الرحمن (١) ـ الذي هو ممن أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصح عنه ، وأقروا له بالفقه والعلم ـ عن بعض من رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله ان عرفت موضعه ، وان لم تعرف موضعه فاغسله كله ، فان صليت فيه فأعد صلاتك ».

إذ الظاهر أن الرواية المأمور بأخذها هي هذه ، لمطابقة متنها له ، واتحاد المروي عنه فيهما ، ولقد قصر الكلام بعد ما عرفت عن إبداء العجب من هؤلاء المتأخرين في تشكيكهم بهذا الحكم المجمع عليه بين الأساطين ، بل بين علماء المسلمين ، بل كاد ان يكون ضروري مذهب أو دين ، وان كان أول من جرأهم عليه المصنف في المعتبر ، وكيف لا يزداد العجب ولا معارض إلا ما سمعته من تلك الأخبار الواجبة للطرح أو التأويل أو الحمل على التقية من بعض المخالفين سيما من ربيعة الرأي ، إذ هو على ما قيل من فقهاء المدينة وشيوخ مالك وكان في عصر الصادق عليه‌السلام ، فلا غرو أن يتقى منه ، خصوصا مع ملائمته لطباع السلاطين وذي الشوكة من أمراء بني أمية وبني العباس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

٩

المولعين بشربها المتهالكين عليه ، حتى انهم ربما حاولوا دفع التحريم عنه كما يشير اليه حديث المهدي العباسي (١) مع الكاظم عليه‌السلام والتظاهر بنجاستها تقذير عليهم وتنجيس لهم بشربها ومزاولتها ، بل ربما نقل عن بعضهم انه كان يؤم الناس وهو سكران فضلا عن تلوثه وثيابه بها ، على ان الرمي بالنجاسة من أشد ما يكره على الطبع وأعظم ما يرد على النفس ، ولا كذلك التحريم ، خصوصا بالقياس إلى السلاطين الذين لا يتحاشون عن المحرمات ، واشتهار الفتوى بالنجاسة بين علمائهم لا ينافي ذلك ، إذ لم يكن عليهم فيه تقية ، بل كانوا يتظاهرون بخلاف ما هم عليه ، ويجاهدونهم بالرد والكفاح ولا يراقبونهم في ذلك ، بل كان ذو الشوكة منهم يتحمله ولا يبالي به ، لعلمه بأن ذلك لا يحدث فتقا في سلطانه ، ولا يهدم ركنا في بنيانه ، إذ لم يكن فيهم من يرشح نفسه للإمامة والخلافة الكبرى والرئاسة العظمى انما كانت التقية على أئمة الحق (ع) المحسودين للخلق ، وهم الذين لا يدانيهم في الفضل أحد ، والذين ورد عليهم من حسد أئمة الجور ما قد ورد.

فما توهمه بعض الفضلاء ـ من أن تقية السلاطين لو اقتضت الحكم بالطهارة لكان أولى الناس بها فقهاء العامة ، لشدة مخالطتهم إياهم وعكوفهم لديهم ، مع أن معظمهم على النجاسة ـ في غير محله كما عرفت.

ثم انه قد يتوهم من إطلاق المتن كالقواعد والإرشاد والدروس وعن المبسوط وغيره نجاسة الجامد أصالة من المسكر ، لكن صريح جماعة وظاهر آخرين الطهارة ، بل في المدارك القطع بها ، وموضع من شرح الدروس عدم ظهور خلاف بين الأصحاب في ذلك ، بل في آخر والحدائق الظاهر اتفاقهم عليها ، كنسبة الذخيرة تخصيص النجاسة بالمائع أصالة إلى الأصحاب ، بل عن الدلائل دعوى الإجماع صريحا على طهارة الجامد.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١٣.

١٠

ولعله للأصل والعموم السالمين عن المعارض ، لظهور تلك الأدلة في المائع من المسكر ، وانسياقه إلى الذهن منها ولو من سياقها ، حتى‌ موثق عمار (١) « لا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل » كما يومي اليه عدم تقييد الإصابة فيه بالرطوبة.

إلا أنه قد يشكل ـ مضافا إلى ما يظهر من بعض الأخبار (٢) من كون علة الحكم حرمة ونجاسة الإسكار ، وأن كلما عاقبته الخمر فهو خمر ـ بإطلاق المنزلة المستفاد من نحو‌ قول الباقر عليه‌السلام في خبر عطاء (٣) « كل مسكر خمر » بل وبما تقدم سابقا من معروفية إطلاق الخمر في ذلك الزمان على المسكر ، ولعله لذا قال في شرح الدروس : « انه لولا ظهور اتفاق الأصحاب وعدم ظهور الخلاف لكان مظنة للاحتياط » قلت : وهو كذلك خصوصا مع ضعف سند ما تضمن تلك الكلية ، بل ودلالته بدعوى الانصراف إلى الحرمة وغيرها ، ولا جابر بل الموهن متحقق.

نعم قد يشكل الحكم بطهارة ما ماع منه بالعارض فصار شرابا ، لشمول النصوص (٤) حينئذ له بل والفتوى ، وأولويته من شراب مسكر يختلق في مثل هذا الزمان ، وبهما ينقطع الاستصحاب ، لكن صرح الشهيدان كما عن الفاضل في التذكرة بها ، بل قد يظهر من الذخيرة والحدائق الإجماع عليها ، ولعله للأصل والاستصحاب ، وانسياق المائع أصالة من الأدلة ، وهو لا يخلو من قوة خصوصا فيما كان لا مدخلية لميعانه في إسكاره ، ولا كان موضوعا كذلك له.

أما المائع الأصلي لو جمد عارضا ففي الذكرى وعن التذكرة والمنتهى البقاء على النجاسة ، وهو كذلك ، خلافا لما عساه يظهر من التقييد بالمائع ونحوه في بعض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب النجاسات.

١١

العبارات ، للأصل مع عدم ظهور الأدلة في اشتراط استدامة نجاسته بميعانه وان اشترط في الابتداء ، وعدم معروفية الجمود من المطهرات ، بل وان ذهب مع جموده أو بدونه إسكاره أيضا لنفسه أي لا بممازجة مائع آخر ونحوه ، لنحو ما سمعت.

لكن قد يشكل بالفرق بينه وبين ما تقدم من حيث تعليق الحكم هنا نصا وفتوى على المسكر المنتفي صدقه حقيقة عليه حينئذ دون الأول ، بل قد يقتضي مفهومه حينئذ خلافه ، بناء على حجيته حتى فيمن زال عنه الوصف بعد التلبس كمن لم يكن متلبسا ، واحتمال الحكم بالنجاسة فيه لا لصدق الوصف بل للاستصحاب يدفعه ـ مع أنه لا وجه له بعد فرض ما قلناه من المفهوم ـ أنه لا يجري بعد تغير الموضوع.

ولعله لذلك كله كان ظاهر المحكي عن المنتهى أو صريحه الطهارة فيه ، وهو قوي فيما انحصر دليل نجاسته في المعلق على الوصف المذكور ، أما لو كان دليل آخر يستفاد منه نجاسته لم يعلقها على ذلك بل كانت معلقة على اسم لا يفرض انتفاؤه بانتفاء تلك الصفة كالخمر والنبيذ ونحوهما فقد يقوى حينئذ النجاسة ، وفاقا لظاهر الأستاذ في كشف الغطاء ، اللهم إلا أن يدعى انصرافه أيضا للمعهود المتعارف ، وهو الواجد ، فيبقى الأصل حينئذ لا معارض له ، فتأمل جيدا.

والمدار في حصول الإسكار على المزاج المعتدل لا على سريع الانفعال أو بطيئه كما في أمثاله ، مع احتمال ثبوت الحكم بحصول الأول ، لتحقق ماهية الإسكار ، كما أنه يكفي في نجاسة القليل تحقق الإسكار في الكثير منه للصدق في الصنف دون الشخص ، فالمتكون في بعض حبات العنب والممزوج بغيره كالترياق الفاروق كالكثير.

وفي المسكر في بلاد دون أخرى أو إقليم دون آخر وجهان عموم النجاسة وخصوصها فيما تحقق فيه الوصف ، ينشئان من تحقق الصدق ومن دوران الحكم مدار الوصف ، لكن يبعد الثاني عدم النظير شرعا في النجاسات.

١٢

والمرجع في معنى السكر وفي الفرق بينه وبين الإغماء ونحوه العرف ، واليه يرجع ما قيل : إنه حالة تبعث على نقص العقل بالاستقلال بخلاف الإغماء ، فإنه يقضى به بالتبع لضعف القلب والبدن ، أو انه حالة تبعث على قوة النفس وضعف العقل ، والإغماء على ضعفهما ، وإن كان إيكالهما اليه كغيرهما من الألفاظ أولى.

ويستوي مع المسكرات في حكمها نجاسة وحرمة العصير العنبي كما في الوسيلة والقواعد والتحرير والمختلف والمنتهى والإرشاد والألفية وظاهر الروض والمحكي من عبارة والد الصدوق ، بل في المسالك والمدارك والمفاتيح وغيرها أنه المشهور بين المتأخرين ، بل في الروض والرياض ومنظومة الطباطبائي وشرح الأستاذ للمفاتيح وعن غيرها حكاية الشهرة عليه من غير تقييد بذلك ، كظاهر نسبته إلى أكثر علمائنا في المختلف ، بل المخالف فيه ان كان هو المخالف في الخمر.

قال فيه : « الخمر وكل مسكر والفقاع والعصير إذا على قبل ذهاب ثلثيه بالنار أو من نفسه نجس ذهب إليه أكثر علمائنا كالمفيد والشيخ أبي جعفر والمرتضى وأبي الصلاح وسلار وابن إدريس » ثم حكى خلاف ابن أبي عقيل في الخمر والعصير ، بل عن الشهيد الثاني في شرح الرسالة أن تحقيق القولين في المسألة مشكوك فيه ، بمعنى أنه لا قائل إلا بالنجاسة.

لكن في الذكرى بعد ذكره النجاسة عن ابن حمزة والمعتبر والتوقف عن نهاية الفاضل قال : ولم نقف لغيرهم على قول بالنجاسة ، بل فيها وفي البيان ولا نص على نجاسة غير المسكر ، وهو منتف هنا إلا أن ذلك منه مع اختياره النجاسة في الرسالة غريب ، وهو أول من مال إلى الطهارة بعد ابن أبي عقيل والمصنف في ظاهر النافع ، بل كل من لم يذكره عند تعداد النجاسات كالجامع وغيره ، سيما مع تعبيره بما يقتضي الحصر في غيره ، اللهم إلا أن يكون مندرجا عندهم في الخمر أو المسكر ولو بالكثير منه ،

١٣

وتبعه عليه جماعة ممن تأخر عنه منهم الشهيد الثاني وولداه وشيخهما والفاضل الهندي وسيد الرياض وغيرهم ، للأصل والعموم السالمين عن معارضة ما يصلح لقطعهما.

قلت : قد يقطعهما ما في مجمع البحرين من انه نقل الإجماع من الإمامية على حرمته ونجاسته بعد غليانه واشتداده معتضدا ومنجبرا إرساله بما سمعت من الشهرة وبالمحكي عن أطعمة التنقيح من الاتفاق أيضا على أن عصير العنب إذا غلى حكمه حكم الخمر ، وبالمحكي من الرضوي (١) الذي هو عين عبارة والد الصدوق التي ستسمعها.

وب‌ قول الصادق عليه‌السلام في مرسل ابن الهيثم (٢) بعد أن سئل عن العصير يطبخ في النار حتى يغلي من ساعته فيشربه صاحبه : « إذا تغير عن حاله وغلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » كقوله عليه‌السلام أيضا في خبر أبي بصير (٣) وقد سئل عن الطلاء : « إن طبخ حتى يذهب منه اثنان ويبقى واحدة فهو حلال ، وما كان دون ذلك فليس فيه خير ».

وبالموثق المروي في التهذيب (٤) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول : قد طبخ على الثلث وأنا أعلم انه يشربه على النصف ، فقال : خمر لا تشربه » إلى آخره. والمناقشة فيه بعدم لفظ الخمر فيه في الكافي ضعيفة ، لأولوية احتمال السقوط من الزيادة وان كان الكليني أضبط ، كالمناقشة فيه باحتمال إرادة الحرمة من التشبيه لا النجاسة ، سيما بملاحظة سياق الخبر ، وتفريع حرمة الشرب خاصة عليه ، إذ هي ـ مع عدم الشاهد على التقييد المزبور ، بل هو مناف لما استفيد من كثير من الأحكام من نظائره ، بل منه نفسه كما تسمعه في الفقاع وسمعته‌

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام ص ٣٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٤.

١٤

في غيره ـ مبنية على مجازية الخمر في العصير واستعارته له ، وفيه بحث ، بل المحكي عن ظاهر الكليني والصدوق (١) منا والبخاري من غيرنا دعوى الحقيقة فيه ، بل قيل عن المهذب البارع إن اسم الخمر حقيقة في عصير العنب إجماعا.

ولعله ظاهر كنز العرفان أيضا ، قال فيه : « الخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره ، سمي به عصير العنب والتمر إذا غلى واشتد ، لأنه يخمر العقل أي يستره ، كما سمي سكرا لأنه يسكره أي يحجره » إلى آخره ، كالمحكي في الفقيه من رسالة والده « اعلم يا بني إن أصل الخمر من الكرم إذا أصابته النار أو غلى من غير أن يمسه فيصير أعلاه أسفله فهو خمر » إلى آخره.

وربما يومي اليه أيضا‌ قول الصادق عليه‌السلام (٢) في الصحيح وغيره : « الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب » الحديث. كقوله عليه‌السلام (٣) وقد سئل عن ثمن العصير قبل أن يغلي فقال : « لا بأس به ، وان غلى فلا يحل » وفي آخر (٤) « إذا بعته قبل أن يكون خمرا وهو حلال فلا بأس » وما قيل من أن حده حد شارب الخمر.

كما أنه يؤيده مع ذلك كله ملاحظة ما ورد (٥) من الأخبار في أصل تحريم الخمر وبدوّه وفي غيره ، فان السارد لها مع الانصاف يحصل له الظن القوي ان لم يكن القطع بدخول عصير العنب مع الغليان في مسمى الخمر حقيقة أو بمساواته له في حكمه من الحرمة والنجاسة.

__________________

(١) هكذا في النسخة الأصلية وفي هاشمة « الصدوقين » بدل « الصدوق ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٦ من كتاب التجارة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٨ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٢ من كتاب التجارة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأشربة المحرمة.

١٥

واستبعاد الأول باعتبار الإسكار في مفهوم الخمر ، وهو مفقود هنا بل هو مفروض محل النزاع ، إذ لا إشكال في نجاسته معه لعموم الأدلة يدفعه إمكان منع الاعتبار أولا وان كان هو وجه تسميته ، بل قد تشعر بعض الأخبار (١) بأن وجهها تحقق الاختمار في ثمرتي الكرم والتمر بسبب جريان بول عدو الله إبليس في عروقهما.

وثانيا منع عدم تحقق الإسكار فيه حتى بالكثير منه ، نعم هو لم يكن معروفا بذلك ، ولعله هو منشأ حرمته في علم الله ان لم يكن الظاهر.

بل ربما يومي اليه‌ ما ذكره العامة (٢) في بدو أمر الطلاء ، وهو المطبوخ من عصير العنب « ان عمر حين قدم إلى الشام شكى إليه أهلها وباء الأرض ، وقالوا : لا يصلحنا إلا هذا الشراب ، فقال : اشربوا العسل ، فقالوا : ما يصلحنا العسل ، فقال رجل من أهل الأرض : هل لك أن نجعل لك من هذا الشراب شيئا لا يسكر؟ فقال : نعم ، فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان فأتوا به عمر ، فأدخل فيه إصبعه ثم رفع يده فتبعها مططا ، فقال : هذا الطلاء مثل طلاء الإبل ، فأمرهم أن يشربوه ، ثم كتب إلى الناس أن اطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان » إلى آخره.

وكذا‌ خبر عمر بن يزيد (٣) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يهدى اليه البختج من غير أصحابنا ، فقال : إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه وإن كان ممن لا يستحل شربه فاقبله أو قال : فاشربه » الحديث. والبختج العصير المطبوخ.

وقال العلامة الطباطبائي في مصابيحه بعد أن فرغ من بيان حرمة المطبوخ من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٢) الغدير للأميني ج ٦ ص ٢٦٠ من طبعة طهران عن الموطإ للمالك ج ٢ ص ١٨٠ في جامع تحريم الخمر.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

١٦

عصير العنب : « وهل الحكم بتحريم العصير قبل ذهاب ثلثيه تعبد محض ، أو معلل بالاسكار الخفي المسبب عن الغليان ، أو بعروض التغير له إذا بقي وطال مكثه؟ احتمالات أوسطها الأوسط ، وقد بان لك وجهه مما مضى ، ويأتي تحقيق ذلك إن شاء الله » انتهى.

قلت : ويزيده تأييدا وتأكيدا أنه قد استفاضت الروايات (١) بل كادت تكون متواترة بتعليق الحرمة في النبيذ وغيره على الإسكار ، وعدمها على عدمه ، مع استفاضة الروايات (٢) بحرمة عصير العنب إذا غلى قبل ذهاب الثلثين ، وحملها على التخصيص ليس بأولى من حملها على تحقق الإسكار فيه ، بل هو أولى لأصالة عدم التجوز ، بل لعله متعين لعدم القرينة ، بل قد يقطع به لعدم ظهور شي‌ء من روايات الحرمة في خروج ذلك عن تلك الكلية بل ولا إشارة.

ودعوى شهادة الوجدان بعدم الإسكار فيجب التخصيص ممنوعة أشد المنع ، إذ من جرب ذلك فوجد خلافه ولو بالكثير منه خصوصا مع الاكتفاء به ولو بالنسبة إلى بعض الأمزجة في بعض الأمكنة والأزمنة والأهوية حتى الخفي منه ، كلا أن دعوى ذلك فرية بينة.

ومن ذلك كله يظهر لك إمكان منع دعوى فرض النزاع في معلوم عدم الإسكار ، نعم هو ليس فيما علم تحقق الإسكار فيه ، انما النزاع في العصير العنبي من غير تقييد ، إذ لعل وصف الإسكار لازم له ولو بالكثير منه ، فلو فرض البحث في فاقده كان نزاعا في موضوع وهمي لا يليق بالفقيه ، فالإنصاف انه لا علم للقائلين بالطهارة بعدم إسكاره حتى الكثير منه ، كما انه لا علم للقائلين بالنجاسة بإسكاره ولو بالكثير منه ، لعدم تعارف شرب مثله للسكر ، اللهم إلا أن يستفيدوا من نجاسته ذلك بدعوى التلازم ، أو ظهور الدخول في الخمر ، أو غير ذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأشربة المحرمة.

١٧

وكيف كان فنجاسته على القول بها انما هي إذا غلى واشتد كما في القواعد والإرشاد والمنتهى ، أو إذا غلى فقط كما في التحرير والمختلف وعن النزهة والتلخيص وأطعمة القواعد ، أو إذا غلى بنفسه لا بالنار كما في الوسيلة ، ويرجع الأول للثاني كالعكس بناء على إرادة الغليان من الاشتداد كما صرح به بعضهم ، بل في ظاهر شرح الإرشاد للفخر الإجماع عليه ، حيث قال فيه : « المراد بالاشتداد عند الجمهور الشدة المطربة ، وعندنا أن يصير أعلاه أسفله بالغليان ، أو يقذف بالزبد » كما في حاشية المدارك للأستاذ « أن تفسير الاشتداد بحصول الثخانة غير ظاهر من الأصحاب وغير ظاهر المأخذ » إلى آخره. أو إرادة الثخانة من الاشتداد كما في المسالك وغيرها ، مع دعوى التلازم بينها وبين الغليان كما في الذكرى ، نعم هما غيران بناء على إرادة القوام والثخانة من الاشتداد المنفكين عن الغليان كما في الروض ، بل عنه في حواشيه على القواعد القطع به ، فينفك حينئذ التحريم عن النجاسة ، لحصول الأول بمجرد الغليان ، كما في الحدائق نفي الخلاف فيه نصا وفتوى ، وتوقف الثانية على الاشتداد بالمعنى المذكور ، ولعل ذلك هو ظاهر المعتبر ، حيث قال فيه : وفي نجاسة العصير بغليانه تردد ، أما التحريم فعليه إجماع فقهائنا ، ثم منهم من أتبع التحريم بالنجاسة ، والوجه الحكم بالتحريم مع الغليان حتى يذهب ثلثاه ، ولا ينجس إلا مع الاشتداد ، لكن في الذكرى كأنه يرى الشدة المطربة ، إذا الثخانة حاصلة بمجرد الغليان ، قلت : فحينئذ لا يكون من القائلين بالنجاسة ، لكن قد عرفت نسبة الفخر تفسير الشدة بذلك إلى الجمهور.

وكيف كان فلم نعرف مأخذا لاعتبار الشدة بمعنى الثخانة والقوام المنفكين عن الغليان في النجاسة دون التحريم ، بل قضية ما سمعته من أدلة النجاسة السابقة عدا إجماع مجمع البحرين اتحادها مع الحرمة في السبب ، على أنه لا تفسير فيه للشدة بذلك ، بل ظاهر كل من قال بالنجاسة عدم هذا التفصيل ، وقول الصادق عليه‌السلام في المرسل السابق : « إذا تغير عن حاله وغلى فلا خير فيه » لا دلالة فيه على ذلك ،

١٨

كما أنه ليس في خصوص النجاسة.

فالأقوى في النظر عدم الفرق في الحرمة والنجاسة بذلك ، خلافا لما يظهر من جماعة ، نعم لو لا بعض العبارات لأمكن أن يراد بالشدة الحالة الملازمة للعصير إذا نش من قبل نفسه ، وهو الذي أشار إليه الفخر بقذف الزبد ، ومثله لا يسمى غليانا عرفا أو لا ينساق إلى الذهن منه ، خصوصا بعد تفسيره في كلام جماعة بصيرورة الأعلى أسفل وبالعكس ، كخبر حماد بن عثمان (١) عن الصادق عليه‌السلام « سأله عن الغليان ، فقال : « القلب » فلعل ما في المتن ونحوه من ذكر الغليان والاشتداد يراد به حينئذ التعميم للفردين : أي ما على بأن صار أعلاه أسفل وبالعكس ، وما اشتد حتى قذف الزبد بأن نش لا انه يراد اجتماعهما في عصير واحد ، نعم كان عليه الإتيان بأو بدل الواو ، كقول الصادق عليه‌السلام في خبر ذريح (٢) : « إذا نش العصير أو غلى حرم » إلى آخره ، وهو هين.

ثم ان ظاهر المصنف وغيره بل وما سمعته سابقا من أدلة النجاسة عدم الفرق بين الغليان بنفسه أو بالنار ، لكن قد عرفت قصر النجاسة في الوسيلة على الأول ، والحرمة خاصة على الثاني ، ولعل وجهه صيرورته خمرا بذلك لحصول الاختمار فيه دون الثاني.

وربما يومي اليه بعض الأخبار كخبر الساباطي (٣) قال : « وصف لي أبو عبد الله عليه‌السلام المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا ، فقال : تأخذ ربعا من زبيب وتنقيه وتصب عليه اثنى عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة ، فإذا كان أيام الصيف وخشيت أن ينش جعلته في تنور مسجور قليلا حتى لا ينش ، ثم تنزع الماء منه كله » الحديث. فان قوله عليه‌السلام : « فإذا كان » إلى آخره ظاهر في صيرورته خمرا بنشيشه في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢.

١٩

نفسه ، وهو الذي يخشاه ، بخلاف الغليان في النار ، فإنه يحرم حينئذ ولا ينجس ، ونحوه في هذا الإيماء غيره ، لكن قد يقال بخروجه عن محل النزاع ، إذ البحث في العصير وما تضمنه الخبر من النبيذ ، اللهم إلا أن يدعى مساواته له في ذلك أو أولويته ، فتأمل.

وكذا ظاهر المتن وغيره عدم النجاسة في غير عصير العنب من التمر والزبيب والحصرم وغيرها ، بل صرح به في جامع المقاصد والروض وغيرهما ، بل عن حواشي القواعد والمقاصد العلية دعوى الإجماع على ذلك في غير الزبيب ، بل في الحدائق الظاهر انه لا خلاف في طهارة الزبيب أيضا ، كما عن الذخيرة أني لا أعلم بنجاسته قائلا.

قلت : لكن قد يفهم من جامع المقاصد والروض تحقق الخلاف في الزبيبي ، بل في كشف اللثام انه لعل من العنبي الزبيبي ، بل في منظومة الطباطبائي حكاية القول بنجاسته والتمري صريحا ، ولعله أخذه من إطلاق العصير من بعض القائلين بالنجاسة كابن حمزة والعلامة وغيرهما ، بناء على كونه للأعم من العنبي والزبيبي والتمري ، أو أراد به ما يظهر من المحكي عن الأستاذ الأكبر ، بل كاد يكون صريحه كالشيخ في التهذيب ، حيث انه قال بعد أن روى خبر عثيمة (١) المتضمن لاهراق النضوح في البالوعة : فأما ما رواه‌ سفيان بن مسلم عن علي الواسطي (٢) قال : « دخلت جويرية على أبي عبد الله عليه‌السلام وكانت صالحة فقالت : إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر ، فأجعله في رأسي قال : لا بأس » فلا ينافي الخبر الأول ، لأنه محمول على ما رواه‌ الساباطي (٣) عن الصادق عليه‌السلام « عن النضوح قال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢ وفي الوسائل عن سعدان بن مسلم عن علي الواسطي.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

٢٠