جواهر الكلام - ج ٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

محصلا ومنقولا ، لنفي الحرج وإرادة الله اليسر ، وانه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وللنصوص المستفيضة.

كصحيح ابن مسلم (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمي كيف يصلي؟ فقال : يصلي وان كان الدماء تسيل » ومثله خبر ابن عجلان (٢) المروي في مستطرفات السرائر من كتاب البزنطي بتفاوت يسير جدا.

وصحيح المرادي وحسنه (٣) « قلت للصادق عليه‌السلام : الرجل يكون به الدماميل ، والقروح بجلده ، وثيابه مملوة دما وقيحا ، وثيابه بمنزلة جلده ، قال : يصلي في ثيابه ولا شي‌ء عليه ، ولا يغسلها ».

كقوله عليه‌السلام لعبد الرحمن بن أبي عبد الله في الصحيح (٤) : « دعه فلا يضرك أن لا تغسله » جواب سؤاله عن الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه ، فيسيل منه الدم والقيح فيصيب ثوبي.

وقوله عليه‌السلام أيضا في مرسل ابن أبي عمير عن سماعة بن مهران (٥) : « إذا كان بالرجل جرح سائل وأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم ».

وقوله عليه‌السلام في موثق الساباطي (٦) بعد أن سأله عن الدماميل تكون بالرجل فتنفجر وهو في الصلاة : « يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة ».

و‌خبر أبي بصير أو صحيحه (٧) « دخلت على الباقر عليه‌السلام وهو يصلي ، فقال لي قائدي : إن في ثوبه دما ، فلما انصرف قلت له : إن قائدي أخبرني أن بثوبك دما ، فقال لي : إن بي دماميل ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٨.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٠١

بل ظاهر هذا الأخير كخبر سماعة وما بعده وسابقه ، بل قيل حتى الأول أيضا عدم اعتبار شي‌ء مما اعتبره المصنف من المشقة وعدم رقي الدم في العفو عنه ، بل هو معفو عنه إلى مسمى البرء عرفا ، بل قيل إنه ظاهر في الاندمال ، وربما احتمل حمله على الأمن من خروج الدم ، والأمر سهل ، إذ خروجه بعد الأمن كقبلة لعموم الأدلة ، ومع عدم الخروج لا أثر للنزاع إلا في المختلف.

وكيف كان فاستمرار العفو اليه مطلقا هو الأقوى ، وفاقا للثانيين ومجمع البرهان والمدارك والذخيرة والحدائق ومنظومة الطباطبائي ولوامع النراقي وظاهر الصدوق ، وخلافا لصريح بعض ، بل المحكي عن ظاهر الأكثر من اعتبارهما وان اختلفت عباراتهم في تأدية ذلك في الجملة ، فبين مصرح بمعنى ما في المتن كما في المراسم بالنسبة للقروح ، والسرائر وعن التحرير فيها وفي الجروح ، وبين مصرح باعتبار دوام السيلان خاصة من غير تعرض للمشقة كالمقنعة ، لكنها لازمة له كما ترى ، لبعد بل منع فرض عدمها ، وبين مصرح باعتبار المشقة ، لكنه أبدل عدم رقي الدم بوصف القروح باللازمة والجروح بالدامية كالقواعد ، إلا أنه عنه في التذكرة التصريح بإرادة لزوم الدم من اللازمة ، فيرجع حينئذ إلى عدم الرقي ، وبين من اقتصر على الوصفين من دون تعرض للمشقة كالوسيلة ، لكنها لازمة له بناء على ما تقدم ، كمن جمع القروح والجروح بوصف اللزوم كالغنية ، وبين مصرح باعتبار السيلان أو الانقطاع الذي لا يسع الصلاة مع المشقة كالمعتبر وغيره ، ولعله مراد من تقدم من دوام السيلان ، وبين مصرح باعتبار المشقة خاصة من غير فرق بين دوام السيلان وعدمه ، واختاره في ظاهر الرياض أو صريحه إلى غير ذلك من العبارات المتحدة في المعنى عند التأمل ، سيما مع ملاحظة أدلتهم عليه من العسر والحرج ونحوهما.

نعم لو أريد بالدامية ذات الدم في الجملة وباللازمة الجروح اللازمة وان لم يستمر‌

١٠٢

سيلان دمها كما عن المحقق الثاني تفسيرها بما يقرب من ذلك أمكن حينئذ انطباق جملة من عبارات أصحابنا كالخلاف والغنية وغيرهما على المختار ، بل هو معقد إجماع الكتابين.

كما أنه يمكن إرادة من اعتبر الحرج في العفو كما عن الشيخ في أكثر كتبه ، والفاضل في الإرشاد تحديد الرخصة بالبرء لا دوام السيلان ، أو الحرج النوعي دون الشخصي ، أو الاحتراز به عن الجروح الصغار التي يعد انقطاع دمها برؤها عرفا أو بمنزلته. فيوافق المختار أيضا ، بل يمكن إرجاع أكثر العبارات إليه أيضا وان كان لا يخلو من تجشم في بعضها.

وكيف كان فالأقوى ما عرفت ، للحرج النوعي ، وإطلاق بعض النصوص السابقة ، وترك الاستفصال في آخر ، والتحديد بالبرء المعلوم عادة انقطاع السيلان قبله في ثالث ، ولا ينافيه وصف الجرح بالسائل في منطوق الشرط في خبر سماعة ، مع احتمال إرادته حينا فحينا.

فلا وجه حينئذ للمناقشة في دلالته ودلالة خبر أبي بصير أيضا باحتمال إرادة الانقطاع ولو لفترة من البرء لذلك ، ولعطف الانقطاع عليه فيه ، إذ هو مع سماجته مجاز بلا قرينة ، وتصرف في الأدلة المخصصة لما دل (١) على مانعية مطلق الدم للصلاة من غير معارض ، وقول ابني مسلم وعجلان في خبريهما : « فلا تزال تدمي » مع أنه ليس من كلام الامام عليه‌السلام ولا صراحة فيه بإرادة دوام ظهور الدم ، لاحتمال إرادة الخروج حينا فحينا أيضا ، كقولهم : لا يزال فلان يتكلم أو يتردد إلى موضع كذا لا دلالة فيه على اختصاص العفو به دون غيره لو نزل الجواب على خصوص السؤال ، بل أقصاه حينئذ عدم الدلالة على المدعى لا الدلالة على عدمه.

مع أن الانصاف قاض بظهور سؤاله وجوابه في أولوية حكم غير السائل وان لم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات.

١٠٣

يكن دائم الإدماء من السائل ، بل صرح غير واحد من الأصحاب بأن مفهوم « إن » الوصلية فيه ظاهر في المختار ، وإن أمكن خدشه بأنه بعد تنزيل الجواب على السؤال كما هو قضية استتار الضمير فيه يكون مفهومها حينئذ إباحة الصلاة في غير السائل من دم القروح التي لا زالت تدمي ، وهو لا ينافي إلا من اعتبر السيلان دون غيره كالمصنف ونحوه ، اللهم إلا أن يقال بلزوم السيلان لعدم الانقطاع والرقي ، بل قد عرفت اتحاد مراد الجميع بنحو ذلك.

نعم هو على كل حال مناف لاعتبار مشقة التحرز مع ذلك ، إلا أن يدعى بل هو الظاهر لزومها لدوام الإدماء ، بل تعذر التحرز معه بالنسبة للبدن واضح ، وإن ظهر من المعاصر في الرياض إمكان انفكاك المشقة عن عدم الانقطاع ، ولذا لم يستبعده قوة وجوب الإزالة مع عدم الانقطاع إذا لم تكن مشقة وهو ـ مع ما فيه مما عرفت إلا أن يريد به بالنسبة للثوب ـ مناف لا طلاق النصوص السابقة.

ودعوى ظهورها في العفو في صورة حصول المشقة خاصة لا شاهد لها إلا‌ موثق سماعة (١) « سألته عن الرجل به القروح والجروح فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه ، قال : يصلي ولا يغسل ثوبه إلا كل يوم مرة ، فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة » والمروي (٢) في مستطرفات السرائر من نوادر البزنطي قال : « قال : إن صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها ولا حبس دمها يصلي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة » وهما ـ مع إضمارهما بل في كشف اللثام إسناد الثاني إلى قول البزنطي في نوادره ـ قاصران عن معارضة ما تقدم من وجوه ، سيما مع انحصار دلالتهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٢) البحار ج ١٨ ص ٢٠.

١٠٤

بمفهوم التعليل والوصف ، والبحث في الثاني معلوم ، والأول محتمل لإرادة تعليل اتحاد الغسل المنزل على الندب كما عن جماعة التصريح به ، بل لا أجد فيه خلافا وان احتمل الوجوب في الحدائق أو مال اليه ، لكنه شاذ.

فظهر حينئذ انه لا شاهد لاعتبار المشقة الشخصية في العفو عن هذا الدم يعارض الأدلة السابقة حتى في المنقطع منه انقطاع فترة لا انقطاع برء ، من غير فرق بين سعتها للصلاة وعدمها ، كما أنه لا شاهد لاعتبار دوام السيلان ، أو هو مع الانقطاع فترات لا تسع الصلاة ، أو هما مع مشقة الإزالة في العفو عن هذا الدم.

ودعوى الاقتصار على المتيقن من العفو بعد إطلاق الأدلة الثابت حجيته بالعقل والنقل لا ترجع إلى محصل معتبر ، كالقياس على المستحاضة أو المسلوس لو سلم ذلك في المقيس عليه.

ومن هنا كان القول بإيجاب التعصيب أو التخفيف أو الإبدال للثوب مع عدم المشقة كما هو ظاهر بعض وعن محتمل آخر في البعض لنحو ذلك ضعيفا منافيا لظاهر الأدلة ان لم يكن صريحها ، ولظهور خصوصية هذا الدم من بين الدماء ، بل من بين النجاسات ، ولما عن الشيخ من الإجماع على عدم وجوب عصب الجرح وتقليل الدم ، بل يصلي كيف كان وإن سال وتفاحش إلى أن يبرأ ، وانه بخلاف المستحاضة والسلس ونحوهما ممن يجب عليهم الاحتياط في منع النجاسة وتقليلها.

نعم يمكن القول باختصاص العفو عنه بغير ما تعدى منه عن محل الضرورة من الثوب والبدن ، كما قربه في المنتهى ، واستحسنه في المعالم ، واحتمله في المدارك ، وان تأمل فيه في الذخيرة ، لا طلاق الأدلة ، ولخصوص موثقة عمار السابقة ، إلا أنه لا يخفى انصراف الإطلاق إلى ما ذكرنا ، واحتمال خبر عمار الانفجار بالقيح والصديد دون الدم ، بل احتمل فيه أيضا إرادة المسح باليد إذا علم سيلانه إن لم يمسحه إلى أعضائه‌

١٠٥

وثيابه ، فيمسحه حينئذ إزالة له وتخفيفا للنجاسة عن نفسه ، وان كان لا يخلو من نظر.

لكن الإنصاف أن القول بالعفو مع التعدي أيضا إلى ما يتعارف من تعدي غير المتحفظ عن تعديه وإن لم يكن من محال الضرورة لا يخلو من قوة ، لإطلاق الأدلة وخلوها عن الأمر بالتحفظ عنه ، بل ظاهرها التوسعة في أمره.

نعم لا يعفى عنه إذا لم يكن كذلك ، كما إذا تعمد وضعه من الرأس في القدم مثلا ، بل لعل ذلك هو مراد المنتهى وان بعد ، كاحتمال رجوع تفصيل الحدائق اليه ، أو ما يقرب منه بالعفو عنه إذا تعدى الدم بنفسه إلى سائر أجزاء البدن أو الثوب الطاهر وعدمه إذا عداه المكلف بنفسه ، وان وضع يده على دم الجرح أو طرف ثوبه الطاهر عليه ، لكنه أشكل الثاني بظهور موثقة عمار في العفو عنه أيضا ، ثم احتمل حملها على ما ذكرنا ، وقال : فالتفصيل حينئذ لا يخلو من قوة ، انتهى.

وكذا لا يبعد القول بالعفو عما تنجس به من الأمور التي يندر انفكاكها غالبا كالعرق ونحوه وان كانت نجسة كالدم ، لخلو الأدلة عن التحرز عنها ، بل ظهورها في العفو عن القيح المتنجس به ، بل في الذخيرة أنه يمكن استفادته مطلقا من الروايات ، ولما في الاجتناب عنها من الشقة والحرج المنافي لحكمة العفو عن هذا الدم ، ولعدم زيادة الفرع على الأصل ، إذ لا ريب في ان معنى نجاسة المتنجس بملاقاة النجس هو سريان حكم النجس المباشر اليه ، والفرض أنه معفو عنه.

ومن هنا أطلق في الذكرى قوة العفو عن مائع تنجس به ، وفي المدارك أنه أظهر ، ولم يفرقا بين نادر الانفكاك وغيره ، وربما يؤيده اتفاق مجاورة الجروح والقروح للأمكنة التي لا تستغني عن مباشرة الماء ونحوه ، فما في المنتهى من الاقتصار في العفو على خصوص الدم لأنه المتيقن لا يخلو من نظر بل منع في نادر الانفكاك.

نعم لو باشر هذا الدم نجاسة أخرى ولو دما بل ولو دم قرح لكن من شخص‌

١٠٦

آخر أو متنجسا بذلك اتجه القول بعدم العفو حينئذ ، لا طلاق أدلة الاجتناب من غير معارض حتى في الأخير ، إذ ثبوت العفو بالنسبة إلى شخص لا يسري إلى آخر قطعا ، ويرجع في مسمى القروح والجروح إلى العرف ، وبعد تحققه لا فرق بين ما كان منها في الظاهر أو الباطن بعد جريان دمهما إلى الظاهر على إشكال في الأخير.

كالإشكال في إلحاق دم البواسير به بناء عليه ، للشك في كونها من القروح ، ولعله لذا أو لعدم إلحاق البواطن بالظاهر حكم الأستاذ في كشفه بعدمه ، فقال : « وما كان في خروجه من البواطن كدم البواسير والرعاف والاستحاضة ونحوها يغسل مع الانقطاع وأمن الضرر وان بقي الجرح ، ويحافظ علي الحفيظة مع الاستدامة كما في المسلوس والمبطون مع عدم التعذر والتعسر » انتهى. وان كان الظاهر خلافه بعد ثبوت مسمى الجرح والقرح ، فتأمل جيدا.

وكذا عفي عما دون الدرهم وقيده بعضهم بالوافي وآخر بـ ( ـالبغلي ) ولعلهما بمعنى كما سيأتي سعة لا وزنا من الدم المسفوح الذي ليس أحد الدماء الثلاثة في الثوب إجماعا محصلا ومنقولا في الانتصار والخلاف والغنية والمعتبر والمختلف والمنتهى وغيرها ، بل والبدن أيضا ، وإن أطلق في معقد إجماع الثلاثة الأخيرة ، واقتصر على الثوب في الغنية كالفقيه وجمل المرتضى والمقنعة والمراسم وعن الهداية والمبسوط وكثير ، بل والخلاف وإن كان الموجود فيما حضرني من نسخته ذكر البدن معه أيضا في معقد إجماعه كالانتصار ، بل ومعقد النسبة إلى مذهب الإمامية في كشف الحق ، لكن التدبر والتأمل في كلمات الأصحاب وأدلتهم يعطي عدم الفرق عندهم هنا بين الثوب والبدن ، كما اعترف به في المنتهى وعن الدلائل ناسين له إلى ذكر الأصحاب وتصريحهم مشعرين بدعوى الإجماع عليه ، بل في الحدائق أن ظاهر الأصحاب الاتفاق ، ويقرب منه ما في الرياض واللوامع ، مع ما عرفت من كونهما معقد صريح إجماع‌

١٠٧

الانتصار والخلاف ، وظاهر إجماع كشف الحق.

فلا يقدح بعد ذلك اختصاص ما ورد (١) من الأخبار هنا في الثوب ، سيما مع كون ذلك في أسئلتها ، بل قد يظهر من التأمل في أجوبتها إرادة بيان قاعدة لا تختص به ، وانه من باب المثال ، خصوصا حسن ابن مسلم (٢) بل لعله من العام الذي لا يخصه مورده من السؤال ، مضافا الى‌ خبر المثنى بن عبد السلام (٣) قال : « قلت للصادق عليه‌السلام : إني حككت جلدي فخرج منه دم ، فقال : إن اجتمع قدر حمصة فاغسله ، وإلا فلا » لوجوب تنزيله على وزن حمصة يساوي سعة الدرهم ، وإلا كان من الشواذ المتروكة حتى لو حمل الأمر فيه على الندب ، إذ لم نعثر على مصرح باختصاصه فيه ، على أنه لو حمل عليه كان دالا في الجملة على المطلوب ، خصوصا مع ضميمة عدم القول بالفصل ، بل به يتم الاستدلال أيضا على تقدير إرادة سعة الحمصة ، وإن وجب حينئذ طرح منطوق الشرط الأول فيه ، والأوضح ما ذكرناه أولا ، وقصور سنده منجبر بما عرفت ، بل ودلالته لو سلم المناقشة فيهما بزيادة وزنها عن سعته لو أشيع في البدن أو الثوب بكثير ، بل في الرياض احتمال قراءتها بالخاء المعجمة ، وهو سعة ما انخفض من راحة الكف ، كما عن بعض الأجلة تقدير الدرهم به سعة ، لكن قال : إنه يتوقف على القرينة لهذه النسخة ، وهي مفقودة.

قلت : بل لم نعرف من حكى هذه النسخة غيره ، بل لعلها لا توافق اللغة ، فالعمدة حينئذ في الحكم المذكور ما عرفت ، فما عساه يظهر من الرياض تبعا للحدائق بل وكشف اللثام من الغمز عليه والدغدغة فيه في غير محله قطعا ، كالتردد في أصل العفو عن المقدار المخصوص حتى في الثوب ، أو الميل الى العدم من المحكي عن الحسن ، حيث قال : « إذا أصاب ثوبه دم فلم يره حتى صلى فيه ثم رآه بعد الصلاة وكان الدم على قدر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

١٠٨

الدينار غسل ثوبه ولم يعد الصلاة ، وإن كان أكثر من ذلك أعاد الصلاة ، ولو رآه قبل صلاته أو علم أن في ثوبه دما ولم يغسله حتى صلى غسل ثوبه ، قليلا كان الدم أو كثيرا ، وقد روي أن لا إعادة عليه إلا أن يكون أكثر من مقدار الدينار » انتهى.

إذ هو مخالف للإجماع بقسميه ، وللنصوص المستفيضة التي فيها الصحيح الصريح وغيره ، كخبر ابن أبي يعفور (١) في حديث ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثم يعلم به فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال : يغسله ولا يعيد صلاته إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة ».

والجعفي (٢) عن الباقر عليه‌السلام قال : « في الدم يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته ، وإن لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة ».

كمرسل ابن دراج (٣) عنه أيضا وأبي عبد الله عليهما‌السلام قال : « لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرقا شبه النضح ، وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم ».

وحسن ابن مسلم أو صحيحه (٤) مضمرا في رواية الكليني ، ومسندا للباقر عليه‌السلام في رواية الصدوق ، قال : « قلت له : الدم يكون في الثوب علي وأنا في الصلاة ، قال : إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره ، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم ، وما كان أقل من ذلك فليس بشي‌ء رأيته أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

١٠٩

الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه ».

وهي كما ترى صريحة في المدعى ، كما انه صريحة في أن ما زاد عن ذلك أي الدرهم تجب إزالته ان كان مجتمعا وهو كذلك لها ، وللإجماع بقسميه عليه ، ولإطلاق ما دل (١) على نجاسة الدم ووجوب التطهير منه ومن غيره من النجاسات للصلاة.

بل ظاهر المتن ذلك في مقدار الدرهم أيضا ، وفاقا لصريح جماعة وظاهر الفقيه والهداية والمقنعة وأول ما في الانتصار والخلاف والجامع والوسيلة والغنية وإشارة السبق وغيرها ممن اقتصر في تقدير العفو عنه على ما دون الدرهم ، بل عن المسالك وكشف الالتباس نسبته إلى الشهرة ، كما في اللوامع إلى الأكثر ، بل في ظاهر السرائر أو صريحها وعن الخلاف الإجماع عليه ، كما عن كشف الحق نسبته إلى الإمامية ، وان كان سنذكر ما وجدناه فيهما ، لقاعدة الشغل في وجه ، وإطلاق أوامر التطهير وإزالة النجاسات وخصوص الدم ، ولصحيح ابن أبي يعفور السابق ، ومرسل جميل ، وأول مفهومي خبر الجعفي مع الاعتضاد والانجبار بما سمعت.

والرضوي (٢) « إن أصاب ثوبك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف » الى آخره.

والمروي (٣) من كتاب علي بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام قال : « وإن أصاب ثوبك قدر دينار من الدم فاغسله ، ولا تصل فيه حتى تغسله » الى آخره. والدينار كما في الوسائل بسعة الدرهم تقريبا.

خلافا لسلار ، بل وحكي عن الانتصار ، وستعرف ما فيه ، فيعفى عنه كالأقل ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٨.

١١٠

للأصل ومضمر ابن مسلم ، خصوصا على ما رواه الشيخ من زيادة الواو فيه قبل قوله : « ما زاد » مع حذف « وما كان أقل من ذلك » وثاني مفهومي خبر الجعفي ، والأول بعد تسليمه لا يعارض الدليل فضلا عن الأدلة ، كما أن الأخيرين يجب الخروج عن عموم المفهوم فيهما بما تقدم مما دل على الدرهم ، خصوصا بعد أوضحية غيرهما منهما سندا وعملا ، ولعل معارضة مفهوم خبر الجعفي بمفهوم الأول ، بل وخبر ابن مسلم بناء على رواية الكليني والصدوق اللذين هما أضبط من غيرهما ، وعلى رجوع الإشارة إلى الدرهم كما هو الظاهر لا الزيادة.

واحتمال ترجيح مفهوم الخصم بموافقة الأصل يدفعه بعد تسليم جريانه أنه لا يعارض تلك المرجحات الكثيرة ، بل قد يناقش في مفهوم خبر الجعفي بأنه تصريح ببعض المفهوم الأول لا انه شرط يراد منه مفهومه كما لا يخفى على من له خبرة بمعرفة معاني الخطابات وأساليب الكلام ، وباحتماله كخبر ابن مسلم أيضا إرادة الدرهم فما زاد ، نحو قوله تعالى (١) ( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) أي اثنتين فما فوق.

ومعارضة ذلك باحتمال العكس في المفهوم الآخر يدفعها ما قيل من شيوع التعبير عن الأول في الأخبار ، منها‌ مرسل يونس (٢) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم ، قال : أيما مكار أقام في منزله أو البلد الذي يدخله أقل من عشرة أيام وجب عليه الصيام والتمام ، وان كان له مقام في منزله أو البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيام فعليه التقصير والإفطار » لظهور أن المراد عشرة فأكثر ، وبأنه لم يرد منه شمول المساوي للدرهم ، لوضوح ندرة اتفاقه ومعرفته بحيث لا زيادة فيه ولا نقيصة ، ولعله لذا اقتصر على إناطة الحكم بالزائد والناقص دونه.

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صلاة المسافر ـ الحديث ١ مع اختلاف يسير.

١١١

وهذا وإن خدش ما تقدم من الاستدلال أيضا بالمفهوم الدال على عدم العفو عنه ، لكن قد عرفت أنا في غنية عنه بالتصريح به في المرسل والصحيح السابقين ، والإطلاقات وغيرها.

واحتمال إرادة استحباب الغسل والإعادة من مقدار الدرهم في الصحيح والمرسل جمعا بين الأدلة ضعيف ، لعدم المقتضي والشاهد ، بل هما على خلافه متحققان ، مع ما فيه من اقتضاء عدم استحباب الغسل في الأدون ، بل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، للقطع بقصد إرادة الدرهم مما زاد فيهما ، ودعوى عموم المجاز لا شاهد لها ، نعم قد يقال ان المراد بالدرهم فيهما ما زاد منه تسامحا ، لغلبة عدم معرفة مقدار الدرهم إلا بالزيادة عليه ، وإلا فليس المراد المساوي له حقيقة ، فيبقى حينئذ ما دل على العفو عنه من غير معارض حتى الإطلاقات ، لانقطاعها به.

ولا ينافيه الاقتصار في النص على العفو عما دون الدرهم ، لما عرفت من ندرة معرفة مقدار الدرهم بل ولا الفتاوى لذلك أيضا ، فلا ظهور فيها حينئذ بعدم العفو عنه حتى ينسب إلى الشهرة من جهته تارة ، والى الإجماع أخرى ، والى تفرد سلار خاصة أو مع المرتضى ثالثة.

وقد يؤيده ملاحظة كلماتهم ، فإنهم وان اقتصروا في أولها على ما دون الدرهم ، لكن في أثنائها يذكرون الدرهم ، قال في الخلاف أولا : « فإن بلغ مقدار الدرهم وجب إزالة قليله وكثيره ، وان كان أقل من ذلك لم يجب ـ ثم حكى عن بعض العامة القول بعدم العفو مطلقا ، وعن آخر العفو عن المقدار المخصوص مطلقا من أي نجاسة وغير ذلك ، الى أن قال ـ : دليلنا إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط ، ولا يلزمنا مثل ذلك في مقدار الدرهم في الدم ، لأنا أخرجنا ذلك بدليل ، وأيضا فقد علمنا حصول‌

١١٢

النجاسة ووجوب إزالتها ، ومن ادعى مقدارا فعليه الدلالة ، ونحن إذا ادعينا مقدار الدرهم فلإجماع الفرقة » إلى آخره.

وكذا علق المرتضى رحمه‌الله العفو في أول كلامه في الانتصار على ما دون الدرهم ، لكنه ذكر في الأثناء ستة مرات تقريبا ما يقتضي العفو عن الدرهم صريحا أو كالصريح ، ومنها ما هو كمعقد إجماع الخلاف ، تركنا التعرض لها تفصيلا خوف الإطالة.

وفي كشف الحق بعد أن علق العفو على ما دون الدرهم ناسبا له إلى الإمامية قال : « وقال أبو حنيفة : كل النجاسات سواء في اعتبار الدرهم ، وقد خالف » إلى آخره. وظاهره أن خلافه في تعديه إلى غير الدم خاصة دون المقدار.

وفي الجامع وقد عفي عن دم دون سعة الدرهم الكبير في ثوب أو بدن ، فان كان متفرقا لو اجتمع لكان بسعة الدرهم فلا بأس به ، وهي بأجمعها ظاهرة فيما قلنا ، ويزيده تأييدا عدم معروفية عنوان الخلاف في ذلك سابقا ، بل أول من ذكره المصنف في المعتبر ، وتبعه من تأخر عنه.

ومن هنا ظهر لك قوة القول بالعفو عنه ، كما أنه ظهر لك ما وقع من بعضهم من الخلل في النقل ، فتأمل جيدا.

وكيف كان ففي الفقيه والهداية والمقنعة والانتصار والخلاف والغنية وغيرها تقييد الدرهم بالوافي الذي هو درهم وثلث ، بل في كشف اللثام نسبته إلى الأكثر ، وقد يشهد له التتبع ، بل هو بعض معقد إجماع الثلاثة الأخيرة ، ونص الرضوي (١) ولعله مراد بعضهم من البغلي كما يومي اليه جمعهما من آخر ، ونسبته إلى مذهب الإمامية في كشف الحق ، لما عرفت أن أكثرهم على التعبير الأول ، بل في المعتبر وغيره بل عن أكثر كتب المتأخرين التصريح بأنه الوافي ، ويسمى البغلي ، فما توهمه عبارة السرائر‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١١٣

في بادئ النظر من كونه خلافه خطأ قطعا ، مع أن التأمل فيها يدفعه ، فلاحظ.

ويؤكد ذلك ما في الذكرى « البغلي بإسكان الغين منسوب إلى رأس البغل ضربه للثاني في ولايته بسكة كسروية ، وزنته ثمانية دوانيق ، والبغلية تسمى قبل الإسلام الكسروية ، فحدث لها هذا الاسم في الإسلام ، والوزن بحاله ، وجرت في المعاملة مع الطبرية ، وهي أربعة دوانيق ، فلما كان زمن عبد الملك جمع بينهما واتخذ درهما منهما ، واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق ، فلما كان زمن عبد الملك جمع بينهما واتخذ درهما منهما ، واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق ، وهذه التسمية ذكرها ابن دريد » انتهى.

وما في مجمع البحرين عن بعضهم « انه كانت الدراهم في الجاهلية مختلفة ، فكان بعضها خفافا ، وهي الطبرية ، وبعضها ثقالا كل درهم ثمانية دوانيق ، وكانت تسمى العبدية ، وقيل البغلية نسبت إلى ملك يقال له رأس البغل ، فجمع الخفيف والثقيل وجعلا درهمين متساويين ، فجاء كل درهم ستة دوانيق ، ويقال : ان عمر هو الذي فعل ذلك ، لأنه لما أراد جباية الخراج طلب الوزن الثقيل ، فصعب على الرعية فجمع بين الوزنين ، واستخرجوا هذا الوزن » انتهى.

وهما كما ترى واضحا الانطباق على ما ذكره الأصحاب من أنه درهم وثلث ، إذ الدرهم الذي استقر عليه أمر الإسلام ستة ، وهو مع ثلثه ثمانية ، فظهر إمكان دعوى تحصيل الإجماع فضلا عن منقوله المعتضد بالرضوي وخبر الدينار المتقدم سابقا على إرادة الوافي المسمى بالبغلي لا غيره.

فما في المدارك ـ من أن الواجب حمل الدرهم في النص على ما كان متعارفا في زمانهم عليهم‌السلام ، لخلو الأخبار عن التقييد ، إلى أن قال بعد أن حكى ما تقدم من الذكرى : ومقتضاه أن الدرهم كان يطلق على البغلي وغيره ، وان البغلي ترك في زمن عبد الملك ، وهو مقدم على زمن الصادق عليه‌السلام قطعا ، فيشكل حمل النصوص عليه ، والمسألة قوية الإشكال ـ واضح المنع بعد ما سمعت.

١١٤

على أن صيرورة درهم المعاملة ستة دوانيق في زمن عبد الملك على أحد النقلين لا يقضي بذهاب تمام أفراد البغلية عن الوجود في نحو زمن الصادق عليه‌السلام فضلا عن إطلاق الاسم عليها ، خصوصا مع قرب الزمانين ، إذ وفاة عبد الملك كما عن المسعودي وغيره من المؤرخين سنة ست وثمانين ، ومولد الصادق عليه‌السلام ثلاث وثمانين ، مضافا إلى ورود بعض الأدلة عن الباقر عليه‌السلام ، بل حكي عن العامة روايته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل في اللوامع كما عن البهائي إيجاب حمل كلامهم على المتعارف في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وان لم يكن كذلك في زمانهم ، لأن أحكامهم متلقاة منه ، وقد استفاضت الروايات المعتبرة (١) بأنها مثبتة عندهم في صحيفة بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخط علي عليه‌السلام.

وإن كان يمكن خدش هذا الأخير بأنه لا تلازم بين ذلك وبين حمل ما به البيان على متعارف زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون الامام المبين الحاكي بالمعنى ، كما في كل ناقل ، ومن هنا لم يتوقف أحد في سائر أبواب الفقه في حمل ألفاظ الصادقين عليهم‌السلام على عرف زمانهم وان لم يكن عرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك ، كما لا يمنع حدوث اسم لمعنى قديم حمل اللفظ على ذلك المعنى القديم.

فما في السرائر مما يوهم خلاف ذلك ليس في محله ، قال فيها : البغلي نسبته إلى مدينة قديمة يقال لها بغل ، قريبة من بابل ، بينهما قريب من فرسخ ، متصلة ببلد الجامعين ، تجد فيها الحفرة والنباشون دراهم واسعة ، شاهدت درهما من تلك الدراهم ، وهذا الدرهم أوسع من الدينار والمضروب بمدينة السلام المعتاد ، يقرب سعته من سعة أخمص الراحة ، وقال بعض من عاصرته ممن له علم بأخبار الناس والأنساب : إن المدينة والدرهم منسوبة إلى ابن أبي البغل ، رجل من كبار أهل الكوفة اتخذ هذا الموضع قديما‌

__________________

(١) أصول الكافي ـ ج ١ ص ٢٣٩ الى ٢٤٢ المطبوعة بطهران عام ١٣٧٤.

١١٥

وضرب هذا الدرهم الواسع ، فنسب اليه الدرهم البغلي ، وهذا غير صحيح ، لأن الدراهم البغلية كانت في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبل الكوفة » انتهى.

وفي آخر كلامه ما عرفت ، إلا أن يريد قدم التسمية أيضا كما سمعته فيما سبق ، لكنه قد ينافيه ما ذكره أولا ، بل وغيره في وجه التسمية من النسبة إلى قرية بالجامعين أو متصلة به الذي قد يؤيده ضبط غير واحد له بفتح الغين وتشديد اللام ، بل في المدارك نسبة ذلك إلى المتأخرين ، كما عن المهذب أنه الذي سمع من الشيوخ مع الرد فيه على ما في الذكرى بأن اتباع المشهور بين الفقهاء أولى من اتباع ابن دريد ، اللهم إلا أن يقال كما في الحدائق : إن هذه القرية يمكن أن تكون في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبله ، لأن بابل وما قرب منها من البلدان القديمة ، وبقاء تلك الدراهم إلى زمن ابن إدريس لا يدل على المعاملة بها ، نعم تبقى المنافاة في سبب النسبة والتسمية بين ما ذكره وبين ما تقدم من الذكرى ، وهو سهل لا يترتب عليه حكم شرعي.

هذا كله لكن قد يقال : إنه وإن ثبت من جميع ما ذكرت إرادة البغلي من الدرهم في النص والفتوى أي الوافي الذي وزنه درهم إسلامي وثلث ، إلا أنه لا يرفع الإجمال المقتضي للاقتصار على المتيقن معه ، إذ المفيد لرفع ذلك بيان سعته لا وزنه ، لكون المدار عليها لا عليه ، كما صرح به في كشف اللثام وغيره ، بل هو ظاهر كثير من الأصحاب حتى معاقد الإجماعات ، كإجماع المرتضى والمصنف في المعتبر والعلامة في المختلف وغيرهم ، بل في اللوامع نفي الخلاف عنه بالخصوص ، وبذلك تتم دلالة الأخبار وان أطلق فيها العفو عن قدر الدرهم ، وان كان لولاه لأمكن دعوى ظهورها في إرادة الوزن أو هو مع السعة ، بل قد يؤيده تعرض كثير من الأصحاب لضبط الوزن هنا دون المساحة.

لكن قد عرفت ظهور اتفاق الأصحاب على إرادة السعة خاصة ، والفرض أنها‌

١١٦

غير معلومة ، إذ لا دلالة في الوزن عليها مع اختلاف الأصحاب بالنسبة إلى ذلك ، ففي السرائر ما سمعته من مشاهدته ، وعن الحسن بن أبي عقيل ما تقدم من اعتبار سعة الدينار ، بل لا تعارض في كلامه للدرهم ، كما أن ما حكي عن أبي علي من التقدير بعقد إبهام الأعلى لا تعرض فيه أيضا للبغلي وان ذكر الدرهم مقدرا سعته بما سمعت.

ومن هنا جعلهما في المعتبر مقابلين للقول بالدرهم البغلي ، لكنه قال : والكل متقارب ، والتفسير الأول أشهر مريدا به البغلي ، وان كان قد يرد عليه بأنه ليس في كلامهما ما ينافي إرادة تقدير سعة البغلي.

وقال في الروض بعد أن حكى تفسيري البغلي وما شاهده ابن إدريس قال : « وشهادته في قدره مسموعة ، وقدر أيضا بعقد الإبهام العليا ، وهو قريب من أخمص الكف ، وقدر بعقدة الوسطى ، والظاهر أنه لا تناقض بين هذه التقديرات ، لجواز اختلاف أفراد الدرهم من الضارب الواحد كما هو الواقع ، وإخبار كل واحد عن فرد رآه » انتهى.

لكنه مع الإغضاء عما فيه لا يرفع الاجمال باعتبار اختلاف أفراد المتواطئ إلا أن يراد العفو عن أوسعها مثلا ، ولا قرينة عليه ، واحتمال عدم الاحتياج إليها بإطلاق الدرهم الشامل لا يخلو من وجه ، لكنه قد يمنع أصل الدعوى بظهور الإحالة على إطلاق قدر الدرهم في عدم الاختلاف ، مضافا إلى ما عن ولده من الاعتراض عليه أيضا بأنه « انما يتم لو لم يكن في التفسير اختلاف ، وإلا فمن الجائز استناد الاختلاف في التقدير إلى الاختلاف في التفسير ـ إلى أن قال : ـ والعجب من جماعة من الأصحاب انهم بعد اعترافهم بوقوع الاختلاف هنا قالوا : إن شهادة ابن إدريس في قدره مسموعة مريدين بذلك الاعتماد على التقدير الذي ذكره ، وكيف يستقيم ذلك وفرض كون كلامه شهادة مقتض لتوقف الحكم بمضمونها على التعدد ، كما هو شأن الشهادة ، ومع التنزل فهو مبني على تفسيره ».

١١٧

قلت : قد عرفت فيما سبق احتمال اتحاد تفسيري البغلي وان الاختلاف في وجه النسبة والتسمية خاصة ، لكنه من المحتمل إنكار ابن دريد ومن تبعه كون ما شاهده ابن إدريس من دراهم تلك القرية من البغلي المفسر بما ذكر ، إلا أن أصالة عدم التعدد بعد إمكان الجمع بين التفسيرين ينفيه ، فمن هنا كان الركون إلى تقدير ابن إدريس لا يخلو من قوة.

بل يمكن دعوى شهادة القرائن له ، كما أنه يمكن إرادة الأصحاب بضبط الوزن بالدرهم والثلث بيان زيادة مساحته على الدرهم المعروف بقدر زيادة وزنه ، فيوافق ما ذكره الحلي حينئذ ، وليس ذلك منه من الشهادة المعتبر فيها التعدد ، بل هو من باب الاخبار ، كما أنه لا يعارضه التقادير الأخر إما لما ذكره في الروض أو في المعتبر من التقارب ، أو لأنه أقوى من غيره باعتبار العلم باستناده إلى المشاهدة دونها.

على أن ما ذكره ابن أبي عقيل ليس تقديرا للدرهم حتى يعارضه ، انما ذكره تقديرا للمعفو عنه من الدم مستندا لخبر علي بن جعفر (١) المتقدم القاصر عن إثباته ان لم ينزل على الدرهم ، بل وكذا ابن الجنيد لم يذكر ذلك التقدير للبغلي ، وأما التقدير بعقدة الوسطى فهو مع عدم معرفة المقدر ولا إرادته تقدير سعة البغلي أو الدم ضعيف جدا ، بل في الرياض تشهد القرائن بفساده قطعا ، والله أعلم.

لكن ومع ذلك كله فالاحتياط بعدم الزيادة على المتيقن لا ينبغي تركه ، خصوصا فيما نحن فيه من الصلاة اللازم فيها ذلك ، تحصيلا للبراءة اليقينية ، واقتصارا فيما خالف الأصل المستفاد من وجوب إزالة النجاسة أو الدم على المقطوع به ، ومن هنا مال في الرياض تبعا لبعض من تقدمه اليه ، وإن كان يمكن المناقشة بمنع مبنى أولهما من مانعية ما شك في مانعيته ، لاستصحاب بقاء الثوب على صحة الصلاة به ، ولأنه كسائر شبه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٨.

١١٨

الموضوع التي لا يجب إزالتها ، كما لو وجد على ساتره رطوبة لا يعلم كونها من مأكول اللحم أولا ، بل هو كاشتباه الدم بين المعفو عنه من دم ذي النفس وغيره كالدماء الثلاثة المصرح في الدروس واللوامع كما عن الموجز وشرحه وغيرهما بالعفو عنه ، وإطلاق أدلة الإزالة بعد العلم بتقييدها الممنوع لها لا وجه للتمسك بها فيما لم يعلم أنه من موضوعها ، إذ الأمر آل بعد تخصيص الأدلة والجمع بينها إلى وجوب إزالة الثلاثة مطلقا بخلاف غيرها ، وإلى إزالة قدر الدرهم فما زاد دون الأقل ، فمتى لم يعلم كونه من الثلاثة ولا زائدا على الدرهم لم يعلم دخوله في أحد الإطلاقين ، فمرجعه حينئذ الضوابط الأخر.

ودعوى أن فائدة العموم وان خص دخول المشتبه حتى يعلم أنه من الخاص ـ فيفرق حينئذ بين المشتبه من الدرهم وبين المشتبه بأحد الثلاثة ، فيحكم بالعفو في الثاني حتى يعلم أنه من الثلاثة ، لا طلاق أدلة العفو ، دون الأول حتى يعلم أنه درهم ، لا طلاق أدلة الإزالة ـ خالية عن الشاهد ، بل لعل التأمل في أمثالها من الخطابات يشهد بخلافها.

نعم هو مسلم عند اشتباه أصل التخصيص لا بعد العلم به والشك في أفراد المخصص بالكسر ، إذ لا ريب في ظهور التخصيص بثبوت نقيض وصف الخاص للعام ، فهو خاص حينئذ ولا مدخلية للعلم في مفاهيم الألفاظ ، فتأمل جيدا ، والله أعلم.

نعم لو علم انه دم حيض لم يعف عن قليله وكثيره بلا خلاف كما في السرائر ، بل إجماعا صريحا وظاهرا في غيرها ، ولعله كذلك كما يشهد له التتبع ، لا طلاق الأمر بالتطهير من النجاسات والدم ، بل وخصوص أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصادق عليه‌السلام الحائض بغسل ثوبها منه ، ففي‌ النبوي (١) المروي في كتب فروع الأصحاب دون أصولهم ، بل في الحدائق الظاهر أنه من طريق العامة ، إلى آخره. وإن كان لا يقدح فيه مثل ذلك في المقام بعد الانجبار ، قال (ص) لأسماء : « حتيه ثم اقرصيه‌

__________________

(١) كنز العمال ـ ج ٥ ص ١٢٨ ـ الرقم ٢٦٤٣.

١١٩

ثم اغسليه بالماء » وقال الصادق عليه‌السلام في خبر سورة بن كليب في الحائض (١) : « تغسل ما أصاب ثوبها من الدم » بل يستفاد من جملة أخرى شدة نجاسته وغلظها.

فهذا مع ما قيل ـ من قصور أدلة العفو عن شموله لندرته ، خصوصا مع اختصاص الخطاب فيها بالذكور ، واحتمال إصابة ثيابهم من دم الحائض نادر بالضرورة ـ دليل ثان عليه.

مضافا الى‌ قول الصادقين عليهما‌السلام في خبر أبي بصير (٢) المروي في الكافي بل وموضع من التهذيب كذلك لكن بزيادة « لم » بعد « دم » : « لا تعاد الصلاة من دم تبصره غير دم الحيض ، فإن قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء » المؤيد‌ بالرضوي (٣) « وإن كان الدم حمصة فلا بأس بأن لا تغسله إلا أن يكون دم الحيض فاغسل ثوبك منه » وقاعدة الشغل في وجه ، والمنجبر ضعفه بما عرفت ، مع عدم المعارض سوى إطلاق أدلة العفو الممنوع شمولها لمثله ، ولو سلم ففيها الخاص المقدم عليها حتى خبر أبي بصير ، بناء على إرادة ما دون الدرهم من القليل فيه المعفو عنه من غيره ، بل وإن لم يرد منه ذلك يكون التعارض بينها وبينه من وجه ، ولا ريب في رجحانه عليها من وجوه.

ويلحق به دم الاستحاضة والنفاس بلا خلاف فيه عندنا كما في السرائر ، بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه ، كظاهر نسبته إلى الأصحاب من غيرهما ، بل قد يشعر به أيضا نسبة الخلاف إلى أحمد في التذكرة ، مضافا الى ما دل على كون دم النفاس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

١٢٠