جواهر الكلام - ج ٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ظفرنا وظفر العلامة في المنتهى بغيرها لا يقدح في دعوى التواتر من ابن إدريس ، وكذا إطلاق الشيخ ـ في مبسوطة وعن نهايته إيجاب الرمية أو الرميتين من غير تفصيل بين الحزنة والسهلة مع إمكان تنزيله على ذلك ـ لا يقدح في دعوى الإجماع المتقدم ، كإطلاقه في الجمل والخلاف وابن سعيد في الجامع إيجاب الطلب للماء ، والمرتضى في جمله إيجاب الطلب والاجتهاد في تحصيله ، مع احتمال الجميع ما ذكرنا ، إذ لا ريب في تحقق ماهية الطلب والاجتهاد بالقدر المذكور.

فما في‌الحسن ـ كالصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام (١) « إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت ، فإذا خشي أن يفوته الوقت فليتيمم وليصل » ‌ـ قاصر عن معارضة ما تقدم من وجوه لا تخفى ، سيما بعد معارضتها بما دل على جواز التيمم (٢) مع السعة ، وبما دل (٣) على النهي عن الطلب من الأخبار السابقة ، وما حكاه في الوافي عن بعض النسخ « فليمسك » بدل « فليطلب » فيمكن حينئذ إرادته بذلك جمعا بين النسختين والأدلة ، وما في جامع المقاصد وغيره من أن الظاهر منه تحديد زمان الطلب لا مقداره ، لأن الطلب قبل الوقت لا يجزى لعدم توجه الخطاب ، فلا يراد حينئذ استيعاب الوقت بالطلب ، كل ذا مع أنا لم نعرف عاملا بها بالنسبة إلى ذلك سوى ما في المعتبر « ان رواية زرارة تدل على أنه يطلب دائما ما دام في الوقت حتى يخشى الفوات ، وهو حسن ، والرواية واضحة السند والمعنى » انتهى. مع أنه قال قبل ذلك بلا فصل بعد أن استضعف دليل المشهور : الوجه أنه يطلب من كل جهة يرجو فيها الإصابة ، ولا يكلف التباعد بما يشق ، ولا ريب في منافاته لذلك إذا لم يستوعب الوقت.

ولذا اعتمد في المدارك ما استوجهه في المعتبر ، وحمل خبر زرارة على الاستحباب ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم.

٨١

وفيه ما عرفت وإن كان لا بأس بحمله الخبر المذكور ، ولعله أولى مما في الحدائق من الجمع بينها وبين خبر السكوني بحملها على رجاء الحصول أي ظنه ، وخبر السكوني على تجويز الحصول من دون ظن ، إذ هو مع أنه لا شاهد عليه مبني على وجوب الطلب زائدا على النصاب مع ظن الماء ، وفيه منع ، بل إطلاق الأدلة السابقة يقتضي سقوطه وإن ظن ، لعدم الدليل على التعبد به ، مع أنه هو بنفسه استظهر بعد ذلك عدم اعتبار الظن لا طلاق خبر السكوني ، نعم انما يجب الطلب زائدا مع العلم لعدم تناول الرواية له ، فما في جامع المقاصد والروض وغيرهما من إلحاق الظن به في ذلك حتى أنه قطع به في الأول لا يخلو من نظر بل منع ، كالتعليل له بعدم حصول شرط التيمم معه ، وهو العلم بعدم التمكن من الماء ، وإلا لوجب مع الاحتمال أيضا ، وهو باطل قطعا مناف لفائدة التحديد بالقدر المذكور.

نعم قد يتردد في الظن الذي تطمئن به النفس بل هو علم عرفي من حيث عدم احتمال شمول الخبر لمثله ، ولعله مرادهم كما عساه يشعر به ما ذكروه من التمثيل له بالقرية والحضرة ونحوهما ، فيجب السعي حينئذ وإن زاد على المقدار.

لا يقال : إنه لا إشكال في عدم تحقق الشرط ، وهو إن لم تجدوا في الفرض السابق ، لتوقف صدقه على التطلب والاختبار ، فلم يوجد ، لأنا نقول : إنه بعد أن قامت الأدلة من الخبر والإجماع على وجوب الطلب غلوة أو غلوتين كان المراد من الآية فان لم تجدوا فيهما ، ولا ريب في صدق عدم الوجدان فيهما وإن ظن في غيرهما بل وإن علم ، لكنه خرج بما خرج من إجماع أو غيره ، وإلا لو أريد صدق عدم الوجدان بالنظر إلى جميع الأمكنة لوجب الطلب حينئذ مع الاحتمال ، وهو باطل قطعا لما عرفت.

وكذا ما يقال : إن المراد صدق إطلاق عدم الوجدان من غير تقدير للغلوة والغلوتين ولا غيرهما ، إذ ليست بدون ذكر المتعلق من المجملات ولا ترجع الى التعميم السابق‌

٨٢

أيضا ، ولا يصدق هذا الإطلاق إلا باختبار مظان الماء ولو زاد على النصاب دون ما احتمل ، وبه يفترق عن التعميم السابق. لأنا نقول ـ بعد تسليم تحقق مصداق للمطلق غير التعميم السابق ، وتسليم توقفه على اختبار المظان كلها ـ : لا نسلم أن شرط التيمم هو مصداق هذا المطلق بعد قيام الأدلة على الغلوة والغلوتين ، فهو من قبيل المقيد بها والكاشف للمراد بها. نعم قد يتم ذلك بالنسبة للمحال التي ليست من جهة الضرب في الأرض ، كحدوث مجي‌ء قافلة أو شخص أو نحو ذلك ، فنوجب اختبار أمثالها كما صرح به في المنتهى والذكرى مع احتمال وجود الماء فيها فضلا عن الظن.

والحاصل ان وجوب تطلب الماء في الضرب في الأرض أقصاه النصاب المذكور ، وأما في غيره كالقافلة فصدق إطلاق عدم الوجدان. نعم قد يقال : إن التحديد بالنصاب المذكور مبني على التسامح العرفي لا التحقيقي ، بحيث لو ظن وجود الماء مثلا بما يقرب من منتهاه جدا لم يجب الاختبار والطلب ، ولعله لذا حكي عن العلامة في نهاية الأحكام التصريح بوجوبه حينئذ ، بل عن المنتهى ذلك أيضا لو توهم ، ولعله يريد الظن الضعيف ، فتأمل.

ثم انه صرح جماعة من الأصحاب منهم المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى بأنه لو طلب الماء قبل الوقت فلم يجده لم يعتد به ووجب إعادته ، إلا أن يعلم استمرار العدم الأول ، ولعله لظاهر ما دل على وجوبه من الإجماعات السابقة وغيرها ، وهو لا يتحقق إلا بعد الوقت ، لعدم وجوبه قبله ولتوقف صدق عدم الوجدان عليه ، سيما بعد ظهور الآية الدالة على اشتراطه في إرادة عدم الوجدان عند إرادة التيمم للصلاة ، وعند القيام إليها ، وفي زمان صحة التيمم ، ولخبر زرارة (١) المتقدم آنفا ، ولأنه لو اكتفي به قبل الوقت لصح الاكتفاء به مرة واحدة للأيام‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

٨٣

المتعددة ، وهو معلوم البطلان ، ولأن المنساق إلى الذهن من الأدلة إرادة الطلب عند الحاجة إلى الماء.

فلا وجه للتمسك للاجتزاء به بإطلاق خبر السكوني المتقدم ، سيما بعد إمكان دعوى انصرافه إلى المتعارف من أفراد الطلب ، وهو بعد دخول الوقت ، وكذا التمسك باستصحاب عدم الوجدان الثابت قبل الوقت ، وعدم الماء كذلك ، إذ هو ـ بعد تسليم أن مثله يثبت مثله من الموضوعات العرفية أي التي يرجع في صدقها إلى العرف ، وتسليم الاكتفاء باستصحاب عدم الماء في تحقق شرط التيمم الذي هو عدم الوجدان ، وهو غير عدم الماء ـ أنه لا يعارض ما ذكرنا من ظهور الأدلة في شرطية الطلب أن يكون بعد الوقت ، اللهم إلا أن يمنع ، وفيه ما عرفت.

لكن صرح في الذكرى بعد ذلك بالاكتفاء بالطلب مرة في الصلوات إذا ظن الفقد بالأول مع اتحاد المكان ، وهو قد يوهم المنافاة لما ذكرنا في الجملة من عدم الالتفات إلى الاستصحاب وغيره ، سيما إذا أريد بالصلوات في كلامه ذوات الأوقات المختلفة كالمغرب بالنسبة للظهرين ، إذ هو بالنسبة إليها طلب قبل الوقت.

وكذا ما في جامع المقاصد حيث اكتفى بالطلب مرة لصلاة إذا حضرت صلاة أخرى مع الظن بالفقد الأول أيضا ، وأوضح منهما ما في التحرير حيث قال : « ولو دخل عليه وقت صلاة أخرى وقد طلب في الأولى ففي وجوب الطلب ثانيا إشكال ، أقربه عدم الوجوب ، ولو انتقل عن ذلك المكان وجب إعادة الطلب » انتهى.

اللهم الا أن يحمل ذلك منهم على الفرق بين الطلب في وقت صلاة وعدمه ، فيجتزي بالأول ولو في صلاة أخرى لم يدخل وقتها ، وهو موقوف على دليل الفرق ، وليس بواضح ، أو يحمل الصلاة في كلامهم على نحو الظهرين والعشاءين مما اشتركا في وقت واحد ، فإنه يجتزي به حينئذ للاستصحاب ، وإطلاق خبر السكوني وغيرهما لا المغرب والظهر مثلا.

٨٤

وفيه انه مبني أيضا على عدم وجوب تجديد الطلب فيما لو فرق بين الصلاتين ، مع نقضه لتيممه السابق بحدث مثلا وتجويزه تجدد ماء ، وهو لا يخلو من تأمل يظهر مما تقدم ، ولعله لذا قال في المنتهى : إنه لو طلب فلم يجده وصلى متيمما ثم حضرت الصلاة الثانية ففي وجوب إعادة الطلب نظر ، أقربه الوجوب إن أراد بالصلاة الثانية ذلك من حيث تعارف التفريق ، والا كان شاهدا على سابقه ، أو يحمل كلامهم على إرادة ما لو طلب في الوقت لصلاة فتيمم وصلى ثم حضر وقت صلاة أخرى ولما ينتقض تيممه وقلنا بجواز دخوله فيها بذلك التيمم ، فإنه لا يحتاج إلى الطلب حينئذ لاستصحاب صحة تيممه ، إذ أقصى ما دلت الأدلة على اشتراطه بالنسبة لابتداء التيمم لا لاستمرار صحته ، وهو لا يخلو من نظر وتأمل.

فالأحوط إن لم يكن أولى تجديد الطلب عند كل صلاة احتمل احتمالا معتدا به تجدد الماء عندها حتى في نحو الظهرين مع التفريق ، بل ومع الجمع إذا كان كذلك ، بل والصلاة الواحدة إذا فرق بينها وبين التيمم ليتحقق الاضطرار وعدم الوجدان ، نعم هل يحتاج إلى تجديد تيمم بعد الطلب أو يكتفي بالأول؟ وجهان ، كل ذا إن لم ينتقل عن ذلك المكان ، وإلاوجب الطلب قطعا ، فتأمل جيدا.

( ولو أخل بـ ) ما وجب عليه من الطلب الذي منه الضرب في الأرض وتيمم وصلى مع سعة الوقت بطلا قطعا وإجماعا منقولا ان لم يكن محصلا ، لما عرفت سابقا من الأدلة الدالة على اشتراط صحة التيمم به ، ولا فرق في ذلك بين أن يصادف عدم الماء بعد الطلب وعدمه ، كما أنه لا فرق فيه بين العالم والجاهل والناسي وغيرهم ، قضاء للشرطية السابقة ، ولا بين وقوع نية التقرب به ان تصور ذلك وعدمه ، إذ ليس هو من الشرائط التي يكفي فيها مصادفة الواقع ، وانما يحتاج المكلف إلى إحرازها لإيقاع نية التقرب حتى يصح من الغافل ونحوه ، فما عساه يظهر من بعض فروع التحرير‌

٨٥

من الحكم بالصحة لو صادف عدم الماء ليس في محله ، مع احتمال إرادته ما ليس نحن فيه فلاحظ وتأمل.

نعم لو أخل بالطلب حتى ضاق الوقت أخطأ لتقصيره في الطلب الواجب عليه وصح تيممه وصلاته على الأظهر الأشهر بين الأصحاب ، بل في المدارك أنه المشهور ، وعن الروض نسبته إلى فتوى الأصحاب لسقوطه عند الضيق للأصل ، والعمومات الدالة (١) على عدم سقوط الصلاة بحال ، مع عدم تناول ما دل على شرطيته لمثله ، فيكون حينئذ كما لو لم يخل ، وعصيانه لا يوجبه عليه ، لصدق عدم الوجدان أيضا ، خصوصا إن أريد به عدم التمكن ، ولإطلاق بدلية التراب ، و‌قول الصادق عليه‌السلام في صحيح زرارة أو حسنه السابق (٢) : « فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصل » ‌وفحوى ما تسمعه من صحة التيمم لغير المتمكن من استعمال الماء مع وجوده عنده لضيق الوقت إن قلنا به ، خلافا للمحكي عن ظاهر الخلاف والمبسوط والنهاية ، حيث أطلق عدم الصحة مع الإخلال ، مع عدم ثبوت ذلك عن الثاني ، واحتمال الجميع السعة ، بل لعله ظاهر الأول كما لا يخفى على من لاحظه ، ويرشد اليه دعواه الإجماع عليه فيه ، كل ذا مع عدم وضوح دليل له سوى اقتضاء شرطية الطلب ذلك. وعدم صدق الفاقد ، وهما ممنوعان.

ولا قضاء عليه بعد ذلك حتى لو وجد الماء فيما أخل بالطلب فيه وفاقا لصريح مجمع البرهان والمدارك ، وكذا ظاهر المصنف هنا ، وإن فرض المسألة في خصوص من أخل بالضرب ، لاقتضاء الأمر الاجزاء ، وعدم صدق اسم الفوات عليه حتى يشمله الأمر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١ و ٢ و ٦ و ٧ و ٨ و ١١ من أبواب وجوب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

٨٦

الجديد بالقضاء ، ولاقتضاء ما سمعته من الأدلة السابقة أنه كالفاقد غير المفرط بالطلب وان أثم بترك الطلب.

وخلافا للذكرى وجامع المقاصد والمسالك ، فأوجبوا الإعادة مع وجدان الماء في محل الطلب ، بل وللمصنف فيما يأتي ، والعلامة في القواعد وان اقتصر على ما لو وجد الماء في رحله أو عند أصحابه ، كما عن المبسوط والخلاف والإصباح وان اقتصر فيها على الرحل ، لكن قد سمعت أن المحكي عن ظاهر الأولين عدم صحة التيمم فيما نحن فيه ، فتأمل. وللمنتهى فيما لو نسي الماء في رحله أو موضع يمكنه استعماله فيه وتيمم وصلى ، قال فيه : « فان كان قد اجتهد ولم يظفر به لخفائه أو لظنه انه ليس معه ماء صحت صلاته ، وإن كان قد فرط في الطلب أعاد ، قاله علماؤنا » انتهى. وقال في جملة فروع له أيضا :لو صلى فبان الماء بقربه اما في بئر أو في مصنع أو غيرهما ، فان كان خفيا وطلب ولم يظفر فلا إعادة وان لم يطلب أعاده ، وللمعتبر حيث قال : « ولو كان بقربه بئر لم يرها فمع الاجتهاد تيمم ولا إعادة ، ومع التفريط يعيد » انتهى. لحمل الإعادة في كلام الجميع على ارادة القضاء كما هو مقتضى فرض المسألة في تارك الطلب الذي لا يصح منه الفعل الا عند الضيق ، وإن أمكن فرض ذلك بالفعل بظن الضيق ثم انكشف السعة الا أنه بعيد ، ولعله لمكان هذه العبارات ونحوها نسب في الحدائق وجوب القضاء فيما نحن فيه الى المشهور ، وفي جامع المقاصد الى أكثر الأصحاب.

وكيف كان فلم نعرف لهم دليلا على ذلك سوى ما ذكره غير واحد من‌خبر أبي بصير (١) قال : « سألته عن رجل كان في سفر وكان معه ماء فنسيه وتيمم وصلى ثم ذكر أن معه ماء قبل أن يخرج الوقت ، قال : عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة » ‌وهو ـ مع الغض عما في سنده وإضماره وكونه في الوقت ـ خارج عما نحن فيه ، واحتمال دفع ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٥.

٨٧

كله بالانجبار بالشهرة وظاهر إجماع المنتهى السابق فيه مع عدم صلاحيتها لدفع بعض ما عرفت أنه لا شهرة محققة على ما نحن فيه ، بل ربما يقال خصوصا في عبارتي المنتهى والمعتبر إرادة الإعادة في الوقت أو الأعم فيما لو نسي الماء وترك الطلب لاعتقاد عدم الماء فتيمم وصلى ثم بان الخلاف ، وهو غير ما نحن فيه ، ولعل المتجه فيها ذلك أيضا للخبر السابق ، ولأنه كنسيان الطهارة ، وللبراءة اليقينية ، ولعدم اقتضاء الأمر الاجزاء في مثله كما مر تحقيقه غير مرة ، إذ هو من باب تخيل الأمر لا الأمر ، وللتقصير في النسيان ، ولأنه واجد للماء واقعا ، نعم لو طلب فلم يجد قد يتجه حينئذ عدم الإعادة ، للأمر الخصوصي بالتيمم حينئذ في ظاهر الأدلة.

ومنه يعلم الحكم في نظائره من كل طالب وأخطأ في تحصيل الماء ، خلافا للمحكي عن المرتضى ، فلا يعيد الناسي مطلقا في الوقت وخارجه طلب أو لم يطلب مع اعتقاده عدم الماء ، وكأنه لرفع القلم ، وعدم القدرة على زواله ، وصدق عدم الوجدان ، لأن المراد به في اعتقاده لا واقعا ، ولذا لا يعيد مع الطلب وان لم يصادف الواقع ، وعدم شمول دليل القضاء له ، وهو لا يخلو من وجه سيما في القضاء ، وان كان الأوجه الأول ، وربما يظهر للمتأمل في كلامهم شواهد على ما ذكرنا من إرادة هذه المسألة لا ما نحن فيه من المسألة السابقة ، كما أنه يظهر له كمال التشويش في كلام جملة من المتأخرين كالمحقق الثاني وكاشف اللثام وغيرهم ، بل وخللا في النقل أيضا ، فلاحظ وتدبر.

ومن التأمل فيما قدمنا يظهر لك الحال في كل من نقل تكليفه من الاختياري إلى الاضطراري ، كمن أراق الماء في الوقت ، فإنه يتيمم ويصلي وإن عصى بذلك مع علم عدم الماء حينئذ ، أو ظنه بل واحتماله لوجوب الحفظ عليه من باب المقدمة ، وأولويته من إيجاب الطلب ، وظهور الأدلة في الاهتمام بالنسبة إلى ذلك كما يومي اليه شراؤه بما‌

٨٨

يتمكن ونحوه ، فما عساه يظهر من المعتبر من جواز الإراقة ضعيف جدا ، كصريح جامع المقاصد فيما لو ظن إدراك الماء ، بل لعل الإجماع على خلافه ، كما عساه يشعر به نسبته إلى الأصحاب في الحدائق.

واحتمال التمسك له ـ بعد الأصل بأن أقصى ما يستفاد وجوب كلي الصلاة في أول الوقت ، وكيفية أدائها يتبع حاله وقت الأداء واجد الماء أو فاقده ، وذلك لا يقتضي إيجاب حفظ الحالة الأولى التي قارنت مبدأ التكليف ، ولذا كان له السفر بعد الوقت ، ونقل تكليفه من الإتمام والقصر ، بل تخييره في أوقات الصلاة يقتضي عكسها ـ ضعيف جدا ، إذ لا ريب في إيجاب الصلاة بماء عليه باعتبار وجدانه له ، وان كان مخيرا في إيقاعها كذلك في سائر أوقات السعة ، لا أنه مخير في كلي الصلاة ، والقياس على السفر يدفعه معلومية إباحته ، فمنه ومن التخيير في الإيقاع ينتقل الى جواز ذلك ، بخلاف ما نحن فيه.

ومن هنا لم يقع الاشكال فيه من حيث ذلك وان وقع فيه من حيث انتقال فرضه الى القصر حينئذ ، لعموم الأدلة وعدمه لاستصحاب ما كلف به أولا ، فتأمل جيدا. على أنه لو سلم عدم اقتضاء القواعد الحرمة فيما نحن فيه فلا ينبغي الإشكال هنا بعد ظهور الإجماع المتقدم والأدلة فيه. نعم هو لا ينافي الانتقال الى التيمم لشمول أدلته.

ومنه يعلم حينئذ أنه لا وجه للإعادة بعد التمكن من الماء وفاقا للمصنف في المعتبر والهندي في كشف اللثام وغيرهما ، بل قد يشعر عبارة الأول بعدم الخلاف فيه ، وأولى منها القضاء ، إذ هو بعد عصيانه يساوي غير العاصي في شمول أدلة التيمم ، فكما لا إعادة هناك لاقتضاء الأمر الإجزاء فكذلك هنا ، فما في القواعد وغيرها من الإعادة عند التمكن ضعيف جدا ، خصوصا ان أراد الأعم من القضاء ، ومجرد وجوب ذلك سابقا عليه لا يقتضيه.

٨٩

نعم قد يحتمل القول بعدم مشروعية التيمم من حيث ظهور أدلته في غيره ، فيعاقب حينئذ على الصلاة وإن لم تقع منه لسوء اختياره ، فإذا وجد الماء أعاد أو قضى ، لا أنه يشرع له التيمم ثم يجب عليه الإعادة بعد التمكن ، اللهم إلا أن يريد بوجوبه من المقدمة للفراغ اليقيني لا من حيث شمول أدلة التيمم له ، أي أنه لم يتضح له من الأدلة حكم هذا الموضوع أنه من الفاقد ، فيتيمم أولا فيفعلهما حينئذ معا تحصيلا للفراغ اليقيني ، ولا ريب أنه أحوط وإن كان قد ينظر فيه بعد التسليم بأن وجوب القضاء لا يحققه إلا الأمر الجديد لا احتمال الشغل ، فمن جاء بالصلاة متيمما لم يحصل له اليقين بالفوات ، إلا أنه يمكن دفعه ، وكيف كان فالأقوى ما سمعت.

ثم ان الظاهر اختصاص الإعادة بالصلاة التي أريق الماء في وقتها لا كل ما يمكن تأديته بذلك الماء وان لم يدخل وقتها ، بل لا يبعد اختصاص الظهر لو أراقه في وقتها المختص به دون العصر ، وان احتمل بعضهم بناء على دخوله بمجرد انتهاء وقت الظهر ، لكن الأول هو مقتضى الأدلة السابقة ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا أراقه بعد الوقت ، أما قبله فيصلي بتيممه المتجدد إجماعا كما في المنتهى ، ولا يعيد قطعا ، كما أنه لا اثم عليه كذلك أيضا حتى لو علم عدم الماء فيه للأصل ، وعدم وجوب مقدمة الواجب الموسع قبله ، سيما فيما لها بدل شرعي ، خلافا للأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح ، فأوجبه أيضا مع احتمال عدم الماء فضلا عن غيره ، معللا له باستصحاب البقاء الى وقت الصلاة الواجبة ، وكونها من الواجبات المطلقة اللازمة الصدور من المكلف على أي تقدير وأنها أشد الفرائض ، وهما كما ترى ، وكذا قياسه على مقدمات الحج ، للفرق الواضح بينه وبين ما نحن فيه مما يسع الوقت له ولمقدماته ، ومن هنا لم يتحقق الوجوب إلا مع مضي مقدار الطهارة مع الصلاة ، نعم ربما يقال :انه يظهر من الأدلة زيادة الاهتمام بالصلاة ومقدماتها ورفع موانعها كما يشعر به النهي‌

٩٠

عن السفر إلى أرض لا ماء فيها وأنه هلاك الدين ، لكن وصول ذلك الى حد الوجوب ممنوع ، وعليه فيجب الطهارة حينئذ لو مر بماء قبل الوقت مع احتمال عدمه فيه ، بل وكذا طلبه قبله مع احتماله عدم التيسر له فيه ، وكذا حفظ وضوئه عن الحدث لو كان متوضئا ونحو ذلك مما قد يقطع بعدمه ، بل يشمله ما حكي من الإجماع على عدم وجوب الوضوء قبل دخول الوقت كظاهر الأخبار (١) المعلقة له عليه ، لكن قد يقوى في النفس وجوب حفظ ما تفوت الصلاة بفواته وإن كان قبل الوقت حينئذ كالطهورين مثلا ، كما يشعر به حرمة النوم لمن علم فوات الفريضة به ، إما لزيادة الاهتمام بأمر الصلاة ، أو يدعى ذلك في كل واجب موقت ، أو يفرق بين ما يجعل وسيلة واحتيالا لإسقاط الواجب من الصلاة وغيرها وعدمه ، وكيف كان فهو غير ما نحن فيه ، فتأمل جيدا.

وربما يظهر لك من التأمل فيما ذكرنا سابقا وجوب التيمم على واجد الماء الذي لا يتمكن من استعماله مخافة فوات الوقت حتى إدراك مقدار ركعة منه وإن كان ذلك بتقصير وتفريط منه ، وفاقا للمنتهى والتذكرة والمختلف والروضة وغيرها ، بل في الرياض أنه الأشهر ، لعموم المنزلة ، وأنه أحد الطهورين ، واتحاد رب الأرض والماء مع عدم سقوط الصلاة عنه ، وظهور مساواته لما خاف فوات الوقت بالسعي اليه أو بإتمام السعي إليه ، كظهور أصل مشروعية التيمم للمحافظة على الصلاة في وقتها ، فهو أهم في نظر الشارع من المحافظة على الطهارة المائية كغيرها من الشرائط من تحصيل الساتر ونحوه ، فإنها كلها تسقط عند الضيق ، ولعله لذا لم يعد الضيق في مسوغات التيمم ، ولما يشعر به الأمر في الموثق (٢) وخبر السكوني (٣) بالتيمم عند خوف الزحام يوم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الوضوء ـ الحديث ١ ولم نجد غيره يدل على المطلب.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

٩١

الجمعة أو عرفة كما سيأتي التعرض له في الأحكام ، ولظهور الاتفاق على مشروعيته لصلاة الجنازة مع خوف فواتها ، ولا فرق بينها وبين ما نحن فيه إلا بالوجوب والندب ، وهو لا يصلح فارقا ، وتمام الكلام عند تعرض المصنف له في الأحكام أيضا.

وخلافا للمعتبر وجامع المقاصد وكشف اللثام والمدارك لثبوت اشتراطها بالطهارة المائية مع عدم ثبوت مسوغية ضيق الوقت للتيمم ، لتعليقه على عدم الوجدان الذي لا يتحقق صدقه بذلك ، فحينئذ يتطهر ويقضي ، ولذا يصدق عليه اسم الواجد لغة وعرفا ، وبذلك يفرق بينه وبين من أخل بالطلب حتى ضاق ، وفيه ـ بعد تسليم عدم إرادة التمكن منه مع شهادة أمور كثيرة عليه ـ أنه لا دلالة فيه على اختصاص المسوغ به إلا بالمفهوم الذي لا يظهر شموله لمثل ما نحن فيه ، بل قد يظهر منه خلافه ، وهو لا يعارض ما عرفته سابقا ، لكن ومع ذلك كله فالاحتياط بالتيمم والصلاة ثم الطهارة والقضاء سيما مع التقصير منه والتفريط لا ينبغي تركه ، بل ربما أوجبه بعضهم هنا مقدمة لفراغ اليقيني ، إلا أنه ممنوع لما عرفت في نظائره من اقتضاء الأمر الاجزاء ، وبدلية التراب وغيرهما.

ثم ان المعتبر في الضيق المسوغ للتيمم عدم التمكن مع استعمال الماء من إدراك الصلاة ولو بإدراك ركعة من الوقت ، أو يكفي فيه خروج بعض الصلاة عن الوقت حتى التسليم بناء على وجوبه فيها ، وجهان ، وربما يجري مثله في سائر الشرائط غير الطهارة وإن أمكن الفرق بالبدلية هنا شرعا دون غيرها ، فيتجه الثاني فيما نحن فيه ، والأول في غيره ، فتأمل.

وعلى كل حال ف لا فرق فيما ذكرنا من وجوب التيمم بين عدم الماء أصلا ووجود ماء لا يكفيه لطهارته وضوء أو غسلا ، إذ هو بمنزلة العدم ، لعدم مشروعية تبعيض الطهارة ولا تلفيقها من الماء والتراب ، فيشمله حينئذ قوله تعالى (١)

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٩.

٩٢

( فَلَمْ تَجِدُوا ) لتبادر إرادة ما يكفي ، كقوله تعالى (١) في كفارة اليمين ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ) لعدم وجوب إطعام البعض ، مضافا إلى الأمر في صريح الأخبار المستفيضة ، وفيها الصحيح وغيره بالتيمم للجنب وإن كان عنده من الماء ما لا يكفيه ، كخبري الحلبي (٢) والحسين بن أبي العلاء (٣) وغيرهما (٤) وإلى اقتضاء قاعدة انتفاء الكل بانتفاء الجزء.

و‌قوله عليه‌السلام (٥) : « لا يسقط الميسور » ‌مع إجماله في نفسه لا يتمسك به من دون جابر له ، فكيف مع وجود ما يوهنه ، واحتمال تعميم ما دل (٦) على تنزيل التراب منزلة الماء في الأبعاض أيضا يدفعه ظهور تلك الأدلة ، بل هو صريح بعضها في غيره.

كل ذا مع أنه لا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل في كشف اللثام الاتفاق على وجوب التيمم كما في المنتهى ، وعن التذكرة نسبته إلى علمائنا مع التصريح في معقد ذلك فيها بعدم الفرق بين الحدث الأصغر والجنب ، سوى ما في الروض « ربما حكي عن الشيخ في بعض أقواله التبعيض ، وهو قول بعض العامة » انتهى. مع انا لم نجد ذلك فيما حضرني من كتبه كالمبسوط والخلاف ، بل الموجود فيهما خلافه ، بل في الأخير الإجماع على التيمم للمجنب الذي كان عنده ماء لا يكفيه لغسله وكذا الوضوء ، وسوى ما نقل عن العلامة في نهاية الأحكام أنه احتمل في الجنب صرف الماء إلى بعض أعضائه معللا ذلك باحتمال وجود ما يكمله ، والموالاة فيه ليست بشرط ، والظاهر أنه ليس خلافا فيما‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٩١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب التيمم.

(٥) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

٩٣

نحن فيه من إيجاب التيمم ، وعدم الاجتزاء بغسل البعض والتلفيق من الماء والتراب ، بل هو واجب آخر خارج عن ذلك من حيث احتماله لوجود ما يكمله ، مع أنه أيضا ممنوع ، لعدم رجوعه إلى أصل يعول عليه ، ولو علله بإمكان رفع بعض الجنابة دون بعض لمكان توزيعها على البدن ، كما يشعر به‌قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « تحت كل شعرة جنابة » ‌وغيره مع وجوب تخفيف الحدث كالخبث لكان أوجه وإن كان كل من مقدمتيه ممنوعا أيضا كما هو واضح.

فظهر لك من ذلك كله أنه لا ينبغي الإشكال في الرجوع الى التيمم وعدم الالتفات الى ذلك الماء من غير فرق بين الأصغر وغيره ، ولا بين سائر أنواع الحدث الأكبر إلا في إيجاب الوضوء به لو كان يكفيه في حدث غير الجنابة كالحيض والمس ، لما قدمناه في باب الحيض أنه يوجب الطهارتين ، فتعذر إحداهما لا يسقط الأخرى بخلاف الجنابة ، ومن هنا نص في خبر محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام (٢) على الأمر بالتيمم والنهي عن الوضوء في المجنب في السفر ، ومعه ماء قدر ما يتوضأ ، كظاهر غيره أيضا.

ولو كان الماء يكفي للغسل أو الوضوء في غير الجنابة احتمل تقديم الغسل والتيمم بدل الوضوء ، لكونه أهم في نظر الشارع ، والتخيير ، والأول أحوط.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا من عدم مشروعية التبعيض المذكور بين أن يكون منشأه قلة الماء أو غيره كمرض بعض أعضاء الطهارة مع صحة الباقي مرضا لا يدخله تحت الجبيرة ولواحقها وكذا لو كان عليها نجاسة لا يستطيع غسلها لألم ونحوه ، كما صرح بذلك جماعة من الأصحاب منهم الشيخ في مبسوطة وخلافه ، والمصنف في المعتبر ، والعلامة في المنتهى وغيرهم ، بل ينتقل حينئذ إلى التيمم ، وكأنه لعدم الالتفات‌

__________________

(١) كنز العمال ـ ج ـ ٥ ص ٩٢ ـ الرقم ـ ١٩٦٦ و ١٩٧١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٤.

٩٤

منهم هنا إلى عدم سقوط الميسور بالمعسور ، و‌قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم » ‌إما لظهور الأدلة في خصوص الطهارات في عدم اعتبار ذلك ، كما يشعر به أمر الجنب الواجد لبعض الماء بالتيمم وغيره ، واما لأنهم عثروا على ما يصرف دلالتها عن شمول ذلك وان كان ظاهرها الآن التناول ، كما رواه في‌الصافي (٢) عن المجمع عن أمير المؤمنين (ع) في تفسير قوله تعالى (٣) ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) ثم قال : « خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ان الله كتب عليكم الحج ، فقال عكاشة بن محصن ـ ويروى سراقة بن مالك ـ : أفي كل عام يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا فقال رسول الله (ص) : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم كفرتم. فاتركوني ما تركتم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شي‌ء فاجتنبوه » ‌وهو ظاهر بل صريح في غير ما نحن فيه من الإتيان ببعض أجزاء المركب لو تعذر الباقي ، مع منافاته لقاعدة انتفاء المركب بانتفاء بعض أجزائه ، لكن ومع ذلك فقد ذكر الشيخ في المبسوط والخلاف فيما نحن فيه أن الأحوط غسل الأعضاء الصحيحة ثم التيمم ليكون مؤديا صلاته بيقين ، وهو لا يخلو من تأمل إن أراد ذلك من حيث وجود المخالف فيه منا ، نعم له وجه إن أراد من حيث احتماله في نفسه ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

__________________

(١) سنن البيهقي ـ ج ـ ١ ـ ص ٢١٥ ولكن نصه‌« ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم » ‌ورواه أيضا في غوالي اللئالي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعين ما ذكر في الجواهر وفي تفسير الصافي ـ سورة المائدة ـ الآية ١٠١.

(٢) تفسير الصافي ـ سورة المائدة ـ الآية ١٠١.

(٣) سورة المائدة ـ الآية ١٠١.

٩٥

( السبب الثاني عدم الوصلة إليه )

أي إلى الماء بلا خلاف أجده ، بل في ظاهر المعتبر أن عليه إجماع أهل العلم ، إما لتوقفه على ثمن تعذر عليه فيتيمم إجماعا كما في التذكرة ، أو لفقد الآلة التي يتوصل بها الى الماء ، كما إذا كان على شفير بئر أو نهر ولم يتمكن من الوصول الى الماء إلا بمشقة أو تعزير النفس فيباح له التيمم عند علمائنا أجمع كما في المنتهى ، و‌قال الصادق عليه‌السلام لما سأله ابن أبي العلاء (١) عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو : « ليس عليه أن ينزل الركية ، إن رب الماء هو رب الأرض فليتيمم » ‌ونحوه قوله عليه‌السلام أيضا في خبر الحلبي (٢) و‌قال عليه‌السلام أيضا في صحيح ابن أبي يعفور وعنبسة (٣) : « إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلوا ولا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد الطيب ، فان رب الماء رب الصعيد ، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم » ‌أو للعجز عن الحركة المحتاج إليها في تحصيله لكبر أو مرض أو ضعف قوة ولم يجد معاونا ولو بأجرة مقدورة ، أو يكون موجودا في محل يخاف من السعي اليه على نفس أو طرف أو مال محترم أو بضع أو عرض أو ذهاب عقل ولو بمجرد الجبن ، لقبح التكليف بما لا يطاق ، ونفي العسر والحرج والضرر في الدين ، مع عموم بدلية التراب عن الماء ، وصدق عدم الوجدان وربما يشير الى بعض ما ذكرنا مضافا الى الأخبار السابقة أيضا‌خبر السكوني (٤) وعن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام أنه « سئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة لا يستطيع الخروج من المسجد من كثرة الناس ، قال : يتيمم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

٩٦

ويصلي معهم ، ويعيد إذا انصرف » ‌و‌داود الرقي (١) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكون في السفر وتحضر الصلاة وليس معي ماء ويقال : إن الماء قريب منا ، أفأطلب الماء وأنا في وقت يمينا وشمالا؟ قال : لا تطلب الماء ولكن تيمم ، فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك فتضل ويأكلك السبع » ‌و‌يعقوب بن سالم (٢) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك ، قال : لا آمره أن يغرر بنفسه. فيعرض له لص أو سبع » ‌الى غير ذلك.

وظهر لك حينئذ مما قدمنا أن من عدم الثمن أو بعض ما سمعت فهو كمن عدم الماء في وجوب التيمم وكذا إن وجده بثمن يضر به في الحال كما هو فتوى فضلائنا على ما في المعتبر ، والظاهر اتفاق الأصحاب عليه كما في شرح المفاتيح من غير فرق في ذلك بين الحال والمؤجل ، ومنه ما لو كان محتاجا له للنفقة ، فإنه لم يجب عليه الشراء قولا واحدا كما في المنتهى ، ومنه أيضا الإجحاف بما له أي استئصاله أو كاستئصاله ، واقتصر عليه أي الإجحاف في الغنية والوسيلة وعن الكافي من غير تعرض للضرر ، بل لعله بعض معقد إجماع الأول ، كما أنه لم يعرف فيه مخالفا في المنتهى.

فإطلاق ابن سعيد في الجامع كما عن المرتضى إيجاب الشراء وإن كثر ثمنه منزل على غير ما ذكرنا قطعا ، سيما مع خوف التلف كما يشعر به جواز التيمم مع خوف العطش ، فالثمن أولى ، فلا خلاف حينئذ ، وإن كان قد يظهر من المصنف في النافع والمعتبر ذلك ، حيث جعلهما قولين ، بل مال إليه في الحدائق ، فأوجب الشراء مطلقا إلا إذا خاف على نفسه العطب ، تمسكا بإطلاق ما دل على شرائه بالثمن وإن كثر من الأخبار الآتية ، وهو ـ مع مخالفته للإجماع في الجملة ، وعدم تبادر مثل ذلك من الأخبار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

٩٧

التي ادعاها ـ مناف لنفي الضرر والعسر والحرج في الدين ، سيما إذا استلزم ذلك سؤاله وذلة ، ولسهولة الملة وسماحتها ، مع عموم بدلية التراب عن الماء ، واستقراء أمثال هذه الموارد في الواجبات الأصلية فضلا عما كان وجوبه من باب المقدمة وله بدل.

فبذلك كله يخرج عن تلك الإطلاقات لو سلم تناولها ، واحتمال العكس بعد تسليم قبول هذه العمومات التخصيص لا وجه له ، سيما بعد رجحان هذه بعمل الأصحاب وغيره.

نعم قد يناقش في شمول تلك العمومات لمثل المقام بمنع كونه عسرا وحرجا ، وإلا لم يقع نظيره في الشرع من الجهاد وبذل المال في الحج وغير ذلك ، وبأن المراد من حديث الضرار النهي عن أن يضر أحد أحدا لا ما نحن فيه ، ويدفعه منع عدم الشمول ، لأن المراد بالحرج المشقة التي لا تتحمل عادة وإن كانت دون الطاقة ، على أن استقراء موارد سقوط الطهارة المائية يشعر بإقامة الشارع التراب مقامها بأقل من ذلك كما لا يخفى.

فلعل العسر والحرج يختلف بالنسبة للتكاليف باعتبار المصالح المترتبة عليها ، فمنها ما لا عسر ولا حرج في بذل النفوس له فضلا عن الأموال كالجهاد لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي يهون بذل النفوس لها ، ومنها ما لا يكون كذلك مثل ما نحن فيه ، كما يعطيه فحاوي الأدلة ، للأمر بتركه في كثير من مظان أقل الضرر.

نعم قد يتأمل لما ذكره ولباب المقدمة في بعض أفراد الضرر الذي يتحمل مثله عادة ، وإلا فمطلق الشراء بالثمن الكثير الزائد على ثمن المثل ضرر ، كما ينبئ عنه استدلال الأصحاب في أبواب المعاملات على أمثاله بنفي الضرر ونحوه ، ومن هنا لم يعتبر المضرة اليسيرة في المهذب وظاهر مجمع البرهان على ما حكي عنهما.

كما انه قد يتأمل فيما ذكره المصنف في المعتبر دليلا للحكم السابق غير ما قدمناه ، وتبعه غيره من أنه إذا لم يجب السعي وتعريض المال للتلف مع خوف أخذ اللص ما يجحف به وساغ التيمم دفعا للضرر فهكذا هنا ، بالفرق بينه وبين ما نحن فيه ، للنص فيه‌

٩٨

هناك وعدمه هنا ، ولذا لم يعتبر في خوف اللص الضرر والإجحاف ، وبما في أخذ اللص ونحوه من الطرق التي لم تعد أعواضا مما لا يحتمل عادة ، بل قد يعد مثله إضاعة المال المنهي عنها ، وبما قيل أيضا إن العوض فيه هنا الثواب بخلافه في اللص ، لكن في الذكرى أنه خيال ضعيف ، لأنه إذا ترك المال لابتغاء الماء دخل في حيز الثواب ، وفيه أنه فرق بين الثوابين ، ولعل مراد المحقق الذي أشرنا إليه سابقا من أن هذا وشبهه مما أمر بالتيمم من جهته يشعر بقيام التراب مقام الماء بأقل من ذلك ، فتأمل جيدا.

والمراد بالحال في المتن وغيره حال المكلف كما هو صريح التذكرة والذكرى وجامع المقاصد وغيرها ، وظاهر إطلاق الضرر في الخلاف ، فيشمل الحال والمتوقع في زمان لا يتجدد فيه ما يندفع به عادة لاشتراكهما في الأدلة السابقة ، واستقراء موارد ما رفع من التكليف للضرر ، وفحوى الأمر بالتيمم عند خوف العطش ، فالثمن الذي هو بدل الماء أولى ، فما يحكى عن صريح المعتبر ـ بل قيل إنه ظاهر المتن من إرادة الزمان الحال لعدم العلم بالبقاء إلى وقته ، ولإمكان حصول مال فيه على تقدير البقاء ، ولانتفاء الضرر ـ ضعيف جدا كدليله ، نعم لو بعد زمان التوقع إلى مرتبة لا يحترز عن مثله في العادات لم يعتبر ، لعدم عد مثله من الضرر ، فتأمل.

هذا كله فيما إذا أضر وأما إن لم يكن مضرا بالحال ولو من حيث الإجحاف لزمه شراؤه إذا كان بثمن المثل اتفاقا محصلا ومنقولا ، لصدق الوجدان وللمقدمة ، بل وكذا لو كان بأضعاف ثمنه المعتاد إجماعا كما في الخلاف ، وفتوى فقهائنا عن المهذب البارع ، بل لعله مندرج أيضا في معقد إجماع الغنية ، وعلى كل حال فهو الحجة ، مضافا إلى صدق الوجدان معه والمقدمة و‌الصحيح (١) قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل احتاج إلى الوضوء للصلاة وهو لا يقدر على الماء فوجد قدر ما يتوضأ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١ مع اختلاف في اللفظ.

٩٩

به بمائة درهم أو بألف درهم وهو واجد لهما يشتري ويتوضأ أو يتيم؟ قال : لا بل يشتري ، قد أصابني مثل هذا فاشتريت وتوضأت ، وما يشترى بذلك مال كثير » ‌و‌خبر الحسين بن طلحة (١) المروي عن تفسير العياشي قال : « سألت عبدا صالحا عن قول الله عز وجل (٢) ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) ما حد ذلك؟ قال : فان لم تجدوا بشراء أو بغير شراء ، قلت : إن وجد قدر وضوئه بمائة ألف أو بألف وكم بلغ قال ذلك على قدر جدته » ‌وما‌عن فخر الإسلام في شرح الإرشاد « ان الصادق عليه‌السلام اشترى وضوءه بماءة دينار » ‌وما عن‌دعائم الإسلام (٣) الى أن قال : « وقالوا عليهم‌السلام : في المسافر يجد الماء بثمن غال أن يشتريه إذا كان واجد الثمن فقد وجده إلا أن يكون في دفعه الثمن ما يخاف منه على نفسه التلف إن عدم والعطب ، فلا يشتري وتيمم بالصعيد ويصلي ».

فما عن ابن الجنيد من عدم إيجاب الشراء إذا كان غاليا ، ولكن أوجب الإعادة إذا وجد الماء ضعيف ، ولعله لأنه ضرر في نفسه ، فيندرج تحت‌قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) : « لا ضرر » ‌إذ المراد به ما كان فيه ذلك في حد ذاته وبالنسبة إلى غالب الناس ، ولسقوط السعي عند الخوف على شي‌ء من ماله ، وهو مدفوع بما عرفت. كما أنه قد عرفت الفرق بينه وبين الخوف بالنص وغيره ، فلا ينبغي الإشكال في وجوب ذلك حينئذ ، كما أنه لا إشكال عندهم بل ولا خلاف ، بل في الحدائق نسبته إلى ظاهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

(٢) سورة النساء ـ الآية ٤٦ وسورة المائدة ـ الآية ٩.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من كتاب الشفعة ـ الحديث ١ والباب ١٢ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٣ و ٤.

١٠٠