جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

من ذلك ، كما يومي اليه إطلاق الصب على ما علم إرادة الغسل منه ، كما في غسل البدن ونحوه وبالعكس ، فدعوى دخول العصر في مفهوم الغسل مطلقا للمقابلة المذكورة في غاية الفساد.

على انه قد يفرق بينه وبين الغسل بالانفصال وعدمه ، قال في الخلاف : « يكفي الصب في غسل بول الصبي قبل أكله بمقدار ما يغمره ، ولا يجب غسله ، ومن عداه يجب غسل أبوالهم ، وحده أن يصب عليه الماء حتى ينزل عنه » إلى آخره. كنحو ما في حواشي الشهيد على القواعد وتنقيح المقداد ، وهو ظاهر أو صريح في عدم اعتبار العصر في مفهومه ، ويؤيده ما تعرفه من عدم اعتباره فيه لو غسل بماء كثير.

واحتمال إمكان الفرق بين مسمى الغسل به والماء القليل لاختلاف كيفيته بوضعه في الماء ووضع الماء عليه بالنسبة إليهما يدفعه فرض اتحاد الكيفية ، كالموضوع تحت ميزاب ونحوه.

فظهر حينئذ أنه لا وجه لانقداح الشك من ذلك ، كما أنه لا وجه له مما بعده ، إذ ليس المفهوم عرفا من أوامر التطهير والغسل إلا إرادة إزالة عين النجاسة أو أثرها التي هي كما انها تحصل به تحصل بغيره كالمباشرة باليد أولا وتهيئتها للزوال ، ثم إكثار الماء عليها حتى تنفصل معه بانفصاله من غير حاجة إلى عصر ، كما عن الذكرى والبيان الاعتراف به ، حيث قال فيها : « إن انفصال الماء قد يكفي في الإزالة من غير افتقار إلى عصر » إلى آخره.

على انه قد تكون النجاسة حكمية غير محتاجة إلى شي‌ء من ذلك ، نعم قد يتوقف إخراج العينية عليه ، ومعه لا كلام في وجوبه لذلك لا لتوقف صدق الغسل عليه.

وأما دعوى الاحتياج إليه مقدمة لإزالة ماء الغسالة فهو ـ مع ابتنائه على نجاستها ، بل نجاسة المتصل بالمغسول منها ، وقد عرفت ان الأقوى طهارة المنفصل منها ، فضلا عن‌

١٤١

المتصل ، بل ربما ظهر منهم هناك أن المتصل ليس من موضع محل البحث في الغسالة ـ يدفعها إمكان القول بالعفو عن المتخلف قبل العصر ، لإطلاق ما دل على الاكتفاء بالغسل في طهارة المغسول المستلزم طهارته كالمتخلف بعد العصر الممكن خروجه ولو بعصر أقوى في الثوب وعلى آلة العصر.

وأما الرضوي فليس بحجة عندنا ، مع احتماله الحمل على صورة التوقف كخبر الدعائم ، بل لعله الظاهر منه بقرينة ذكر الدلك ، بل يمكن إرادة قدماء الأصحاب ذلك ، لا أنه شرط تعبدي وان حصلت الإزالة بدونه.

ولعله لذا حكي عن المبسوط والنهاية والجمل وظاهر الانتصار والناصريات إطلاق الغسل من غير تعرض للعصر ، وان جعل مقابلا للصب في الأول كالخلاف ، وهو الذي يقوى في نفس الحقير وفاقا لصريح جماعة من متأخري المتأخرين ، بل في اللوامع نسبته إلى الكركي وجل الطبقة الثالثة ، لا طلاق أدلة الغسل المؤيد بسهولة الملة وسماحتها ، وبما تسمعه مما ورد (١) في تطهير البساط والفراش ذي الحشو.

وبذلك ينقطع استصحاب النجاسة وان أيد بتلك الاعتبارات السابقة فلا يجب حينئذ بعد الإزالة وتحقق مسمى الغسل شي‌ء من العصر تغميزا أوليا أو كبسا حتى لو قلنا بنجاسة الغسالة ، والله أعلم.

ولعل الأقوى وجوب تعدده بناء عليه في متعدد الغسل وفاقا للسرائر والمعتبر والروضة وغيرها ، فيعصر بعد كل غسلة ، لتوقف يقين الطهارة عليه ، وخبر الدعائم (٢) بل ينبغي القطع به على القول بدخوله في مسمى الغسل وانه الفارق بينه وبين الصب.

لكن قضية إطلاق الأكثر وصريح ما عن المدنيات الاكتفاء بالمرة ، كصريح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

١٤٢

الرضوي (١) والفقيه والهداية ، إلا أن ظاهر الثلاثة كمحتمل سابقا كونه بعد الغسلتين ، ولعله لكون المقصود منه إخراج ماء الغسالة ، مضافا إلى الرضوي ، لكن في اللمعة التصريح بأنه بينهما ، وكأنه لأن المراد به إخراج نفس النجاسة أولا ثم تعقيبه بغسلة التطهير.

وربما يومي اليه تعليل الغسلتين بأن أحدهما للإزالة ، وأخرى للتطهير ، ولا ينافيه القول بنجاسة الغسالة ، لإمكان منعه في خصوص غسلة التطهير أولا ، وإمكان القول بالعفو عن خصوص المتخلف ثانيا ، لا طلاق أدلة حصول الطهارة بمسمى الغسل ، وعلى كل حال فالأقوى ما عرفت.

كما انه قد يقوى في بادئ النظر وجوبه أيضا حتى لو غسل بالكثير جاريا أو غيره ، كما هو قضية إطلاق المتن وغيره ، للاستصحاب مع احتمال تعبدية العصر كاحتمال دخوله في مسمى الغسل ، وإطلاق الرضوي ، وإيجابه في الراكد الذي هو أعم من الكر.

لكن صرح جماعة من المتأخرين بل في الذخيرة نسبته إلى أكثر المتأخرين كما في غيرها نسبته إلى التذكرة ونهاية الأحكام وما تأخر عنها بسقوطه حينئذ ، بل لم نعثر على مصرح بخلافه ، لإطلاق الأدلة ، ومنع احتمال دخوله في مسماه في المفروض ، إلا مع اتحاد كيفية الغسل فيهما ، كمنع احتمال التعبد ، وظهور الرضوي في سقوطه مع غسله في الجاري ، بل لعل المراد به مطلق ما لا ينفعل ، وبالراكد القليل المنفعل ، وفحوى طهارة ما لا يعصر وترسب فيه النجاسة.

هذا مع عدم فائدته أي العصر هنا بناء على تعليله بخروج ماء الغسالة ، لكون المفروض أن المغسول به مما لا ينفعل ، والقول بتحقق نجاساتها في انفصال المغسول عن الماء لإرادة غسله مرة ثانية إذا كان مما يغسل مرتين يدفعه بعد تسليم وجوب التعدد‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٤٣

في الكثير أنه لا حاجة إلى العصر أيضا ، لحصول طهارتها باشتمال كثير الماء عليه في المرة الثانية ، وهو الأقوى.

وينبغي أن يلحق بالعصر عند من اعتبره بل لعل مراده به ما يشمله الدق والتغميز والتثقيل والتقليب ونحوها مما يكون سببا للإخراج فيما يرسب فيه الماء ويعصر عصره لثخنه وما فيه من الحشو ، بل قيل : إن ذلك معناه لغة ، لاقتضاء الضرورة واتحاد فائدتها من إخراج الغسالة والنجاسة معه ، وبه صرح الفاضل والشهيدان والمحقق الثاني وغيرهم ، لكن علله غير واحد بالرواية أيضا ، ولم نعثر فيما وصل إلينا منها على شي‌ء من ذلك ، بل قد يومي بعضها إلى خلافه كخبر علي بن جعفر (١) المروي عن كتاب المسائل له وقرب الاسناد « سأل أخاه عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول ، كيف يغسل؟ قال : يغسل الظاهر ثم يصب عليه الماء في المكان الذي أصابه البول حتى يخرج من جانب الفراش الآخر » بل هو ظاهر في التوسعة في تطهر المتنجسات ، كظهوره في طهارة الغسالة ، وأما‌ الصحيح أو الموثق (٢) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر ، وعن الفرو وما فيه من الحشو ، قال : اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر ، فان أصبت مس شي‌ء منه فاغسله ، وإلا فانضحه بالماء » فعدم دلالته على ذلك واضح ، وكان مراد السائل انه نفذ متوجها إلى الجانب الآخر وان لم يبلغه ، كما أن مراده اغسل ما علم إصابة البول له ونفوذه اليه ، وأما الجانب الآخر فمسه ، فان وجدت عليه رطوبة البول فاغسله ، أي اغسل الثوب بحيث ينفذ الماء من أحد جانبيه إلى الآخر ، وان لم تجد عليه شيئا من رطوبته فانضحه بالماء.

وكذا‌ صحيح إبراهيم بن أبي محمود (٣) « سأل الرضا عليه‌السلام عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٤٤

الطنفسة والفراش يصيبهما البول ، كيف يصنع بهما وهو نحن كثير الحشو؟ قال : يغسل ما ظهر منه في وجهه » فإنه مبني على إرادة غسل ما علم وصول البول اليه من وجهه ، أو على عدم نفوذه ، أو الاجتزاء بغسل الظاهر ، لأنه مورد الاستعمال والمباشرة ، وعلى كل حال فلا دلالة فيه على شي‌ء من ذلك.

فالأولى حينئذ الاستناد إلى ما تقدم سابقا من ظهور مساواة تلك الأمور للعصر ، بل قد عرفت احتمال إرادة ما يشملها منه ، كما صرح به بعضهم ، بل نسبه آخر إلى الظاهر من كتب اللغة ، نعم لا يندرج فيه الجفاف قطعا ولا يلحق به ، خصوصا إن قلنا به لدخوله في مفهوم الغسل أو للرضوي ، فيبقى الثوب حينئذ مع عدمه على النجاسة كما صرح به الشهيدان والمحقق الثاني وغيرهم ، لكن في التذكرة الإشكال فيه من زوال النجاسة بالجفاف ، ومن مظنة انفصال أجزاء النجاسة في صحبة الماء بالعصر لا بالجفاف ، ولا يخفى وضوح مصادرة أولى جهتي الإشكال ، كما انه في المعالم القطع بالاجتزاء بالجفاف ، بناء على تعليل اعتبار العصر بإخراج ماء الغسالة ، قال : وما ذكره العلامة والشهيد من الظن ليس بشي‌ء ، كيف وهذا الظن في أكثر الصور لا يأتي ، والتخيل في الأحكام الشرعية لا يجدي ، قلت : لا ريب في كفايته هنا لاستصحاب النجاسة ، فاحتمال التفاوت بين العصر والجفاف كاف فضلا عن الظن ، كما هو واضح.

أما ما لا يعصر عادة فإن كان مما لا يرسب فيه الماء مثلا من الأجسام الصلبة كالجسد والإناء وغيرهما فاعتبر العلامة في التحرير وعن النهاية الدلك فيها عوض العصر ، كما عن ابن حمزة ذلك أيضا ، لكن في غير مس الحيوان النجس استظهارا ، ول‌ موثق عمار بن موسى (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر ، قال : تغسله ثلاث مرات ، سئل يجزؤه أن يصب فيه الماء ، قال : لا يجزؤه حتى يدلكه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٤٥

بيده ، ويغسله ثلاث مرات » بل في المنتهى انه قد يظهر من إطلاقه الغسل أولا دخوله في مسماه ، وإلا لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة.

قلت : لا ريب في اعتبار الدلك مع توقف إزالة النجاسة أو الاطمئنان بذلك عليه ، لا لدخوله في مسمى الغسل بل لعدم تحقق الإزالة المأمور بها بدونه ، وعليه ينزل الموثق ، خصوصا بالنسبة إلى مثل هذه النجاسة في النفوذ في مثل هذا المحل وشدة الاهتمام بالاحتياط عنها ، وإلا فهذا الراوي بعينه‌ روى (١) عن الصادق عليه‌السلام انه « سئل عن الكوز والإناء يكون قذرا كيف يغسل؟ وكم مرة يغسل؟ قال : يغسل ثلاث مرات ، يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه ذلك ، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه ذلك الماء ، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه وقد طهر ».

وهو كالصريح في عدم اعتبار الدلك كالأخبار (٢) الآمرة بالصب على الجسد من البول ومحل الاستنجاء منه ، خصوصا المشتملة على التعليل بأنه ماء ، فلا ريب في عدم وجوبه مع عدم التوقف عليه ، كما صرح به جماعة ، بل لا أعرف فيه خلافا ممن عدا من عرفت ، بل يمكن تنزيل كلامه على ذلك.

نعم يمكن القول باستحبابه للاستظهار ، كما في المعتبر والمنتهى ومجمع البرهان والمدارك وعن المدنيات والتذكرة.

لكن قد يشكل بناء على نجاسة الغسالة ووقوع الدلك مقارنا للغسل الحكم بطهارة ما على آلة الدلك من ماء الغسالة.

وربما يدفعه ـ بعد إمكان معلومية تبعية الطهارة في مثل الفرض ـ ظهور أن المراد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤ و ٧ والباب ٣١ من أبواب أحكام الخلوة.

١٤٦

باعتبار الدلك هو مباشرة المتنجس لتهيئة إخراج نجاسته بإراقة الماء عليه ، فلا بد حينئذ من سبقه على غسلة التطهير ، فلا بأس بالتزام نجاسة ما على الآلة حينئذ ، لكن يحتمل الاكتفاء به لو وقع بعد الصب على البدن لازالة أجزاء النجاسة لو كانت بانفصال ما بقي من الماء ، كما هو قضية بدليته عن العصر ، وكذا الاكتفاء به مع المقارنة ، فتأمل جيدا.

وان كان مما يرسب فيه الماء مثلا فان تنجس بنجاسة نفذت في أعماقه بحيث لا يمكن وصول الماء باقيا على إطلاقه إليها مع بقاء المتنجس على حاله أو العلم به كذلك لرطوبة أو فيه دسومة أو لغيرهما لم يطهر قطعا لا بالقليل ولا بالكثير ، بل هو حينئذ كالمائعات غير الماء من الدهن وغيره ، وإن اتفق لها جمود بعد ذلك كالذهب ونحوه يحصل بسببه طهارة سطحها الظاهري ، فلا يطهر شي‌ء منها إلا بالعلم بتخلل الماء جميع أجزائه ، وهو لا يحصل غالبا في مثلها إلا بالخروج عن الحقيقة التي هي عليه وانقلابها ماء.

لكن في المنتهى وعن التذكرة والنهاية انه يطهر الدهن النجس بصبه في كر ماء ومازجت أجزاء الماء أجزاءه ، واستظهر على ذلك بالتطويل بحيث يعلم وصول الماء إلى جميع أجزائه ، وهو جيد على فرض تحققه ، لكنه بعيد بل ممتنع ، ضرورة عدم حصول العلم بذلك مع بقاء الدهن على مسماه بحيث يمكن الانتفاع به للأكل ونحوه بعد ذلك ، وإن أمكن من جهة الرقة التي حصلت له أن يتخلل الماء تلك الأجزاء ، فيكون كالدسومة التي على البدن أو اللحم ونحوهما ، فإنها لا تمنع نفوذ الماء فيها ووصوله إلى البدن ، ولذا تطهر بالقليل تبعا لهما فضلا عن الكثير ، كما صرح به في جامع المقاصد وان لم تنقلب ماء بل باقية على حالها ، بل هو مقطوع به من السيرة والعمل في سائر الأعصار والأمصار.

وربما يومي اليه في الجملة ما ورد من كراهية الادهان قبل الغسل ، والأمر سهل بعد أول النزاع معه رحمه‌الله إلى لفظ.

وطهر الثوب المصبوغ بنجس أو متنجس ونحوه من ليقة الحبر النجس وغيرها‌

١٤٧

كطهر غيره من المتنجس به غير المصبوغ يحصل بزوال ما عليه من عين النجس أو المتنجس مع تحقق مسمى الغسل بالماء والعصر إن قلنا به بالماء القليل أو الكثير ، من غير فرق بين جفافه ورطوبته لا طلاق الأدلة.

نعم يعتبر عدم خروج ما طهر به من الماء عن الطلاق قبل تحقق الغسل به ، لعدم صدق الغسل بالماء معه ، واحتمال الاكتفاء بإطلاقه في أول صبه وإن خرج بتخلله في أجزاء المتنجس عنه لصدق الغسل بماء وصب الماء ونحوهما الذي لا يقدح فيه إلا الخروج عن الإطلاق قبل الصب بغير المغسول به بعيد ، لمنع الصدق ، لا أقل من الشك ، والاستصحاب محكم.

نعم قد يقال بعدم اشتراط العلم بوصوله للمغسول كذلك وإن أوهمته بعض العبارات ، بل يكفي استصحاب إطلاقه ما لم يعلم خروجه متغيرا بعصر ونحوه ، كأن غسل في ظلمة ونحوها ، ومعارضته باستصحاب بقاء الثوب على النجاسة يدفعها تحكيم مثل الاستصحاب الأول على الثاني في سائر نظائره المقطوع بها بين الأصحاب.

أما لو علم خروجه متغيرا بعصر ونحوه فلا ريب في بقاء الجزء المقارن صدق غسله لانفصاله متغيرا على النجاسة ، وأما ما عداه من الأجزاء التي لم يعلم سبق غسلها على التغير الحاصل بتخلل الماء أجزاء المغسول بعد صبه أو التغير على غسلها فإشكال ، ينشأ من احتمال تحكيم ذلك الاستصحاب أيضا كالصورة الأولى ، ومن احتمال منعه لمعارضته هنا بأصالة تأخر الغسل عن التغيير ، فيبقى استصحاب النجاسة سالما حتى من معارضة استصحاب الإطلاق ، لكونه هو المعارض باستصحاب تأخر الغسل عن التغيير عند التأمل لا استصحاب آخر غيره حتى يكون سالما كاستصحاب النجس ، فيحكم عليه ، فتأمل جيدا.

لا يقال إن غسل الثوب المصبوغ بمتنجس حال رطوبته لا يحصل إلا بالكثير ،

١٤٨

ضرورة عدم حصول طهارة تلك الأجزاء الصبغية الرطبة إلا به دون القليل ، لأنها من الماء المضاف المتوقف طهره على ذلك ، نعم لو جف وكان يابسا أمكن تطهيره بهما لذهاب تلك الأجزاء وبقاء عين الثوب المتنجس القابل للطهارة بهما.

لأنا نقول : إنه لا فرق بين القليل والكثير في ذلك ، لاشتراط حصول طهارة كل عين متنجسة بنجاسة بإزالة عين تلك النجاسة ، سواء طهر بالقليل أو الكثير ، فتلك الأجزاء الصبغية إن بقيت على الثوب فهو باق على النجاسة ، وإلا فلا.

ودعوى حصول طهارتها بالكثير دون القليل يدفعها توقف طهر المضاف على انقلابه ماء بممازجة الكثير كما تقدم البحث فيه مشبعا ، فمع فرض بقائها على الإضافة كما هو محل البحث لا وجه لطهارتها.

اللهم إلا أن يفرق بين تطهير المضاف المتميز بنفسه المستقل وبين التابع لغيره من الأجسام المتخلل في أجزائها ، فلا يطهر الأول إلا بانقلابه إلى الماء بخلاف الثاني ، فإنه يكفي تحقق مسمى الغسل لذلك الجسم مع ملاقاة الماء تلك الأجزاء من غير حاجة إلى انقلابه ماء ، وإلا لم يطهر شي‌ء من الخضراوات الظاهرة المائية كالرقي والبطيخ والخيار ونحوها ولو بالكثير ، وبطلانه واضح.

وفيه أولا منع تسليم هذا الفرق ، والخضراوات لا تطهر إلا بزوال تلك الأجزاء المائية منها الملاقية للنجاسة ، أو انقلابها إلى الماء ، ولا تسري نجاستها إلى الأجزاء الأخر المتخللة في الجسم ، إذ ليس ذا من المائع قطعا ، فلا ينجس أسفل الخيارة مثلا بنجاسة أعلاها ، كما هو واضح.

وثانيا تسليمه وقصره على الأجزاء المائية الخلقية ذاتا ، لا في محل البحث من المضاف العرضي كالأجزاء الصبغية ، بل لا بد من زوالها في حصول الطهارة واستهلاكها بالماء المغسول به ، من غير فرق بين القليل والكثير ، كما في كل عين متنجسة بنجاسة‌

١٤٩

رطبة وأريد تطهيرها ، بل لعله في غالب الأوقات يقطع بعدم انفصالها تماما من المغسول ، إذ قد ينفصل منه ما هو أقل من تلك الرطوبة بمراتب ، فلا يقدح تخلفها بعد إفاضة الماء عليها واستهلاكها به ولو كان الماء قليلا ، بل هو كذلك في عين النجاسة كالبول ونحوه فضلا عن المتنجس ، فإنه لو فرض جسم قد تنجس ببول وأريد تطهيره حال رطوبته فأفيض الماء عليه حتى استهلكت الأجزاء البولية فيه لم يكن تأمل في حصول طهارته بذلك.

وثالثا لو سلم الفرق المذكور لا وجه للفرق أيضا بين القليل والكثير ، إذ كما تحصل طهارة تلك الأجزاء الصبغية بملاقاة الكثير من غير استحالة تبعا للجسم تحصل أيضا بالغسل بالقليل ، ودعوى الفرق تحكم ، إذ أقصى ما يسلم اعتبار الكثير في طهارة المضاف فيما أريد تطهيره مستقلا بانقلابه ماء ، لا ما إذا كان من التوابع متخللا في أجزاء الجسم.

ولعلك بالتأمل في جميع ما ذكرنا تنتفع في البحث عن تطهير جملة مما ذكره الأصحاب من الصابون والحبوبات والفواكه المطبوخة والخبز والجبن واللحم والقرطاس ونحوها مما يرسب فيه الرطوبة ولا يعصر ، وحاصل البحث فيها أنها إما أن تكون قد تنجست بنجاسة لم تنفذ في أعماقها ولم تتجاوز ظاهرها ، وإما أن تكون قد تنقعت بالنجاسة حتى نفذت في أعماقها ، ولا ريب في حصول طهارة الأولى بغسلها في الكثير ووضعها فيه ، وكأنه وفاقي ، بل حكاه في اللوامع عليه ، كما انه في الذخيرة استظهر نفي الخلاف عنه ، لعموم مطهرية الماء وغيره السالم عن معارضة شي‌ء يعتد به ، فاحتمال تعبدية العصر أو ما يقوم مقامه حتى يكون ما لا يمكن عصره غير قابل للتطهير أصلا لا يصغى عليه.

وأما غسلها بالقليل فصريح جماعة من المتأخرين كظاهر آخرين عدم حصول الطهارة به ، بل في اللوامع نسبته لأكثر معتبري العصر ، كما في المعالم إلى المعروف بين متأخري الأصحاب ، لنجاسة الغسالة ، وتوقف صدق مسمى الغسل بالقليل على العصر‌

١٥٠

وما يقوم مقامه أو على الانفصال الممتاز به عن الصب.

وفيه ـ بعد منع الأول عندنا ، بل والثاني أيضا كما عرفت ، بل والثالث إن أراد انفصال تمام ما غسل به من الماء ، وإن أراد في الجملة فهو مسلم في غسل النجاسة لا في مطلق الغسل ، لكنه متحقق في مفروض البحث ، لحصول انفصال بعض ما مر على الظاهر قطعا ـ انه يمكن القول بالعفو عن المتخلف في خصوص المقام لنحو العفو عنه في الطنفسة والفراش ذي الحشو وغيرهما من الخزف والآجر الجافين ، بل لعل المتخلف هنا أقل من ذلك بمراتب ، ولمنع تسليم وجوب العصر فيما لا يعصر وان قلنا به فيما يقبله ، كما يومي اليه القطع بسقوطه فيه لو غسل بالماء الكثير وإن قلنا باعتباره فيه أيضا فيما يعصر ، وللزوم الضرر والعسر والحرج المنافية لسهولة الملة وسماحتها في توقف التطهير على الكثير ، وللظن القوي إن لم يكن علما بعدم اعتبار ذلك في الأزمان السالفة ، لقلة وجود الكثير من الماء فيها ، خصوصا في أرض الحجاز ، وخصوصا بالنسبة إلى أولئك الأعراب وأهل البادية الذين كانوا يكتفون بنقل قربة من الماء أياما وليالي ، ولعموم مطهرية الماء التي قد امتن الله بها على عباده في كتابه المحكم وعلى لسان نبيه المعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولوضوح اكتفاء الشارع في تطهير النجاسات بتحقق مسمى الغسل الذي هو في كل شي‌ء بحسبه الحاصل من استقراء موارد الأدلة وتتبع جزئياتها ، كما في غيره من القواعد المستفادة من الشرع ، ولذا لم يحتج في تطهير كل عين بالكثير أو القليل من كل نجاسة إلى دليل خاص بعينه.

فلا حاجة حينئذ إلى دعوى ورود خصوص عموم أو إطلاق حتى يرد عليه أنا لم نعثر عليه ، مع انه قد يجده المتتبع ، ول‌ مرسل الفقيه (١) المتقدم في باب الاستنجاء « ان أبا جعفر عليه‌السلام دخل الخلاء فوجد لقمة خبز في القذر ، فأخذها وغسلها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ الحديث ١.

١٥١

ودفعها إلى مملوك له ، وقال : تكون معك لآكلها إذا خرجت » بل عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام (١) وصحيفة الرضا عليه‌السلام (٢) روايته مسندا عن الرضا عليه‌السلام ان الحسين بن علي عليه‌السلام فعل ذلك ، ولفحوى ما تسمعه من خبري اللحم المطبوخ (٣) والذنوب (٤).

ولعله من ذلك كله مال الأردبيلي وتلميذه والكاشاني والنراقي إلى قبولها للتطهير بالقليل ، وهو قوي وإن كان الأول أحوط.

وعليه أي الأول فهل المراد عدم قبول القليل لطهارتها حتى السطح الظاهري الذي جرى عليه الماء أو المراد طهارة ذلك السطح وان تنجس الباطن بالغسالة؟ وجهان ، ينشئان من احتمال اشتراط الطهارة بالانفصال المتعذر هنا باعتبار كمونه في الباطن وعدمه ، ولعل الأقوى الثاني ، فتأمل.

وأما ما رسبت فيه النجاسة ونفذت في أعماقه فلا ريب في عدم حصول طهارة ما لم يمكن وصول الماء المطلق المزيل للنجاسة إلى باطنه منه للزوجة أو رطوبة أو غيرهما بالقليل والكثير ، ضرورة عدم الاكتفاء بغسل الظاهر عن الباطن ، كضرورة عدم العفو عن نجاسة باطنه.

لكن في كشف الأستاذ « أن المنجمد بعد الانفعال مما يرسب فيه رطوبة الماء من غير استحالة كالمشوي من المنجمد من مائع الطين ويابس العجين فالظاهر فيها طهارة البطون ، كالحبوب واللحوم مطبوخة أو باقية على حالها ، جافة أو رطبة من غير حاجة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

(٤) عمدة القاري شرح البخاري للعيني ـ ج ١ ص ٨٨٤.

١٥٢

إلى تجفيف أو تنظيف بماء معصوم لأن الظاهر ان اتصال الرطوبة بمثلها مغن في التطهير ، وما كان منها ما يرسب فيه الغسالة كالمتخذ من الطين الخالي عن طبخ النار فلا يطهره سوى الماء المعصوم » انتهى.

وقد يوهم تعليله الاكتفاء بالاتصال من غير حاجة إلى نفوذ المطهر من الماء ، بل قد يظهر من الذخيرة الميل اليه وانه المشهور ، ومن الحدائق نفي الخلاف فيه بينهم ، وربما يؤيده إطلاق‌ خبر السكوني (١) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « ان عليا عليه‌السلام سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة قال : يهراق مرقها ، ويغسل اللحم ويؤكل » كخبر زكريا بن آدم (٢) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير ، قال : يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب ، واللحم اغسله وكله » حيث أطلق فيهما الأمر بالغسل من غير إشارة إلى نفوذ الماء في أعماق اللحم ، مع ظهور نفوذ المرق النجس فيها ، لانتفاعه به ، كخبر علي بن جعفر (٣) المروي عن قرب الاسناد سأل أخاه (ع) « عن أكسية المرعزي والخفاف تنقع في البول يصلى عليها ، قال : إذا غسلت بالماء فلا بأس ».

لكن قصور أسانيدها ـ وعدم وضوح انصراف الإطلاق فيها إلى ذلك ، كعدم الجابر لها على هذا التقدير ، لعدم ثبوت موافق له في ذلك ، وما سمعته من ظاهر الكتابين السابقين لم نتحققه ، بل قد يظهر اتفاق من عداه من الأصحاب على خلافه من اعتبار نفوذ الماء إلى ما نفذت فيه النجاسة ـ يمنع من الركون إليها في قطع القواعد الشرعية من عدم طهارة المتنجس إلا بالغسل بالماء ونحوه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

١٥٣

نعم لو كانت في حال ينفذ فيها الماء المطهر ولو بتجفيف ونحوه طهرت بوضعها في الكثير قطعا حتى ينفذ في أعماقها ، ويزيل عين النجاسة أو يهلكها إن وجدت في بواطنها ، وإلا اكتفي بإصابة الماء للمتنجس ، لصدق مسمى غسل الباطن وما أشبهه بذلك كبعض ما تحت الأظفار وبعض باطن السرة والعينين والأذنين وما تحت الحاجب من جبائر أو عصائب أو لطوخ ونحوها ، من غير حاجة إلى انفصال وجريان من محل إلى آخر ، بل وبغسلها في القليل أيضا في وجه قوي جدا مع نفوذه كالكثير إلى المحل المتنجس ، فما عساه يظهر من بعض ويحكى عن آخر من عدم قبولها الطهارة أصلا لا ينبغي أن يصغى اليه إن كان ذلك منه نزاعا في حكم ، وإلا كان نزاعا في موضوع ، إذ فرض البحث نفوذ المطلق المزيل أو المهلك إلى محل النجاسة ، فلا ينبغي التوقف معه حينئذ في زوال النجاسة بغسلها به ، لا طلاق الروايات المتقدمة وأكثر الأدلة السابقة ، وما يشعر به‌ خبر الحسن بن محبوب (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام « في الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ، ان الماء والنار قد طهراه » كما عن الأستاذ الأكبر الاعتراف به.

ودعوى الفرق بينهما بصدق مسمى الغسل بتلك الإصابة في الكثير دون القليل تحكم ، كدعوى الفرق بقبول تطهير النافذ من الماء الكثير ، لما نفذ فيه باعتبار اعتصامه باتصاله بالكثير ، دون القليل فإنه ينجس بالملاقاة ، إذ هي ـ مع إمكان منع الاتصال باعتبار حيلولة تلك الأجزاء من الجسم بين الماء النافذ ومادته ـ يدفعها منع نجاسة الغسالة عندنا أولا ، ووضوح جريان أحكام الطاهر على الماء الذي يغسل به حال تخلله في أجزاء المغسول وقبل انفصاله من التطهير به ونحوه عند من قال بنجاسة الغسالة أيضا ثانيا.

وكذا الفرق بدعوى إمكان إزالة عين النجاسة أو إهلاكها بالكثير دون القليل ، إذ هو مع أنه لا يتم في النجاسة الحكمية ممنوع ، على أن البحث مع فرضه ، كالفرق أيضا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٥٤

بوجوب انفصال ماء الغسالة لو كان بالقليل ، خصوصا ماء غسلة الإزالة لا التطهير وان لم نقل بوجوب العصر ، للفرق بينه وبين الصب ، وبنجاسة غسالته الراسبة فيه دون الكثير ، إذ هو إن سلم ففي غير غسل البواطن ، على أن مثله يأتي في الغسل بماء الكثير أيضا عند التأمل ، والاكتفاء بالإهلاك فيه دون القليل تحكم ، وقد تقدم ما يعلم منه ما في الأخير بما لا مزيد عليه.

نعم لو توقف نفوذ الماء القليل إلى الأعماق على وضع المتنجس فيه دون صبه عليه اتجه حينئذ اختصاص تطهيره بالكثير ، بناء على اعتبار ورود المطهر من القليل على المتنجس لا ما إذا لم يتوقف ، والقول بتحكيم استصحاب بقاء النجاسة ـ في غير المتيقن من الوضع بالماء الكثير دون القليل الذي ظاهر أكثر الأصحاب إن لم يكن مجمعا عليه عدم حصول الطهارة بالغسل به هنا ، إذ هو أولى من القسم الأول الذي قد عرفت نسبة منع حصول طهارته به إلى المعروف بين المتأخرين منهم ، خصوصا مع قصور أسانيد تلك الأخبار ـ يدفعه وضوح عدم تحقق شهرة معتد بها لدى المتصفح لكلماتهم فضلا عن الإجماع ، بل ربما كان معروفية إطلاق حصول الطهارة بالغسل من غير تعرض لأفراد الغسل شاملا لما نحن فيه ، بل قد يظهر من الذخيرة كونه المعروف بين الأصحاب حيث نسب روايتي اللحم إلى عملهم بهما وشهرتهما بينهم.

وأوضح منه ما في الحدائق حيث قال بعد ذكرهما : « وظاهر الأصحاب من غير خلاف القول بمضمونهما » وان استشكل هو بعد ذلك في إطلاق ذلك ، لكن الإنصاف أن الظاهر إرادتهما من ذلك قبول التطهير في الجملة ، لا خصوص حصول الغسل بالقليل.

نعم عن نهاية الفاضل إطلاق طهارتهما بالغسل ، كما انه في المنتهى حكى عن أبي يوسف أن الحنطة والسمسم والخشبة إذا تنجست بالماء النجس واللحم إذا كان مرقه نجسا تطهر بأن يغسل ثلاثا ويترك حتى يجف كل مرة ، فيكون كالعصر ، ثم قال بعده :

١٥٥

« وهو الأقوى عندي ، لأنه قد ثبت ذلك في اللحم مع سريان أجزاء الماء النجسة ، فكذا ما ذكرناه » انتهى.

ولعله يريد ما في الذخيرة من احتمال إرادته من ذلك ما في النهاية من مجرد القبول للتطهير ، لعدم معهودية التثليث وتنزيل التجفيف منزلة العصر من مذهبه.

وكيف كان فلا إجماع قطعا بل ولا شهرة معتدا بها في الاعراض عما سمعته هنا وفي القسم الأول ، بل لعل ظاهر من حكيناه عنهم الخلاف في القسم الأول القول به هنا ، بل هو كاد يكون صريح الأردبيلي منهم أو صريحه ، فإذا الأقوى الطهارة بالقليل والكثير مع اجتماع تلك الشرائط من النفوذ وغيره ، خصوصا مع قولنا بطهارة الغسالة ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

ثم إن الأقوى في النظر اشتراط الطهارة في المغسول بالقليل بعدم وروده على الماء ، وفاقا للمعظم نقلا وتحصيلا ، إذ هو المستفاد من ناصريات السيد وسرائر الحلي ومنتهى الفاضل وقواعده ، بل عن سائر كتبه ودروس الشهيد وبيانه ، لكن مع التقييد في أولهما بالإمكان ، واستثناء الإناء في ثانيهما ، وجامع الكركي والمعالم ومنظومة الطباطبائي وغيرها ، بل وخلاف الشيخ ومعتبر المصنف حيث حكم فيهما بنجاسة الماء القليل إذا وقع فيه إناء الولوغ قبل تطهيره ، وبعدم احتساب ذلك من غسلاته ، واحتمال كون ذلك منهما لفقد التعفير لا لاعتبار الورود يدفعه بعد إطلاقهما ملاحظة كلامهما ، فتأمل.

بل قد يظهر من السرائر الإجماع عليه ، بل لم أعرف من جزم بخلافه مطلقا ، إذ أول من ناقش فيه الشهيد في الذكرى ، مع أنه استظهر اعتباره فيها أولا فقال : « الظاهر اشتراط ورود الماء على النجاسة لقوته بالعمل ، إذ الوارد عامل ، وللنهي عن إدخال اليد في الإناء قبل الغسل ، فلو عكس نجس الماء ولم يطهره ، وهذا ممكن في غير‌

١٥٦

الأواني وشبهها مما لا يمكن فيه الورود ، إلا أن يكتفى بأول وروده ، مع أن عدم اعتباره مطلقا متوجه ، لأن امتزاج الماء بالنجاسة حاصل على كل تقدير ، والورود لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة ، وفي خبر ابن محبوب عن أبي الحسن عليه‌السلام في الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ، ان الماء والنار قد طهراه » انتهى.

فمن العجيب ما في شرح المفاتيح للأستاذ الأكبر تبعا لما عن شرح الإرشاد من حكاية الشهرة على عدم اشتراط الورود.

نعم ربما يظهر من كشف اللثام نوع ميل اليه ، حيث انه قال بعد أن حكى ما في الذكرى : وأوضح منه أي خبر ابن محبوب‌ صحيح ابن مسلم (١) « سأل الصادق عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول ، فقال : اغسله في المركن مرتين » انتهى.

وكأنه لأن المركن هو الإجانة التي تغسل فيها الثياب ، والغسل فيها لا يكاد يتحقق معه الورود ، كما انه في المدارك قال : والمسألة محل تردد وإن كان اعتبار الورود أولى وأحوط ، مع أنه حكي عنه أنه استوجه اعتباره في موضع منها أيضا ، ونفى عنه البأس في آخر ، كما عن الخراساني استحسانه في الذخيرة ، وتقريبه في الكفاية ، وعن الدلائل تحقيقه.

وكيف كان فلا ريب أن المشهور والأقوى الأول ، للاستصحاب وأوامر الصب (٢) ولظهور بعض أدلة القليل بل صراحتها بنجاسته مع ورود المتنجس عليه كاليد ونحوها ، وهو لا يتم على المختار من طهارة الغسالة ، وعدم معقولية إفادة النجس طهارة غيره شرعا ، ومن هنا كان القول باعتبار الورود لازما لكل من قال بطهارة الغسالة حينئذ ، أو خصوص الغسلة المطهرة ، لعدم نجاسته معه عنده ، لعدم الدليل أو الدليل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣ و ٤ و ٧.

١٥٧

العدم ، بل في كشف اللثام تعليله بالحرج والإجماع ، بل لعله لازم أيضا للعلامة وتابعيه القائلين بطهارتها قبل الانفصال ، اللهم إلا أن يلتزم طهارة الإناء مثلا حال وضع اليد فيه ، وأنه لا ينجس إلا بعد انفصالها ، وهو كما ترى مخالف لظاهر الأدلة أو صريحها.

نعم قد لا ينافي ذلك من قال بنجاستها مطلقا حال الاتصال وبعده ، وانه لا مانع من حصول الطهارة بها وان نجست بنفس الغسل ، انما الممنوع النجاسة السابقة عليه ، وكان هذا هو الذي ألجأ الشهيد وغيره إلى عدم الفرق بين الورودين ، كما أشار إليه في الذكرى ، لنجاستها حينئذ على كل حال ، وصدق مسمى الغسل الوارد في الأدلة.

مضافا إلى إشعار خبر ابن محبوب وظهور صحيح ابن مسلم المتقدمين ، كظهور ما دل على تطهير الإناء بوضع الماء فيه وتحريكه ثم إفراغه الذي لا يتم فيه اعتبار الورود المذكور.

لكن يدفعه على تقديره ـ بعد ما عرفت في مبحث الغسالة من قلة ملتزم ذلك من الأصحاب وضعف القول به ، بل المعروف طهارتها حال الاتصال وان وقع النزاع فيها بعده ـ انا وان قلنا به أي نجاسة الغسالة في الحالين ، لكن لما كان حصول التطهير به مع ذلك منافيا للقواعد الشرعية إلا أنه ارتكب جمعا بين ما دل على نجاسة القليل والإجماع بل الضرورة على حصول الطهارة بالغسل به ، مضافا إلى العسر والحرج اتجه حينئذ الاقتصار فيه على المتيقن الذي تندفع به الضرورة ، وهو الوارد ، لكونه مجمعا عليه في حصول الطهارة به دون غيره ، فيبقى الثوب مثلا مع عدمه على استصحاب النجاسة ، وعلى قاعدة عدم حصول الطهارة بالمتنجس ، واحتمال انقطاعهما بإطلاق الغسل يدفعه ـ بعد قصوره عن معارضتهما باعراض المشهور عنه بالنسبة إلى ذلك ، واحتمال أو ظهور انصرافه إلى المتعارف المعهود المتداول في أيدي عامة الناس من الغسل بورود الماء ، بل يمكن دعوى السيرة المستمرة المأخوذة يدا عن يد على كيفية غسل النجاسات‌

١٥٨

بذلك ، كما قد يومي اليه التأمل في عبارة الناصريات ـ انه معارض بأوامر الصب في الأخبار الكثيرة الواردة في نجاسة الجسد والثوب والفراش ذي الحشو وغيرها من بول الصبي وغيره ، وهو ظاهر ان لم يكن صريحا في ورود المطهر ، فيكون مع إتمامه بعدم القول بالفصل بين موارده وغيرها مقيدا للإطلاق.

وأما خبر ابن محبوب فهو مع إجماله سؤالا وجوابا من وجوه لا صراحة فيه ، بل ولا ظهور في طهارة الجص بوضعه في الماء ، وكيف مع أن الشهيد نفسه رحمه‌الله لا يرى طهارة ما يرسب فيه الماء ولا يعصر بالقليل.

وأما صحيح ابن مسلم (١) فهو مع احتماله لإرادة معنى الباء من « في » بل لعله متعين عندهم ، إذ لا يستقيم ظاهره على القول بنجاسة الغسالة ، إذ لا بد من إراقة ماء الغسلة الأولى وعصر الثوب ، بناء على اعتباره بعد كل غسلة ، فينجس حينئذ الثوب بغسله ثانيا فيه بنجاسة الماء الجديد وإنائه.

اللهم إلا أن يلتزم تطهير الإناء بعد الغسلة الأولى ثم يجعل فيه ماء ويوضع الثوب فيه ، أو يلتزم تنزيل الثوب منزلة الجزء من الإناء فيصب عليه الماء بعد إراقة ماء الغسلة الأولى ، فينجس الماء الثاني بعد فصل الثوب عن الإناء ، أو يطهر هو والإناء بإراقة الماء ثانيا ، ثم يفصل الثوب عنه فيعصر.

وهما كما ترى ، مع عدم منافاته على التقدير الأخير لمعتبر الورود في الغسلة الأخيرة خاصة ، لأنها هي المطهرة ، وعدم أولويته من القول بكون الغسلتين بالصب عليه وهو في الإناء ، جمعا بينه وبين الأدلة السابقة من أوامر الصب وغيرها ، بل لعله المتعارف من كيفية الغسل فيه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٥٩

وأما ما دل (١) على تطهير الأواني المدعى ظهوره في عدم إمكان الورود حتى احتيج إلى استثنائها من اشتراط الورود أو استفيد منه عدم الاعتبار مطلقا فقد يجاب عنه بما في جامع المقاصد من أن الحق أنه لا يراد بالورود أكثر من وروده ابتداء ، وإلا لم يتحقق الورود في شي‌ء مما يحتاج فصل الغسالة عنه إلى معونة شي‌ء آخر ، أو بما في المعالم بأن من أمعن النظر في دليل انفعال القليل بالملاقاة رأى أنه مختص بما إذا وردت النجاسة على الماء ، فيجب حينئذ أن يكون المعتبر هنا هو عدم ورود النجاسة على الماء لا ورود الماء على النجاسة ، والفرق واضح ، قال : « فلم يحتج حينئذ إلى استثناء نحو الأواني ولا لتكلف حمل الورود على ما يقع أولا » انتهى.

قلت : وكان مراده عدم صدق ورود المتنجس على الماء في أثناء غسل الأواني ونحوها وان كان لا يصدق أيضا ورود الماء عليه أيضا ، لكن الثابت من الأدلة نجاسة الأول خاصة دون غيرها ، فتبقى حينئذ على العفو عنها في حال التطهير كحالة الورود ، ولهذه الدقيقة صدرنا عنوان المسألة بما عرفت ، فتأمل.

وعلى كل حال فقد عرفت وجوب العصر في الثياب ونحوها مما يعصر من سائر النجاسات عند المصنف وغيره ممن تقدم ، لكنه استثنى من ذلك تبعا للمشهور بين الأصحاب المتنجس منها ببول الصبي ، فقال إلا من بول الرضيع ، فإنه يكفي صب الماء عليه من غير حاجة إلى عصر ، بل لا أجد فيه مخالفا كما اعترف به في المدارك والمعالم والذخيرة والحدائق والمفاتيح ، بل في الأخير نفي الخلاف نفسه لا وجدانه ، كما أن في الأول نسبته إلى مذهب الأصحاب ، بل في الثاني إلى اتفاق كلمة الأصحاب الذين وصل كلامهم إلينا ، بل في الخلاف وعن الناصريات الإجماع عليه ، وهو الحجة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ و ٥٣ و ٧٠ ـ من أبواب النجاسات.

١٦٠