جواهر الكلام - ج ٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

للطواف ، وكيف كان فما عن الجعفي من وجوب الغسل لذلك شاذ لا يلتفت اليه.

وغسل دخول الكعبة لقول الصادق عليه‌السلام في خبر سماعة (١) : « وغسل دخول البيت واجب » ‌والمراد تأكد الاستحباب ، وفي‌صحيح ابن سنان (٢) « ودخول الكعبة » ‌و‌قول أحدهما عليهما‌السلام في صحيح ابن مسلم (٣) : « ويوم تدخل البيت » ‌مع ما في الغنية والخلاف من الإجماع عليه معتضدا بما سمعته من الوسيلة أيضا ، ولعل المراد بالكعبة في المتن ما يشمل البلد ، أعني مكة لما في الخلاف من الإجماع عليه فيها أيضا معتضدا بما في الوسيلة مما تقدم ، و‌قول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن سنان (٤) : « ودخول مكة » ‌وفحوى ما دل عليه (٥) في دخول المدينة ، وأما‌خبر الحلبي (٦) « ان الله عز وجل يقول في كتابه (٧) ( أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) فلا ينبغي للعبد أن يدخل مكة إلا وهو طاهر قد غسل عرقه والأذى وتطهر » ‌فيحتمل إرادة البيت من مكة فيه ، وما في كشف اللثام من الإجماع عن الخلاف على عدم استحباب الغسل لذلك لم نجده ، بل الموجود ما حكيناه.

وغسل دخول المدينة‌لصحيح ابن سنان (٨) « ودخول مكة والمدينة ، » ‌و‌حسن معاوية بن عمار عن الرضا عليه‌السلام (٩) « إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حين تدخلها » ‌وإجماع الغنية المعتضد بما سمعت من الوسيلة ، وإطلاق الدليل هنا كإطلاق ما دل عليه بالنسبة إلى دخول مكة عدم الفرق بين الدخول لأداء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ١٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ٣ من كتاب الحج.

(٧) سورة البقرة ـ الآية ١١٩.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ١.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من كتاب المزار ـ الحديث ١ لكن رواه عن الصادق (ع).

٦١

فرض أو نقل أو غيرهما ، فما عن المقنعة من اختصاصه بالأولين ضعيف.

وغسل دخول مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول الباقر عليه‌السلام في خبر ابن مسلم (١) : « وإذا أردت دخول مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ‌وإجماع الغنية المعتضد بما سبق من الوسيلة أيضا ، وفي الموجز كما عن شرحه ونهاية الأحكام زيادة دخول مشاهد الأئمة عليهم‌السلام في الأغسال المكانية بعد أن ذكروا استحبابه للزيارة ، وجعلوه من الغسل للفعل ، وهو أعم من الزيارة إذ يكون لها ولغيرها ، ولم نعرف له شاهدا سيما إذا أريد البلد ، إلا فحوى ثبوته للمدينة ومكة ومسجديهما ، وكذا ما يحكى عن أبي علي من استحبابه لكل مشهد أو مكان شريف ، كقوله ذلك أيضا في الزمان لكل زمان شريف ، ولكل فعل يتقرب به إلى الله ، وغير ذلك ، ولعله لحجية القياس عنده ، فتأمل.

مسائل أربع :الأولى ما يستحب للفعل ومنه المكان إذ المراد الدخول اليه يقدم عليهما لأن المراد وقوع الفعل منه مغتسلا ، وهو مع ظهوره وعدم ظهور الخلاف فيه بل نسب إلى تصريح الأصحاب مصرح به في كثير من الغايات المذكورة في الروايات (٢) لكن قد يناقش فيه بغسل التوبة وقاضي الكسوف وقاتل الوزغ والساعي إلى المصلوب وماس الميت بعد تغسيله ونحو ذلك ، وربما دفع بكونه في الأول للصلاة التي تقع بعدها كما يظهر من المستند ، والثاني للقضاء ، والثالث وما بعده بأن المراد من اللام في قولنا « للفعل » بمعنى الغاية ، ولا ريب في كونها ليست من ذلك ، وفيه أن غسل التوبة لها لا للصلاة كما هو ظاهر الأصحاب وإجماعاتهم ، ونمنع ظهور الخبر السابق في كونه للصلاة وإن وقع الأمر بها فيه بعده كالقاضي للكسوف لأن ذلك انما كان‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة.

٦٢

عقوبة له من حيث تركه ، على أن تسليمه لا يدفع أصل الإشكال ، لتحققه بغيره ، والثالث خلاف ما صرحوا به من كون الغسل فيها للفعل غير فارقين بينها وبين غيرها في ذلك.

ومن هنا ارتكب بعضهم الاستثناء فحكم بتقديم الغسل للفعل إلا في هذه الأمور كآخر فقسم الغسل إلى زماني وغائي ، ويدخل المكاني فيه ، وسببي على خلاف التقسيم المشهور من الزماني والفعلي والمكاني ، والأمر في ذلك كله سهل بعد التسالم على الحكم ، نعم قد يناقش ب‌حسنة معاوية بن عمار السابقة « إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حين تدخلها » ‌بناء على أن الترديد منه (ع) لا من الراوي ، وقد تحمل على إرادة التخيير بين التقديم بفصل وغيره ، كما عساه يشهد له‌قوله عليه‌السلام (١) : « إذا انتهيت إلى الحرم إن شاء الله فاغتسل حين تدخله وإن تقدمت فاغتسل من بئر ميمون أو من فخ أو من منزلك بمكة » ‌الخبر. وأصعب منه المناقشة ب‌خبر ذريح (٢) سألته « عن الغسل في الحرم قبل دخوله أو بعد دخوله ، قال : لا يضرك أي ذلك فعلت ، وان اغتسلت في بيتك حين تنزل بمكة فلا بأس » ‌لكنه قد يحمل على إرادة غسل دخول الكعبة أو المسجد أو غير ذلك ، وعن الشيخين والأكثر تنزيل هذه الأخبار على العذر والاضطرار ، وفيه أنه مبني على جوازه عندهما ولو قضاء ، وهو محل بحث وان ظهر من المحكي عن الذكرى جوازه في سائر أغسال الأفعال الا أنه لا يخلو من نظر ، إذ لو جاز لاقتصر فيه على محل النص ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك انه ليس المراد بالتقديم في الغسل لغايته الاجتزاء به ولو مع الفصل بالزمان الطويل كاليومين والثلاث فصاعدا قطعا ، لظهور الأدلة أو صراحتها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ٢ ـ ١ من كتاب الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ الحديث ٢ ـ ١ من كتاب الحج.

٦٣

بعدمه كلام الأصحاب ، بل ربما يظهر من ملاحظة الأدلة ارادة اتصال عرفي بالغسل والفعل ، فلا يعتبر التعجيل والمقارنة كما لا يجتزى بمطلق التراخي ، نعم ربما يقال بالاكتفاء مع الفصل باليوم كالليل ، فيجتزى بالغسل للزيارة مثلا الفجر ولو وقعت الزيارة قريب المغرب ، وكذا الليل كما عن جماعة التصريح به منهم الشيخ وابن إدريس ويحيى ابن سعيد وغيرهم ، لقول الصادق عليه‌السلام في الصحيح (١) : « غسل يومك ليومك وغسل ليلتك لليلتك » ‌وعن‌أبي بصير (٢) قال : « سأله رجل وأنا عنده ، قال :اغتسل بعض أصحابنا فعرضت له حاجة حتى أمسى ، فقال : يعيد الغسل ، يغتسل نهارا ليومه ذلك ، وليلا لليلته » ‌و‌قول الصادق عليه‌السلام في خبر عثمان بن يزيد (٣) : « من اغتسل بعد طلوع الفجر كفاه غسله الى الليل في كل موضع يجب فيه الغسل ، ومن اغتسل غسلا ليلا كفاه غسله الى طلوع الفجر ».

مع إمكان المناقشة في ذلك كله باحتمال إرادة الأغسال الزمانية من الخبرين الأولين ، وأنه لا يجتزى بغسل النهار لليل وبالعكس ، وبعدم ارادة ظاهر الخبر الثالث من الاكتفاء بالغسل عن كل ما يثبت في ذلك اليوم من الأمور المتجددة ، فيكون مؤلا بالنسبة إلى المطلوب ، ويخرج عن الحجية ، لكن قد يقال باندفاع ذلك كله بعد الانجبار بالفتوى ، بل لم يحك خلاف فيه ، إلا أنه ينبغي الاقتصار حينئذ على هذا المقدار من دون زيادة ، وأما ما في‌خبر جميل عن الصادق عليه‌السلام (٤) أيضا « غسل يومك يجزؤك لليلتك ، وغسل ليلتك يجزؤك ليومك » ‌بل عن الصدوق الفتوى به فقاصر عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الإحرام ـ الحديث ٢ ـ ٣ من كتاب الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الإحرام ـ الحديث ٢ ـ ٣ من كتاب الحج.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الإحرام ـ الحديث ٤ من كتاب الحج.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الإحرام ـ الحديث ١ من كتاب الحج.

٦٤

معارضة ما عرفت ، سيما مع احتمال معنى « الى » من اللام ، أو إرادة الاغتسال في الليل قبيل الفجر ، وكذا العكس على ما ستعرف ، لكن لو لا ظهور إعراض الأصحاب عنه لأمكن العمل به ، لصحة سنده بطريق الصدوق الى جميل بحمل تلك الأخبار على تأكد الاستحباب.

وكيف كان فبناء على الاقتصار على ما عرفت فلا اشكال فيه إذا وقع الغسل في أول كل منهما ، أما لو وقع في الأثناء فهل يعتبر التلفيق بمعنى التكميل بالليل مثلا ، إن ثلثا فثلث ، وإن ربعا فربع ، وهكذا ، أو يعتبر التقدير بمعنى تقدير زمان النهار مثلا بساعات ، فيؤخذ بقدر ما يتم به النهار كذلك من الليل ، فلو لم يف فمن النهار الثاني ، وهكذا الليل ، أو المعتبر الانقضاء بالانقضاء فلا تلفيق ولا تقدير؟ وجوه ، أقواها أوسطها ، لظهور كون عدم قادحية الفصل ، وأضعفها آخرها ، بل موثق سماعة وأبي بصير (١) « من اغتسل قبل طلوع الفجر وقد استحكم قبل ذلك ثم أحرم من يومه أجزأه غسله » ‌صريح في بطلانه.

ولا فرق في عدم جواز التقديم زيادة على المقدار المتقدم بين الاضطرار كاعواز الماء وعدمه ، وحمله على الجمعة قياس لا نقول به. فالمتجه السقوط حينئذ. لكن نقل عن الشهيد جواز التقديم للإعواز ، ولعله لما روي (٢) من تقديمه عليه‌السلام الغسل بالمدينة مخافة إعواز الماء بذي الحليفة ، ويدفعه أنه لا مسافة بينهما بحيث تزيد على مسير اليوم أو الليلة حتى ينتقل منه إلى جواز ذلك ، فتأمل.

هذا كله في الأغسال الفعلية الغائية ، ومنها المكانية ، أما الفعلية السببية فلعل الوجه فيه أنه يمتد بامتداد العمر ، لأن ذلك مقتضى ثبوته لوجود السبب من دون توقيت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الإحرام ـ الحديث ٥ من كتاب الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الإحرام ـ الحديث ١ من كتاب الحج.

٦٥

وإن قلنا بفوريته ، لعموم ما دل على المسارعة (١) والاستباق (٢) ولأن الأغسال السببية قد شرعت أما عقوبة كرؤية المصلوب ، أو للمبادرة إلى عمل كالتوبة ، أو للتفأل كالخروج من الذنوب لقتل الوزغ ، أو لشي‌ء يكره البقاء عليه كمس الميت ، والكل يناسب الفورية ، قيل وهو ظاهر الأصحاب والأخبار الواردة في تلك الأسباب ، قلت : بل قد يفهم منها توقيت عند التأمل ، ولا ينتقض مثل هذا الغسل بالحدث قطعا ، للأصل وظواهر الأدلة ومحكي الإجماع ، بخلاف سابقه كما مر الكلام فيه مفصلا عند البحث بانتقاض غسل الزمان بالحدث.

وأما ما يستحب من الأغسال للزمان فإنما يكون ويوجد بعد دخوله كما هو واضح ، لظهور الإضافة في ذلك إن لم يكن أمرا بوقوعه ، وملاحظة الأدلة تغني عن تكلف الاستدلال ، نعم ظاهر التوقيت مع عدم التقييد بجزء خاص منه الاجتزاء بوقوع الفعل في أي جزء منه ، سيما إذا أمر به في الوقت ، وقد مضى سابقا الكلام في بعض الأغسال الموقتة من حيث ظهور بعض الأدلة في توقيتها بجزء خاص من الزمان.

وكيف كان فذو الوقت لا يقدم عليه إلا ما عرفت من غسل الجمعة عند إعواز الماء للدليل ، كما أنه لا يقضى إلا هو أيضا ، للأصل وفقد النص وبطلان القياس ، وظاهر الأصحاب حيث اقتصروا عليهما في الجمعة ، فما عن المفيد ـ من قضاء يوم عرفة لقول أبي جعفر عليه‌السلام في خبر زرارة (٣) : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر » ‌إلى آخره. لاستحالة الجمع بين غسل عرفة وأغسال يوم العيد ، فليحمل على القضاء ـ ضعيف ، وفيه مع أنه معارض‌

__________________

(١) سورة آل عمران ـ ١٢٧.

(٢) سورة الحديد ـ الآية ٢١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ الحديث ١ لكنه مضمر.

٦٦

باحتمال تقديم غسل العيد حينئذ أن المراد منه بيان الاجتزاء بالغسل الواحد عن أسباب متعددة ، فتأمل. وكذا ما عن الشهيد من قضاء غسل ليالي القدر ، لعدم الدليل ، وما ادعاه من خبر بكير لم يثبت كما أشرنا إليه سابقا ، هذا بالنسبة للقضاء ، وأما التقديم فكذلك لا يجوز في غير الجمعة للعذر ، لكن‌قال الباقر عليه‌السلام (١) في الصحيح : « الغسل في شهر رمضان عند وجوب الشمس قبيله ، ثم تصلي وتفطر » ‌وفي إقبال ابن طاوس روي (٢) « إنه يغتسل قبل الغروب إذا علم أنها ليلة العيد » ‌وقد يشكل بمنافاة التوقيت الثابت هنا إجماعا كما قيل لاستحباب التقديم اختيارا ، نعم لا ينافيه التقديم مع العذر محافظة على مصلحة أصل الفعل ، بل لعله يكون حينئذ وقتا اضطراريا ، إذ أقصى مفاد التوقيت منع التقدم عليه.

وقد يدفع إما بالتوسع في زمان الغسل ، فيجعل الليل مع شي‌ء مما تقدمه ، فالتوقيت بالليل في الأخبار وكلام الأصحاب تغليبا للأكثر ، أو لكون الجزء المتقدم بمنزلة الليل ، لاتصاله به ، أو لأن الليل هنا من سقوط القرص المتقدم على الغروب الشرعي ، وفيه أن ذلك كله إن أمكن في الأخبار فغير ممكن في كلام الأصحاب لعدم الشاهد له ، بل هو على خلافه موجود ، والقول : إن المستحب يتسامح فيه يدفعه أن ذلك ما لم يظهر إعراض من الأصحاب عنه ، وكذا ما يدفع به أيضا يجعل هذا الغسل المتقدم من الأغسال الغائية للزمانية المتقدمة ، فيكون غايته الزمان ، أو ما يقع فيه من الأعمال ، نعم يسقط به الغسل الزماني ، إذ هو ـ مع أنه مجرد احتمال لا دليل عليه ـ ظاهر الأصحاب خلافه ، لعدم ذكرهم هذا الغسل ، كما أن ظاهر الخبر المتقدم الدال على هذا الحكم كون هذا الغسل انما هو الغسل الموظف في الليلة ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٢.

٦٧

وإلا فلا دلالة فيه على إسقاط الغسل الزماني به ، ومجرد امتناع تطبيقه على قواعد الموقت لا يصلح لأن يكون قرينة على شي‌ء من الاحتمالات السابقة لمعارضتها بمثلها ، بل لعله حمله على تفاوت الفضيلة ، وجعل الوقت للغسل الكامل والمقدم من الرخص ، أو حمله على غسل آخر غير الغسل الزماني ، وأنه لا يسقط به أو غير ذلك أولى منها ، فالمتجه طرح الرواية السابقة ، أو حملها على ما لم يظهر من الأصحاب اعراض عنه ، وكان متجها بالنظر إلى قواعد الحمل ، فتأمل جيدا.

الثانية إذا اجتمعت أسباب أغسال مندوبة فالأقوى الاكتفاء بغسل واحد لها ، لكن لا تكفي نية القربة في ذلك ما لم ينو السبب ونحوه ، بل لا بد من التعرض لها تفصيلا أو كالتفصيل في بعض الوجوه ، وقيل : إذا انضم إليها غسل واجب كفاه نيته والأول أولى كما تقدم الكلام في جميع ذلك مفصلا في محله ، فلاحظ وتأمل.

المسألة الثالثة والرابعة قال بعض فقهائنا كالصدوق في ظاهره وعن أبي الصلاح في صريحه بوجوب غسل من سعى إلى مصلوب ليراه عامدا بعد ثلاثة أيام إلا أن الأول منهما لم يزد على ذكره المرسلة (١) التي هي مستند أصل الحكم في المقام ، قال : « وروي أن من قصد إلى مصلوب فنظر اليه وجب عليه الغسل عقوبة » ‌لكنه بضميمة تعهده في أول كتابه يظهر منه العمل به ، والثاني قيد المصلوب بكونه من المسلمين ، وذكر القصد بدل السعي ، وترك التصريح بالعمد ، فإنه قال على ما حكي عنه : « إن الأغسال المفروضة ثمانية ـ إلى أن قال ـ : وغسل القاصد لرؤية المصلوب من المسلمين بعد ثلاثة » ولم نعثر على غيرهما ذهب إلى ذلك ، نعم ربما ظهر من بعضهم التردد فيه ، بل وفي أصل ثبوت الحكم فضلا عن وجوبه ، لكنه ضعيف جدا لما سيظهر لك في مطاوي البحث ، وكذا سابقه من القول بالوجوب ، إذ لم نعرف له مستندا سوى المرسلة السابقة ، وهي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٣.

٦٨

مع خلو أكثر كتب الحديث عنها وقلة العامل بها وانقراضه لا تقطع الأصل ، ولا تحكم على غيرها من الأخبار (١) التي حصرت الواجب في غيره ، وخصوصا مع شهرة الندب ، بل إطباق المتأخرين عليه كما قيل ، بل في الغنية الإجماع عليه ، وعن ظاهر السرائر عدم الخلاف فيه عند ذكره اختلاف الأصحاب في أنواع الغسل الواجب ، وكفى بذلك دليلا على الندب ، وعلى تنزيل الرواية عليه بإرادة الواجب فيها المتأكد سيما مع التسامح في المستحب ، لكنه لا تقييد فيها بالثلاث ، إلا أنه ذكره غير واحد من الأصحاب ، بل نسبه في المصابيح إليهم عدا الصدوق والمفيد ، كما أنه قيد به في معقد إجماع الغنية ، ولعل ذا كاف في تقييد النص ، مضافا إلى ما قيل من أن الصلب شرعا لتفضيح المصلوب واعتبار الناس ، فكان النظر إليه في المدة المضروبة لصلبه وهي ثلاثة أيام بالنص والإجماع جائزا بل مطلوبا للشارع ، فلا يترتب عليه عقوبة ، وقد صرح في النص (٢) بأن الغسل عقوبة على النظر ، فوجب تخصيصه بالنظر الممنوع ، وهو ما كان بعد الثلاث.

قلت : إلا أن ذلك يقتضي اختصاص التقييد بالمصلوب بحق دون الظلم ، لعدم استحقاقه التفضيح ، لحرمة صلبه ووجوب إنزاله عن الخشبة مع التمكن منه مطلقا ، فهو في الثلاثة مساو للمصلوب بحق بعدها ، فالمتجه حينئذ ثبوت الغسل بالسعي إلى رؤياه فيها ، لكنه مناف لإطلاق المصلوب في كلامهم ، بل عن جامع المقاصد والروضة وفوائد الشرائع ومنهج السداد والروض والمسالك والفوائد الملية وتعليق الإرشاد التصريح بعموم المصلوب لهما ، وحمل التقييد بالثلاثة على إرادته بالنسبة إلى إطلاق الغسل ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٣.

٦٩

لا في الغسل مطلقا أي بالنظر إلى نوعيه كما ترى ، ولعله من هنا حكي عن الصيمري تخصيص المصلوب في كلامهم بالمصلوب بحق ، بمعنى عدم ثبوت الغسل بالسعي إلى رؤيا المصلوب بظلم ، لكنه مناف لإطلاق النص وللتعليل فيه ، ولما سمعته من إطلاق الأصحاب وتصريح جمع منهم ، وكذا دعوى مساواته للمصلوب بحق في عدم ثبوت الغسل إلا بعد الثلاث ، لإطلاق النص والتعليل ، ولذا كان تحرير مرادهم في المقام في غاية الإشكال ، إذ تخصيص المصلوب فيه بحق يقتضي سقوط الغسل في المظلوم ، وفيه ما عرفت ، وتعميمه يقتضي تقييده بالثلاثة كالمستحق ، وفيه ما عرفت ، مع تصريح بعضهم أيضا بعدمه ، وانه يثبت الغسل بالسعي إلى رؤياه فيها.

فلعل المتجه تنزيل كلماتهم على إرادة المستحق ، كما قد يدعى تبادره بالنسبة إلى الخطابات الشرعية ، ولا ينافيه استبعاد بقائه حينئذ على الخشبة بعد الثلاث لانبساط يد الشرع حينئذ ، إذ لعلها ليست من كل وجه أو غير ذلك. ثم يلحق به المظلوم إلحاقا للتعليل وغيره مع التسامح في أدلة السنن ، لا أنه يكون داخلا في عباراتهم ، فيثبت الغسل حينئذ بالسعي إلى رؤياه في الثلاث فضلا عما بعدها ، ولعل ذلك هو الظاهر من ذيل عبارة كشف اللثام ، فلاحظ وتأمل.

ومنه ينقدح حينئذ إرادة الهيئة الشرعية في الصلب دون غيرها ، إلا أن تلحق إلحاقا كالمصلوب بظلم كما هو الأقوى ، نعم لا غسل في المقتول ونحوه بغير الصلب ولو كان بحق ، بل ولا في المصلوب بعد إنزاله من الخشبة وذهاب هيئة الصلب ، لتبادر إرادة المصلوبية حين الرؤية ، والظاهر أن مبدأ الثلاثة حين الصلب لا الموت ، خلافا للمحكي عن بعضهم ، إذ هي المدة التي يترك فيه المصلوب شرعا مات أو لم يمت فتأمل.

ثم انه يشترط في ثبوت الغسل تحقق النظر كما دل عليه الخبر (١) وعن جماعة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٣.

٧٠

التصريح به ، ولعله مراد الباقين ، لغلبة تحققه في السعي إليه ، كما أنه يشترط فيه أيضا السعي إلى النظر وإن ترك في الخبر وذكر في كلام الأكثر ، لكن ظاهر لفظ القصد فيه وفي معقد إجماع الغنية ذلك ، فلو خلا النظر عن السعي أو السعي عن النظر لم يثبت الغسل ، كما أنه معتبر بحسب الظاهر أيضا القصد إلى النظر ، فلو وقع منه بغير قصد لم يثبت الغسل لظاهر النص والفتوى خصوصا عبارة المصنف.

هذا كله في السعي والنظر بعد الثلاثة ، أما لو سعى فيها لينظر بعدها فالأقوى عدم ثبوت الغسل فيهما ، للأصل وتبادر تعلق الظرف بالسعي لا بالرؤية وإن قربت اليه ، على أن الغالب اتحاد زمانهما ، ولعله كاد يكون صريح بعضهم حيث ذكره بعد فعل السعي ، خلافا للعلامة الطباطبائي في مصابيحه ، فأثبته حاكيا له عن ظاهر المعظم من حيث ظهور تعلق الظرف بالرؤية ، وبالأولى مما ذكرنا ما لو سعى فيها لينظر فيها أو بعدها خلافا له أيضا فيها ، نعم لا فرق في رؤية المصلوب بين كونه حيا وميتا ، لظاهر النص والفتوى ، كما أن ظاهر التعليل بالعقوبة في أولهما يقتضي أن لا يكون النظر لغرض شرعي كالشهادة على عينه ونحوها ، ولا يثبت الغسل حينئذ ، وكذا يقتضي كون المصلوب من المسلمين كما هو معقد إجماع الغنية ، لعدم احترام الكافر فلا عقوبة بالسعي اليه ، ولعله مراد الجميع.

وكذلك الكلام في غسل المولود فقال بعض فقهائنا كابن حمزة بوجوبه لقول الصادق عليه‌السلام في موثق سماعة (١) في تعداد الأغسال : « وغسل المولود واجب » ‌وربما ظهر من الصدوق أيضا ، والمشهور نقلا وتحصيلا الندب ، بل نسبه في المصابيح إلى الأصحاب تارة ، وأخرى إلى سائر المتأخرين ، كما أنه حكي عن ظاهر السرائر نفي الخلاف فيه ، بل في الغنية الإجماع على ذلك ، ولعله كذلك إذ لم يثبت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٣.

٧١

فيه الخلاف إلا ممن عرفت ، مع أنه رماه في المعتبر بالشذوذ ، وفي المنتهى بالمتروكية.

ومن هنا وما عرفته بالنسبة للمسألة السابقة قال المصنف : ان الأظهر الاستحباب فيهما ، مضافا إلى معارضة الموثقة بما دل على حصر الواجب في غيرهما من الأخبار ، وإلى إطلاق لفظ الوجوب فيها أيضا على معلوم الاستحباب من غير خلاف ، فيقوى حينئذ إرادة تأكد الاستحباب منه ، أو مطلق الثبوت ، ولا دليل سواها ، إذ‌خبر أبي بصير (١) عن الصادق عليه‌السلام « اغسلوا صبيانكم من الغمر ، فان الشيطان يشم الغمر ، فيفزع الصبي » ‌إلى آخره. ليس مما نحن فيه ، لما قيل من أن الغمر بالتحريك ريح اللحم وما تعلق باليدين من دسمه ، والصبي غير المولود ، فالمراد منه على الظاهر الأمر بتنظيف يدي الصبي مما يزاوله من نحو ذلك.

ثم ان ظاهر الموثقة كعبارات الأصحاب وأصالة العبادة في الأوامر أنه غسل بضم الغين لا غسل بفتحها ، فيعتبر حينئذ فيه ما يعتبر في غيره من النية وغيرها ، فلا يقدح فيه ما تشعر به بعض الأخبار (٢) من أنه لازالة القذر عنه ونحوه ، كغيره مما علم أنه عبادة كغسل الجمعة ونحوها مما ورد (٣) فيها نحو ذلك لأن المراد أن هذه من الحكم التي تترتب على فعله ، فما عن بعضهم من احتمال أنه تنظيف محض وليس من العبادة في شي‌ء ضعيف ، كاحتمال عدم اعتبار الترتيب ولو كان عبادة ، للأصل من غير معارض ، لعدم تناول ما دل عليه له ، وفيه منع ، لتعارف الترتيب في الغسل ومعهوديته فيه ، وأنه كيفية له ، فمتى أطلق انصرف اليه ، ومن هنا لم يحتج إلى إقامة الدليل عليه في كل غسل ، هذا.

مع إمكان دعوى توقف يقين الامتثال عليه لو قلنا باعتبار مثله فيه ، ولعله مما ذكرنا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ١٥.

٧٢

ومن عدم معروفيته وعدم العموم في دليله يظهر لك منشأ الوجهين في جريان الارتماس فيه.

وكيف كان فهل وقت هذا الغسل ما دام يتحقق معه صدق غسل المولود كاليوم واليومين ونحوهما مما يسمى به مولودا عرفا ولو إلى السابع ، كما لعله يشعر به إطلاق النص ، ولم يستبعده في المعتبر ، أو من حين الولادة كما هو ظاهر المحكي من عبارات الأصحاب؟وجهان ، أحوطهما الثاني إن لم يكن أقواهما ، لأنه المعهود المتعارف ، فينصرف الإطلاق إليه ، فتأمل.

( الركن الثالث )

من معتمد هذا الكتاب.

( في الطهارة الترابية )

وهي الحاصلة بمباشرة التراب في مقابلة المائية الحاصلة بمباشرة الماء. وكذا تسمى اضطرارية ، كما أن الثانية تسمى اختيارية. من حيث أنها لا تشرع إلا عند الاضطرار إليها بتعذر الأولى عقلا أو شرعا على ما هو مستفاد من النصوص (١) والفتاوى أيضا إلا في بعض المواضع للدليل كما سيأتي ، وليست الا التيمم ، بخلاف المائية فالغسل والوضوء ، وهو لغة القصد كقوله تعالى (٢) ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) وشرعا مباشرة الأرض على وجه خاص يعرف مما سيأتي ، وهو ثابت كتابا وسنة (٣) وإجماعا ، بل لعله في الجملة من ضروريات الدين التي يدخل من أنكرها في سبيل الكافرين وقد ذكر الله تعالى شأنه في النساء تارة ، وفي المائدة أخرى ، فقال

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ١ و ٢ وغيرهما من أبواب التيمم.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٢٦٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم.

٧٣

عز من قائل في الثانية (١) ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ. أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. فَامْسَحُوا ) الى آخرها ، وكذا في الأولى (٢) وان اختلفا بالنظر الى ما تقدم ذلك.

وقد سبق لنا كلام طريف في هذه الآية الشريفة في أول الكتاب عند البحث عن وجوب الغسل لنفسه أو لغيره يندفع بملاحظته ما أورد على ظاهرها من الإشكالات ، التي منها اشتهر من جمع الله عز وجل الأمور الأربعة بشرط رتب عليه جزاء واحدا ، أعني الأمر بالتيمم ، مع أن سببية الأولين للترخص للتيمم والأخيرين لوجوب الطهارة عاطفا لها بأو المقتضية لاستقلال كل واحد منهما بترتب الجزاء ، مع أنه ان لم يجتمع أحد الأخيرين مع واحد من الأولين مثلا لم يحصل وجوب التيمم الذي هو الجزاء ، من غير حاجة الى جعل « أو » فيها بمعنى الواو.

ولا إلى ما ذكره البيضاوي من أن وجه هذا التقسيم هو أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب ، والحال المقتضية له غالبا إما مرض أو سفر ، والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله ، والحدث لما لم يجر له ذكر ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملا ، فكأنه قال : وإن كنتم جنبا أو مرضى أو على سفر. أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ، مع أنه لا يوافق ما ثبت عندنا من أن المراد بالملامسة الجماع.

ولا الى ما في الكشاف من أنه أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون الماء في التيمم بالتراب ، فخص أولا من بينهم مرضاهم وسفرهم ، لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم ، لكثرة السفر والمرضى وغلبتهما على‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٩.

(٢) سورة النساء ـ الآية ٤٦.

٧٤

سائر الأسباب الموجبة للرخصة ، ثم عمم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء ، لخوف عدو ، أو سبع ، أو عدم آلة الاستقاء ، أو إزهاق في مكان لا ماء فيه ، أو غير ذلك مما لا يكثر كثر المرض أو السفر ، مع ما فيه من الإجمال الذي لا تنحسم عنه مادة الإشكال ، إلا أن يحمل على إرادة جعل قيد عدم الوجدان للأخيرين خاصة دون الأولين ، للاستغناء عنه بالتعليق على المرض والسفر الغالب معهما عدم التمكن من الماء استعمالا أو وجودا ، كما أنه يستغنى عن تقييدهما بالحدث لمكان العطف فيهما على ما سبقهما ، فيكون المقصود حينئذ من الآية بيان المحدثين أصغر أو أكبر إذا كانوا مرضى أو مسافرين ، وخصهما لغلبتهما أو غيره ، وبيانهما كذلك إذا لم يجدوا ماء وإن لم يكن مرض أو سفر ، فلا إشكال حينئذ من تلك الجهة ، بل ولا من تكرير ذكر الجنابة ، فلاحظ وتأمل.

وكيف كان ف النظر والبحث في التيمم يقع في أطراف أربعة.

( الأول فيما يصح معه التيمم )

ضرورة عدم مشروعيته على الإطلاق وهو ضروب مرجعها إلى شي‌ء واحد عند التحقيق ، وهو العجز عن استعمال الماء عقلا أو شرعا وإن ذكر المصنف هنا من أسبابه ثلاثة : عدم الماء ، وعدم الوصلة اليه ، والخوف من استعماله ، بل في المنتهى أن أسبابه ثمانية : فقده ، والخوف من اللص ونحوه ، والاحتياج له للعطش ، والمرض والحرج وشبههما ، وفقد الآلة التي يتوصل بها اليه ، والضعف عن الحركة ، وخوف الزحام يوم الجمعة وعرفة ، وضيق الوقت ، وهي بأجمعها عدا الأخير تندرج فيما ذكره المصنف ، وأما هو فسيأتي الكلام فيه ، كما أنه في الوسيلة ذكر ان شرط التيمم فقد الماء أو حكمه ، ثم أدرج في الثاني اثني عشر شيئا ، والكل ترجع إلى ما ذكرنا أيضا.

وكيف كان ف الأول من الأسباب التي ذكرها المصنف عدم الماء‌

٧٥

كتابا (١) وسنة (٢) وإجماعا محصلا ومنقولا من غير فرق فيه عندنا بين السفر والحضر بل في الخلاف والمنتهى الإجماع عليه بالخصوص ، كما أنه في الأخير الإجماع أيضا على عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير ، لكن في بعض نسخ المدارك أنه أجمع علماؤنا كافة إلا من شذ على وجوب التيمم للصلاة مع فقد الماء سواء في ذلك الحاضر والمسافر ، ولم أعثر على الشاذ الذي استثناه إلا ما أرسله بعضهم هنا عن علم الهدى في شرح الرسالة أنه أوجب الإعادة على الحاضر ، وهو مع أنه لم يعرف هذا النقل عنه هنا ليس خلافا فيما نحن فيه ، إذ لا ينكر وجوب التيمم والصلاة عليه وإن أوجب الإعادة بعد ذلك.

فلعل الصواب ما في أكثر النسخ أجمع العلماء إلا من شذ ، ويراد بالشاذ حينئذ ما عن بعض العامة من حيث أنكر وجوب التيمم والصلاة على الحاضر ، مستدلا بظاهر تعليق الأمر بالتيمم في الآية الشريفة على السفر ، وفيه ـ مع أن مثله يكون حجة إن لم يخرج مخرج الغالب ، وإلا فهو ليس بحجة إجماعا كما في المنتهى ، وأنه لا يجري في الحاضر المريض أيضا ـ مبني على عدم جعل المجي‌ء من الغائط وما بعده سببا مستقلا في التيمم ، بل هو راجع الى المرضى والمسافرين بجعل « أو » بمعنى الواو ، وأما بناء على التحقيق الذي قد سلف منا في الآية فهي بإطلاقها حينئذ لنا لا علينا ككثير من أخبارنا التي كادت تكون صريحة في عدم الفرق بينهما ، والأمر سهل.

فظهر لك من ذلك كله أنه لا فرق في مسوغية عدم الماء للتيمم بين الحاضر والمسافر ولا بين السفر الطويل والقصير ، ولا بين كونه طاعة أو معصية ، لكن انما يكون مسوغا للتيمم بعد الطلب له فلم يوجد ، فمتى تيمم قبله مع حصول شرائط وجوبه من الرجاء وسعة الوقت وعدم الخوف ونحو ذلك لم يصح ، لعدم تحقق عدم الوجدان بدونه ، وهو‌

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ٤٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم.

٧٦

شرط التيمم ‌وهو مراد المصنف وغيره بقوله ويجب عنده الطلب بل في الخلاف والغنية والمنتهى وجامع المقاصد وعن التذكرة والتنقيح وغيرها الإجماع عليه. لا الوجوب التعبدي خاصة ، على أنه قد لا يجب التيمم ، فلا يجب الطلب حينئذ شرعا قطعا وإن وجب شرطا ، بل في الخلاف والمنتهى وعن المعتبر الإجماع على ما يقتضي الشرطية ، مضافا الى ظاهر الأمر به ، بل في‌الحسن كالصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام (١) « إذا لم يجد المسافر فليطلب ما دام في الوقت » ‌بناء على إحدى النسختين وأحد الوجهين فيها ، وفي‌خبر السكوني (٢) « يطلب الماء في السفر إن كانت حزونة فغلوة » ‌إلى آخره ان حملت الجملة الخبرية فيه على الأمر ، ومضافا الى وجوب تحصيل شرط الواجب المطلق ، وعدم إحرازه القدرة عليه لا يسقطه ، إنما الذي يسقطه العجز ، ولا يعلم به حتى يطلب ، فتأمل فإنه نافع في غير المقام أيضا من مقدمات الواجب المطلق ، كطلب التراب للتيمم أيضا ، وإن لم نجده بالتحديد المذكور للماء ، لعدم الدليل وحرمة القياس ، فيبقى على ما تقتضيه الضوابط.

وكيف كان فما يحكى عن الأردبيلي من الحكم باستحباب الطلب مع عدم ثبوت ذلك عنه كما لا يخفى على من لاحظ كلامه ضعيف ، ولعله لإطلاق طهورية التراب وبدليته عن الماء ، و‌قول الصادق عليه‌السلام في خبر داود الرقي (٣) بعد أن سأله أكون في السفر وتحضر الصلاة وليس معي ماء ويقال : ان الماء قريب منا ، فأطلب الماء وأنا في وقت يمينا وشمالا : « لا تطلب الماء ولكن تيمم ، فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك ، فتضل ويأكلك السبع » ‌و‌قوله عليه‌السلام في خبر يعقوب بن سالم (٤)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

٧٧

عن الرجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك : « لا آمر أن يغرر بنفسه ، فيعرض له لص أو سبع » ‌و‌قوله عليه‌السلام أيضا في خبر علي بن سالم (١) لداود الرقي : « لا تطلب الماء يمينا ولا شمالا ولا في بئر إن وجدته على الطريق فتوضأ منه ، وإن لم تجده فامض » ‌وهي ـ مع عدم الموافقة ظاهرها لما ذكره من الاستحباب ، وموافقتها للمحكي عن أبي حنيفة ، وو وضوح قصورها عن معارضة ما تقدم ، سيما بعد ظهور الثانية وكذا الأولى فيما لا يقول الخصم من حصول الماء قريبا منه ، وسيما بعد الطعن في سند الأولى بداود الرقي بأنه ضعيف جدا كما في جش ، بل فيه أيضا قال : أحمد بن عبد الواحد قل ما رأيت له حديثا سديدا وعن ابن الغضائري أنه كان فاسد المذهب ضعيف الرواية لا يلتفت اليه ، وعن الكشي أنه يذكر الغلاة أنه من أركانهم ، وفي سند الثانية بمعلى بن محمد بأنه مضطرب الحديث والمذهب ، وبأنه يعرف حديثه وينكر ، والثالثة بعلي بن سالم باشتراكه بين المجهول والضعيف ، على أنها مطلقة لا تعارض المقيد ـ محمولة على الخوف والخطر في الطلب كما هو ظاهر الأولين أو صريحهما ، فيكونا قرينة على الخبر الثالث ، خصوصا خبر الرقي ، إذ لا ريب في سقوطه في هذا الحال ، لكن مع عدم تمكنه من الاستنابة بناء على اعتبارها كما ستسمع ، وان أطلق غير واحد من الأصحاب سقوطه في مثل هذا الحال ، لوجوب الطلب عليه حينئذ بنفسه أو وكيله ، فتعذر الأول لا يسقط الثاني ، وعليه أو نحوه يحمل صحيحة الحلبي (٢) أيضا ، سأل الصادق عليه‌السلام « عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو ، قال : ليس عليه أن يدخل الركية ، إن رب الماء هو رب الأرض فليتيمم ».

كما أنه لا ريب في سقوطه مع تيقن عدم الماء للأصل ، وظهور وجوب الطلب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

٧٨

في رجائه ، نعم لا يسقط بالظن كما صرح به في المنتهى والتحرير وغيرهما ، لإطلاق الأمر به ، وهو جيد مع عدم استناده الى سبب شرعي ، كشهادة العدلين بل العدل الواحد ، وإلا فالمتجه السقوط حينئذ ، لعموم ما دل على اعتبارهما.

اللهم إلا أن يدعى عدم تحقق عدم الوجدان عرفا بذلك ، ولعله لذا أطلق في الموجز الحاوي عدم الاجتزاء بخبر غير النائب كما عن نهاية الأحكام ، وفيه بحث ، إذ هو بعد التسليم غير واجد شرعا ، وأولى منه ما لو كان ذلك بطريق النيابة ولو كان عن متعددين ، ومن هنا قال في الذكرى وجامع المقاصد : ويجوز النيابة في الطلب لحصول الظن ، مع نصه في الأخير كما عن المسالك على اشتراط العدالة ، وقضية إطلاق الأول وتعليله جوازها وان لم يكن عدلا كإطلاق الموجز الحاوي وعن نهاية الأحكام ، ولعله لصيرورته أمينا حينئذ ، ولأن فعله فعل موكله ، لكن نص في المنتهى على عدم الاجتزاء بالنيابة من غير فرق بين العدم وغيره ، قال لأن الخطاب بالطلب للمتيمم فلا يجوز أن يتولاه غيره ، كما لا يجوز أن يؤممه ، وفيه أن مجرد تكليفه وخطابه به مع عدم ظهور إرادة المباشرة لا يعارض عموم الوكالة ، وقياسه على التيمم مع الفارق.

وكيف كان فالمراد بالطلب الذي قد ذكرنا وجوبه هو التفحص عن الماء في رحله وعند رفقائه ونحوهما وأن يضرب في الأرض لو كان في فلوات غلوة سهمين أي رمية أبعد أو وسط ما يقدر عليه المعتدل بالقوة مع اعتدال السهم والقوس وسكون الهواء على ما صرح به بعضهم ، بل في كشف اللثام أنه المعروف ، لكنه حكي فيه عن العين والأساس أن الفرسخ التام خمس وعشرون غلوة ، وعن المغرب عن الأخباس عن ابن شجاع أن الغلوة قدر ثلاثمائة ذراع إلى أربع ماءة ذراع ، وعن الارتشاف أنها ماءة باع ، والميل عشر غلاء ، والمعتمد الأول في كل جهة من الجهات الأربع إن كانت الأرض سهلة على المشهور نقلا وتحصيلا ، بل في الغنية الإجماع عليه ، وعن‌

٧٩

التذكرة نسبته إلى علمائنا ، كما أنه قد ينطبق عليه إجماع إرشاد الجعفرية على ما قيل ، ولعل ذلك هو الحجة ، والا فمستند الحكم من النص الآتي لا تعرض فيه لذكر الجهات ، بل قضية إطلاقه الاكتفاء بالواحدة. لكن قد يقال بإرادة الجميع منه بجعل ما عرفت قرينة عليه مع عدم المرجح لبعضها وعدم معلومية تحقق الشرط وبراءة الذمة بدونه.

فما في الوسيلة من الاقتصار على اليمين واليسار مع أنه احتمل فيها إرادة الأربع ضعيف ، كالمحكي عن المفيد والحلبي من زيادة الإمام وترك الخلف ، الا أنه علله في كشف اللثام بكونه مفروغا عنه بالمسير ، فلا خلاف ، وفيه أن المفروغ منه انما هو الخط الذي سار فيه لا جوانبه.

ومن هنا كان المتجه بل لعله مراد الجميع جعل مبدأ طلبه كمركز دائرة نصف قطرها ما يبتدأ به من الجهات ، فإذا انتهى الى الغلوة أو الغلوتين رسم محيط الدائرة بحركة ، ثم يرسم دائرة صغرى. وهكذا الى أن ينتهي إلى المركز حتى يستوعب ما احتمل وجود الماء فيه من ذلك ، وهو المراد وان لم تكن بتلك الكيفية المذكورة ، فتأمل.

وغلوة سهم ان كانت الأرض حزنة بسكون الزاء المعجمة خلاف السهلة ، وهي المشتملة على نحو الأشجار والعلو والهبوط ، وأصل التحديد بالغلوة والغلوتين في الحزنة والسهلة هو المشهور بين الأصحاب ، بل في الغنية وعن إرشاد الجعفرية الإجماع عليه ، كما عن التذكرة نسبته إلى علمائنا وفي السرائر أنه قد تواتر به النقل وهو الحجة ، مضافا الى‌خبر السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (١) عن علي عليه‌السلام قال : « يطلب الماء في السفر ، إذا كانت حزونة فغلوة ، وان كانت سهلة فغلوتين لا يطلب أكثر من ذلك » ‌وضعفها لا يمنع من العمل بها بعد اعتضادها بما عرفت كما أن عدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

٨٠